القسم الأول في القواعد الكلية التي تستنبط منها المصالح المرعية في الأحكام الشرعية وهي سبعة مباحث في سبعين بابا المبحث الأول في أسباب التكليف والمجازاة ( باب الإبداع والخلق والتدبير ) اعلم أن الله تعالى بالنسبة إلى إيجاد العالم ثلاث صفات مترتبة : أحدها : الإبداع وهو إيجاد شيء لا من شيء فيخرج الشيء من كتم العدم بغير مادة : وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول هذا الأمر ؟ فقال : كان الله ولم يكن شيء قبله . والثانية : الخلق وهو إيجاد الشيء من شيء كما خلق آدم من التراب : ! ( وخلق الجان من مارج من نار ) ! . وقد دل العقل والنقل على أن الله تعالى خلق العالم أنواعا وأجناسا وجعل لكل نوع وجنس خواص ، فنوع الإنسان مثلا خاصته النطق ، وظهور البشرة واستواء القامة ، وفهم الخطاب ، ونوع الفرس خاصته الصهيل ، وكون بشرته شعراء ، وقامته عوجاء ، وألا يفهم الخطاب ،
____________________
(1/24)
وخاصة السم إهلاك الإنسان الذي يتناوله ، وخاصة الزنجبيل الحرارة واليبوسة ، وخاصة الكافور البرودة ، وعلى هذا القياس جميع الأنواع من المعدن والنبات والحيوان . وجرت عادة الله تعالى ألا تنفك الخواص عما جعلت خواص لها ، وأن تكون مشخصات الأفراد خصوصا في تلك الخواص ، وتعينا لبعض محتملاتها ، فكذلك مميزات الأنواع خصوصا في خواص أجناسها ، وأن تكون معاني هذه الأسامي المترتبة في العموم والخصوص ، كالجسم والنامي والحيوان والإنسان وهذا الشخص متمازجة متشابكة في الظاهر ، ثم يدرك العقل الفرق بينها ، ويضيف كل خاصة إلى ما هي خاصة له ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم خواص كثير من الأشياء ، وأضاف الآثار إليها كقوله صلى الله عليه وسلم : ' التلبينة مجمة لفؤاد المريض ' . وقوله في الحبة السوداء : ' شفاء من كل داء إلى السام ' وقوله في أبوال الإبل وألبانها : ' شفاء للذربة بطونهم ' وقوله في الشبرم : ' حار جار ' . والثالثة تدبير عالم المواليد ومرجعه إلى تصيير حوادثها موافقة للنظام الذي ترتضيه حكمته مفضية إلى المصلحة التي اقتضاها وجوده كما أنزل من السحاب مطرا ، وأخرج به نبات الأرض ليأكل منه الناس والأنعام ، فيكون سببا لحياتهم إلى أجل معلوم . وكما أن إبراهيم صلوات الله عليه ألقي في النار
____________________
(1/25)
فجعلها الله بردا وسلاما ؛ ليبقى حيا ، وكما أن أيوب عليه السلام كان اجتمع في بدنه مادة المرض ، فأنشأ الله تعالى عينا فيها شفاء مرضه . وكما أن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم ، فأوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينذرهم ويجاهدم ؛ ليخرج من شاء من الظلمات إلى النور . وتفصيل ذلك أن القوى المودعة في المواليد التي لا تنفك عنها لما تزاحمت وتصادمت أوجبت حكمة الله حدوث أطوار مختلفة بعضها جواهر وبعضها أعراض والأعراض إما أفعال أو إرادات من ذوات الأنفس أو غيرها ، وتلك الأطوار لا شر فيها بمعنى عدم صدور ما يقتضيه سببه أو صدور ضد ما يقتضيه ، والشيء الذي اعتبر بسببه المقتضى لوجوده كان حسنا لا محالة كالقطع حسن من حيث أنه يقتضيه جوهر الحديد وإن كان قبيحا من حيث فوت بنية إنسان ، لكن فيها شر بمعنى حدوث شيء غيره أوفق بالمصلحة منه باعتبار الآثار أو عدم حدوث شيء آثاره محمودة ، وإذا تهيأت أسباب هذا الشر اقتضت رحمة الله بعباده ولطفه بهم وعموم قدرته على الكل وشمول علمه بالكل أن يتصرف في تلك القوى والأمور الحاملة لها بالقبض والبسط والإحالة والإلهام ، حتى تفضى تلك الجملة إلى الأمر المطلوب أما القبض فمثاله ما ورد في الحديث أن الدجال يريد أن يقتل العبد المؤمن في المرة الثانية ، فلا يقدر الله عليه مع صحة داعية القتل وسلامة أدواته وأما البسط فمثاله أن الله تعالى أنبع عينا لأيوب صلوات الله عليه بركضه الأرض وليس بالعادة أن تقضي الركضة إلى نبوع الماء ، وأقدر بعض المخلصين من عباده في الجهاد على ما لا يتصوره العقل من مثل تلك الأبدان ولا من أضعافها ، وأما الأحالة ممثالها جعل النار هواء طيبة لإبراهيم عليه السلام ، وأما الإلهام فمثاله قصة خرق السفينة وإقامة الجدار وقتل الغلام وإنزال الكتب والشرائع على الأنبياء عليهم السلام . . والإلهام تارة يكون
____________________
(1/26)
للمبتلى وتارة يكون لغيره لاجله والقرآن العظيم بين أنواع التدبير بما لا مزيد عليه . ( باب ذكر عالم المثال ) اعلم أنه دلت أحاديث كثيرة على أن في الوجود عالما غير عنصري تتمثل فيه المعاني بأجسام مناسبة لها في الصفة ، وتتحقق هنالك الأشياء قبل وجودها في الأرض نحوا من التحقق ، فإذا وجدت كانت هي هي بمعنى من معاني هو هو ، وإن كثير من الأشياء مما لا جسم لها عند العامة تنتقل وتنزل ، ولا يراها جميع الناس ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ' لما خلق الله الرحم قامت فقالت هذا مكان العائذ بك من القطيعة ' ، وقال : ' أن البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أهلهما ' ، وقال : ' تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة ثم تجيء الصدقة ، ثم يجيء الصيام ' الحديث ، وقال : ' أن المعروف والمنكر لخليقتان تنصبان للناس يوم القيامة ، فأما المعروف فيبشر أهله ، وأما المنكر فيقول : إليكم إليكم ، ولا يستطيعون له إلا لزوما ' وقال : ' أن الله تعالى يبعث الأيام يوم القيامة كهيئتها ، ويبعث الجمعة زهراء منيرة ' . وقال : ' يؤتى بالدنيا يوم القيامة بصورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها ، مشوه خلقها ' وقال : ' هل ترون ما أرى ؟ فإني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر ' وقال في حديث الإسراء : ' فإذا أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران ، فقلت ، ما هذا يا جبريل ؟ قال : أما الباطنان ففي الجنة ، وأما الظاهران فالنيل والفرات ' وقال في حديث صلاة الكسوف : ' صورت لي الجنة والنار ' وفي لفظ ' بيني وبين جدار القبلة ' وفيه أنه بسط
____________________
(1/27)
يده ليتناول عنقوداً من الجنة ، وأنه تكعكع من النار ، ونفخ في حرها ورأى فيها سارق الحجيج ، والمرأة التي ربطة الهرة حتى ماتت ، ورأى في الجنة امرأة مومسة سقت الكلب ، ومعلوم أن تلك المسافة لا تتسع للجنة والنار بأجسادهما المعلومة عند العامة . وقال : ' حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ' ثم أمر جبريل أن ينظر إليهما وقال : ' ينزل ينزل البلاء فيعالجه الدعاء ' . وقال : ' خلق الله العقل فقال له : أقبل فأقبل وقال له أدبر فأدبر ' . وقال : ' هذان كتابان من رب العالمين ' الحديث ، وقال : ' يؤتى بالموت كأنه كبش ، فيذبح بين الجنة والنار ' ، وقال تعالى : ! ( فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ) ! . واستفاض في الحديث أن جبريل كان يظهر للنبي صلى الله عليه وسلم ويتراءى له فيكلمه ، ولا يراه سائر الناس ، وأن القبر يفسح سبعين ذراعا في سبعين أو يضم حتى تختلف أضلاع المقبور وأن الملائكة تنزل على المقبور ، فتسأله وأن عمله يتمثل له ، وأن الملائكة تنزل إلى المحتضر بأيديهم الحرير أو المسح وأن الملائكة تضرب المقبور بمطرقة من حديد ، فيصيح صيحة يسمعها ما بين المشرق والمغرب ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ' ليسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنينا تنهسه ، وتلدغه حتى تقوم الساعة ، وقال : ' وإذا أدخل الميت القبر مثلت له الشمس عند غروبها ، فيجلس يمسح عينيه ، ويقول : ' دعوني أصلي ' واستفاض في الحديث : أن الله تعالى يتجلى بصور كثيرة لأهل الموقف ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يدخل على ربه وهو على كرسيه وأن الله تعالى يكلم ابن آدم شفاها إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة .
____________________
(1/28)
والناظر في هذه الأحاديث بين إحدى ثلاثة : إما أن يقر بظاهرها فيضطر إلى إثبات عالم ذكرنا شأنه وهذه هي التي تقتضيها قاعدة أهل الحديث نبه على ذلك السيوطي رحمه الله تعالى ، وبها أقول ، وإليها أذهب ، أو يقول : أن هذه الوقائع تتراءى لحس الرائي ، وتتمثل له في بصره ، وإن لم تكن خارج حسه ، وقال بنظير ذلك عبد الله بن مسعود في قوله تعالى : ! ( يوم تأتي السماء بدخان مبين ) ! . أنهم أصابهم جدب فكان أحدهم ينظر إلى السماء ، فيرى كهيئة الدخان من الجوع ، ويذكر عن ابن الماجشون أن كل حديث جاء في التنقل والرؤية في المحشر ، فمعناه أنه يغير أبصار خلقه ، فيرونه نازلا متجليا ويناجي خلقه ، ويخاطبهم وهو غير متغير عن عظمته ولا منتقل ليعلموا أن الله على كل شيء قدير ، أو يجعلها تمثيلا لتفهم معان أخرى ، ولست أرى المقتصر على الثالثة من أهل الحق ، وقد صور الإمام الغزالي في عذاب القبر تلك المقامات الثلاث حين قال : أمثال هذه الأخبار لها ظواهر صحيحة وأسرار خفية ، ولكنها عند أرباب البصائر واضحة ، فمن لم ينكشف له حقائقها ، فلا ينبغي أن ينكر ظواهرها ، بل أقل درجات الإيمان التسليم والتصديق ( فإن قلت ) فنحن نشاهد الكافر في قبره مدة ، ونراقبه ، ولا نشاهد شيئا من ذلك ، فما وجه التصديق على خلاف المشاهدة ( فاعلم ) أن لك ثلاث مقامات في التصديق بأمثال هذا : أحدها وهو الأظهر والأصلح والأسلم : أن تصدق بأنها موجودة ، وهي تلدغ الميت ، ولكنك لا تشاهد ذلك فإن هذه العين لا تصلح لمشاهدة الأمور الملكوتية ، وكل ما يتعلق في بالآخرة فهو في علم الملكوت . . أما ترى الصحابة رضي الله عنهم كيف كانوا يؤمنون بنزول جبريل عليه السلام ،
____________________
(1/29)
وما كانوا يشاهدونه ، ويؤمنون بأنه عليه السلام يشاهده ، فإن كنت لا تؤمن بهذا فتصحيح أصل الإيمان بالملائكة والوحي أهم عليك وإن كنت آمنت به ، وجوزت أن يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم ما لا تشاهده الأمة ، فكيف لا تجوز هذا في الميت ، وكما أن الملك لا يشبه الآدميين والحيوانات ، فالحياة والعقارب التي تلدغ في القبر ليست من جنس حيات عالمنا ، بل هي جنس آخر ، وتدرك بحاسة أخرى . المقام الثاني : أن تتذكر أمر النائم ، وأنه قد يرى في نومه حية تلدغه ، وهو يتألم بذلك حتى تراه ربما يصيح ويعرق جبينه ، وقد ينزعج من مكانه كل ذلك يدركه من نفسه ويتأذى به كما يتأذى اليقظان وهو يشاهده ، وأنت ترى ظاهره ساكنا ولا ترى حواليه حية ولا عقربا ، والحية موجودة في حقه والعذاب حاصل ولكنه في حقك غير مشاهد ، وإذا كان العذاب في ألم اللدغ فلا فرق بين حية تتخلل أو تشاهد . المقام الثالث : إنك تعلم أن الحية بنفسها لا تؤلم بل الذي يلقاك منها هو ألم السم ، ثم السم ليس هو الألم ، بل عذابك في الأثر الذي يحصل فيك من السم ، فلو حصل مثل ذلك الأثر من غير سم لكان العذاب قد توفر وكان لا يمكن تعريف ذلك النوع من العذاب إلا بأن يضاف إلى السبب الذي يفضى إليه في العادة ، فإنه لو خلق في الإنسان لذة الوقاع مثلا من غير مباشرة صورة الوقاع لم يمكن تعريفها إلا بالإضافة إليه لتكون الإضافة للتعريف بالسبب وتكون ثمرة السبب حاصلة وإن لم تحصل صورة السبب ، والسبب يراد لثمرته لا لذاته ، وهذه الصفات المهلكات تنقلب مهلكات مؤذيات ومؤلمات في النفس عند الموت فيكون آلامها كآلام لدغ الحيات من غير وجودها . انتهى
____________________
(1/30)
( باب ذكر الملأ الأعلى ) قال الله تعالى : ( الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم ) . وقال رسول صلى الله عليه وسلم : ' إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه صلصة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير ' وفي رواية ' إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ، ثم يسبح أهل السماء الذين يلونهم ، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا ، ثم قال : الذين يلون حملة العرش ، لحملة العرش ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ماذا قال ، فيستخبر بعض أهل السموات بعضا حتى يبلغ الخبر أهل هذه السماء ' وقال رسول صلى الله عليه وسلم : ' إني قمت من الليل ، فتوضأت ، وصليت ما قدر لي ، فنعست في صلاتي حتى
____________________
(1/31)
استثقلت ، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال : يا محمد قلت : لبيك رب قال فيما يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : لا أدري قالها ثلاثا . قال : فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله من ثديي ، فتجلى لي كل شيء وعرفت . فقال : يا محمد قلت : لبيك رب . قال : فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : في الكفارات . قال : وما هن ؟ قلت : مشي الأقدام إلى الجماعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات ، وإسباغ الوضوء حين الكريهات . قال : ثم فيم ؟ قال : قلت : في الدرجات ؟ قال : وما هن ؟ قلت : إطعام الطعام ولين الكلام ، والصلاة بالليل والناس نيام ' وقال رسول صلى الله عليه وسلم : ' أن الله إذا أحب عبدا دعا جبرائيل فقال : إني أحب فلانا فأحبه . قال : فيحبه جبرائيل . ثم ينادي في السماء فيقول : أن الله يحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض . وإذا أبغض عبداً دعا جبرائيل فيقول إني أبغض فلان فأبغضه قال : فيبغضه جبرائيل ثم ينادي في أهل السماء أن الله يبغض فلانا فأبغضوه قال فيبغضونه ثم يوضع له البغضاء في الأرض ' وقال رسول صلى الله عليه وسلم : ' الملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه يقولون : اللهم ارحمه اللهم اغفر له اللهم تب عليه ما لم يؤذ فيه ، ما لم يحدث فيه ' وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم . ' ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ويقول : الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا ' . اعلم أنه قد استفاض من الشرع : أن لله تعالى عبادا هم أفاضل الملائكة ومقربو الحضرة لا يزالون يدعون لمن أصلح نفسه ، وهذبها ، وسعى في إصلاح الناس فيكون دعاؤهم ذلك سبب نزول البركات عليهم ، ويلعنون من عصى
____________________
(1/32)
الله ، وسعى في الفساد ، فيكون لعنهم سببا لوجود حسرة وندامة في نفس العامل ، وإلهامات في صدور الملأ السافل أن يبغضوا هذا المسيء ، ويسيئوا إليه ، أما في الدنيا ، أو حين يتخفف عنه جلباب بدنه بالموت الطبيعي ، وأنهم يكونون سفراء بين الله وبين عباده ، وأنهم يلهمون في قلوب بني آدم خيرا أي يكونون أسبابا لحدوث خواطر الخير فيهم بوجه من وجوه السببية ، وأن لهم اجتماعات كيف شاء الله وحيث شاء الله يعبر عنهم باعتبار ذلك بالرفيق الأعلى ، والندى الأعلى والملأ الأعلى وأن الأرواح أفاضل الآدميين دخولا فيهم ولحوقا بهم كما قال الله تعالى : ! ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ) ! . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' رأيت جعفر بن أبي طالب ملكا يطير في الجنة مع الملائكة بجناحين ' وأن هنالك ينزل القضاء ، ويتعين الأمر المشار إليه في قوله تعالى : ! ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) ! . وأن هنالك يتقرر الشرائع بوجه من الوجوه . واعلم أن الملأ الأعلى ثلاثة أقسام : قسم علم الحق أن نظام الخير يتوقف عليهم ، فخلق أجساما نورية بمنزلة نار موسى ، فنفخ فيها نفوس كريمة . وقسم اتفق حدوث مزاج في البخارات اللطيفة من العناصر استوجب فيضان نفوس شاهقة شديدة الرفض للألواث البهيمية . وقسم هم نفوس إنسانية قريبة المأخذ من الملأ الأعلى ما زالت تعمل
____________________
(1/33)
أعمالا منجية تفيد اللحوق بهم حتى طرحت عنهم جلابيب أبدانها ، فانسلكت في سلكهم وعدت منهم ، والملأ الأعلى شأنها أنها تتوجه إلى بارئها توجها ممعنا لا يصدها عن ذلك التفات إلى شيء وهو معنى قوله تعالى : ! ( يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ) ! . وتتلقى من ربها استحسان النظام الصالح واستهجان خلافه ، فيقرع ذلك باب من أبواب الجود الإلهي وهو معنى قوله تعالى : ! ( ويستغفرون للذين آمنوا ) ! . وأفضالهم تجتمع أنوارهم ، وتتداخل فيما بينها عند الروح الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة الوجوه والألسنة ، فتصير هنالك كشيء واحد وتسمى حظيرة القدس ، وربما حصل في حظيرة القدس إجماع على إقامة حيلة لنجاة بني آدم من الدواهي المعاشية والمعادية بتكميل أزكى خلق الله يومئذ وتمشية أمره في الناس ، فيوجب ذلك إلهامات في قلوب المستعدين من الناس أن يتبعوه ، ويكونوا أمة أخرجت للناس ، ويوجب تمثل علوم فيها صلاح القوم وهداهم في قلبه وحيا ورؤيا وهتفا ، وأن تتراءى له فتكلمه شفاها ، ويوجب نصر أحبائه وتقريبهم من كل خير ولعن من صد عن سبيل الله وتقريبهم من كل ألم ، وهذا أصل من أصول النبوة ، ويسمى إجماعهم المستمر بتأييد روح القدس ، ويثمر هنالك بركات لم تعهد في العادة فتسمى بالمعجزات . ودون هؤلاء نفوس استوجب فيضانها حدوث مزاج معتدل في بخارات لطيفة لم تبلغ بهم السعادة مبلغ الأولين ، فصار كما لهم أن تكون
____________________
(1/34)
فارغة لانتظار ما يترشح من فوقها ، فإذا ترشح شيء بحسب استعداد القابل وتأثير الفاعل انبعثوا إلى تلك الأمور كما تنبعث الطيور والبهائم بالدواعي الطبيعية ، وهم في ذلك فانون عما يرجع إلى أنفسهم ، باقون بما ألهموا من فوقهم فيؤثرون في قلوب البشر والبهائم ، فتنقلب إرادتها وأحاديث نفوسها إلى ما يناسب الأمر المراد ، ويؤثرون في بعض الأشياء الطبيعية في تضاعيف حركاتها وتحولاتها ، كما يدحرج حجر ، فأثر فيه ملك كريم عند ذلك ، فمشى في الأرض أكثر مما يتصور في العادة ، وربما ألقى الصياد شبكة في النهر ، فجاءت أفواج من الملائكة تلهم في قلب هذه السمكة أن تقتحم ، وهذه أن تهرب وتقبض حبلا ، وتبسط أخرى ، وهي لا تعلم لما تفعل ذلك ، ولكن تتبع ما ألهمت وربما تقاتلت فئتان ، فجاءت الملائكة تزين في قلوب هذه الشجاعة والثبات بأحاديث وخيالات يقتضيها المقام ، وتلهم حيل الغلبة ، وتؤيد في الرمى وأشباهه ، وفي قلوب تلك أضداد هذه الخصال ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، وربما كان المترشح إيلام نفس إنسانية أو تنعيمها ، فسعت الملائكة كل سعي ، وذهبت كل مذهب ممكن ، وبإزاء أولئك آخرون أولو خفة وطيش وأفكار مضادة للخير أوجب حدوثهم تعفن بخارات ظلمانية هم الشياطين لا يزالون يسعون في أضداد ما سعت الملائكة فيه والله أعلم . ( باب ذكر سنة الله التي أشير إليها في قوله تعالى ! ( ولن تجد لسنة الله تبديلا ) ! ) اعلم أن بعض أفعال الله يترتب على القوى المودعة في العالم بوجه من وجوه الترتب ، شهد بذلك النقل والعقل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' أن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، منهم الأحمر والأبيض والأسود ، وبين ذلك ، والسهل والحزن ، والخبيث والطيب ، وسأله عبد الله بن سلام ما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ فقال :
____________________
(1/35)
إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت ' . ولا أرى أحداً يشك في أن الإماتة تستند إلى الضرب بالسيف أو أكل السم ، وأن خلق الولد في الرحم يكون عقيب صب المني ، وأن خلق الحبوب والأشجار يكون عقيب البذر والغرس والسقي ، ولأجل هذه الاستطاعة جاء التكليف ، وأمروا ، ونهوا ، وجوزوا بما عملوا ، فتلك القوى منها خواص العناصر وطبائعها ، ومنها الأحكام التي أودعها الله في كل صورة نوعية ، ومنها أحوال عالم المثال والوجود المقضي به هنالك قبل الوجود الأرضي ، ومنها أدعية الملأ الأعلى بجهد هممهم لمن هذب نفسه ، أو سعى في إصلاح الناس ، وعلى من خالف ذلك ، ومنها الشرائع المكتوبة على بني آدم وتحقق الإيجاب والتحريم فإنها سبب ثواب المطيع وعقاب العاصي ، ومنها أن يقضي الله تعالى بشيء ، فيجر ذلك الشيء شيئا آخر لأنه لازمه في سنة الله ، وخرم نظام اللزوم غير مرضي ، والأصل فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة ' فكل ذلك نطقت به الأخبار ، وأوجبته ضرورة العقل . واعلم أنه إذا تعارضت الأسباب التي يترتب عليها القضاء بحسب جري العادة ، ولم يمكن وجود مقتضياتها أجمع - وكانت الحكمة حينئذ مراعاة أقرب الأشياء إلى الخير المطلق وهذا هو المعبر عنه بالميزان في قوله صلى الله عليه وسلم : ' بيده الميزان يرفع القسط ويخفضه ' وبالشأن في قوله تعالى : ! ( كل يوم هو في شأن ) ! .
____________________
(1/36)
ثم الترجيح يكون تارة بحال الأسباب أيها أقوى ، وتارة بحال الآثار المترتبة أيها أنفع ، وبتقديم باب الخلق على باب التدبير ونحو ذلك من الوجوه ، فنحن أن قصر علمنا عن إحاطة الأسباب ومعرفة الأحق عن تعارضها نعلم قطعا أنه لا يوجد شيء إلا وهو أحق بأن يوجد ، ومن أيقن بما ذكرنا استراح عن اشكالات كثيرة . أما هيآت الكواكب فمن تأثيرها ما يكون ضروريا كاختلاف الصيف والشتاء وطول النهار وقصره باختلاف أحوال الشمس وكاختلاف الجزر والمد باختلاف أحوال القمر ، وجاء في الحديث : ' إذا طلع النجم ارتفعت العاهة ' يعني بحسب جري العادة لكن كون الفقر والغنى والجدب والخصب وسائر حوادث البشر بسبب حركات الكواكب فمما لم يثبت في الشرع ، قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوض في ذلك فقال : ' من اقتبس شعبة من النجوم اقتبس شعبة من السحر ' وشدد في قول : مطرنا بنوء كذا ولا أقول نصت الشريعة على أن الله لم يجعل في النجوم خواص تتولد منها الحوادث بواسطة تغير الهواء المكتنف بالناس ونحو ذلك ، وأنت خبير بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكهانة وهي الأخبار عمن الجن ، وبرئ من أتى كاهنا وصدقه ، ثم لما سئل عن حال الكهان أخبر أن الملائكة تنزل في العنان فتذكر الأمر قضي في السماء ، فتسترق الشياطين السمع ، فتوحيه إلى الكهان ، فيكذبون معها مائة كذبة وأن الله تعالى قال : ( يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى ولو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ) .
____________________
(1/37)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' لن يدخل أحدكم الجنة عمله ' وقال : ' إنما أنت رفيق والطبيب الله ' وبالجملة فالنهي يدور على مصالح كثيرة والله أعلم . ( باب حقيقة الروح ) قال الله تعالى : ! ( يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) ! . وقرأ الأعمش عن رواية ابن مسعود ( وما أوتوا من العلم إلا قليلا ) ويعلم من هنالك أن الخطاب لليهود والسائلين عن الروح وليست الآية نصافي إنه لا يعلم أحد من الأمة المرحومة حقيقة الروح كما يظن ، وليس كل ماسكت عنه الشرع لا يمكن معرفته البتة ، بل كثيرا ما يسكت عنه لأجل أنه معرفة دقيقة لا يصلح لتعاطيها جمهور الأمة وأن أمكن لبعضهم . واعلم أن الروح أول ما يدرك من حقيقتها أنها مبدأ الحياة في الحيوان وأنه يكون حيا بنفخ الروح فيه ، ويكون ميتا بمفارقتها منه ، ثم إذا أمعن في التأمل ينجلي أن في البدن بخارا لطيفا متولدا في القلب من خلاصة الأخلاط يحمل القوى الحساسة والمحركة والمدبرة للغذاء يجري في حكم الطب ، وتكشف التجربة أن لكل من أحوال هذا البخار من رقته وغلظه وصفائه وكدرته أثرا خاصا في القوى والأفاعيل المنبجسة من تلك القوى وأن الآفة الطارئة على كل عضو وعلى توليد البخار المناسب له تفسد هذا البخار ، وتشوش أفاعيله ويستلزم تكونه الحياة ، وتحلله الموت فهو الروح في أول النظر ، والطبقة السفلى من الروح في النظر الممعن ، مثله في البدن كمثل ماء
____________________
(1/38)
الورد وكمثل النار في الفحم ، ثم إذا أمعن في النظر أيضا أنجلى أن هذا الروح مطية للروح الحقيقية ومادة لتعلقها ، وذلك أنا نرى الطفل يشب ، ويشيب ، وتتبدل أخلاط بدنه والروح المتولدة من تلك الأخلاط أكثر من ألف مرة ، ويصغر تارة ، ويكبر أخرى ، ويسود تارة ويبيض أخرى ، ويكون جاهلا مرة وعالما أخرى إلى غير ذلك من الأوصاف المتبدلة والشخص هو هو ، وإن نوقش في بعض ذلك فلنا أن نفرض تلك التغيرات والطفل هو هو ، أو نقول لا نجزم ببقاء تلك الأوصاف بحالها ، ونجزم ببقائه فهو غيرها فالشيء الذي هو به هو ليس هذا الروح ، ولا هذا البدن ، ولا هذه المشخصات التي تعرف ، وترى ببادئ الرأي ، بل الروح في الحقيقة حقيقة فردانية ونقطة نورانية يجل طورها عن طور هذه الأطوار المتغيرة المتغايرة التي بعضها جواهر وبعضها أعراض وهي مع الصغير كما هي مع الكبير ومع الأسود كما هي مع الأبيض إلى غير ذلك من المتقابلات ، ولها تعلق خاص بالروح الهوائي ، أولا وبالبدن ثانيا من حيث إن البدن مطية النسمة وهي كوة من عالم القدس ينزل منها على النسمة كل ما استعدت له ، فالأمور المتغيرة إنما جاء تغيرها من قبل الاستعدادات الأرضية بمنزلة حر الشمس يبيض الثوب ويسود القصار وقد تحقق عندنا بالوجدان الصحيح أن الموت انفكاك النسمة ، عن البدن لفقد استعداد البدن لتوليدها لا انفكاك الروح القدسي عن النسمة ، وإذا تحللت النسمة في الأمراض المدنفة وجب في حكمة الله أن يبقى الشيء من النسمة بقدر ما يصح ارتباط الروح الإلهي بها ، كما أنك إذا مصصت الهواء من القارورة تخلل الهواء حتى تبلغ إلى حد لا تخلل بعده ، فلا تستطيع المص ، أو تنفقئ القارورة ، وما ذلك إلا لسر ناشئ من طبيعة الهواء ، فكذلك سر في النسمة وحد لها لا يجاوزهما الأمر ، وإذا مات الإنسان كان للنسمة نشأة أخرى فينشئ فيض الروح الإلهي
____________________
(1/39)
فيها قوة فيما بقي من الحس المشترك تكفي كفاية السمع والبصر والكلام بمدد من عالم المثال أعني القوة المتوسطة بين المجرد والمحسوس المنبثة في الافلاك كشيء واحد ، وربما تستعد النسمة حينئذ للباس نوراني أو ظلماني بمدد من عالم المثال ، ومن هنالك تتولد عجائب عالم البرزخ ، ثم إذا نفخ في الصور أي جاء فيض عام من بارئ الصور بمنزلة الفيض الذي كان منه في بدء الخلق حين نفخت الأرواح في الأجساد ، وأسس عالم المواليد أوجب فيض الروح الإلهي أن يكتسي لباسا جسمانيا أو لباسا بين المثال والجسم فيتحقق جميع ما أخبر به الصادق المصدوق عليه أفضل الصلوات وأيمن التحيات ، ولما كانت النسمة برزخا متوسطا بين الروح الإلهي والبدن الأرضي وجب أن يكون لهالا وجه إلى هذا ، ووجه إلى ذلك ، والوجه المائل إلى القدس هو الملكية ، والوجه المائل إلى الأرض هو البهيمية ، ولنقتصر من حقيقة الروح على هذه المقدمات لتسلم في هذا العلم ، وتفرع عليها التفاريع قبل أن ينكشف الحجاب في علم أعلى من هذا العلم والله أعلم . ( باب سر التكليف ) قال الله تعالى : ! ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما ) ! نبه الغزالي والبيضاوي وغيرهما على أن المراد بالأمانة تقلد عهدة
____________________
(1/40)
التكليف بأن تتعرض لخطر الثواب والعقاب بالطاعة والمعصية ، وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن ، وبإبائهن الآباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد ، وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها . أقول وعلى هذا فقوله تعالى ! ( إنه كان ظلوما جهولا ) ! خرج مخرج التعليل ؛ فإن الظلوم من لا يكون عادلا ، ومن شأنه أن يعدل ، والجهول من لا يكون عالما ، ومن شأنه أن يعلم ، وغير الآدمي إما عالم عادل لا يتطرق إليه الظلم والجهل كالملائكة ، وإما ليس بعادل ولا عالم ولا من شأنه أن يكسبها كالبهائم ، وإنما يليق بالتكليف ، ويستعد له من كان له كمال بالقوة لا بالفعل ، واللام في قوله تعالى ! ( ليعذب ) ! لام العاقبة كأنه قال عاقبة حمل الأمانة التعذيب والتنعيم ، وإن شئت أن تستجلي حقيقة الحال فعليك أن تتصور حال الملائكة في تجردها لا يزعجها حالة ناشئة من تفريط القوة البهيمية كالجوع والعطش والخوف والحزن ، أو إفراطها كالشبق والغضب والتيه ولا يهمها التغذية والتنمية ولو أحقهما ، وإنما تبقى فارغة لانتظار ما يرد عليها من فوقها ، فإذا ترشح عليها أمر من فوقها من إجماع على إقامة نظام مطلوب أو رضا من شيء ، أو بغض شيء امتلأت به ، وانقادت له ، وانبعثت إلى مقتضاه وهي في ذلك فانية عن مراد نفسها باقية بمراد ما فوقها ، ثم تتصور حال البهائم في تلطخها بالهيآت الخسيسة لا تزال مشغوفة بمقتضيات الطبيعة فانية فيها لا تنبعث إلى شيء إلا انبعاثا بهيميا يرجع إلى نفع جسدي واندفاع إلى ما تعطيه الطبيعة فقط .
____________________
(1/41)
ثم تعلم أن الله تعالى قد أودع الإنسان بحكمته الباهرة قوتين : قوة ملكية تتشعب من فيض الروح المخصوصة بالإنسان على الروح الطبيعية السارية في البدن وقبولها ذلك الفيض وانقهارها له ، وقوة بهيمية تتشعب من النفس الحيوانية المشترك فيها كل حيوان المتشبحة بالقوى القائمة بالروح الطبيعية واستقلالها بنفسها وإذعان الروح الإنسانية لها وقبولها الحكم منها ، ثم تعلم أن بين القوتين تزاحما وتجاذبا ، فهذه تجذب إلى العلو دون تلك إلى السفل وإذا برزت البهيمية ، وغلبت آثارها كمنت الملكية ، وكذلك العكس ، وأن للباري جل شأنه عناية بكل نظام ، وجودا بكل ما يسأله الاستعداد الأصلي والكسبي ، فإن كسب هيآت بهيمية أمد فيها ، ويسر له ما يناسبها ، وإن كسب هيآت ملكية أمد فيها ، ويسر له ما يناسبها كما قال الله عز وجل . ! ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) ! . وقال : ! ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ) ! . وأن لكل قوة لذة وألما ، فاللذة أدراك ما يلائمها ، والألم إدراك ما يخالفها وما أشبه حال الإنسان بحال من استعمل مخدرا في بدنه ، فلم يجد ألم لفح النار حتى إذا ضعف أثره ، ورجع إلى ما تعطيه الطبيعة وجد الألم أشد ما يكون أو بحال الورد على ما ذكره الأطباء أن فيه ثلاث قوى : قوة أرضية تظهر عند السحق والطلاء ، وقوة مائية تظهر عند العصر والشرب ، وقوة هوائية تظهر عند الشم ، فتبين أن التكليف من مقتضيات النوع ، وأن الإنسان يسأل ربه بلسان استعداده أن يوجب عليه ما يناسب القوة الملكية ، ثم يثيب على ذلك ، وأن يحرم عليه الانهماك في البهيمية ، ويعاقب على ذلك والله أعلم .
____________________
(1/42)
( باب انشقاق التكليف من التقدير ) اعلم أن لله تعالى آيات في خلقه يهتدي الناظر فيها إلى أن الله له الحجة البالغة في تكليفه لعباده بالشرائع ، فانظر إلى الأشجار وأوراقها وأزهارها وثمراتها ، وما في كل ذلك من الكيفيات المبصرة والمذوقة وغيرها ، فإنه جعل لكل نوع أوراقا بشكل خاص ، وأزهارا بلون خاص ، وثمارا مختصة بطعوم ، وبتلك الأمور يعرف أن هذا الفرد من نوع كذا وكذا ، وهذه كلها تابعة للصورة النوعية ملتوية معها إنما تجيء من حيث جاءت الصورة النوعية ، وقضاء الله تعالى بأن تكون هذه المادة نخلة مثلا مشتبك مع قضائه التفصيلي بأن تكون ثمرتها كذا وخواصها كذا . ومن خواص النوع ما يدركه كل من له بال ، ومن خواصه ما لا يدركه إلا الألمعي الفطن كتأثير الياقوت في نفس حامله بالتفريح والتشجيع ، ومن خواصه ما يعم كل الأفراد ، ومن خواصه ما لا يوجد إلا في بعضها حيث تستعد المادة ، كالأهليلج الذي يسهل بطن من قبض عليه بيده ، وليس لك أن تقول لما كانت ثمرة النخل على هذه الصفة ؟ فإنه سؤال باطل لأن وجود لوازم الماهيات معها لا يطلب ( بلم ، ثم أنظر إلى أصناف الحيوان تجد لكل نوع شكلا وخلقة ، كما تجد في الأشجار ، وتجد مع ذلك لها حركات اختيارية ، وإلهامات طبيعية ، وتدبيرات جبلية يمتاز كل نوع بها ، فبهيمة الأنعام ترعى الحشيش ، وتجتر ، والفرس والحمار والبغل ترعى الحشيش ، ولا تجتر ، والسباع تأكل اللحم ، والطير يطير في الهواء ، والسمك يسبح في الماء ، ولكل نوع من الحيوان صوت غير صوت الآخر ، ومسافدة غير مسافدة الآخر ، وحضانة للأولاد غير حضانة الآخر ، وشرح هذا يطول ، وما ألهم نوعاً من الأنواع إلا علوما تناسب مزاجه ، وإلا ما يصلح به ذلك النوع .
____________________
(1/43)
وكل هذه الإلهامات تترشح عليه من جانب بارئها من كوة الصورة النوعية ، ومثلها كمثل تخاطيط الأزهار ، وطعوم الثمرات في تشابكها مع الصورة النوعية ، ومن أحكام النوع ما يعم الأفراد ، ومنها ما لا يوجد إلا في البعض حيث تستعد المادة ، وتتفق الأسباب ، وإن كان أصل الاستعداد يعم الكل ، كاليعسوب من بين النحل ، والببغاء يتعلم محاكاة أصوات الناس بعد تعليم وتمرين ، ثم أنظر إلى نوع الإنسان تجد له ما وجدت في الأشجار ، وما وجدت في أصناف الحيوان كالسعال والتمطي والجشاء ودفع الفضلات ومص الثدي في أول نشأته ، وتجد مع ذلك فيه خواص يمتاز بها من سائر الحيوان : منها النطق ، وفهم الخطاب ، وتوليد العلوم الكسبية من ترتيب المقدمات البديهية ، أو من التجربة والاستقراء والحدس ومن الاهتمام بأمور يستحسنها بعقله ، ولا يجدها بحسه ، ولا وهمه ، كتهذيب النفس ، وتسخير الأقاليم تحت حكمه ، ولذلك يتوارد على أصول هذه الأمور جميع الأمم حتى سكان شواهق الجبال ، وما ذلك إلا لسر ناشئ من جذر صورته النوعية ، وذلك السر أن مزاج الإنسان يقتضي أن يكون عقله قاهرا على قلبه ، وقلبه قاهرا على نفسه . ثم انظر إلى تدبير الحق لكل نوع ، وتربيته إياه ، ولطفه به ، فلما كان النبات لا يحس ، ولا يتحرك جعل له عروقا تمص المادة المجتمعة من الماء والهواء ولطيف التراب ، ثم يفرقها في الأغصان وغيرها على تقسيم تعطيه الصورة النوعية ، ولما كان الحيوان حساسا متحركا بالإرادة لم يجعل له عروقا تمص المادة من الأرض ، بل ألهمه طلب الحبوب والحشيش والماء من مظانها ، وألهمه جميع ما يحتاج إليه من الارتفاقات ، والنوع الذي لا يتكون من الأرض تكون الديدان منها دبر الله تعالى له بأن أودع فيه قوى التناسل ،
____________________
(1/44)
وخلق في الأنثى رطوبة يصرفها إلى تربية الجنين ، ثم حولها لبنا خالصا ، وألهم المتولد مص الثدي وازدراد اللبن ، وجعل في الدجاجة رطوبة يصرفها إلى تكون البيض ، فإذا باضت أصابها يبس وخلو جوف يحملانها على جنون يستدعي ترك مخالطة بني نوعها ، واستحباب حضانة شيء تسد به جوفها ، وجعل من طبع الحمامة الأنس بين ذكرها وأنثاها ، وجعل خلو جوفها هو الحامل على حضانة البيض ، ثم جعل رطوبتها البالية تتوجه إلى التهوع ، وجعل لها رحمة على الفرخ ، وجعل رحمتها مع الرطوبة البالية سببا لتهوعها ودفع الحبوب والماء إلى جوف فرخها ، وجعل الذكر منها بسبب الأنس يقلد أنثاها ، وخلق للفراخ مزاجا رطبا ثم حول رطوبتها ريشا تطير به . ولما كان الإنسان مع احساسه وقبوله للالهامات الجبلية والعلوم الطبيعية ذا عقل وتوليد للعلوم الكسبية - ألهمه الزرع والغرس والتجارة والمعاملة ، وجعل منهم السيد بالطبع والاتفاق ، والعبد بالطبع والاتفاق ، وجعل منهم الملوك والرعية ، وجعل منهم الحكيم المتكلم بالحكمة الإلهية والطبيعية والرياضية والعملية ، وجعل منهم الغني الذي لا يهتدي لذلك إلا بضرب من تقليد ، ولذلك ترى أمم الناس من أهل البوادي والحضر متواردين على هذه . . . ، وهذا كله شرح الخواص والتدبيرات الظاهرة المتعلقة بقوته البهيمية وارتفاقاته المعيشية ، ثم انتقل إلى قوته الملكية . واعلم أن الإنسان ليس كسائر أنواع الحيوان ، بل له إدراك أشرف من إدراكاتهم ، ومن علومه التي يتوارد عليها أكثر أفراده غير من عصت مادته أحكام نوعه - التفتيش عن سبب إيجاده وتربيته ، والتنبيه بإثبات مدبر
____________________
(1/45)
في العالم هو أوجده ورزقه ، والتضرع بين يدي بارئه ومدبره بهمته وعلمه حسب ما يتضرع إليه هو وجميع أبناء جنسه دائما سر مدا بلسان الحال وهو قوله تعالى : ( ألم ترى أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ) . أليس أن كل جزء من الشجرة من أغصانها وأوراقها وأزهارها متكفف يده إلى النفس النباتية المدبرة في الشجرة دائما سر مدا ، فلو كان لكل جزء منها عقل لحمد النفس النباتية حمدا غير حمد الآخر ، ولو كان له فهم لا نطبع التكفف الحالي في علمه وصار تكففا بالهمة . فاعلم من هناك أن الإنسان لما كان ذا عقل ذكي انطبع في نفسه التكفف العلمي حسب التكفف الحالي ، ومن خواصه أيضا أن يكون في نوع الإنسان من له خلوص إلى منبع العلوم العقلية يتلقاها منه وحيا أو حدسا أو رؤيا ، وأن يكون آخرون قد تفرسوا من هذا الكامل آثار الرشد والبركة ، فانقادوا له فيما يأمر ، وينهى ، وليس فرد من أفراد الإنسان إلا له قوة للتخلص إلى الغيب برؤيا يراها ، أو برأي يبصره ، أو هتيف يسمعه ، أو حدس يتفطن له ، إلا أن منهم الكامل ، ومنهم الناقص ، والناقص يحتاج إلى الكامل ، وله صفات يجل طورها عن طور صفات البهائم كالخشوع والنظافة والعدالة والسماحة ، وكظهور بوارق الجبروت والملكوت من استجابة الدعاء وسائر الكرامات والأحوال والمقامات .
____________________
(1/46)
والأمور التي يمتاز بها الإنسان من سائر أفراد الحيوان كثيرة جدا لكن جماع الأمر وملاكه خصلتان : أحدهما زيادة القوة العقلية ولها شعبتان شعبة غائصة في الارتفاقات لمصلحة نظام البشر واستنباط دقائقها ، وشعبة مستعدة للعلوم الغيبية الفائضة بطريق الوهب . وثانيهما براعة القوة العملية ، ولها أيضا شعبتان : شعبة هي ابتلاعها للأعمال من طريق بلعوم اختيارها وإرادتها ، فالبهائم تفعل أفعالا بالاختيار ، ولا تدخل أفعالا في جدر أنفسها ، ولا تتلون أنفسها بأرواح تلك الأفعال ، وإنما تلتصق بالقوى القائمة بالروح الهوائي فقط ، فيسهل عليها صدور أمثالها . والإنسان يفعل أفعالا ، فتفنى الأفعال ، وتنزع منها أرواحها ، فتبلعها النفس ، فيظهر في النفس إما نور وإما ظلم ، وقول الشرع شرط المؤاخذة على الأفعال أن يفعلها بالاختيار بمنزلة قول الطبيب شرط الضرر بالسم والانتفاع بالترياق أن يدخلا في البلعوم ، وينزلا في الجوف ، وأمارة ما قلنا أن النفس الإنسانية تبلع من أرواح الأعمال ما اتفق عليه أمم بني آدم من عمل الرياضات والعبادات ومعرفة أنوار كل ذلك وجدانا ، ومن الكف عن المعاصي والمنهيات ورؤية قسوة كل ذلك وجدانا . وشعبة : هي أحوال ومقامات سنية ، كمحبة الله والتوكل عليه مما ليس في البهائم جنسها . واعلم أنه لما كان اعتدال مزاح الإنسان بحسب ما تعطيه الصورة النوعية لا يتم إلا بعلوم لا يتخلص إليها أزكاهم ، ثم يقلده الآخرون وبشريعة تشتمل على معارف إلهية وتدبيرات ارتفاقية وقواعد تبحث عن الأفعال
____________________
(1/47)
الاختيارية وتقسمها إلى الأقسام الخمسة من الواجب ، والمندوب إليه ، والمباح والمكروه ، والحرام ، ومقدمات تبين مقامات للإحسان وجب في حكمة الله تعالى ورحمته أن يهئ في غيب قدسه رزق قوته العقلية يخلص إليه أزكاهم فيتلقاه من هنالك ، وينقاد له سائر الناس بمنزله ما ترى في نوع النحل من يعسوب يدبر لسائر أفرادها لولا هذا التلقي بواسطة ، ولا بواسطة لم يكمل كماله المكتوب له ، فكما أن المستبصر إذا رأى نوعا من أنواع الحيوان لا يتعيش إلا بالحشيش استيقن أن الله دبر له مرعى فيه حشيش كثير ، فكذلك المستبصر في صنع الله يستيقن أن هناك طائفة من العلوم يسد بها العقل خلته فيكمل كما له المكتوب له ، وتلك الطائفة منها علم التوحيد والصفات ، ويجب أن يكون مشروحا بشرح يناله العقل الإنساني بطبيعته لا مغلقا لا يناله إلا من يندر وجود مثله ، فشرح هذا العلم بالمعرفة المشار إليها بقوله سبحان الله وبحمده ، فأثبت لنفسه صفات يعرفونها ، ويستعملونها ، بينهم من الحياة والسمع والبصر والقدرة والإرادة والكلام والغضب والسخط والرحمة والملك والغنى ، وأثبت مع ذلك أنه ليس كمثله شيء في هذه الصفات ؛ فهو حي لا كحياتنا ، وبصير لا كبصرنا ، قدير لا كقدرتنا ، مريد لا كإرادتنا ، متكلم لا ككلامنا ، ونحو ذلك ، ثم فسر عدم المماثلة بأمور مستبعدة في جنسنا مثل أن يقال يعلم عدد قطر الأمطار ، وعدد رمل الفيافي ، وعدد أوراق الأشجار ، وعدد أنفاس الحيوانات ، ويبصر دبيب النمل في الليلة الظلماء ، ويسمع ما يتوسوس به تحت اللحف في البيوت المغلقة عليها أبوابها ، ونحو ذلك ، ومنها علم العبادات ، ومنها علم الارتفاقات ، ومنها علم المخاصمة . أعني أن النفوس السفلية إذا تولدت بينها شبهات تدافع بها الحق كيف يحل تلك العقد ، ومنها علم التذكير بآلاء الله ، وبأيام الله
____________________
(1/48)
وبوقائع البرزخ والمحشر فنظر الحق تبارك وتعالى في الأزل إلى نوع الإنسان ، وإلى استعداده الذي يتوارثه أبناء النوع ، ونظر إلى قوته الملكية والتدبير الذي يصلحه من العلوم المشروحة حسب استعداده ، فتمثلت تلك العلوم كلها في غيب الغيب محدودة ومحصاة ، وهذا التمثيل هو الذي يعبر عنه الاشاعرة بالكلام النفسي ، وهو غير العلم وغير الإرادة والقدرة ، ثم لما جاء وقت خلق الملائكة علم الحق أم مصلحة أفراد الإنسان لا تتم إلا بنفوس كريمة ، نسبتها إلى نوع الإنسان كنسبة القوى العقلية في الواحد منا إلى نفسه ، فأوجدهم بكلمة ( كن ) بمحض العناية بأفراد الإنسان فأودع في صدورهم ظلا من تلك العلوم المحدودة المحصاة في غيب غيبه ، فتصورت بصورة روحية ، وإليهم الإشارة في قوله تبارك وتعالى : ! ( الذين يحملون العرش ومن حوله ) ! . الآية . ثم لما جاء بعض القرانات المقتفية لتغيير الدول والملل ، قضى بوجود روحاني آخر لتلك العلوم ، فصارت مشروحة مفصلة بحسب ما يليق بتلك القرانات ، وإليها الإشارة في قوله تعالى : ! ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم ) ! . ثم انتظرت حكمة الله لوجود رجل زكي يستعد للوحي قد قضى بعلو شأنه وارتفاع مكانه حتى إذا وجد اصطنعه لنفسه ، واتخذه جارحة لإتمام مراده وأنزل عليه كتابه ، وأوجب طاعته على عباده ، وهو قوله تعالى لموسى عليه السلام :
____________________
(1/49)
! ( واصطنعتك لنفسي ) ! فما أوجب تعيين تلك العلوم في غيب الغيب إلا العناية بالنوع ، ولا سأل الحق فيضان نفوس الملأ الأعلى إلا استعداد النوع ، ولا ألح عند القرانات بسؤال تلك الشريعة الخاصة إلا أحوال النوع ، فلله الحجة البالغة . ' فإن قيل ' من أين وجب على الإنسان أن يصلي ، ومن أين وجب عليه أن ينقاد للرسول ، ومن أين حرم عليه الزنا والسرقة ؟ ' فالجواب ' وجب عليه هذا ، وحرم عليه ذلك من حيث وجب على البهائم أن ترعى الحشيش ، وحرم عليها أكل اللحم ، ووجب على السباع أن تأكل اللحم ، ولا ترعى الحشيش ، ومن حيث وجب على النحل أن يتبع اليعسوب إلا أن الحيوان استوجب تلقي علومها إلهاما جبليا ، واستوجب الإنسان تلقي علومه كسبا ونظرا ، أو وحيا ، أو تقليدا . ( باب اقتضاء التكليف المجازاة ) اعلم أن الناس مجزيون بأعمالهم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر من أربعة وجوه : أحدها مقتضى الصورة النوعية ، فكما أن البهيمة إذا علفت الحشيش ، والسبع إذا علف اللحم - صح مزاجهما ، وإذا علفت البهيمة اللحم ، والسبع الحشيش - فسد مزاجهما ، فكذلك الإنسان إذا باشر أعمالا أرواحها الخشوع بجانب الحق ، والطهارة والسماحة والعدالة صلح مزاجه الملكي ، وإذا باشر أعمالا أرواحها أضداد هذه الخصال فسد مزاجه الملكي ، فإذا تخفف عن ثقل البدن أحس بالملاءمة والمنافرة شبه ما يحس أحدنا من ألم الاحتراق
____________________
(1/50)
وثانيها جهة الملأ الأعلى ، فكما أن الواحد منها له قوى إدراكية مودعة في الدماغ ، يحس بها ما وقعت عليه قدمه من جمرة أو ثلجة ، فكذلك بصورة الإنسان المتمثلة من الملكوت خدام من الملائكة أوجدها عناية الحق بنوع الإنسان ، لأن نوع الإنسان لا يصلح إلا بهم ، كما أن الواحد منا لا يصلح إلا بالقوة الإدراكية ، فكلما فعل فرد من أفراد الإنسان فعلا منجيا خرجت من تلك الملائكة أشعة بهجة وسرور ، وكلما فعل فعلا مهلكا خرجت منها أشعة نفرة وبغض ، فحلت تلك الأشعة في نفس هذا الفرد ، فأورثت بهجة ، أو وحشة ، أو في نفوس بعض الملائكة ، أو بعض الناس ، فانعقد الإلهام أن يحبوه ، ويحسنوا إليه ، أو يبغضوه ، ويسيئوا إليه شبه ما نرى من أن أحدنا وإذا وقعت رجله على جمرة أحست قواه الإدراكية بألم الاحتراق ثم خرجت منها أشعة تؤثر في القلب ، فيحزن ، وفي الطبع فيحم وتأثير أولئك الملائكة فينا شبيه بتأثير الإدراكات في أبداننا ، فكما أن الواحد منا قد يتوقع ألما أو ذلا فترتعد فرائصه ، ويصفر لونه ، ويضعف جسده وربما تسقط شهوته ، ويحمر بوله ، وربما بال أو خرئ من شدة الخوف ، فهذا كله تأثير القوة الإدراكية في الطبيعة ووحيها إليها وقهرها عليها ، فكذلك الملائكة الموكلة ببني آدم يترشح منها عليهم وعلى نفوس الملائكة السفلية إلهامات جبلية ، وحالات طبيعية ، وأفراد الإنسان كلها بمنزلة القوى الطبيعية لهذه الملائكة بمنزلة القوى الإدراكية لهم ، وكما تهبط تلك الأشعة إلى السفل فكذلك يصعد إلى حظيرة القدس منها لون يعد لفيضان هيئة تسمى ، بالرحمة والرضى والغضب واللعن مثل إعداد مجاورة النار الماء لتسخينه ، وإعداد المقدمات للنتيجة ، وإعداد الدعاء للإجابة ، فيتحقق التجدد في الجبروت من هذا الوجه ، فيكون غضب ، ثم توبة ، ويكون رحمة ، ثم نقمة قال الله تعالى :
____________________
(1/51)
! ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ! . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أن الملائكة ترفع أعمال بني آدم إلى الله تعالى ، وأن الله يسألهم كيف تركتم عبادي ؟ وأن عمل النهار يرفع إليه قبل عمل الليل ينبه صلى الله عليه وسلم على ضرب من توسط الملائكة بين بني آدم وبين نور الله القائم وسط حظيرة القدس . وثالثها مقتضى الشريعة المكتوبة عليهم ، فكما يعرف المنجم أن الكواكب إذا كان لها نظر من النظرات حصلت روحانية ممتزجة من قواها متمثلة في جزء من الفلك ، فإذا نقلها إلى الأرض ناقل أحكام الفلكيات - اعني القمر - انقلبت خواطرهم حسب تلك الروحانية ، فكذلك يعرف العارف بالله أنه إذا جاء وقت من الأوقات تسمى في الشرع بالليلة المباركة التي فيها يفرق كل أمر حكيم حصلت روحانية في الملكوت ممتزجة من أحكام نوع الإنسان ، ومقتضى هذا الوقت يترشح من هنالك إلهامات على أذكى خلق الله يومئذ ، وعلى نفوس تليه في الذكاء بواسطته ، ثم يلهم سائر الناس قبول تلك الإلهامات واستحسانها ، ويؤيد ناصرها ، ويخذل معاندها ، وتلهم الملائكة السفلية الإحسان لمطيعها ، والإساءة إلى عاصيها ، ثم يصعد منها لون إلى الملأ الأعلى وحظيرة القدس ، فيحصل هنالك رضا وسخط . ورابعها أن النبي إذا بعث في الناس ، وأراد الله تعالى ببعثه لطفا بهم وتقريبا لهم إلى الخير ، وأوجب طاعته عليهم صار العلم الذي يوحى إليه متشخصا متمثلا ، وامتزج بهمة هذا النبي ودعائه وقضاء الله تعالى بالنصر له ، فتأكد وتحقق . أما المجازاة في الوجهين الأولين ففطرة فطر الله الناس عليها ، ولن
____________________
(1/52)
تجد لفطرة الله تبديلا ، وليس ذلك إلا في أصول البر والاثم ، وكلياتها دون فروعها وحدودها ، وهذه الفطرة هو الدين الذي لا يختلف باختلاف الاعصار ، والأنبياء كلهم مجمعون عليه كما قال تبارك وتعالى . ! ( إن هذه أمتكم أمة واحدة ) ! . وقال صلى الله عليه وسلم : ' الأنبياء بنو علات ، أبوهم واحد ، وأمهاتهم شتى ' والمؤاخذة على هذا القدر متحققة قبل بعثة الأنبياء وبعدها سواء . وأما المجازاه بالوجه الثالث فمختلفة باختلاف الأعصار ، وهي الحاملة على بعث الأنبياء والرسل ، وإليها الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم : ' إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما ، فقال يا قوم أني رأيت الجيش بعيني ، وأني أنا النذير العريان ، فالنجا النجاء ، فأطاعه طائفة من قومه ، فأدلجوا ، فانطلقوا على مهلهم ، فنجوا ، وكذيت طائفة منهم ، فأصبحوا مكانهم ، فصبحهم الجيش ، فأهلكهم واجتاحهم ، فكذلك مثل من أطاعني ، فاتبع ما جئت به ، ومثل من عصاني ، وكذب ما جئت به من الحق ' . وأما المجازاة بالوجه الرابع ، فلا تكون إلا بعد بعثة الأنبياء ، وكشف الشبهة وصحة التبليغ . ! ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ) ! .
____________________
(1/53)
( باب اختلاف الناس في جبلتهم المستوجب لاختلاف أخلاقهم وأعمالهم ومراتب كمالهم ) والأصل فيه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه ، فصدقوه ، وإذا سمعتم برجل تغير عن خلقه ، فلا تصدقوا به ، فإنه يصير إلى ما جبل عليه ' وقال : ' ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى . فمنهم من يولد مؤمنا ' فذكر الحديث بطوله ، وذكر طبقاتهم في الغضب تقاضي الدين وقال : ' الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ' وقال الله تعالى : ! ( قل كل يعمل على شاكلته ) ! . أي طريقته التي جبل عليها وأن شئت أن تستجلي ما فتح الله علي في هذا الباب ، وفهمني من معاني هذه الأحاديث ( فاعلم ) أن القوة الملكية تخلق في الناس على وجهين : أحدهما الوجه المناسب بالملأ الأعلى الذي شأنهم الانصباغ بعلوم الأسماء والصفات ، ومعرفة دقائق الجبروت ، وتلقي النظام على وجه الإحاطة به ، واجتماع الهمة على طلب وجوده ، والثاني الوجه المناسب بالملأ السافل الذي شأنهم انبعاث بداعية تترشح عليهم من فوقهم من غير إحاطة ، ولا اجتماع الهمة ، ولا المعرفة ونورانيه ، ورفض للالواث البهيمية وكذلك القوة البهيمة تخلق على وجهين : أحدهما البهيمية الشديدة الصفيقة كهيئة الفحل الفاره الذي نشأ في غذاء عزير ، وتدبير مناسب
____________________
(1/54)
فكان عظيم الجسم شديده ، وجهوري الصوت ، قوي البطش ، ذا همة نافذة وتيه عظيم ، وغضب وحسد قويين ، وشبق وافر ، منافسا في الغلبة والظهور ، شجاع القلب . والثاني البهيمية الضعيفة المهلهلة كهيئة الحيوان الخصى المخدج الذي نشأ في جدب وتدبير غير مناسب ، فكان حقير الجسم ضعيفه ، ركيك الصوت ، ضعيف البطش ، جبان القلب ، غير ذي همة ، ولا منافسة في الغلبة والظهور ، والقوتان جميعا لهما جبلة تخصص أحد وجهيها ، وكسب يؤيده ، ويقويه ، ويمد فيه واجتماع القوتين فيهم أيضا يكون على وجهين : فتارة تجتمعان بالتجاذب تكون كل واحدة متوفرة في طلب مقتضياتها ، طامحة في أقصى غاياتها مريدة سننها الطبيعي ، فلا جرم أن يقع بينهما التجاذب ، فإن غلبت هذه اضمحلت آثار تلك ، وكذلك العكس ، وتارة بالاصطلاح بأن تنزل الملكية عن طلب حكمها الصراح إلى ما يقرب منه من عقل وسخاوة نفس وعفة وطبع ، وإيثار النفع العام على انتفاع نفسه خاصة ، والنظر إلى الآجل دون الاقتصار على العاجل ، وحب النظافة في جميع ما يتعلق به ، وتترقي البهيمية من طلب حكمها الصراح إلى ما ليس ببعيد من الرأي الكلي ، ولا مضاد له ، فتصطلحان ويحصل مزاج لا تخالف فيه ، ولكل من مرتبتي الملكية والبهيمية والاجتماع طرفان ووسط وما يقرب من طرف أو وسط ، وكذلك تذهب الأقسام إلى غير النهاية إلا أن رءوس الأقسام المنفرزة بأحكامها ، والتي يعرف غيرها بمعرفتها ثمانية حاصلة من انقسام الاجتماع بالتجاذب إلى أربعة ملكية عالية تجتمع مع بهيمية شديدة ، أو
____________________
(1/55)
ضعيفة ، أو ملكية سافلة تجتمع مع بهيمية شديدة أو ضعيفة والاجتماع بالاصطلاح أيضا إلى أربعة مثلها ، ولكل قسم حكم لا يختلف من وفق لمعرفة أحكامها استراح من تشويشات كثيرة . ونحن نذكر ههنا من ذلك ما نحتاج إليه في هذا الكتاب فأحوج الناس إلى الرياضات الشاقة من كانت بهيميته شديدة لا سيما صاحب التجاذب ، وأحظاها بالكمال من كانت ملكيته عالية لكن صاحب الاصطلاح أحسنهم عملا وآدبهم ، وصاحب التجاذب إذا انفلت من أسر البهيمية أكثرهم علما ، ولا يبالي بآداب العمل كثير مبالاة ، وأزهدهم في الأمور العظام أضعفهم بهيمية ، لكن صاحب العالية يترك الكل تفرغا للتوجه إلى الله ، وصاحب السافلة إن انفلت يتركه للآخرة وإلا يتركه كسلا ودعة ، وأشدهم اقتحاما في الأمور العظام أشدهم بهيمية لكن صاحب العالية أقومهم بالرياسات ونحوها مما يناسب الرأي الكلي ، وصاحب السافلة أشدهم اقتحاما في نحو القتال وحمل الأثقال ، وصاحب التجاذب إذا اندفع إلى الأسفل أشتغل بالأمر الدنيوي فقط ، وإذا ترقى إلى الأعلى اشتغل بالأمر الديني وتهذيب النفس وتجريدها فقط ، وصاحب الاصطلاح يشتغل بهما جميعا ، ويقصدهما مرة واحدة ، ومن كانت عاليته منهم في غاية العلو ينبعث إلى رياسة الدين والدنيا معا ، ويصير باقيا بمراد الحق وبمنزلة الجارحة . له في تمام نظام كلي كالخلافة وإمامة الملة ، وأولئك هم الأنبياء وورثتهم ، وأساطين الناس وسلاطينهم ، وأولو الأمر منهم والذين يجب انقيادهم في دين الله أهل الاصطلاح ، العالية ملكيتهم ، وأطوعهم لأولئك أهل الاصطلاح السافلة ملكيتهم ، فإنهم يتلقون النواميس بأشباحها
____________________
(1/56)
وهيئاتها ، وأطرفهم منهم أهل التجاذب ، لأنهم إما منهمكون في ظلمات الطبيعة ، فلا يقيمون السنة الراشدة ، أو قاهرون عليها ، فإن كانوا أهل علو عضوا على أرواح النواميس ، وكانت لهم مسامحة في أشباحها ، وكان أكثر همتهم معرفة دقائق الجبروت والانصباغ بصبغها ، وإن كانوا دون ذلك اهتموا بالرياضات والأوراد ، وأعجبوا ببوارق الملكية من كشف وإشراف واستجابة الدعاء ونحو ذلك ، ولم يعضوا من النواميس بجذر قلوبهم إلا على حيل قهر الطبيعة وجلب الأنوار ، فهذه أصول أعطانيها ربي من أتقنها استجلى أحوال أهل الله ، ومبلغ كمالهم ، ومطمح إشارتهم عن أنفسهم ، وخرج مراتب سلوكهم : ! ( ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) ! . ( باب في أسباب الخواطر الباعثة على الأعمال ) اعلم أن الخواطر التي يجدها الإنسان في نفسه ، وتبعثه على العمل بموجبها لا جرم أن لها أسبابا كسنة الله تعالى في سائر الحوادث . والنظر والتجربة يظهران أن منها - وهو أعظمها - جبلة الإنسان التي خلق عليها ، كما نبه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رويناه من قبل . ومنها مزاجه الطبيعي المتغير بسبب التدبير المحيط به من الأكل والشرب ونحو ذلك ، كالجائع يطلب الطعام ، والظمآن يطلب الماء ، والمغتلم يطلب
____________________
(1/57)
النساء ، ورب إنسان يأكل غذاء يقوي الباءة ، فيميل إلى النساء ، ويحدث نفسه بأحاديث تتعلق بهن ، وتصير هذه مهيجة له على كثير من الأفعال ، ورب إنسان يتغذى غذاء شديدا ، فيقسو قلبه ، ويجترئ على القتل : ويغضب في كثير مما لا يغضب فيه غيره ، ثم إذا ارتاض هذان أنفسهما بالصيام والقيام ، أو شابا وكبرا ، أو مرضا مرضا مدنفا تغير أكثر ما كان عليه ، ورقت قلوبهما ، وعفت نفوسهما ، ولذلك ترى الاختلاف بين الشيوخ والشباب ، ورخص النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ في القبلة وهو صائم ولم يرخص للشاب . ومنها العادات والمألوفات فإن من أكثر ملابسة شيء ، وتمكن من لوح نفسه ما يناسبه من الهيئات والأشكال - مال إليه كثير من خواطره . ومنها أن النفس الناطقة في بعض الأوقات تنفلت من أسر البهيمية ، فتختطف من حيز الملأ الأعلى ما ييسر لها من هيئة نورانية ، فتكون تارة من باب الأنس والطمأنينة ، وتارة من باب العزم على فعل . ومنها أن بعض النفوس الخسيسة تتأثر من الشياطين وتنصبغ ببعض صبغهم ، وربما اقتضت تلك الهيئة خواطر وأفعالا . واعلم أن المنامات أمرها كأمر الخواطر غير أنها تتجرد لها النفس ، فتتشبح لها صورها ، وهيئاتها . قال محمد بن سرين : الرؤيا ثلاث : حديث النفس ، وتخويف الشيطان ، وبشرى من الله .
____________________
(1/58)
( باب لصوق الأعمال بالنفس وأحصائها عليها ) قال الله تعالى : ! ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) ! . وقال النبي صلى الله عليه وسلم راويا عن ربه تبارك وتعالى : ' إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومن الا نفسه ' وقال صلى الله عليه وسلم : ' النفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك ، ويكذبه ' . اعلم أن الأعمال التي يقصدها الإنسان قصدا مؤكدا ، والأخلاق التي هي راسخة فيه ، تنبعث من أصل النفس الناطقة ، ثم تعود إليها ، ثم تتشبث بذيلها ، وتحصي عليها إما الانبعاث منها ، فلما عرفت أن للملكية والبهيمية واجتماعهما أقساما ولكل قسم حكما ، وغلبة المزاج الطبيعي والانصباغ من الملائكة والشياطين ونحو ذلك من الأسباب لا تكون إلا حسب ما تعطيه الجبلة ، وتحصل فيه المناسبة ، فلذلك كان المرجع إلى أصل النفس بوسط أو بغير وسط . ألست ترى المخنث يخلق في أول مرة على مزاج ركيك ، فيستدل به العارف على أنه أن شب على مزاجه وجب أن يعتاد بعادات النساء ، ويتزيا بزيهن ، وينتحل رسومهن ، وكذلك يدرك الطبيب أن الطفل إن شب على مزاجه ، ولم يفجأه عارض كان قويا فارها ، أو ضعيفا ضارعا ، وأما العود إليها فلان الإنسان إذا عمل عملا ، فأكثر منه
____________________
(1/59)
اعتادته النفس ، وسهل صدوره منها ، ولم يحتج إلى روية وتجشم داعية ، فلا جرم أن النفس تأثرت منه ، وقبلت لونه ، ولا جرم أن لكل عمل من تلك الأعمال المتجانسة مدخلا في ذلك التأثر ، وإن دق ، وخفي مكانه ، وإليه الإشارة في قوله : صلى الله عليه وسلم ' تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا ، فأي قلب أشر بها نكتت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب ، أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين أبيض مثل الصفا ، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ، ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه ' . وأما التشبث بذيلها فلان النفس في أول أمرها تخلق هيولانية فارغة عن جميع ما تنصبغ به ، ثم لا تزال تخرج من القوة إلى الفعل يوما فيوما ، وكل حالة متأخرة لها معد من قبلها ، والمعدات كلها سلسلة مترتبة ، لا يتقدم متأخرها على متقدم مستصحب في هيئة النفس الموجودة اليوم حكم كل معد قبلها وإن خفي عليها بسبب اشتغالها بما هو خارج منها اللهم إلا أن يفنى حامل القوة المنبعثة تلك الأعمال منها كما ذكرنا في الشيخ والمريض ، أو تهجم عليها هيئة من فوقها نظامها كالتغير المذكور كما قال الله تعالى : ( أن الحسنات يذهبن السيئات ) . وقال : ! ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) !
____________________
(1/60)
وأما الإحصاء عليها ، فسره على ما وجدته بالذوق أن في الحيز الشاهق تظهر صورة لكل إنسان بما يعطيه النظام الفوقاني والتي ظهرت في قصة الميثاق شعبة منها ، فإذا وجد هذا الشخص انطبقت الصورة عليه ، واتحدت معه ، فإذا عمل عملا انشرحت هذه الصورة بذلك العمل انشراحا طبيعيا بلا اختيار منه ، فربما تظهر في المعاد أن أعمالها محصاة عليها من فوقها ، ومنه قراءة الصحف ، وربما تظهر أن أعمالها فيها متشبثة بأعضائها ، ومنها نطق الأيدي والأرجل . ثم كل صورة عمل مفصحة عن ثمرته في الدنيا والآخرة ، وربما تتوقف الملائكة في تصويره ، فيقول الله تعالى اكتبوا العمل كما هو ، قال الغزالي : كل ما قدرة الله تعالى من ابتداء خلق العالم إلى آخره مسطور ومثبت في خلق خلقه الله تعالى ، يعبر عنه تارة باللوح ، وتارة بالكتاب المبين ، وتارة بإمام مبين ، كما ورد في القرآن ، فجميع ما جرى في العالم ، وما سيجري مكتوب فيه ، ومنقوش عليه نقشا لا يشاهد بهذه العين . ولا تظنن أن ذلك اللوح من خشب أو حديد أو عظم ، وأن الكتاب من كاغد أو ورق ، بل ينبغي أن تفهم قطعا أن لوح الله لا يشبه لوح الخلق ، وكتاب الله لا يشبه كتاب الخلق ، كما أن ذاته وصفاته لا تشبه ذات الخلق وصفاتهم ، بل أن كنت تطلب له مثالا يقربه إلى فهمك ، فاعلم أن ثبوت المقادير في اللوح المحفوظ يضاهي ثبوت كلمات القرآن وحروفه في دماغ حافظ القرآن وقلبه ، فإنه مسطور فيه حتى كأنه حيث يقرأ ينظر إليه ، ولو فتشت دماغه جزءا جزءا لم تشاهد من ذلك الخط حرفا ، فمن هذا النمط ينبغي أن تفهم كون اللوح منقوشا بجميع ما قدره الله تعالى وقضاه انتهى ، ثم كثيرا ما تتذكر النفس ما عملته من خير أو شر ، وتتوقع جزاءه ، فيكون ذلك وجها آخر من وجوه استقرار عمله والله أعلم .
____________________
(1/61)
( باب ارتباط الأعمال بالهيئات النفسانية ) اعلم أن الأعمال مظاهر الهيئات النفسانية ، وشروح لها ، وشركات لاقتناصها ، ومتحدة معها في العرف الطبيعي أن يتفق جمهور الناس على التعبير بها عنها بسبب طبيعي تعطيه الصورة النوعية ، وذلك لأن الداعية إذا انبعثت إلى عمل ، فطاوعت له نفسه انبسطت ، وانشرحت ، وإن امتنعت انقبضت ، وتقلصت فإذا باشر العمل استبد منبعه من ملكية أو بهيمية وقوى وانحرف مقابله وضعف ، وإلى هذا الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم : ' النفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك ، ويكذبه ' . ولن ترى خلقا إلا وله أعمال وهيئات يشار بها إليه ، ويعبر بها عنه وتتمثل صورتها مكشافا له ، فلو أن إنسانا وصف إنسانا آخر بالشجاعة واستفسر ، فبين لم يبين إلا معالجاته الشديد ، أو بالسخاوة لم يبين إلا دراهم ودنانير يبذلها ، ولو أن إنسانا أراد أن يستحضر صورة الشجاعة والسخاوة اضطر إلى صور تلك الأعمال اللهم إلا أن يكون قد غير فطرة الله التي فطر الناس عليها ، ولو أن واحدا أراد أن يحصل خلقا ليس فيه ، فلا سبيل له إلى ذلك إلا الوقوع في مظانة ، وتجشم الأعمال المتعلقة به ، وتذكر وقائع الأقوياء من أهله ، ثم الأعمال هي الأمور المضبوطة التي تقصد بالتوقيت ، وترى ، وتبصر ، وتحكي ، وتؤثر ، وتدخل تحت القدرة والاختيار ، ويمكن أن يؤاخذ بها وعليها ، ثم النفوس ليست سواء في إحصاء الأعمال والملكات عليها : فمنها نفوس قوية تتمثل عندها الملكات أكثر من الأعمال ، فلا يعد من كمالها بالأصالة إلا الأخلاق ، ولكن تتمثل الأعمال لها لأنها قوالبها
____________________
(1/62)
وصورها ، فيحصى عليها الأعمال إحصاء أضعف من إحصاء الأخلاق بمنزلة ما يتمثل في الرؤيا من أشباح المعنى المراد كالختم على الأفراه والفروج . ومنها نفوس ضعيفة تحسب أعمالها عين كمالها لعدم استقلال الهيئات النفسانية ، فلا تتمثل إلا مضمحلة في الأعمال ، فيحصى عليها أنفس الأعمال وهم أكثر الناس وهم المحتاجون جدا إلى التوقيت البالغ ولهذه المعاني عظم الاعتناء بالأعمال في النواميس الإلهية ، ثم إن كثيرا من الأعمال يستقر في الملأ الأعلى ، ويتوجه إليه استحسانهم أو استهجانهم بالأصالة مع قطع النظر عن الهيئات النفسانية التي تصدر عنها ، فيكون أداء الصالح منها بمنزلة قبول إلهام من الملأ الأعلى في التقرب منهم والتشبه بهم واكتساب أنوارهم ويكون اقتراف السيئة منها خلاف لذلك . وهذا الاستقراء يكون بوجوه : منها أنهم يتلقون من بارئهم أن نظام البشر لا يصلح إلا بأداء أعمال والكف عن أعمال ، فتمثل تلك الأعمال عندهم ، ثم تنزل في الشرائع من هنالك . ومنها أن نفوس البشر التي مارست ولازمت الأعمال إذا انتقلت إلى الملأ الأعلى ، وتوجه إليها استحسانهم واستهجانهم ، ومضى على ذلك القرون والدهور استقرت صور الأعمال عندهم ، وبالجملة فتؤثر الأعمال حينئذ تأثير العزائم والرقى المأثورة عن السلف بهيئتها وصفاتها والله أعلم . ( باب أسباب المجازاة ) اعلم أن أسباب المجازاة وإن كثرت ترجع إلى أصلين : إحداهما أن تحس النفس من حيث قوتها الملكية بعمل أو خلق اكتسبته أنه غير ملائم لها ،
____________________
(1/63)
فتتشبح فيها ندامة وحسرة وألم ربما أوجب ذلك تمثل واقعات في المنام أو اليقظة تشتمل على إيلام وإهانة وتهديد ، ورب نفس استعدت لإلهام المخالفة ، فخوطبت على ألسنة الملائكة بأن تتراءى له كسائر ما تستعد له من العلوم ، وإلى هذا الأصل وقعت الإشارة في قوله تعالى : ! ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) ! . والثاني توجه حظيرة القدس إلى بني آدم ، فعند الملأ الأعلى هيئات وأعمال وأخلاق مرضية ومسخوطة ، فتطلب من ربها طلبا قويا تنعيم أهل هذه وتعذيب أهل تلك ، فيستجاب دعاؤهم ، وتحيط ببني آدم هممهم ، وتترشح عليهم صورة الرضا واللعنة ، كما تترشح سائر العلوم ، فتتشبح واقعات إيلامية أو إنعامية ، وتتراءى الملأ الأعلى مهددة لهم أو منبسطة إليهم ، وربما تأثرت النفس من سخطها ، فعرض لها كهيئة الغشى أو كهيئة المرض ، وربما ترشح ما عندهم من الهمة المتأكدة على الحوادث الضعيفة كالخواطر ونحوها ، فألهمت الملائكة أو بني آدم أن يحسنوا أو يسيئوا إليه ، وربما أحيل أمر من ملابساته إلى صلاح أو فساد ، وظهرت تقريبات لتنعيمه أو تعذيبه ، بل الحق الصراح أن لله تبارك وتعالى عناية بالناس يوم خلق السموات والأرض توجب ألا يهمل أفراد الإنسان سدى ، وأن يؤاخذهم على ما يفعلونه ، لكن لدقة مدركها جعلنا دعوة الملائكة عنوانا لها والله أعلم ، وإلى هذا الأصل وقعت الإشارة في قوله تعالى : ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله
____________________
(1/64)
والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ) . ويتركب الأصلان ، فيحدث من تركبهما بحسب استعداد النفس والعمل صور كثيرة عجيبة ، لكن الأول أقوى في أعمال وأخلاق تصلح النفس ، أو تفسدها ، وأكثر النفوس له قبولا أزكاها وأقواها ، والثاني أقوى في أعمال وأخلاق مناقضة للمصالح الكلية منافرة لما يرجع إلى صلاح نظام بني آدم ، وأكثر النفوس له قبولا أضعفها ، وأسمجها ، ولكل من السببين مانع يصده عن حكمه إلى حين ، فالأول يصد عنه ضعف الملكية وقوة البهيمية حتى تصير كأنها نفس بهيمية فقط لا تتألم من آلالم الملكية ، فإذا تخففت النفس عن الجلباب البهيمي ، وقل مدده ، وبرقت بوارق الملكية عذبت ، أو نعمت شيئا فشيئا ، والثاني يصد عنه تطابق الأسباب على ما يخالف حكمه حتى إذا جاء أجله الذي قدره الله ثج عن ذلك الجزاء ثجا وهو قوله تبارك وتعالى : ( لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) .
____________________
(1/65)
( المبحث الثاني ) ( مبحث كيفية المجازاة في الحياة وبعد الممات ) ( باب الجزاء على الأعمال في الدنيا ) قال الله تعالى : ! ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) ! . وقال : ! ( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) ! . وقال الله تعالى في قصة أصحاب الجنة حين منعوا الصدقة ما قال . قال رسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : ! ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) ! . وقوله تعالى : ! ( من يعمل سوءا يجز به ) ! . ' هذه معاقبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة حتى البضاعة يضعها في يد قميصه ، فيعقدها ، فيفزع لها حتى أن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير ' .
____________________
(1/66)
اعلم أن للملكية بروزا بعد كمونها في البهيمية ، وانفكاكا بعد اشتباكها بها فتارة بالموت الطبيعي فإنه حينئذ لا يأتي مددها من الغذاء ، وتتحلل موادها لا إلى بدل ، ولا تهيج النفس أحوال طارئة كجوع وشبع وغضب ، فيرتشح لون عالم القدس عليها ، وتارة بالموت الاختياري ، فلا يزال يكسر بهيميته برياضة واستدامة توجه إلى عالم القدس ، فيبرق عليه بعض بوارق الملكية ، وإن لكل شيء انشراحا وانبساطا بما يلائمه من الأعمال والهيئات ، وانقباضا وتقلصا بما يخالفه منها ، وإن لكل ألم ولذة شبحا يتشبح به ، فشبح الخلط اللذاع النخس ، وشبح التأذي من حرارة الصفراء الكرب والضجر ، وأن يرى في منامه النيران والشعل ، وشبح التأذي من البلغم مقاساة البرد ، وأن يرى في المنام المياه والثلج ، فإذا برزت الملكية ظهر في اليقظة أو المنام أشباح الأنس والسرور إن كان اكتسب النظافة والخشوع وسائر ما يناسب الملكية ، ويتشبح أضدادها في صورة كيفيات مضادة للاعتدال ، وواقعات تشتمل على إهانة وتهديد ، ويظهر الغضب في صورة سبع ينهر والبخل في صورة حية تلدغ . والضابط في المجازاة الخارجية أنها تكون في تضاعيف أسباب ، فمن أحاط بتلك الأسباب ، وتمثل عنده النظام المنبعث منها علم قطعا أن الحق لا يدع عاصيا إلا يجازيه في الدنيا مع رعاية ذلك النظام ، فيكون إذا هدأت الأسباب عن تنعيمه وتعذيبه . نعم بسبب الأعمال الصالحة ، أو عذب بسبب الأعمال الفاجرة ، ويكون إذا أجمعت الأسباب على إيلامه وكان صالحا ، وكان قبضها لمعارضة صلاحه غير قبيح صرفت أعماله إلى رفع البلاء
____________________
(1/67)
أو تخفيفه أو على إنعامه ، وكان فاسقا صرفت إلى إزالة نعمته ، وكان كالمعارض لأسبابها ، أو أجمعت على مناسبة أعماله أمد في ذلك إمدادا بينا . وربما كان حكم النظام أوجب من حكم الأعمال ، فيستدرج بالفاجر ويضيق على الصالح في الظاهر ، ويصرف التضييق إلى كسر بهيميته ، ويفهم ذلك ، فيرضى كالذي يشرب الدواء المر راغبا فيه وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ' مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح تصرعها مرة ، وتعدلها أخرى حتى يأتيه أجله ، ومثل المنافق كمثل الأرزة المجدبة التي لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة ' وقوله صلى الله عليه وسلم . ' ما من مسلم يصيبه أذى من مرض ، فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها ' . ورب إقليم غلبت عليه طاعة الشيطان ، وصار أهله كمثل النفوس البهيمية فتتقلص عنه بعض المجازاة إلى أجل ، وذلك قوله تعالى . ! ( وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) ! .
____________________
(1/68)
وبالجملة فالأمر ههنا يشبه بحال سيد لا يتفرغ للجزاء ، فإذا كان يوم القيامة صار كأنه تفرغ ، وإليه الإشارة في قوله تعالى . ! ( سنفرغ لكم أيها الثقلان ) ! . ثم المجازاة تارة تكون في نفس العبد بإفاضته البسط والطمأنينة أوالقبض والفزع ، وتارة في بدنه بمنزلة الأمراض الطارئة من هجوم غم أو خوف ، ومنه وقوع النبي صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه قبل نبوته حين كشف عورته ، وتارة في ماله وأهله وربما ألهم الناس والملائكة والبهائم أن يحسنوا إليه ؛ أو يسيئوا ، وربما قرب إلى خير أو شر بالهامات أو إحالات ، ومن فهم ما ذكرنا ووضع كل شيء في موضعه استراح من إشكالات كثيرة كمعارضة الأحاديث الدالة على أن البر سبب زيادة الرزق ، والفجور سبب نقصانه والأحاديث الدالة على أن الفجار يعجل لهم الحسنات في الدنيا وأن أكثر الناس بلاء الأمثل فالأمثل ونحو ذلك والله أعلم . ( باب ذكر حقيقة الموت ) اعلم أن لكل صورة من المعدنية والناموية والحيوانية والإنسانية مطية غير مطية الأخرى ، ولها كمالا أوليا غير كمال الأخرى ، وإن اشتبه الأمر في الظاهر ، فالأركان إذا تصغرت ، وامتزجت بأوضاع مختلفة كثرة وقلة حدثت ثنائيات كالبخار والغبار والدخان والثرى
____________________
(1/69)
والأرض المثارة والجمرة والسفعة والشعلة ، وثلاثيات كالطين المخمر والطحلب ، ورباعيات نظائر ما ذكرنا . وتلك الأشياء لها خواص مركبة من خواص أجزائها ، ليس فيها شيء غير ذلك ، وتسمى بكائنات الجو ، فتأتي المعدنية ، فتقتعد ، غارب ذلك المزاج ، وتتخذه مطية ، وتصير ذات خواص نوعية ، وتحفظ المزاج ، ثم تأتي الناموية ، فتتخذ الجسم المحفوظ المزاج مطية ، وتصير قوة محولة لأجزاء الأركان والكائنات الجوية إلى مزاج نفسه ؛ لتخرج إلى الكمال المتوقع لها بالفعل ، ثم تأتي الحيوانية ، فتتخذ الروح الهوائية الحاملة لقوى التغذية والتنمية مطية ، وتنفذ التصرف في أطرافها بالحس والإرادة انبعاثا للمطلوب ، وانخناسا عن المهروب ، ثم تأتي الإنسانية ، فتتخذ النسمة المتصرفة في البدن مطية ، وتقصد إلى الأخلاق التي هي أمهات الانبعاثات والانخناسات ، فتقينها ، وتحسن سياستها ، وتأخذها منصة لما تتلقاه من فوقها ، فالأمر وإن كان مشتبها بادئ الرأي لكن النظر الممعن يلحق كل آثار بمنبعها ، ويفرز كل صورة بمطيتها . وكل صورة لا بد لها من مادة تقوم بها ، وإنما تكون المادة ما يناسبها وإنما مثل الصورة كمثل خلقة الإنسان القائمة بالشمعة في التمثال ، ولا يمكن أن توجد الخلقة إلا بالشمعة ، فمن قال لأن النفس النطقية المخصوصة بالإنسان عند الموت ترفض المادة مطلقا ، فقد خرص نعم لها مادة بالذات ، وهي النسمة ، ومادة بالعرض ، وهو الجسم الأرضي ، فإذا مات الإنسان لم يضر نفسه زوال المادة الأرضية ، وبقيت حالة بمادة النسمية ، ويكون كالكاتب المجيد المشغوف بكتابته إذا قطعت يداه ، وملكة
____________________
(1/70)
الكتابة بحالها ، والمستهتر بالمثي إذا قطعت رجلاه ، والسميع والبصير إذا جعل أصم وأعمى . واعلم أن من الأعمال والهيآت ما يباشرها الإنسان بداعية من قلبه ، فلو خلى ونفسه لانساق إلى ذلك ، ولامتنع من مخالفه . ومنها ما يباشره لموافقة الإخوان ، أو لعارض خارجي من جوع و عطش ونحوهما إذا لم يصر عادة لا يستطيع الإقلاع عنها ، فإذا انفقأ العارض انحلت الداعية ، فرب مستهتر بعشق إنسان أو بالشعر أو بشيء آخر يضطر إلى موافقة قومه في اللباس والزي ، فلو خلى ونفسه ، وتبدل زيه لم يجد في قلبه بأسا ، ورب إنسان يحب الزي بالذات ، فلو خلى ونفسه لما سمح بتركه . وإن من الإنسان اليقظان بالطبع يتفطن بالأمر الجامع بين الكثرات ، ويمسك قلبه بالعلة دون المعلولات والملكة دون الأفاعيل ، ومنه الوسنان بالطبع يبقى مشغولا بالكثرة عن الوحدة ، وبالافاعيل عن الملكات ، وبالاشباح عن الأرواح . واعلم أن الإنسان إذا مات انفسخ جسده الأرضي ، وبقيت نفسه النطقية متعلقة بالنسمة متفرغة إلى ما عندها ، وطرحت عنها ما كان لضرورة الحياة الدنيا من غير داعية قلبية ، وبقي فيها ما كانت تمسكه في جدر جوهرها ، وحينئذ تبرز الملكية ، وتضعف البهيمية ، ويترشح عليها من فوقها يقين بحظيرة القدس وبما أحصى عليها هنالك ، وحينئذ تتألم الملكية ، أو تتنعم . واعلم أن الملكية عند غوصها في البهيمية وامتزاجها بها لا بد أن تذعن لها إذعانا ما ، وتتأثر منها أثرا ما ، لكن الضار كل الضرر أن تتشبح فيها هيئات منافرة في الغاية ، والنافع كل النفع أن تتشبح فيها هيآت مناسبة في الغاية ؛ فمن المنافرات أن يكون قوى التعلق بالمال والأهل لا يستيقن أن
____________________
(1/71)
وراءهما مطلوبا ، قوى الإمساك للهيئات الدنية في جذر جوهرها ، ونحو ذلك مما يجمعه أنه على الطرف المقابل للسماحة ، وأن يكون متلبسا بالنجاسات متكبرا على الله لم يعرفه ولم يخضع له يوما ونحو ذلك مما يجمعه أنه على الطرف المقابل للإحسان ، وأن يكون ناقض توجه حظيرة القدس في نصر الحق ، وتنويه أمره ، وبعثة الأنبياء ، وإقامة النظام المرضى ، فأصيب منهم بالبغضاء واللعن ، ومن المناسبات مباشرة أعمال تحاكي الطهارة والخضوع للبارئ ، وتذكر حال الملائكة وعقائد تنزعها من الاطمئنان بالحياة الدنيا ، وأن يكون سمحا سهلا ، وأن يعطف عليه أدعيه الملأ الأعلى وتوجهاتهم للنظام المرضى والله أعلم . ( باب اختلاف أحوال الناس في البرزخ ) اعلم أن الناس في هذا العالم على طبقات شتى لا يرجى إحصاؤها ، لكن رءوس الأصناف أربعة . صنف هم أهل اليقظة ، وأولئك يعذبون ، وينعمون بأنفس تلك المتافرات والمناسبات ، وإلى حال هذا الصنف وقعت الإشارة في قوله تعالى : ( أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين ) . ورأيت طائفة من أهل الله صارت نفوسهم بمنزلة الجوابي الممتلئة ماء راكدا : لا تهيجه الرياح ، فضربها ضوء الشمس في الهاجرة ، فصارت بمنزلة قطعة من النور ، وذلك النور إما نور الأعمال المرضية ، أو نور الياد داشت ، أو نور الرحمة .
____________________
(1/72)
وصنف قريب المأخذ منهم ، لكن هم أهل النور الطبيعي ، فأولئك تصيبهم رؤيا ، والرؤيا فينا حضور علوم مخزونة في الحس المشترك كانت مسكة اليقظة تمنع عن الاستغراق فيها والذهول عن كونها خيالات ، فلما نام لم يشك أنها عين ما هي صورها ، وربما يرى الصفراوي أنه في غيضة يابسة في يوم صائف وسموم ، فبينا هو كذلك إذ فاجاءته النار من كل جانب ، فجعل يهرب ، ولا يجد مهربا ، ثم أنه لفحته فقاسى ألما شديدا ، ويرى البلغمى أنه في ليلة شاتية ونهر بارد وريح زمهريرية ، فهاجت بسفينته الأمواج ، فصار يهرب ، ولا يجد مهربا ، ثم إنه غرق ، فقاسى ألما شديدا ، وإن أنت استقريت الناس لم تجد أحدا إلا وقد جرب من نفسه تشبح الحوادث المجمعة بتنعمات وتوجعات مناسبة لها وللنفس الرائية ، فهذا المبتلى في الرؤيا غير أنها رؤيا لا يقظة منها إلا يوم القيامة ، وصاحب الرؤيا لا يعرف في رؤياه أنها لم تكن أسماء خارجية ، وأن التوجع والتنعم لم يكن في العالم الخارجي ، ولولا يقظة لم يتنبه لهذا السر فعسى أن يكون تسمية هذا العالم عالما خارجيا أحق وأفصح من تسميته بالرؤيا ، فربما يرى صاحب السبعية أنه يخدشه سبع ، وصاحب البخل تنهشه حيات وعقارب ، ويتشبح زوال العلوم الفوقانية بملكين يسألانه من ربك ، وما دينك ، وما قولك في النبي صلى الله عليه وسلم ؟ . وصنف بهيميتهم وملكيتهم ضعيفتان يلحقون بالملائكة السافلة لأسباب جبلية بأن كانت ملكيتهم قليلة الانغماس في البهيمية غير مذعنة لها ، ولا متأثرة منها ، وكسبية بأن لابست الطهارات بداعية قلبية ، ومكنت من نفسها الإلهامات وبوارق ملكية ، فكما أن الإنسان ربما يخلق في صورة الذكران وفي مزاجه خنوثة ، وميل إلى هيآت الإناث ، لكنه لا يتميز شهوات الأنوثة
____________________
(1/73)
من شهوات الذكورة في الصبا ، وإنما المهم حينئذ شهوة الطعام والشراب وحب اللعب ، فيجري حسب ما يأمر به من التوسم بسمة الرجال ، ويمتنع عنه من اختار زي النساء حتى إذا شب ، ورجع إلى طبيعته الماجنة استبد باختيار زيهن والتعود بعاداتهن ، وغلبت عليه شهوة الأبنة وفعل ما يفعله النساء ، وتكلم بكلامهن ، وسمى نفسه تسمية الأنثى ، فعند ذلك خرج من حيز الرجال بالكلية ، فكذلك الإنسان قد يكون في حياته الدنيا مشغولا بشهوة الطعام والشراب والغلمة وغيرها من مقتضيات الطبيعة والرسم ، لكنه قريب المأخذ من الملأ السافل قوى الانجذاب إليهم ، فإذا مات انقطعت العلاقات ، ورجع إلى مزاجه ، فلحق بالملائكة ، وصار منهم ، وألهم كالهامهم ، وسعى فيما يسعون فيه . وفي الحديث ' رأيت جعفر بن أبي طالب ملكا يطير في الجنة مع الملائكة بجناحين . وربما اشتغل هؤلاء بإعلاء كلمة الله ونصر حزب الله ، وربما كان لهم لمة خير بابن آدم ، وربما اشتاق بعضهم إلى صورة جسدية اشتياقا شديدا ناشئا من أصل جبلته ، فقرع ذلك باب من المثال واختلطت قوة منه بالنسمة الهوائية ، وصار كالجسد النوراني ، وربما اشتاق بعضهم إلى مطعوم ونحوه ، فأمد فيما اشتهى قضاء لشوقه ، وإليه الإشارة في قوله تعالى : ! ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ) ! الآية . وبإزاء هؤلاء قوم قريبو المأخذ من الشياطين جبلة ، بأن كان مزاجهم فاسدا يستوجب آراء مناقضة للحق ، منافرة للرأي الكلي على
____________________
(1/74)
طرف شاسع من محاسن الأخلاق ، وكسبابان لابست هيئات خسيسة وأفكار فاسدة وانقادت لوسوسة الشياطين ، وأحاط بهم اللعن ، فإذا ماتوا ألحقوا بالشياطين ، وألبسوا لباسا ظلمانيا ، وصور لهم ما يقضون به بعض وطرهم من الملاذ الخسيسة ، والأول ينعم بحدوث ابتهاج في نفسه ، والثاني يعذب بضيق وغم ، كالمخنث يعلم أن الخنوثة أسوأ حالات الإنسان ، ولكن لا يستطيع الإقلاع عنها . وصنف هم أهل اصطلاح . قوية بهيميتهم . ضعيفة ملكيتهم ، وهم أكثر الناس وجودا ، يكون غالب أمورهم تابعا للصورة الحيوانية المجبولة على التصرف في البدن والانغماس فيه فلا يكون الموت انفكاكا لنفوسهم عن البدن بالكلية ، بل تنفك تدبيرا ولا تنفك وهما ، فتعلم علما من كذا بحيث لا يخطر عندها إمكان مخالفة أنها عين الجسد ، حتى لو وطئ الجسد ، أو قطع لأيقنت أنه فعل ذلك بها ، وعلامتهم أنهم يقولون من جذر قلوبهم إن أرواحهم عين أجسادهم ، أو عرض طارئ عليها وإن نطقت ألسنتهم لتقليد أو رسم خلاف ذلك فأولئك إذا ماتوا برق عليهم بارق ضعيف ، وتراءى لهم خيال ضفيف مثل ما يكون هنا للمرتاضين ، وتتشبح الأمور في صور خيالية ومثالية أخرى كما قد تتشبح للمرتاضين ، فإن كان لابس أعمالا ملكية دس علم الملايمة في أشباح ملائكة حسان الوجوه بأيديهم الحرير ومخاطبات وهيئآت لطيفة وفتح باب إلى الجنة تأتي منه روائحها ، وإن كان لابس أعمالا منافرة للملكية أو جالية للعن دس علم ذلك في أشباح ملائكة سود الوجوه ومخاطبات وهيآت عنفية ، كما قد يدس الغضب في صورة السباع ، والجبن في صورة الأرنب . وهنالك نفوس ملكية استوجب استعدادهم أن يوكلوا بمثل هذه
____________________
(1/75)
المواطن ، ويؤمر بالتعذيب أو التنعيم ، فيراهم المبتلى عيانا . وأن كان أهل الدنيا لا يرونهم عيانا . واعلم أنه ليس عالم القبر إلا من بقايا هذا العالم ، وإنما تترشح هنالك العلوم من وراء حجاب ، وإنما تظهر أحكام النفوس المختصة بفرد دون فرد بخلاف الحوادث الحشرية فإنها تظهر عليها وهي فانية وعن أحكامها الخاصة بفرد فرد باقية بأحكام الصورة الإنسانية والله أعلم . ( باب ذكر شيء من أسرار الوقائع الحشرية ) اعلم أن للأرواح حضرة تنجذب إليها انجذاب الحديد إلى المغناطيس وتلك الحضرة هي حظيرة القدس محل اجتماع النفوس المتجردة عن جلابيب الأبدان بالروح الأعظم الذي وضفه النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة الوجوه والألسن واللغات ، وإنما هو تشبح لصورة نوع الإنسان في عالم المثال ، أو في الذكر أيا ما شئت فقل ، ومحل فنائها عن المتأكد من أحكامها الناشئة من الخصوصية الفردية ، وبقائها بأحكامها الناشئة من النوع أو الغالب عليها جانب النوع . وتفصيله أن أفراد الإنسان لها أحكام يمتاز بها بعضها من بعض ، ولها أحكام تشترك فيها جملتها ، وتتوارد عليها جميعها ، ولا جرم أنها من النوع وإليه في قوله صلى الله عليه وسلم : ' كل مولود يولد على الفطرة ' الحديث . وكل نوع يختص به نوعان من الأحكام : أحدهما الظاهر كالخلقة أي اللون والشكل والمقدار ، وكالصوت أي فرد وجد منه على هيئة يعطيها لنوع ولم يكن مخدجا من قبل عصيان المادة ، فإنه لا بد يتحقق بها ، ويتوارد عليها فالإنسان مستوي القامة ناطق بادي البشرة ، والفرس معوج القامة صاهل
____________________
(1/76)
أشعر إلى غير ذلك مما لا ينفك عن الأفراد عند سلامة مزاجها . وثانيهما الأحكام الباطنة كالإدراك والاهتداء للمعاش والاستعداد لما يهجم عليها من الوقائع ، فلكل نوع شريعة ، ألا ترى النحل كيف أوحى الله تعالى إليها أن تتبع الأشجار ، فتأكل من ثمراتها ، ثم كيف تتخذ بيتا يجتمع فيه بنو نوعها ، ثم كيف تجمع العسل هنالك ، وأوحى إلى العصفور أن يرغب الذكر في الأنثى ، ثم يتخذ عشا ، ثم يحضنا البيض ، ثم يزقا الفراخ ، ثم إذا نهضت الفراخ علمها أين الماء وأين الحبوب ، وعلمها ناصحها من عدوها ، وعلمها كيف تفر من السنور والصياد ، وكيف تنازع بني نوعها عند جلب نفع أو دفع ضر ، وهل تظن الطبيعة السليمة بتلك الأحكام أنها لا ترجع إلى اقتضاء الصورة النوعية . واعلم أن سعادة الأفراد أن تمكن منها أحكام النوع وافرة كاملة وألا تعصى مادتها عليها ، ولذلك يختلف أفراد الأنواع ، فيما يعد لها من سعادتها أو شقاوتها ، ومهما بقيت على ما يعطيه النوع لم يكن لها ألم لكنها قد تغير فطرتها بأسباب طارئة بمنزلة الورم ، وإليه وقعت الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : ' ثم أبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ' . واعلم أن الأرواح البشرية تنجذب إلى هذه الحضرة تارة من جهة البصيرة والهمة ، وتارة من جهة تشبح آثارها فيها إيلاما وانعاما ، أما الانجذاب بالبصيرة ، فليس أحد يتخفف عن ألواث البهيمية إلا وتلحق نفسه بها ، وينكشف عليها شيء منها وهو المشار إليه في قوله صلى الله عليه وسلم : ' اجتمع آدم وموسى عند ربهما ' وروى عنه صلى الله عليه وسلم من طرق شتى أن أرواح الصالحين تجتمع عند الروح الأعظم ، أما الانجذاب الآخر فاعلم أن حشر الأجساد وإعادة الأرواح إليها ليست حياة مستأنفة إنما هي تتمة النشأة المتقدمة بمنزلة التخمة لكثرة الأكل . كيف ولولا ذلك لكانوا غير الأولين ، ولما أخذوا بما فعلوا .
____________________
(1/77)
واعلم أن كثيرا من الأشياء المتحققة في الخارج تكون بمنزلة الرؤيا في تشبح المعاني بأجسام مناسبة لها كما ظهرت الملائكة لداود عليه السلام في صورة خصمين ورفعت إليه القضية ، فعرف أنه تشبح لما فرط منه في امرأة أوريا فاستغفر وأناب . وكما كان عرض قدمي الخمر واللبن عليه صلى الله عليه وسلم واختياره اللبن تشبحا لعرض الفطرة والشهوات على أمته واختيار الراشدين منهم الفطرة ، وكما كان جلوس النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر مجتمعين على قف البئر ، وجلوس عثمان منفردا منهم تشبحا لما قدر الله تعالى من حال قبورهم ومدافنهم على ما أوله سعيد بن المسيب وناهيك به . . . ، وأكثر الوقائع الحشرية من هذا القبيل . واعلم أن تعلق النفس الناطقة بالنسمة أكيد شديد في حق أكثر الناس وإنما مثلها بالنسبة إلى العلوم البعيدة من مألوفها كمثل الأكمة لا يتخيل الألوان والأضواء أصلا ولا مطمع لها في حصول ذلك إلا بعد أحقاب كثيرة ومدد متطاولة في ضمن تشبحات وتمثلات . والنفوس أول ما تبعث تجازى بالحساب اليسير أو العسير أو بالمرور على الصراط ناجيا و مخدوشا أو بأن يتبع كل أحد متبوعه فينجو ، أو يهلك أو تنطق الأيدي والأرجل وقراءة الصحف أو بظهور ما يخل به ، وحمله على ظهره أو الكي به ؛ وبالجملة فتشبحات وتمثلات لما عندها بما تعطيه أحكام
____________________
(1/78)
الصورة النوعية ، وأيما رجل كان أوثق نفسا ، وأوسع نسمة ، فالتشبحات الحشرية في حقه أتم وأوفر ، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أكثر عذاب أمته في قبورهم ، وهنالك أمور متمثلة تتساوى النفوس في مشاهدتها كالهداية المبسوطة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم تتشبح حوضا ، وتتشبح أعمالهم المحصا عليها وزنا إلى غير ذلك ، وتتشبح النعمة بمطعم هنئ ، ومشرب مريء ، ومنكح شهي ، وملبس رضي ، ومسكن بهي ، وللخروج من ظلمات التخليط إلى النعمة تدريجات عجيبة كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرجل الذي هو آخر أهل النار خروجا منها ، وأن للنفوس شهوات تتوارد عليها من تلقاء نوعها تتمثل بها النعمة ، وشهوات دون ذلك يتميز بها بعضها من بعض ، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم : ' دخلت الجنة فإذا جارية أدماء لعساء ، فقلت ما هذه يا جبريل ؟ فقال : أن الله تعالى عرف شهوة جعفر بن أبي طالب للادم اللعس ، فخلق له هذه ' ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ' أن الله أدخلك الجنة ، فلا تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوته حمراء تطير بك في الجنة حيث شئت إلا فعلت ' وقوله : ' إن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع ، فقال له ألست فيما شئت قال بلى ، ولكني أحب أن أزرع ، فبذر ، فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده ، فكان أمثال الجبال ، فيقول الله تعالى دونك يا ابن آدم ، فإنه لا يشبعك شيء ' ، ثم آخر ذلك رؤية رب العالمين ، وظهور سلطان التجليات في جنة الكثيب ، ثم كائن بعد ذلك ما أسكت عنه ، ولا أذكره اقتداء بالشارع صلى الله عليه وسلم .
____________________
(1/79)
( المبحث الثالث ) ( مبحث الارتفاقات ) ( باب كيفية استنباط الارتفاقات ) اعلم أن الإنسان يوافق أبناء جنسه في الحاجة إلى الأكل والشرب والجماع والاستظلال من الشمس والمطر والاستدفاء في الشتاء وغيرها ، وكان من عناية الله تعالى به أن ألهمه كيف يرتفق بأداء هذه الحاجات إلهاما طبيعيا من مقتضى صورته النوعية ، فلا جرم يتساوى الأفراد في ذلك الأكل مخدج عصت مادته ، كما ألهم النحل كيف تأكل الثمرات ، ثم كيف تتخذ بيتا يجتمع فيه أشخاص من بني نوعها ، ثم كيف تنقاد ليعسوبها ، ثم كيف تعسل ، وكما ألهم العصفور كيف يبتغي الحبوب الغاذية ، وكيف يرد الماء ، و كيف يفر عن السنور والصياد ، وكيف يقاتل من صده عما يحتاج إليه ، وكيف يسافد ذكره الأنثى عند الشبق ، ثم يتخذان عشا عند الجبل ، ثم كيف يتعاونان في حضانة البيض ، ثم كيف يزقان الفراخ ، وكذلك لكل نوع شريعة تنفث في صدور أفراده من طريق الصورة النوعية . وكذلك ألهم الإنسان كيف يرتفق من هذه الضرورات غير أنه انظم له مع هذا ثلاثة أشياء لمقتضى صورته النوعية الرابية على كل نوع . أحدها الانبعاث إلى شيء من رأي كلي فالبهيمة إنما تنبعث إلى غرض محسوس أو متوهم من داعية ناشئة من طبيعتها كالجوع والعطش والشبق ، والإنسان ربما ينبعث إلى نفع معقول ليس له داعية من طبيعته فيقصد أن
____________________
(1/80)
يحصل نظاما صالحا في المدينة أو بكمل خلقه ، ويهذب نفسه ، أو يتفصى من عذاب الآخرة ، أو يمكن جاهه في صدور الناس . الثاني أنه يضم مع الارتفاق الظرافة ، فالبهيمة إنما تبتغي ما تسد به خلتها ، وتدفع حاجتها فقط ، والإنسان ربما يريد أن تقر عينه ، وتلذ نفسه زيادة على الحاجة ، فيطلب زوجة جميلة ، وطعاما لذيذا ، وملبسا فاخرا ومسكنا شامخا . والثالث أنه يوجد منهم أهل عقل ودارية يستنبطون الارتفاقات الصالحة ، ويوجد منهم من يختلج في صدره ما اختلج في صدور أولئك ، ولكن لا يستطيع الاستنباط ، فإذا رأى من الحكماء ، وسمع ما استنبطوه تلقاه بقلبة ، وعض عليه بنواجذه لما وجده موافقا لعلمه الإجمالي ، فرب إنسان يجوع ، ويظمأ فلا يجد الطعام والشراب ، فيقاسي ألما شديدا حتى يجدهما ، فيحاول ارتفاقا بإزاء هذه الحاجة ، ولا يهتدي سبيلا ، ثم يتفق أن يلقى حكيما أصابه ما أصاب ذلك ، فتعرف الحبوب الغاذية ، واستنبط بذرها وسقيها وحصادها ودياسها وتذريتها ، وحفظها إلى وقت الحاجة ، واستنبط حفر الآبار للبعيد من العيون والأنهار واصطناع القلال والقرب والقصاع ، فيتخذ ذلك بابا من الارتفاق ، ثم أنه يقضم الحبوب كما هي ، فلا تنهضم في معدته ، ويرتع الفواكه نيئة ، فلا تنهضم ، فيحاول شيئا بإزاء هذه ، فلا يهتدي سبيلا ، فيلقى حكيما استنبط الطبخ والقلي والطحن والخبز ، فيتخذ ذلك بابا آخر ، وقس على ذلك حاجاته كلها . والمستبصر يشهد عنده لما ذكرنا حدوث كثير من المرافق في البلدان بعد ما لم تكن ، فمضى على ذلك قرون ، ولم يزالوا يفعلون ذلك حتى اجتمعت
____________________
(1/81)
جملة صالحة من العلوم الإلهامية المؤيدة بالمكتسبة ، ونشبت عليها نفوسهم ، وعليها كان محياهم ومماتهم ، وبالجملة فحال الإلهامات الضرورية مع هذه الأشياء الثلاثة كمثل النفس أصله ضروري بمنزلة حركة النبض ، وقد انظم معه الاختيار في صغر الأنفاس وكبرها . ولما كانت هذه الثلاثة لا توجد في جميع الناس سواء لاختلاف أمزجة الناس وعقولهم الموجبة للانبعاث ، من رأي كلي ، ولحب الظرافة ، ولاستنباط الارتفاقات ، والاقتداء فيها ، ولاختلافهم في التفرغ للنظر ونحو ذلك من الأسباب كان للارتفاقات حدان . الأول هو الذي لا يمكن أن ينفك عنه أهل الاجتماعات القاصرة كأهل البدو وسكان شواهق الجبال والنواحي البعيدة من الأقاليم الصالحة ، وهو الذي نسميه بالارتفاق الأول . والثاني ما عليه أهل الحضر والقرى العامرة من الأقاليم الصالحة المستوجبة أن ينشأ فيها أهل الأخلاق الفاضلة والحكماء ، فإنه كثر هنالك الاجتماعات وزدحمت الحاجات ، وكثرت التجارب ، فاستنبطت سنن جزيلة ، وعضوا عليها بالنواجذ . والطرف الأعلى من هذا الحد ما يتعامله الملوك أهل الرفاهية الكاملة الذين يرد عليهم حكماء الأمم ، فينتحلون منهم سننا صالحة ، وهو الذي نسميه بالارتفاق الثاني ، ولما كمل الارتفاق الثاني أوجب ارتفاقا ثالثا ، وذلك أنهم لما دارت بينهم المعاملات وداخلها الشح والحسد والمطل والتجاحد ، نشأت بينهم اختلافات ومنازعات وأنهم نشأ فيهم من تغلب عليه الشهوات الرديئة ، أو يجبل على الجراءة في القتل والنهب ، وأنهم
____________________
(1/82)
كانت لهم ارتفاقات مشتركة النفع لا يطيق واحد منهم إقامتها ، أو لا تسهل عليه ، أو لا تسمح نفسه بها ، فاضطروا إلى إقامة ملك يقضي بينهم بالعدل ، ويزجر عاصيهم ، ويقاوم جريئهم ، ويجبي منهم الخراج ، ويصرفه في مصرفه ، وأوجب الارتفاق الثالث ارتفاقا رابعا ، وذلك أنه لما انفرز كل ملك بمدينته ، وجبى إليه الأموال ، وانظم إليه الأبطال ، وداخلهم الشح والحرص والحقد ، تشاجروا فيما بينهم ، وتقاتلوا ، فاضطروا إلى إقامة الخليفة ، أو الانقياد لمن تسلط عليهم تسلط الخلافة الكبرى ، وأعني بالخليفة من يحصل له من الشوكة ما يرى معه ، كالممتنع أن يسلبه رجل آخر ملكه ، اللهم إلا بعد اجتماعات كثيرة ، وبذل أموال خطيرة لا يتمكن منها إلا واحد في القرون المتطاولة ، ويختلف الخليفة باختلاف الأشخاص والعادات ، وأي أمة طبائعها أشد وأحد ، فهي أحوج إلى الملوك والخلفاء ممن هي دونهما في الشح والشحناء ، ونحن نريد أن ننبهك على أصول هذه الارتفاقات وفهارس أبوابها ، كما أوجبه عقول الأمم الصالحة ذوي الأخلاق الفاضلة ، واتخذوه سنة مسلمة لا يختلف فيها أقاصيهم ، ولا أذانيهم ، فاستمع لما يتلى عليك . ( باب الارتفاق الأول ) منه اللغة المعبرة عما في ضمير الإنسان ، والأصل في ذلك أفعال وهيآت وأجسام تلابس صوتا ما بالمجاورة أو التسبب أو غيرهما ، فيحكى ذلك الصوت كما هو ، ثم يتصرف فيه باشتقاق الصيغ بإزاء اختلاف المعاني ، ويشبه أمور مؤثرة في الأبصار ، أو محدثة لهيآت وجدانية في النفس ، بالقسم الأول ، ويتكلف له صوت كمثله ، ثم اتسعت اللغات بالتجوز لمشابهة أو مجاورة والنقل لعلاقة ما
____________________
(1/83)
وهنالك أصول أخرى ستجدها في بعض كلامنا ، ومنه الزرع والغرس وحفر الآبار وكيفية الطبخ والائتدام ، ومنه اصطناع الأواني والقرب ، ومنه تسخير البهائم واقتناؤها ليستعان بظهورها ولحومها وجلودها وأشعارها وأوبارها وألبانها وأولادها ، ومنه مسكن يؤويه من الحر والبرد من الغيران والعشوش ونحوها ، ومنه لباس يقوم مقام الريش من جلود البهائم أو أوراق الأشجار ، أو مما عملت أيديهم ، ومنه أن اهتدى لتعيين منكوحه لا يزاحمه فيها أحد ، يدفع بها شبقه ، ويذرأ بها نسله ، ويستعين بها في حوائجه المنزلية وفي حضانة الأولاد وتربيتها ، وغير الإنسان لا يعينها إلا بنحو من الاتفاق أو بكونهما توأمين أدركا على المرافقة ونحو ذلك ، ومنه أن اهتدى لصناعات لا يتم الزرع والغرس والحفر وتسخير البهائم وغير ذلك إلا بها كالمعول والدلو والسكة والحبال ونحوها ، ومنه أن اهتدى لمبادلات ومعاونات في بعض الأمر ، ومنه أن يقوم أسدهم رأيا وأشدهم بطشا ، فيسخر الآخرين ، ويرأس ويربع ولو بوجه من الوجوه ، ومنه أن تكون فيها سنة مسلمة لفصل خصوماتهم ، وكبح ظالمهم ، ودفع من يريد أن يغزوهم ، ولا بد أن يكون في كل قوم من يستنبط طرق الارتفاق فيما يهمهم شأنه ، فيقتدى به سائر الناس ، وأن يكون فيهم من يحب الجمال والرفاهية والدعة ، ولو بوجه من الوجوه ، ومن يباهي بأخلاقه من الشجاعة والسماحة والفصاحة والكيس وغيرها ، ومن يحب أن يطير صيته ، ويرتفع جاهه ، وقد من الله تعالى في كتابه العظيم على عباده بإلهام شعب هذا الارتفاق لعلمه بأن التكليف بالقرآن يعم أصناف الناس وأنه لا يشملهم جميعا إلا هذا النوع من الارتفاق والله أعلم .
____________________
(1/84)
( باب فن أداب المعاش ) وهي الحكمة الباحثة عن كيفية الارتفاق من الحاجات المبينة من قبل على الحد الثاني ، والأصل فيه أن يعرض الارتفاق الأول على التجربة الصحيحة في كل باب ، فيختار الهيآت البعيدة من الضرر ، القريبة من النفع ، ويترك ما سوى ذلك ، وعلى الأخلاق الفاضلة التي يجبل عليها أهل الأمزجة الكاملة ، فيختار ما توجبه ، وتقتضيه ، ويترك ما سوى ذلك ، وعلى حسن الصحبة بين الناس ، وحسن المشاركة معهم ، ونحو ذلك من المقاصد الناشئة من الرأي الكلي . ومعظم مسائله آداب الأكل والشرب والمشي والقعود والنوم والسفر والخلاء والجماع واللباس والمسكن والنظافة والزينة ومراجعة الكلام والتمسك بالأدوية والرقى في العاهات ، وتقدمة المعرفة في الحوادث المجمعة ، والولائم عند عروض فرح من ولادة ونكاح وعيد وقدوم مسافر وغيرها ، والمآتم عند المصائب وعيادة المرضى ودفن الموتى ، فإنه أجمع من يعتد به من أهل الأمزجة الصحيحة سكان البلدان المعمورة على ألا يؤكل الطعام الخبيث كالميت حتف أنفه والمتعفن والحيوان البعيد من اعتدال المزاج وانتظام الأخلاق ، ويستحبون أن يوضع الطعام في الأواني ، وتوضع هي على السفر ونحوها ، وأن ينظف الوجه واليدان عند إرادة الأكل ، ويحترز عن هيآت الطيش والشره والتي تورث الضغائن في قلوب المشاركين وألا يشرب الماء الآجن ، وأن يحترز من الكرع والعب ، وأجمعوا على استحباب النظافة نظافة البدن والثوب والمكان عن شيئين من النجاسات
____________________
(1/85)
المنتنة المتقذرة ، وعن الأوساخ النابتة على نهج طبيعي كالبخر يزال بالسواك وكشعر الابط والعانة وكتوسخ الثياب واعشيشاب البيت ، وعلى استحباب أن يكون الرجل شامة بين الناس قد سوى لباسه وسرح رأسه ولحيته ، والمرأة إذا كانت تحت رجل تتزين بخضاب وحلي ونحو ذلك وعلى أن العري شين واللباس زين وظهور السوأتين عار ، وأن أتم اللباس ما ستر عامة البدن وكان ساتر العورة غير ساتر البدن ، وعلى تقدمة المعرفة بشيء من الأشياء إما بالرؤيا أو بالنجوم أو الطيرة أوالعيافة والكهانة والرمل ونحو ذلك . وكل من خلق على مزاج صحيح وذوق سليم يختار لا محالة في كلامه من الألفاظ كل لفظ غير وحشي ، ولا ثقيل على اللسان ، ومن التراكيب كل تركيب ، متين جيد ، ومن الأساليب كل أسلوب يميل إليه السمع ، ويركن إليه القلب وهذا الرجل هو ميزان الفصاحة . وبالجملة ففي كل باب مسائل إجماعية مسلمة بين أهل البلدان وإن تباعدت ، والناس بعدها في تمهيد قواعد الآداب مختلفون ، فالطبيعي يمهدها على أستحسانات الطب والمنجم على خواص النجوم ، والإلهي على الإحسان كما تجدها في كتبهم مفصلة ، ولكل قوم زي وآداب يتميزون بها ، يوجبها اختلاف الأمزجة والعادات ونحو ذلك .
____________________
(1/86)
( باب تدبير المنزل ) وهو الحكمة الباحثة عن كيفية حفظ الربط الواقع بين أهل المنزل على الحد الثاني من الارتفاق وفيه أربع جمل : الزواج ، والولاد ، والملكة ، والصحبة . والأصل في ذلك أن حاجة الجماع أوجبت ارتباط واصطحاباً بين الرجل والمرأة ، ثم الشفقة على المولود أوجبت تعاونا منهما في حضانته ، وكانت المرأة أهداهما للحضانة بالطبع ، وأخفهما عقلا ، وأكثرهما انحجاما من المشاق ، وأتمهما حياء ولزوما للبيت ، وأحذقهما سعيا في محقرات الأمور وأوفرهما انقيادا ، وكان الرجل أسدهما عقلا ، وأشدهما ذباعن الذمار ، وأجزأهما على الاقتحام في المشاق ، وأتمهما تيها وتسلطا ومناقشة وغيرة ، فكان معاش هذه لا تتم إلا بذاك ، وذاك يحتاج إلى هذه . وأوجبت مزاحمات الرجال على النساء وغيرتهم عليهن ألا يصلح أمرهم إلا بتصحيح اختصاص الرجل بزوجته على رءوس الأشهاد ، وأوجبت رغبة الرجل في المرأة ، وكرامتها على وليها ، وذبه عنها أن يكون مهر وخطبة وتصد من الولي ، وكان لو فتح رغبة الأولياء في المحارم أفضى ذلك إلى ضرر عظيم عليها من عضلها عمن ترغب فيه ، وألا يكون لها من يطالب عنها بحقوق الزوجية مع شدة احتياجها إلى ذلك وتكدير الرحم بمنازعات الضرات ونحوها مع ما تقتضيه سلامة المزاج من قلة الرغبة في التي نشأ منها ، أو نشأت منه ، أو كان كعصى دوحة .
____________________
(1/87)
وأوجب الحياء عن ذكر الحاجة إلى الجماع أن تجعل مدسوسة في ضمن عروج يتوقع لهما كأنه الغاية التي وجدا لها . وأوجب التلطف في التشهير ، وجعل الملاك المنزلي عروجا أن تجعل وليمة يدعى الناس إليها ودف وطرب . وبالجملة فلوجوه جمة مما ذكرنا ، ومما حذفنا - اعتمادا على ذهن الأذكياء - كان النكاح بالهيئة المعتادة أعني نكاح غير المحارم بمحضر من الناس مع تقديم مهر وخطبة وملاحظة كفاءة وتصد من الأولياء ووليمة ، وكون الرجال قوامين على النساء متكفلين معاشهن ، وكونهن خادمات حاضنات مطيعات سنة لازمة ، وأمرا مسلما عند الكافة ، وفطرة فطر الله الناس عليها لا يختلف في ذلك عربهم ولا عجمهم . ولما لم يكن بذل الجهد منهما في التعاون بحيث يجعل كل واحد ضرر الآخر ، ونفعه كالراجع إلى نفسه إلا بأن يوطنا أنفسهما على إدامة النكاح ، ولا بد من إبقاء طريق للخلاص إذا لم يطاوعا ، ولم يتراضيا وإن كان من أبغض المباحات وجب في الطلاق ملاحظة قيود وعدة ، وكذا في وفاته عنها تعظيما لأمر النكاح في النفوس وأداء لبعض حق الإدامة ووفاء لعهد الصحبة ، ولئلا تشتبه الأنساب . وأوجبت حاجة الأولاد إلى الأباء ، وحدبهم عليهم بالطبع أن يكون تمرين الأولاد على ما ينفعهم فطرة ، وأوجب تقدم الأباء عليهم ، فلم يكبروا إلا والأباء أكثر عقلا وتجربة مع ما يوجبه صحة الأخلاق من مقابلة الإحسان بالإحسان ، وقد قاسوا في تربيتهم مالا حاجة إلى شرحه أن يكون بر الوالدين سنة لازمة .
____________________
(1/88)
وأوجب اختلاف استعداد بني آدم أن يكون فيهم السيد بالطبع ، وهو الأكيس المستقل بمعيشته ذو سياسة ورفاهية جبليتين ، والعبد بالطبع وهو الأخرق التابع ينقاد كما يقاد ، وكان معاش كل واحد لا يتم إلا بالآخر ، ولا يمكن التعاون في المنشط والمكره إلا بأن يوطنا أنفسهما على إدامة هذا الربط ، ثم أوجبت اتفاقات أخر أن يأسر بعضهم بعضا ، فوقع ذلك منهم بموقع ، وانتظمت الملكة ، ولا بد من سنة يؤاخذ كل واحد نفسه عليها ، ويلام على تركها ، ولا بد من إبقاء طريق الخلاص في الجملة بمال أو بدونه ، وكان يتفق كثيرا أن تقع على الإنسان حاجات وعاهات من مرض وزمانة وتوجه حق عليه وحوائج يضعف عن إصلاح أمره معها إلا بمعاونة بني جنسه ، وكان الناس فيها سواسية ، فاحتاجوا إلى إقامة ألفة بينهم وإدامتها ، وإن تكون لإغاثة المستغيث وإعانة الملهوف سنة بينهم يطالبون بها ويلامون عليها . ولما كانت الحاجات على حدين : حد لا يتم إلا بأن يعد كل واحد ضرر الآخر ونفعه راجعا إلى نفسه ، ولا يتم إلا ببذل كل واحد الطاقة في موالاة الآخر ووجوب الإنفاق عليه والتوارث ، وبالجملة فبأمور تلزمهم من الجانبين ليكون الغنم بالغرم ، وكان أليق الناس بهذا الحد الأقارب لأن تحاببهم واصطحابهم كالأمر الطبيعي ، وحد يتأتى بأقل من ذلك فوجب أن تكون مواساة أهل العاهات سنة مسلمة بين الناس ، وأن تكون صلة الرحم أوكد ، وأشد من ذلك كله . ومعظم مسائل هذا الفن معرفة الأسباب المقتضية للزواج وتركه وسنة الزواج وصفة الزوج والزوجة ، وما على الزوج من حسن المعاشرة وصيانة الحرم عن الفواحش والعار ، وما على المرأة من التعفف وطاعة الزوج
____________________
(1/89)
وبذل الطاقة في مصالح المنزل وكيفية صلح المتناشزين وسنة الطلاق وإحداد المتوفي عنها زوجها وحضانة الأولاد وبر الولداين وسياسة المماليك والإحسان إليهم وقيام المماليك بخدمة الموالي وسنة الإعتاق وصلة الأرحام والجيران والقيام بمواساة فقراء البلد والتعاون في دفع عاهات طارئة عليهم ، وأدب نقيب القبيلة وتعهده حالهم ، وقسمة التركات بين الورثة والمحافظة على الأنساب والأحساب ، فلن تجد أمة من الناس إلا وهم يعتقدون أصول هذه الأبواب ويجتهدون في إقامتها على اختلاف أديانهم وتباعد بلدانهم والله أعلم . ( باب فن المعاملات ) وهو الحكمة الباحثة عن كيفية إقامة المبادلات والمعاونات والإكساب على الارتفاق الثاني . والأصل في ذلك أنه لما ازدحمت الحاجات ، وطلب الإتقان فيها ، وأن تكون على وجه تقر به الأعين ، وتلذ به الأنفس تعذر إقامتها من كل واحد وكان بعضهم وجد طعاما فاضلا عن حاجته ، ولم يجد ماء وبعضهم ماء فاضلا ولم يجد طعاما فرغب كل واحد فيما عند الآخر ، فلم يجدوا سبيلا إلا المبادلة ، فوقعت تلك المبادلة بموقع من حاجتهم فاصطلحوا بالضرورة على أن يقبل كل واحد على إقامة حاجة واحدة وإتقانها والسعي في جميع أدواتها ويجعلها ذريعة إلى سائر الحوائج بواسطة المبادلات ، وصارت تلك سنة مسلمة عندهم ، ولما كان كثير من الناس يرغب في شيء وعن شيء ، فلا يجد من يعامله في تلك الحالة ، اضطروا إلى تقدمة وتهيئة ، واندفعوا إلى الاصطلاح على جواهر معدنية تبقى زمانا طويلا أن تكون المعاملة بها أمرا مسلما عندهم ، وكان الأليق من بينها ، الذهب والفضة لصغر حجمهما ، وتماثل أفرادهما ، وعظم نفعهما في بدن الإنسان ولتأتي التجمل بهما ، فكانا نقدين بالطبع ، وكان غيرهما نقدا بالاصطلاح . وأصول المكاسب الزرع والرعي والتقاط الأموال المباحة من البر والبحر من المعدن والنبات والحيوان والصناعات من نجارة وحدادة وحياكة
____________________
(1/90)
وغيرها مما هو من جعل الجواهر الطبيعية بحيث يتأتى منها الارتفاق المطلوب ثم صارت التجارة كسبا ، ثم صار الإقبال على كل ما يحتاج الناس إليه كسبا . وكلما رقت النفوس وأمعنت في حب اللذة والرفاهية ، تفرعت حواشي المكاسب ، واختص كل رجل بكسب لأحد شيئين مناسبة القوي فالرجل الشجاع يناسب الغزو ، والكيس الحافظ يناسب الحساب ، وقوي البطش يناسب حمل الأثقال وشاق الأعمال ، واتفاقات توجد فولد الحداد وجاره يتيسر له من صناعة الحدادة ما لا يتيسر له من غيرها ولا لغيره منها ، وقاطن ساحل البحر يتأتى منه صيد الحيتان دون غيره ودون غيرها ، وبقيت نفوس أعيت بها المذاهب الصالحة ، فانحدروا إلى أكساب ضاره بالمدينة كالسرقة والقمار والتكدى . والمبادلة إما عين بعين ، وهو البيع ، أو عين بمنفعة ، وهي الإجارة ، ولما كان انتظام المدينة لا يتم إلا بإنشاء ألفة ومحبة بينهم ، وكانت الألفة كثيرا ما تفضي إلى بذل المحتاج إليه بلا بدل أو تتوقف عليه انشعبت الهبة والعارية ، ولا تتم أيضا إلا بمواساة الفقراء انشعبت الصدقة وأوجبت المعدات أن يكون منهم الأخرق والكافي والمملق والمثري والمستنكف من الأعمال الخسيسة وغير المستنكف والذي ازدحمت عليه الحاجات والمتفرغ ، فكان معاش كل واحد لا يتم إلا بمعاونة آخر ، ولا معاونة إلا بعقد وشروط واصطلاح على سنة ، فانشعبت المزارعة والمضاربة والإجارة والشركة والتوكيل ، ووقعت حاجات تسوق إلى مداينة ووديعة ، وجربوا الخيانة والجحود والمطل فاضطروا إلى إشهاد وكتابة وثائق ورهن وكفالة وحوالة ، وكلما ترفهت النفوس انشعبت أنوع المعاونات ، ولن تجد أمة من الناس إلا ويباشرون هذه المعاملات ويعرفون العدل من الظلم والله أعلم .
____________________
(1/91)
( باب سياسة المدينة ) وهي الحكمة الباحثة عن كيفية حفظ الربط الواقع بين أهل المدينة - وأعني بالمدينة جماعة متقاربة تجري بينهم المعاملات ويكونون أهل منازل شتى . والأصل في ذلك أن المدينة شخص واحد من جهة ذلك الربط مركب من أجزاء وهيئة اجتماعية ، وكل مركب يمكن أن يلحقه خلل في مادته أو صورته ويلحقه مرض أعني حالة غيرها أليق به باعتبار نوعه ، وصحة أي حالة تحسنه وتجمله . ولما كانت المدينة ذات اجتماع عظيم لا يمكن أن يتفق رأيهم جميعا على حفظ السنة العادلة ، ولا أن ينكر بعضهم على بعض من غير أن يمتاز بمنصب إذا يفضي ذلك إلى مقاتلات عريضة لم ينتظم أمرها إلا برجل أصطلح على طاعته جمهور أهل الحل والعقد له أعوان وشوكة ، وكل من كان أشح وأحد وأجراً على القتل والغضب ، فهو أشد حاجة إلى السياسة ومن الخلل أن تجتمع أنفس شريرة لهم منعة وشوكة على اتباع الهوى ورفض السنة العادلة ، إما طمعا في أموال الناس ، وهم قطاع الطرق ، أو إضرارا لهم بغضب أو حقد أو رغبة في الملك ، فيحتاج في ذلك إلى جمع رجال ونصب قتال . ومنه إصابة ظالم إنسانا بقتل أو جرح أو ضرب أو في أهله بأن يزاحم على زوجته ، أو يطمع في بناته وأخواته لغير حق ، أو في ماله من غضب جهرة أو سرقة خفية ، أو في عرضه من نسبته إلى أمر قبيح يلام به أو إغلاظ القول عليه . ومنه أعمال ضارة بالمدينة ضررا خفيا كالسحر ودس السم وتعليم الناس الفساد وتخبيب الرعية على الملك والعبد على مولاه والزوجة على زوجها
____________________
(1/92)
ومنه عادات فاسدة فيها إهمال للارتفاقات الواجبة كاللواطة والسحاقة وإتيان البهائم ، فإنه تصد عن النكاح أو انسلاخ عن الفطرة السليمة كالرجل يؤنث والمرأة تذكر ، أو حدوث لمنازعات عريضة كالمزاحمة على الموطوءة من غير اختصاص بها وكإدمان الخمر . ومنه معاملات ضارة بالمدينة كالقمار والربا أضعافاً مضاعفة والرشوة وتطفيف الكيل والوزن والتدليس في السلع وتلقي الجلب والاحتكار والنجش . ومنه خصومات مشكلة يتمسك فيها كل بشبهة ، ولا تنكشف جلية الحال ، فيحتاج إلى التمسك بالبينات والإيمان والوثائق وقرائن الحال ونحوها ، وردها إلى سنة مسلمة ، وإبداء وجه الترجيح ، ومعرفة مكايد المتخاصمين ونحو ذلك . ومنه أن يبدو أهل المدينة ويكتفوا بالارتفاق الأول ، أو يتمدنوا في غير هذه المدينة ، أو يكون توزعهم في الإقبال على الاكساب بحيث يضر بالمدينة مثل أن يقبل أكثرهم على التجارة ، ويدعو الزراعة ، أو يتكسب أكثرهم بالغزو ونحوه ، وإنما ينبغي أن يكون الزراع بمنزلة الطعام والصناع والتجار والحفظة بمنزلة الملح المصلح له . ومنه انتشار السباع الضارية والهوام المؤذية ، فيجب السعي في إفنائها ومن باب كمال الحفظ بناء الأبنية التي يشتركون في الانتفاع بها كالأسوار والربط والحصون والثغور والأسواق والقناطر . ومنه حفر الآبار واستنباط العيون وتهيئة السفن على سواحل الأنهار .
____________________
(1/93)
ومنه حمل التجار على الميرة بتأنيسهم وتأليفهم وتوصية أهل البلد أن يحسنوا المعاملة مع الغرباء ، فإن ذلك يفتح باب كثرة ورودهم ، وحمل الزراع على ألا يتركوا أرضا مهملة ، والصناع أن يحسنوا الصناعات ، ويتقنوها ، وأهل البلد على اكتساب الفضائل كالخط والحساب والتاريخ والطب والوجوه الصحيحة من تقدمة المعرفة . ومنه معرفة أخبار البلد ليتميز الداعر من الناصح ، وليعلم المحتاج ، فيعان وصاحب صنعة مرغوبة ، فيستعان به . وغالب سبب خراب البلدان في هذا الزمان شيئان أحدهما تضييقهم على بيت المال بأن يعتادوا التكسب بالأخذ منه على أنهم من الغزاة ، أو من العلماء الذين لهم حق فيه ، أو من الذين جرت عادة الملوك بصلتهم كالزهاد والشعراء ، أو بوجه من وجوه التكدي ، ويكون العمدة عندهم هو التكسب دون القيام بالمصلحة ، فيدخل قوم على قوم ، فينغصون عليهم ، ويصيرون كلا على المدينة . والثاني ضرب الضرائب الثقيلة على الزراع والتجار والمتحرفة والتشديد عليهم حتى يفضي إلى إجحاف المطاوعين واستئصالهم ، وإلى تمنع أولي بأس شديد وبغيهم وإنما تصلح المدينة بالجباية اليسيرة وإقامة الحفظة بقدر الضرورة ، قليتنبه أهل الزمان لهذه النكتة والله أعلم . ( باب سيرة الملوك ) يجب أن يكون الملك متصفا بالأخلاق المرضية ، وإلا كان كلا على المدينة ، فإن لم يكن شجاعا ضعف عن مقاومة المحاربين ، ولم تنظر إليه الرعية
____________________
(1/94)
إلا بعين الهوان ، وإن لم يكن حليما كاد يهلكهم بسطوته ، وإن لم يكن حكيما لم يستنبط التدبير المصلح ، وأن يكون عاقلا بالغا حرا ذكرا ذار أي وسمع وبصر ونطق ممن سلم الناس شرفه وشرف قومه ، ورأوا منه ومن آبائه المآثر الحميدة ، وعرفوا أنه لا يألو جهدا في إصلاح المدينة ، هذا كله يدل عليه العقل ، وأجمعت عليه أمم بني آدم على تباعد بلداتهم واختلاف أديانهم لما أحسوا من أن المصلحة المقصودة من نصب الملك لا تتم إلا به ، فإن وقع شيء من إهماله رأوه خلاف ما ينبغي ، وكرهته قلوبهم ، ولو سكتوا سكتوا على غيظ . ولا بد للملك من إنشاء الجاه في قلوب رعيته ، ثم حفظه وتدارك الخادشات له بتدبيرات مناسبة ، ومن قصد الجاه فعليه أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة مما يناسب رياسته كالشجاعة والحكمة والسخاوة والعفو عمن ظلم وارادة نفع العامة ، ويفعل بالناس ما يفعل الصياد بالوحش ، فكما أن الصياد يذهب إلى الغيضة ، فينظر إلى الظباء ، ويتأمل الهيئة المناسبة لطبائعها وعاداتها ، فيتهيأ بتلك الهيئة ، ثم يبرز لها من بعيد ، ويقصر النظر على عيونها وآذانها ، فمهما عرف منها تيقظا أقام بمكانه كأنه جماد ليس به حراك ، ومهما عرف منها غفلة دب إليها دبيبا ، وربما أطر بها بالنغم ، وألقى إليها أطيب ما ترومه من العلف على أنه صاحب كرم بالطبع ، وأنه لم يقصد بذلك صيدها ، والنعم تورث حب المنعم ، وقيد المحبة أوثق من قيد الحديد ، فكذلك الرجل الذي يبرز إلى الناس ينبغي أن يؤثر هيئة ترغب فيها النفوس من زي ومنطق وأدب . ثم يتقرب منهم هونا ، ويظهر إليهم النصح والمحبة من غير مجازفة ولا ظهور قرينة تدل على أن ذلك لصيدهم ، ثم يعلمهم أن نظيره كالممتنع في حقهم حتى يرى أن نفوسهم قد طمأنت بفضله وتقدمه ، وصدورهم قد
____________________
(1/95)
امتلأت مودة وتعظيما ، وجوارحهم تدابت خشوعا وإخباتا ، ثم ليحفظ ذلك فيهم ، فلا يكن منه ما يختلفون به عليه ، فإن فرط شيء من ذلك ، فليتداركه بلطف وإحسان وإظهار أن المصلحة حكمت بما فعل ، وأنه لهم لا عليهم . والملك مع ذلك يحتاج إلى إيجاب طاعته بالانتقام ممن عصاه ، فمهما استشعر من رجل كفاية في حرب أو جباية أو تدبير ، فليضاعف عطاءه ، وليرفع قدره ، ولبسط له بشره ، ومهما استشعر منه خيانة وتخلفا وانسلالا ، فلينقص من عطائه ، وليخفض من قدره ، وليطو عنه بشره ، وإلى يسار أكمل من يسار الناس ، وليكن مما لا يضيق عليهم كموات يحييه وناحية بعيدة يحميها ونحو ذلك وإلى ألا يبطش بأحد إلا بعد أن يصحح على أهل الحل والعقد أنه يستحقه ، وأن المصلحة الكلية حاكمة به . ولا بد للملك من فراسة يتعرف بها ما أضمرت نفوسهم ، ويكون ألمعيا يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمع ، ويجب عليه إلا لا يؤخر ما لا بد منه إلى غد ، ولا يصبر إن رأى منهم أحدا يضمر عداوته دون فك نظامه وإضعاف قوته والله أعلم . ( باب سياسة الأعوان ) لما كان الملك لا يستطيع إقامة هذه المصالح كلها بنفسه وجب أن يكون له بإزاء كل حاجة أعوان ، ومن شرط الأعوان الأمانة والقدرة على إقامة ما أمروا به وانقيادهم للملك والنصح له ظاهرا أو باطنا ، وكل من خالف هذه الشريطة فقد استحق العزل ، فإن أهمل الملك عزله ، فقد خان المدينة ، وأفسد على نفسه أمره ، وينبغي أنه لا يتخذ الأعوان ممن يتعذر عزله ، أو ممن له حق على الملك من قرابة أو نحوها ، فيقبح عزله ، وليميز الملك
____________________
(1/96)
بين محبيه ، فمنهم من يحبه لرهبة أو لرغبته ، فليجره إليه بحيلة ، ومنهم من يحبه لذاته ، ويكون نفعه نفعا له ، وضرره ضررا عليه ، فذلك المحب الناصح ولكل إنسان جبلة جبل عليها وعادة اعتادها ، ولا ينبغي للملك أن يرجو من أحد أكثر مما عنده . والأعوان إما حفظه من شر المخالفين بمنزلة اليدين الحاملتين للسلاح من بدن الإنسان ، وإما مدبرون للمدينة بمنزلة القوة الطبيعية من الإنسان أو المشاورون للملك بمنزلة العقل والحواس للإنسان . ويجب على الملك أن يسأل كل يوم ما فيهم من الأخبار ، ويعلم ما وقع من الإصلاح وضده . ولما كان الملك وأعوانه عاملين للمدينة عملا نافعا وجب أن يكون رزقهم عليها ، ولا بد أن يكون بجباية العشور والخراج سنة عادلة لا تضر بهم ، وقد كفت الحاجة ، ولا ينبغي أن يضرب على كل أحد وفي كل مال ، والأمر ما أجمعت ملوك الأمم من مشارق الأرض ومغاربها أن تكون الجباية من أهل الدثور والقناطير المقنطرة ، ومن الأموال النامية كماشية متناسلة وزراعة وتجارة ، فإن احتيج إلى أكثر من ذلك ، فعلى رءوس الكاسبين : ولا بد للملك من سياسة جنوده ، وطريق السياسة ما يفعله الرائض الماهر بفرسه حيث يتعرف أصناف الجري من إرفال وهرولة وعدو وغيرها ، والعادات الذميمة من حرونة ونحوها ، والأمور التي تنبه الفرس تنبيها بليغا كالنخس والزجر والسوط ، ثم يراقبه ، فكلما فعل ما لا يرتضيه ، أو ترك ما يرتضيه ينبهه بما ينقاد له طبعه ، وتنكسر به سورته ، وليقصد في ذلك ألا يتشوش خاطره ، فلا يتفطن لماذا ضربه ، ولتكن صورة الأمر الذي يلقيه إليه متمثله في صدره منعقدة في قلبه والخوف من المجازاه مقيما في
____________________
(1/97)
خاطره ، ثم إذا حصل فعل المطلوب والكف عن المهروب لا ينبغي أن يترك الرياضة حتى يرى أن الطريقة المطلوبة صارت خلقا له وديدنا ، وصار بحيث لولا الزجر لما ركن إلى خلافها ، فكذلك يجب على رائض الجنود أن يعرف الطريقة المطلوبة فعلا وكفا والأمور التي يقع بها تنبيههم ، وليكن من شأنه ألا يهمل شيء من ذلك أبدا . وليس للأعوان حصر في عدد لكنه يدور على دوران حاجات المدينة ، فربما تقع الحاجة إلى اتخاذ عونين في حاجة ، وربما كفا عون لحاجتين ، غير أن رءوس الأعوان خمسة . القاضي ، وليكن حرا ذكرا بالغا عاقلا كافيا عارفا بسنة المعاملات وبمكايد الخصوم في اختصامهم ، وليكن صلبا حليما جامعا للأمرين ، ولينظر في مقامين : أحدهما معرفة جلية الحال ، وهي إما عقد أو مظلمة أو سابقة بينهما ، وثانيهما ما يريد كل واحد من صاحبه أي الإراديتين أصوب وأرجح ولينظر في وجه المعرفة ، فهنالك حجة لا يريب فيها الناس تقتضي الحكم الصراح ، وحجة ليست بذاك تقتضي حكما دون الحكم الأول . وأمير الغزاة ، وليكن من شأنه معرفة عدة الحرب وتأليف الأبطال والشجعان ومعرفة مبلغ كل رجل في النفع وكيفية تعبية الجيوش ونصب الجواسيس والخبرة في بمكايد الخصوم . وسائس المدينة ، وليكن مجربا قد عرف وجوه صلاح المدينة وفسادها صلبا حليما ، وليكن من قوم لا يسكتون إذا رأوا خلاف ما يرتضونه ، وليتخذ لكل قوم نقيبا منهم عارفا ؛ أخبارهم ينتظم به أمرهم ويؤاخذه بما عندهم . والعامل ، وليكن عارفا بكيفية جباية الأموال وتفريقها على المستحقين .
____________________
(1/98)
والوكيل ، المتكفل بمعاش الملك فإنه مع ما به من الأشغال لا يمكن أن يتفرغ إلى إصلاح معاشه ( باب الارتفاق الرابع ) وهي الحكمة الباحثة عن سياسة حكام المدن وملوكها ، وكيفية حفظ الربط الواقع بين أهل الأقاليم ، وذلك أنه لما انفرز كل ملك بمدينته ، وجبي إليه الأموال ، وانظم إليه الأبطال أوجب اختلاف أمزجتهم وتشتت استعداداتهم أن يكون فيهم الجور وترك السنة الراشدة ، وأن يطمع بعضهم في مدينة الآخرة ، وأن يتحاسدوا ، ويتقاتلوا باراء جزئية من نحو رغبة في الأموال والأراضي ، أو حسد وحقد ، فلما كثر ذلك في الملوك اضطروا إلى الخليفة ، وهو من حصل له من العساكر والعدد ما يرى كالممتنع أن يسلب رجل آخر ملكه ، فإنه إنما يتصور بعد بلاء عام وجهد كبير واجتماعات كثيرة وبذل أموال خطيرة تتقاصر الأنفس دونها وتحيله العادة ، وإذا وجد الخليفة ، وأحسن السيرة في الأرض ، وخضعت له الجبابرة ، وانقاد له الملوك تمت النعمة ، واطمأنت البلاد والعباد ، واضطر الخليفة إلى إقامة القتال دفعا للضرر اللاحق لهم من أنفس سبعية تنهب أموالهم ، وتسبي ذراريهم ، وتهتك حرمهم ، وهذه الحاجة هي التي دعت بني إسرائيل إلى أن قالوا لنبي لهم . ! ( ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ) ! وابتداء إذا أساءت أنفس شهوية أو سبعية السيرة ، وأفسدوا في الأرض ، فألهم الله سبحانه إما بلا واسطة أو بواسطة الأنبياء أن يسلب شوكتهم ، ويقتل منهم من لا سبيل له إلى الإصلاح أصلا ، وهم في نوع الإنسان بمنزلة
____________________
(1/99)
والعضو المؤف بالاكلة ، وهذه الحاجة هي المشار إليها بقوله تعالى : ! ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع ) ! الآية وقوله تعالى : ! ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) ! . ولا يتصور للخليفة مقاتلة الملوك الجبابرة وإزالة شوكتهم إلا بأموال وجمع رجال ، ولا بد في ذلك من معرفة الأسباب المقتضية لكل واحد من القتال والهدنة ، وضرب الخراج والجزية ، وأن يتأمل أولا ما يقصد بالمقاتلة من دفع مظلمة أو إزهاق أنفس سبعية خبيثة لا يرجي صلاحها ، أو كبت أنفس دونها في الخبث بإزالة شوكتها ، أو كبت قوم مفسدين في الأرض بقتل رءوسهم المدبرين لهم أو حبسهم أو حيازة أموالهم و أراضيهم أو صرف وجوه الرعية عنهم . ولا ينبغي للخليفة أن يقتحم لتحصيل مقصد فيما هو أشد منه ، فلا يقصد حيازة الأموال بإفناء جماعة صالحة من الموافقين ، ولا بد من استمالة قلوب القوم ومعرفة مبلغ نفع كل واحد ، فلا يعتمد على أكثر مما هو فيه ، والتنوية بشأن السراة والدهاة والتحريض على القتال ترغيبا وترهيبا وليكن أول نظرة إلى تفريق جمعهم وتكليل حدهم وإخافة قلوبهم حتى يتمثلوا بين يديه
____________________
(1/100)
لا يستطيعون لأنفسهم شيئا ، فإذا ظفر بذلك فليتحقق فيهم ظنه الذي زوره قبل الحرب ، فإن خاف منهم أن يفسدوا تارة أخرى ألزمهم خراجا منهكا وجزية مستأصلة ، وهدم صياصيهم ، وجعلهم بحيث لا يمكن لهم أن يفعلوا فعلهم ذلك . ولما كان الخليفة حافظا لصحة مزاج حاصل من أخلاط متشاكسة جدا أوجب أن يكون متيقظا ، ويبعث عيونا في كل ناحية ، ويستعمل فراسة نافذة ، وإذا رأى اجتماعا منعقدا من عساكره ، فلا صبر دون أن ينصب اجتماعا آخر مثله ممن تحيل العادة مواطأتهم معهم ، وإذا رأى من رجل التماس خلافة ، فلا صبر دون اتقاء جرأته وإزالة شوكته وإضعاف قوته ولا بد أن يجعل قبول أمره والارتفاق على مناصحته سنة مسلمة عندهم ، ولا يكفي في ذلك مجرد القبول ، بل لا بد من أمارة ظاهرة للقبول ، بها يؤاخذ الرعية ، كالدعاء له والتنويه بشأنه في الاجتماعات العظيمة ، وأن يوطنوا أنفسهم على زي وهيئة أمر بها الخليفة ، كالاصطلاح على الدنانير المنقوشة باسم الخليفة في زماننا والله أعلم . ( باب اتفاق الناس على أصول الارتفاقات ) اعلم أن الارتفاقات لا تخلوا عنها مدينة من الأقاليم المعمورة ، ولا أمة من الأمم أهل الأمزجة المعتدلة والأخلاق الفاضلة من لدن آدم عليه السلام إلى يوم القيامة ، وأصولها مسلمة عند الكل قرنا بعد قرن وطبقة بعد طبقة لم يزالوا ينكرون على من عصاها أشد نكير ، ويرونها أمور بديهية من شدة شهرتها ، ولا يصدنك عما ذكرنا اختلافهم في صور الارتفاقات وفروعها ، فاتفقوا مثلا على إزالة نتن الموتى وستر سوآتهم ، ثم اختلفوا في الصور ، فاختار بعضهم الدفن في الأرض ، وبعضهم الحرق بالنار ،
____________________
(1/101)
واتفقوا على تشهير أمر النكاح وتمييزه عن السفاح على رءوس الأشهاد ، ثم اختلفوا في الصور ، فاختار بعضهم الشهود والإيجاب والقبول والوليمة ، وبعضهم الدف والغناء ولبس ثياب فاخرة لا تلبس إلا في الولائم الكبيرة ، واتفقوا على زجر الزنا والسراق ثم اختلفوا ، فاختار بعضهم الرجم وقطع اليد ، وبعضهم الضرب والأليم والحبس الوجيع والغرامات المنهكة ، ولا يصدنك أيضا مخالفة طائفتين ، أحدهما البلة الملتحقون بالبهائم ممن لا يشك الجمهور أن أمزجتهم ناقصة وعقولهم مخدجة ، وصاروا يستدلون على بلاهتهم بما يرون من عدم تقييدهم أنفسهم بتلك القيود ، والثانية الفجار الذين لو نقح ما في قلوبهم ظهر أنهم يعتقدون الارتفاقات لكن تغلب عليهم الشهوات ، فيعصونها شاهدين على أنفسهم بالفجور ، ويزنون ببنات الناس وأخواتهم ، ولو زني ببناتهم وأخواتهم كادوا يتميزون من الغيظ ، ويعلمون قطعا أن الناس يصيبهم ما أصاب أولاء ، وإن إصابة هذه الأمور مخلة بانتظام المدينة لكن يعميهم الهوى ، وكذلك الكلام في السرقة والغصب وغيرهما ، ولا ينبغي أن يظن أنهم اتفقوا على ذلك من غير شيء بمنزلة الاتفاق على أن يتغذى بطعام واحد أهل المشارق والمغارب كلهم وهل سفسطه أشد من ذلك ؟ بل الفطرة السليمة حاكمة بأن الناس لم يتفقوا عليها مع اختلاف أمزجتهم وتباعد بلدانهم وتشتت مذاهبهم وأديانهم إلا لمناسبة فطرية متشعبة من الصورة النوعية ، ومن حاجات كثيرة الوقوع يتوارد عليها أفراد النوع ، ومن أخلاق توجبها الصحة النوعية في أمزجة الأفراد ، ولو أن إنسانا نشأ ببادية نائية عن البلدان ، ولم يتعلم من أحد رسما كان له لا جرم حاجات من الجوع والعطش والغلمة ، واشتاق لا محالة إلى امرأة ، ولا بد عند صحة مزاجهما أن يتولد بينهما أولاد ، ويضم أهل أبيات ، وينشأ فيهم معاملات ، فينتظم الارتفاق الأول عن آخره ، ثم إذا كثروا لا بد
____________________
(1/102)
أن يكون فيهم أهل أخلاق فاضلة تقع فيهم وقائع توجب سائر الارتفاقات والله أعلم . ( باب الرسوم السائرة في الناس ) اعلم أن الرسوم من الارتفاقات هي بمنزلة القلب من جسد الإنسان ، وإياها قصدت الشرائع أولا وبالذات ، وعنها البحث في النواميس الإلهية ، وإليها الإشارات ، ولها أسباب تنشأ منها كاستنباط الحكماء ، وكالهام الحق في قلوب المؤيدين بالنور الملكي ، وأسباب تنتشر بها في الناس ، مثل كونها سنة ملك كبير دانت له الرقاب ، أو كونها تفصيلا لما يجده الناس في صدورهم ، فيتلقونها بشهادة قلوبهم ، وأسباب يعضون عليها بالنواجذ لأ أجلها من تجربة مجازاة غيبية على إهمالها ، أو وقوع فساد في إغفالها ، وكإقامة أهل الآراء الراشدة اللائمة على تركها ، ونحو ذلك ، والمستبصر ربما يوفق لتصديق ذلك من إحياء سنن وإماتتها في كثير من البلدان بنظائر ما ذكرنا . والسنن السائرة وإن كانت من حق في أصل أمرها لكونها حافظة على الارتفاقات الصالحة ، ومفضية بأفراد الإنسان إلى كمالها النظري والعملي ، ولولاها لالتحق أكثر الناس بالبهائم ، فكم من رجل يباشر النكاح والمعاملات على الوجه المطلوب ، وإذا سئل عن سبب تقيده بتلك القيود لم يجد جوابا إلا موافقة القوم ، وغاية جهده علم إجمالي لا يعرب عنه لسانه فظلا عن تمهيد ارتفاقه ، فهذا لو لم يلتزم سنة كاد يلتحق بالبهائم ، لكنها قد ينضم معها باطل ، فيلبس على الناس سنتهم ، وذلك بأن يترأس قوم يغلب عليهم الآراء الجزئية دون المصالح الكلية ، فيخرجون إلى أعمال سبعية كقطع الطريق أو غضب أو شهوية كاللواطة وتأنث الرجال أو أكساب ضارة
____________________
(1/103)
كالربا وتطفيف الكيل والوزن أو عادات في الزي والولائم تميل إلى الإسراف ، وتحتاج إلى تعمق بليغ في الاكساب ، أو الإكثار من المسليات بحيث يفضي إلى إهمال أمر المعاش والمعاد كالمزامير والشطرنج وصيد واقتناء الحمام ونحوها ، أو جبايات منهكة لأبناء السبيل وخراج مستأصل للرعية ، أو التشاحح والتشاحن فيما بينهم ، فيستحسنون أن يفعلوها مع الناس ، ولا يستحسنون أن يفعل ذلك معهم ، فلا ينكر عليهم أحد لجاههم وصولتهم فيجيء فجرة القوم ، فيقتدون بهم ، وينصرونهم ، ويبذلون السعي في إشاعة ذلك ، ويجيء قوم لم يخلق في قلوبهم ميل قوى إلى الأعمال الصالحة ، ولا إلى أضدادها ، فيحملهم ما يرون من الرؤساء على التمسك بذلك ، وربما أعيت بهم المذاهب الصالحة ، ويبقى قوم فطرتهم سوية في أخريات القوم لا يخالطونهم ، ويسكتون على غيظ فتنعقد سنة سيئة وتتأكد . ويجب بذل الجهد على أهل الآراء الكلية في إشاعة الحق وتمشيته وإخمال الباطل ، وصده ، فربما لم يمكن ذلك إلا بمخاصمات أو مقاتلات ، فيعد كل ذلك من أفضل أعمال البر ، وإذا انعقدت سنة راشدة ، فسلمها القوم عصرا بعد عصر ، وعليها كان محياهم ومماتهم ، ويبست عليها نفوسهم وعلومهم ، فظنوها متلازمة للأصول وجودا وعدما لم تكن إرادة الخروج عنها وعصيانها إلا ممن سمجت نفسه ، وطاش عقله ، وقويت شهوته ، واقتعد غاربه الهوى ، فإذا باشر الخروج أضمر في قلبه شهادة على فجوره ، وسدل حجاب بينه وبين المصلحة الكلية ، فإذا كمل فعله صار ذلك شرحا لمرضه النفساني ، وكان ثلمة في دينه ، فإذا تقرر ذلك تقررا بينا ارتفعت أدعية الملأ الأعلى وتضرعت منهم لمن وافق تلك السنة وعلى من خالفها ، وانعقد في حظيرة القدس رضا وسخط عمن باشرها ، أو عليه ، وإذا كانت السنن كذلك عدت من الفطرة التي فطر الله الناس عليها والله أعلم .
____________________
(1/104)
( المبحث الرابع ) ( مبحث السعادة ) ( باب حقيقة السعادة ) اعلم أن للإنسان كمالا تقتضيه الصورة النوعية ، وكمالا يقتضيه موضوع النوع من الجنس القريب والبعيد ، وسعادته التي يضره فقدها ، ويقصدها أهل العقول المستقيمة قصدا مؤكدا هو الأول ، وذلك أنه قد يمدح في العادة بصفات يشارك فيها الأجسام المعدنية ، كالطول وعظم القامة ، فإن كانت السعادة هذه ، فالجبال أتم سعادة ، وصفات يشارك فيها النبات كالنمو المناسب والخروج إلى تخاطيط جميلة وهيآت ناضرة ، فإن كانت السعادة هذه فالشقائق والأوراد أتم سعادة ، وصفات يشارك فيها الحيوان ، كشدة البطش وجهورية الصوت وزيادة الشبق وكثرة الأكل والشرب ووفور الغضب والحسد ، فإن كانت السعادة هذه فالحمار أتم سعادة ، وصفات يختص بها الإنسان كالأخلاق المهذبة والارتفاقات الصالحة والصنائع الرفيعة والجاه العظيم ، فبادئ الرأي أنها سعادة الإنسان ، ولذلك ترى كل أمة من أمم الناس يستحب أتمها عقلا وأسدها رأيا أن يكتسب هذه ، ويجعل ما سواها كأنها ليس صفات مدح ، ولكن الأمر إلى الآن غير منقح لأن أصل هذه موجود في أفراد الحيوان ، فالشجاعة أصلها الغضب وحب الانتقام والثبات في الشدائد والإقدام على المهالك ، وهذه كلها موفرة في الفحول من البهائم ، لكن لا تسمى شجاعة إلا بعد ما يهذبها فيض النفس النطقية ، فتصير منقادة للمصلحة الكلية منبعثة من داعية معقولة ، وكذلك أصل الصناعات موجود في الحيوان كالعصفور الذي ينسج العش ، بل رب صنعة يصنعها الحيوان بطبيعته لا يتمكن منها الإنسان بتجشم ، كلا بل الحق أن هذه سعادة بالعرض وأن السعادة الحقيقة هي انقياد البهيمية للنفس النطقية ، واتباع الهوى للعقل ، وكون النفس الناطقة قاهرة على البهيمية والعقل غالبا على الهوى وسائر الخصوصيات ملغاة .
____________________
(1/105)
واعلم أن الأمور التي تشبك بالسعادة الحقيقية على قسمين : قسم هو من باب ظهور فيض النفس النطقية في المعاش بحكم الجبلة ، ولا يمكن أن يحصل الخلق المطلوب بهذا القسم ، بل ربما يكون الغوص في تلك الأفعال بزينتها لا سيما بفكر جزئي كما هو شأن الناقص ضد الكمال المطلوب ، كالذي يقصد تحصيل الشجاعة بإثارة الغضب والمصارعة ونحو ذلك ، أو الفصاحة بمعرفة أشعار العرب وخطبهم ، والأخلاق لا تظهر إلى عند مزاحمات من نبي النوع ، والارتفاقات لا تقتنص الابحاجات طارئه ، والصنائع لا تتم إلا بآلات ومادة ، وهذه كلها منقضية بانقضاء الحياة الدنيا ، فإن مات الناقص في تلك الحالة ، وكان سمجا بقي عاريا عن الكمال وإن لزق بنفسه صور هذه العلاقات كان الضرر عليه أشد من النفع ، وقسم إنما روحه هيئة إذعان البهيمية للملكية بأن تتصرف حسب وحيها ، وتنصبغ بصبغها ، وتمنع الملكية منها بألا تقبل ألوانها الدنية ، ولا تنطبع فيها نقوشها الخسيسة ، كما تنطبع نقوش الخاتم في الشمعة ، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن تقتضي الملكية شيئا من ذاتها ، وتوحيه إلى البهيمية ، وتقترحه عليها ، ومتنقاد لها ، ولا تبغي عليها ، ولا تتمنع منها ، ثم تقتضي أيضا ، فتنقاد هذه أيضا ، ثم ، وثم حتى تعتاد ذلك ؛ وتتمرن ، وهذه الأشياء التي تقتضيها هذه من ذاتها وتقسر عليها تلك على رغم أنفها إنما يكون من جنس ما فيه انشراح لهذه وانقباض لتلك ، وذلك كالتشبه بالملكوت ، والتطلع للجبروت ، فإنها خاصة الملكية بعيدة عنها البهيمية غاية البعد ، أو يترك ما تقتضيه البهيمية ، وتستلذه ، وتشتاق إليه في غلوائها . وهذا القسم يسمى بالعبادات والرياضات وهي شركات تحصيل الفائت من الخلق المطلوب ، فآل تحقيق المقام إلى أن السعادة الحقيقية لا تقتنص
____________________
(1/106)
إلا بالعبادات ، ولذلك كانت المصلحة الكلية تنادي أفراد الإنسان من كوة الصورة النوعية ، وتأمرها أمرا مؤكدا أن تجعل إصلاح الصفات التي هي كمال ثان بقدر الضرورة ، وأن تجعل غاية همتها ومطمح بصرها تهذيب النفس وتحليتها بهيآت تجعلها شبيهة بما فوقها من الملأ الأعلى مستعدة لنزول أكوان الجبروت والملكوت عليها ، وأن تجعل البهيمية مذعنة للملكية مطيعة لها منصة لظهور أحكامها . وأفراد الإنسان عند الصحة النوعية ، وتمكين المادة لظهور أحكام النوع كاملة وافرة تشتاق إلى هذه السعادة وتنجذب إليها انجذاب الحديد إلى المغناطيس ، وذلك خلق خلق الله الناس عليه ، وفطرة فطرهم عليها ، ولهذا ما كان في بني آدم أمة من أهل المزاج المعتدل إلا فيها قوم من عظمائهم يهتمون بتكميل هذا الخلق ، ويرونه السعادة القصوى ، ويراهم الملوك والحكماء فمن دونهم فائزين بما يجل عن سعادات الدنيا كلها ، ملتحقين بالملائكة ، منخرطين في سلكهم ، حتى صاروا يتبركون بهم ، ويقبلون أيديهم وأرجلهم ، فهل يمكن أن يتفق عرب الناس وعجمهم على اختلاف عاداتهم وأديانهم وتباعد مساكنهم وبلدانهم على شيء ، واحد وحدة نوعية إلا لمناسبة فطرية ، كيف لا وقد عرفت أن الملكية موجودة في أصل فطرة الإنسان ، وعرفت أفاضل الناس وأساطينهم من هم ، والله أعلم . ( باب اختلاف الناس في السعادة ) اعلم أن الشجاعة وسائر الأخلاق كما يختلف أفراد الإنسان فيها ، فمنهم الفاقد الذي لا يرجى له حصولها أبدا لقيام هيئة مضادة في أصل جبلته ، كالمخنث وضعيف القلب جدا بالنسبة إلى الشجاعة . ومنهم الفاقد الذي يرجى له ذلك بعد ممارسة أفعال وأقوال وهيآت تناسبها
____________________
(1/107)
وتلقي ذلك من أهلها ، وتذكر أحاديث أئمتها وما جرى عليهم من الحوادث في الأيام ، فثبتوا في الشدائد ، وأقدموا على المهالك . ومنهم الذي خلق فيه أصل الخلق ، ولا تزال تنبجس فيه فلتات كل حين ، فإن أمر بحبس نفسه عنها ضاق عليه الأمر ، وسكت على غيظ ، وأن أمر بما يناسب جبلته كان كالكبريت يتصل به النار ، فلا يتراخى احتراقه ومنهم الذي خلق فيه الخلق كاملا وافرا ، ويندفع إلى مقتضياته ضرورة ، وإن دعي إلى الجبن أشد دعوة لم يقبل ، ويتيسر له الخروج إلى أفعال هذا الخلق والهيآت المناسبة له بالطبع من غير رسم ولا دعوة ، وهذا هو الإمام في هذا الخلق لا يحتاج إلى إمام أصلا ، ويجب على الذين هم دونه في الخلق أن يتمسكوا بسنته ، ويعضوا بنواجذهم على رسومه ، ويتكلفوا في محاكاة هيئآته ، ويتذكروا وقائعه ، ليتحرجوا إلى الكمال المتوقع لهم من الخلق بحسب ما قدر لهم ، فكذلك يختلفون في هذا الخلق الذي عليه مدار سعادتهم ، فمنهم الفاقد الذي لا يرجى صلاحه كالذي قتله الخضر طبع كافرا وإليه الإشارة في قوله تعالى : ! ( صم بكم عمي فهم لا يرجعون ) ! . ومنهم الفاقد الذي يرجى له ذلك بعد رياضات شاقة وأعمال ديمة يؤاخذ بها نفسه ويحتاج إلى دعوة حثيثة من الأنبياء وسنن مأثورة منهم وهؤلاء أكثر الناس وجودا ، وهم المقصودون في البعثة أولا وبالذات . ومنهم الذي ركب فيه الخلق إجمالا وينبجس منه فلتاته إلا أنه يحتاج في التفصيل وتمهيد الهيآت على ما يناسب الخلق في كثير مما ينبغي إلى إمام وفيه قوله تعالى :
____________________
(1/108)
( يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ) وهم السباق . ومنهم الأنبياء يتأتى لهم الخروج إلى كمال هذا الخلق واختيار هيآت مناسبة له وكيفية تحصيل الفائت وإبقاء الحاضر وإتمام الناقص من غير إمام ولا دعوة ، فينتظم من جريانهم في مقتضى جبلتهم سنن يتذكرها الناس ، ويتخذونها دستورا ، وكيف ولما كانت الحدادة والتجارة وأمثالهما لا تأتي من جمهور الناس إلا بسنن مأثورة عن أسلافهم ، فما ظنك بهذه المطالب الشريفة التي لا يهتدي إليها إلا الموفقون ' ومن هذا الباب ينبغي أن يعلم شدة الحاجة إلى الأنبياء ووجوب إتباع سنتهم والاشتغال بأحاديثهم والله أعلم . ( باب توزع الناس في كيفية تحصيل هذه السعادة ) اعلم أن هذه السعادة تحصل بوجهين ، أحدهما ما هو كالانسلاخ عن الطبيعية البهيمية ، وذلك أن يتمسك بالحيل الجالبة لركود أحكام الطبيعة وخمود سورتها ، وانطفاء لهب علومها وحالاتها ، ويقبل على التوجه التام إلى ما وراء الجهات من الجبروت ، وقبول النفس لعلوم مفارقة عن الزمان والمكان بالكلية ، ولذات مباينة اللذات المألوفة من كل وجه ، حتى يصير لا يخالط الناس ، ولا يرغب فيما يرغبون ، ولا يرهب مما يرهبون ، ويكون منهم على طرف شاسع ، وصقع بعيد ، وهذا الذي يرومه المتألهون من الحكماء ، والمجذبون من الصوفية ، فوصل بعضهم غاية مداها ، وقليل ما هم وبقي آخرون مشتاقين لها ، طامحة أبصارهم إليها ، متكلفين لمحاكاة هيآتها . وثانيهما ما هو كالإصلاح للبهيمية والإقامة لعوجها مع تعلق أصلها ، وذلك أن يسعى في محاكاة البهيمية ما عند النفس النطقية بأفعال وهيآت وأذكار ونحوها ، كمثل ما يحاكي الأخرس أقوال الناس بإشاراته ، والمصور
____________________
(1/109)
أحوالا نفسانية من الوجل والخجل بهيآت مبصرة يجدها متعانقة مع تلك الأحوال ، والثكلى تفجعها بكلمات وترجيعات لا يسمعها أحد إلا حزن وتمثل عنده صورة التفجع . ولما كان مبنى التدبير الإلهي في العالم على اختيار الأقرب فالأقرب ، والأسهل فالأسهل ، والنظر إلى صلاح ما يجري مجرى جملة أفراد النوع دون الشاذة والفاذة ، وإقامة مصالح الدارين من غير أن ينخرم نظام شيء منهما اقتضى لطف الله ورحمته أن يبعث الرسل أولا وبالذات لإقامة الطريق الثانية ، والدعوة إليها ، والحث عليها ، ويدل على الأولى بإشارات التزامية ، وتلويحات تضمنية لا غير ، ولله الحجة البالغة . تفصيل ذلك أن الأولى إنما تأتي من قوم ذوي تجاذب ، وقليل ما هم ، وبرياضات شاقة ، وتفرغ قوى ، وقليل من يفعلها ، وإنما أئمتها قوم أهملوا معاشهم ، ولا دعوة لهم في الدنيا ، ولا تتم إلا بتقديم جملة صالحة من الثانية ولا يخلوا من إهمال إحدى السعادتين إصلاح الارتفاقات في الدنيا وإصلاح النفس للآخرة ، فلو أخذ بها أكثر الناس خربت الدنيا ، ولو كلفوا بها كان كالتكاليف بالمحال ، لأن الارتفاقات صارت كالجبلة ، والثانية إنما أئمتها المفهمون ، وذوو إصلاح ، وهم القائمون برياسة الدين والدنيا معا ، ودعوتهم هي المقبولة ، وسنتهم هي المتبعة ، وينحصر فيها كمال المصطلحين من السابقين أصحاب اليمين ، وهم أكثر الناس وجودا ، ويتمكن منها الذكي والغبي ، والمشتغل والفارغ ، ولا حرج فيها وتكفي العبد في استقامة نفسه ، ودفع أعوجاجها ، ودفع الآلام المتوقعة في المعاد عنها ، إذ لكل نفس أفعال ملكية تتنعم بوجودها ، وتتألم بفقدها أما أحكام التجرد فسيلقي إليها نشآت القبر والحشر من حيث لا يدري بجبلتها ولو بعد حين . ** ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ** ويأتيك بالأخبار من لم تزود **
____________________
(1/110)
وبالجملة فالإحاطة واستقصاء وجوه الخير كالمحال في حق الأكثرين ، والجهل البسيط غير الضار ، والله أعلم . ( باب الأصول التي يرجع إليها تحصيل الطريقة الثانية ) اعلم أن طرق تحصيل السعادة على الوجه الثاني كثيرة جدا غير أني فهمني الله تعالى بفضله أن مرجعها إلى خصال أربع تتلبس بها البهيمية متى غطتها النفس النطقية ، وقسرتها على ما يناسبها ، وهي أشبه حالات الإنسان بصفة الملأ الأعلى معدة للحوقة بهم ، وانخراطه في سلكهم ، وفهمني أنه إنما بعث الأنبياء للدعوة إليها والحث عليها وأن الشرائع تفصيل لها وراجعة إليها . أحدها : الطهارة ، وحقيقتها أن الإنسان عند سلامة فطرته وصحة مزاجه وتفرع قلبه من الأحوال السلفية الشاغلة له عن التدبير إذا تلطخ بالنجاسات ، وكان حاقبا حاقنا قريب العهد من الجماع ودواعيه ، انقبضت نفسه ، وأصابه ضيق وحزن ، ووجد نفسه في غاشية عظيمة ، ثم إذا تخفف عن الأخبثين ، ودلك بدنه ، واغتسل ولبس أحسن ثيابه ، وتطيب اندفع عنه ذلك الانقباض ، ووجد مكانه انشراحا وسرورا وانبساطا كل ذلك لا لمراءاة الناس والحفظ على رسومه ، بل لحكم النفس النطقية فقط ، فالحالة الأولى تسمى حدثا ، والثانية الطهارة ، والذكي من الناس ، والذي يرى منه سلامة أحكام النوع وتمكين المادة لأحكام الصورة النوعية يعرف الحالتين متميزة كل واحدة من الأخرى ، ويحب إحداهما ، ويبغض الأخرى لطبيعته ، والغبي منهم إذا أضعف شيئا من البهيمية ، ولج بالطهارات والتبتل ، وتفرغ لمعرفتها ، لا بد يعرفهما ويميز كل واحدة من الأخرى ، والطهارة أشبه الصفات النسمية بحالات الملأ الأعلى في تجردها عن الألواث البهيمية ، وابتهاجها بما عندها من النور ، ولذلك كانت معدة لتلبس النفس
____________________
(1/111)
بكمالها بحسب القوة العملية ، والحدث إذا تمكن من الإنسان وأحاط به من بين يديه ومن خلفه أورث له استعدادا لقبول وساوس الشياطين ورؤيتهم بحاسة الحس المشترك ، ولمنامات موحشة ، ولظهور الظلمة عليه فيما يلي النفس النطقية ، وتمثل الحيوانات الملعونة اللئيمة وإذا تمكنت الطهارة منه ، وأحاطت به ، وتنبه لها ، وركن إليها أورثت استعدادا لقبول إلهامات الملائكة ورؤيتها ، ولمنامات صالحة ، ولظهور الأنوار ، وتمثل الطيبات والأشياء المباركة المعظمة . والثانية : الإخبات لله تعالى ، وحقيقته أن الإنسان عند سلامته وتفرغه إذا ذكر بآيات الله تعالى وصفاته ، وأمعن في التذكر تنبهت النفس النطقية ، وخضعت الحواس والجسد لها ، وصارت كالحائرة الكليلة ، ووجد ميلا إلى جانب القدس ، وكان كمثل الحالة التي تعتري السوقة بحضرة الملوك ، وملاحظة عجز أنفسهم ، واستبداد أولئك بالمنع والعطاء ، وهذه الحالة أقرب الحالات النسمية ، وأشبهها بحال الملأ الأعلى في توجهها إلى بارئها ، وهيمانها في جلاله ، واستغراقها في تقديسه ولذلك كانت معدة لخروج النفس إلى كمالها العلمي أعني انتقاش المعرفة الإلهية في لوح ذهنها ، واللحوق بتك الحضرة بوجه من الوجوه وإن كانت العبارة تقصر عنه . والثالثة : السماحة ، وحقيقتها كون النفس بحيث لا تنقاد لدواعي القوة البهيمية ، ولا يتشبح فيها نقوشها ، ولا يلحق بها ضرر لوثها ، وذلك لأن النفس إذا تصرفت في أمر معاشها ، وتاقت للنساء ، وعاسفت اللذات ، أو قرمت لطعام فاجتهدت في تحصيله حتى استوفت منها حاجتها ، وكذلك إذا غضبت أو شحت بشيء ، فإنها لا بد في تلك الحالة تستغرق ساعة في هذه الكيفية لا ترفع إلى ما ورائها النظر ألبتة ، ثم إذا
____________________
(1/112)
زايلت تلك الحالة ، فإن كانت سمحة خرجت من تلك المضايق كأن لم تكن فيها قط ، وإن كانت غير ذلك فإنها تشتبك معها تلك الكيفيات ، وتتشبح كما تتشبح نقوش الخاتم في الشمعة فإذا فارقت الجسد ، وتخففت عن العلائق الظلمانية المتراكمة ، ورجعت إلى ما عندها لم تجد شيئا مما كان في الدنيا من مخلفات الملكية فحصل لها الأنس ، وصارت في أرغد عيش . والشحيحة تتمثل نقوشها عندها ، كما ترى بعض الناس يسرق منه مال نفيس فإن كان سخيا لم يجدله بالا ، وإن كان ركيك النفس صار كالمجنون ، وتمثلت عنده ، والسماحة وضدها لهما ألقاب كثيرة بحسب ما يكونان فيه ، فما كان منهما في المال يسمى سخاوة وشحا ، وما كان في داعية شهوة الفرج أو البطن يسمى عفة وشرة ، وما كان في داعية الرفاهية والنبو عن المشاق يسمى صبرا وهلعا ، وما كان في داعية المعاصي الممنوعة عنها في الشرع يسمى تقوى وفجورا ، وإذا تمكنت السماحة من الإنسان بقيت نفسه عرية عن شهوات الدنيا ، واستعدت للذات العلية المجردة ، والسماحة هيئة تمنع الإنسان من أن يتمكن منه ضد الكمال المطلوب علما وعملا . الرابعة العدالة ، وهي ملكة في النفس تصدر عنها الأفعال التي يقام بها نظام المدينة والحي بسهولة ، وتكون النفس كالمجبول على تلك الأفاعيل والسر في ذلك أن الملائكة والنفوس المجردة عن العلائق الجسمانية ينطبع فيها ما أراد الله في خلق العالم من إصلاح النظام ونحوه ، فتنقلب مرضياتها إلى ما يناسب ذلك النظام ، فهذه طبيعة الروح المجردة ، فإن فارقت جسدها وفيها شيء من هذه الصفة ابتهجت كل الابتهاج ، ووجدت سبيلا إلى اللذة المفارقة عن اللذات الخسيسة ، وإن فارقت وفيها ضد هذه الخصلة ضاق
____________________
(1/113)
عليها الحال ، وتوحشت ، وتألمت ، فإذا بعث الله نبيا لإقامة الدين ، وليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، ويقوم الناس بالعدل ، فمن سعى في إشاعة هذا النور ، ووطأ له في الناس كان مرحوما ، ومن سعى لردها وإخمالها كان ملعونا مرجوما ، وإذا تمكنت العدالة من الإنسان وقع اشتراك بينه وبين حملة العرش ومقربي الحضرة من الملائكة الذين هم وسائط نزول الجود والبركات ، وكان ذلك بابا مفتوحا بينه وبينهم ، ومعدا لنزول ألوانهم وصبغهم بمنزلة تمكين النفس من إلهام الملائكة والانبعاث حسبها . فهذه الخصال الأربع إن تحققت حقيقتها ، وفهمت كيفية اقتضائها للكمال العلمي والعملي وإعدادها للانسلاك في سلك الملائكة ، وفطنت كيفية انشعاب الشرائع الإلهية بحسب كل عصر منها - أوتيت الخير الكثير ، وكنت فقيها في الدين ممن أراد الله بهم خيرا ، والحالة المركبة منها تسمى بالفطرة ، وللفطرة أسباب تحصل بها ، بعضها علمية ، وبعضها عملية ، وحجب تصد الإنسان عنها ، وحيل تكسر الحجب ، ونحن نريد أن ننبهك على هذه الأمور ، فاستمع لما يتلى عليك بتوفيق الله تعالى والله أعلم . ( باب طريق اكتساب هذه الخصال وتكميل ناقصها ورد فائتها ) اعلم أن اكتساب هذه الخصال يكون بتدبيرين : تدبير علمي ، وتدبير عملي . أما التدبير العلمي ، فإنما احتيج له لأن الطبيعة منقادة للقوى العلمية ، ولذلك ترى سقوط الشهوة والشبق عند خطور ما يورث في النفس كيفية الحياء أو الخوف ، فمتى امتلأ علمه بما يناسب الفطرة جر ذلك إلى تحققها في النفس ، ولذلك أن يعتقد أن له ربا منزها عن الأدناس البشرية ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد لاراد لقضائه ، ولا مانع لحكمه ، منعم بأصل الوجود وتوابعه من النعم الجسمانية
____________________
(1/114)
والنفسانية ، مجاز على أعماله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وهو قوله تعالى : ' أذنب عبدي ذنبا ، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ، ويأخذ بالذنب ، قد غفرت لعبدي ' . وبالجملة فيعتقد اعتقادا مؤكدا ما يفيد الهيبة وغاية التعظيم ، وما لا يبقى ولا يذر في قلبه جناح بعوضة من إخبات غيره ورهبته ، ويعتقد أن كمال الإنسان أن يتوجه إلى ربه ، ويعبده ، وأن أحسن حالات البشر أن يتشبه بالملائكة ، ويدنو منهم ، وأن هذه الأمور مقربة له من ربه ، وأن الله تعالى ارتضى منهم ذلك ، وأنه حق الله عليه لا بد له توفيقه . وبالجملة فيعلم علما لا يحتمل النقيض أن سعادته في اكتساب هذه ، وأن شقاوته في إهمالها ، ولا بد له من سوط ينبه البهيمية تنبيها قويا ، ويزعجها إزعاجا شديدا ، واختلف مسالك الأنبياء في ذلك فكان عمدة ما أنزل الله تعالى على إبراهيم عليه السلام التذكير بآيات الله الباهرة وصفاته العليا ونعمه الآفاقية والنفسانية ، حتى يصحح بما لا مزيد عليه أنه حقيق أن يبذلوا له الملاذ ، وأن يؤثروا ذكره على ما سواه ، وأن يحبوه حبا شديدا ، ويعبدوه بأقصى مجهودهم ، وضم الله معه لموسى عليه السلام التذكير بأيام الله ، وهو بيان مجازاة الله تعالى للمطيعين والعصاة في الدنيا ، وتقليبه النعم والنقم حتى يتمثل في صدورهم الخوف من المعاصي ، ورغبة قوية في الطاعات ، وضم معهما ل نبينا صلى الله عليه وسلم الإنذار والتبشير بحوادث القبر ، وما بعده ، وبيان خواص البر والاثم ، ولا يفيد أصل العلم بهذه الأمور ، بل لا بد من تكرارها وتردادها وملاحظتها كل حين ، وجعلها بين عينيه حتى تمتلئ القوى العلمية بها ، فتنقاد الجوارح لها ، وهذه الثلاثة مع اثنين آخرين أحدهما بيان الأحكام من الواجب والحرام وغيرهما ، وثانيهما مخاصمة الكفار - فنون خمسة هي عمدة علوم القرآن العظيم .
____________________
(1/115)
أما التدبير العملي ، فالعمدة فيه التلبس بهيآت وأفعال وأشياء تذكر النفس الخصلة المطلوبة ، وتنبهها لها ، وتهيجها إليها ، وتحثها عليها إما لتلازم عادة بينها وبين الخصلة ، أو لكونها مظنة لها بحكم المناسبة الجبلية ، فكما أن الإنسان إذا أراد أن ينبه نفسه للغضب ، ويحضره بين عينيه يتخيل الشتم الذي تفوه به المغضوب عليه ، والذي يلحقه من العار ونحو ذلك ، والنائحة إذا أرادت أن تجدد عهدها بالفجع تذكر نفسها محاسن الميت ، وتتخيلها ، وتبعث من خواطرها الخيل والرجل إليها ، والذي يريد الجماع ، يتمسك بداوعيه ، ونظائر هذا الباب كثيرة جدا لا تعصى على من يريد الإحاطة بجوانب الكلام ، فكذلك لكل واحدة من هذه الخصال أسباب تكتسب بها ، والاعتماد في معرفة تلك الأمور على ذوق أهل الأذواق السليمة ، فأسباب الحدث امتلاء القلب بحالة سفلية ، كقضاء الشهوة من النساء جماعا ومباشرة ، وإضماره مخالفة الحق وإحاطة لهن الملأ الأعلى به ، وكونه حاقبا حاقنا ، وقرب العهد بالبول والغائط والريح ، وهذه الثلاثة فضول المعدة ، وتوسخ البدن والبخر واجتماع المخاط ونبات الشعر على العانة والابط وتلطخ الثوب والبدن بالنجاسات المستقذرة ، وامتلاء الحواس بصورة تذكر الحالة السفلية كالقاذورات والنظر إلى الفرج ومسافدة الحيوانات والنظر الممعن في الجماع والطعن في الملائكة والصالحين والسعي في إيذاء الناس ، وأسباب الطهارة إزالة هذه الأشياء واكتساب أضدادها واستعمال ما تقرر في العادات كونه نظافة بالغه كالغسل والوضوء ولبس أحسن الثياب واستعمال الطيب ، فإن استعمال هذه الأشياء تنبه النفس على صفة الطهارة ، وأسباب الإخبات مؤاخذة نفسه بما هو أعلى حالات التعظيم عنده من القيام مطرقا والسجود والنطق بألفاظ دالة على المناجاة والتذلل لديه ورفع الحاجات إليه ، فإن هذه الأمور تنبه النفس تنبيها قويا على صفة
____________________
(1/116)
الخضوع والاخبات ، وأسباب السماحة التمرن على السخاوة والبذل والعفو عمن ظلم ومؤاخذة نفسه بالصبر عند المكاره ونحو ذلك ، وأسباب العدالة المحافظة على السنة الراشدة بتفاصيلها والله أعلم . ( باب الحجب المانعة عن ظهور الفطرة ) اعلم أن معظم الحجب ثلاثة : حجاب الطبع ، وحجاب الرسم ، وحجاب سوء المعرفة ، وذلك لأنه ركب في الإنسان دواعي الأكل والشرب والنكاح ، وجعل قلبه مطية للأحوال الطبيعية كالحزن والنشاط والغضب والوجل وغيرها ، فلا يزال مشغولا بها ، إذ كل حالة يتقدمها توجه النفس إلى أسبابها وانقياد القوى العلمية لما يناسبها ، ويجتمع معها استغراق النفس فيها وذهولها عما سواها ، ويتخلف عنها بقية ظلها ووضر لونها ، فتمر الأيام والليالي ، وهو على ذلك لا يتفرغ لتحصيل غيرها من الكمال ، ورب إنسان ارتطمت قدماه في هذا الوحل ، فلم يخرج منه طول عمره ، ورب إنسان غلب عليه حكم الطبع ، فخلع رقبته عن رقبة الرسم والعقل ، ولم ينزجر بالملامة ، وهذا الحجاب يسمى بالنفس ، لكن من تم عقله ، وتوفر تيقظه يختطف من أوقاته فرصا يركد فيها أحوال الطبيعة ، ويتسع نفسه لهذه الأحوال وغيرها ، ويستوجب لفيضان علوم أخرى غير استيفاء مقتضيات الطبع ، ويشتاق إلى الكمال النوعي بحسب القوتين العاقلة والعاملة ؛ فإذا فتح حدقة بصيرته أبصر في أول الأمر قومه في ارتفاقات وزي ومباهات وفضائل من الفصاحات والصناعات ، فوقعت من قلبه بموقع عظيم ، واستقبلها بعزيمة كاملة وهمة قوية ، وهذا حجاب الرسم ويسمى بالدنيا . ومن الناس من لا يزال مستغرقا في ذلك إلى أن يأتيه الموت ، فتزول تلك الفضائل بأسرها ، لأنها لا تتم إلا بالبدن والآلات ، فتبقى النفس عارية
____________________
(1/117)
ليس بها شيء ، وصار مثله كمثل ذي جنة أصابها إعصار ، أو كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ، فإن كان شديد التنبه عظيم الفطنة استيقن بدليل برهاني أو خطابي أو بتقليد الشرع أن له ربا قاهرا فوق عباده ، مدبرا أمورهم ، منعما عليه جميع النعم ، ثم خلق في قلبه ميل إليه ومحبه به ، وأراد التقرب منه ورفع الحاجات إليه واطرح لديه ، فمن مصيب في هذا القصد ومخطئ ، ومعظم الخطأ شيآن : أن يعتقد في الواجب صفات المخلوق ، أو يعتقد في المخلوق صفات الواجب . فالأول هو التشبيه ، ومنشؤه قياس الغائب على الشاهد ، والثاني هو الإشراك ، ومنشؤه رؤية الآثار الخارقة من المخلوقين ، فيظن أنها مضافة إليهم بمعنى الخلق ، وأنها ذاتية لهم ، وينبغي لك أن تستقرئ أفراد الإنسان هل ترى من تفاوت فيما أخبرتك ؟ لا أظنك تجد ذلك بل كل إنسان وإن كان في تشريع ما ، لا بد له من أوقات تستغرق في حجاب الطبع قلت أو كثرت ، وإن لم يزل مباشراً للأعمال الرسمية ، ومن أوقات تستغرق في حجاب الرسم ، ويهمه حينئذ التشبه بعاقلي قومه كلاما وزيا وخلقا ومعاشرة ، وأوقات يصغي فيها إلى ما كان يسمع ، ولا يصغي من أحاديث الجبروت والتدبير الغيبي في العالم . والله أعلم . ( باب طريق رفع هذه الحجب ) اعلم أن تدبير حجاب الطبع شيآن : أحدهما يؤمر به ، ويرغب فيه ، ويحث عليه ، والثاني يضرب عليه من فوقه ، ويؤاخذ به ، أنشاء أم أبى . فالأول رياضات تضعف البهيمية كالصوم والسهر ، ومن الناس من أفرط ، واختار تغيير خلق الله مثل قطع الآت التناسل ، وجفيف عضو شريف كاليد والرجل ، وأولئك جهال العباد ، وخير الأمور وسطها ، وإنما الصوم والسهر بمنزلة دواء سمى يجب أن يتقدر بقدر ضروري . والثاني إقامة الإنكار على من اتبع الطبيعة ، فخالف السنة الراشدة ، وبيان طريق التفصي من كل غلبة طبيعية ، وضرب سنة له ، ولا ينبغي أن
____________________
(1/118)
يضيق على الناس كل الضيق ، ولا يكفي في الكل الإنكار القولي ، بل لا بد من ضرب وجيع وغرامة منهكة في بعض الأمور ، والأليق بذلك إفراطات فيها ضرر متعد كالزنا والقتل . وتدبير حجاب الرسم شيآن : أحدهما أن يضم مع كل ارتفاق ذكر الله تعالى تارة وحفظ ألفاظ يؤمر بها ، وتارة بمراعاة حدود وقيود لا يراعى إلا الله والثاني أن يجعل أنواع من الطاعات رسما فاشيا ، ويسجل على المحافظة عليها ، أشاء أم أبى ، ويلام على تركها ، ويكبح عن المرغوبات من الجاه وغيره جزاء لتفويتها ، فبهذين التدبيرين تندفع غوائل الرسم ، وتصير مؤيدة لعبادة الله تعالى ، وتصير السنة تدعو إلى الحق . وسوء المعرفة بكلا قسميه ينشأ من سببين : أحدهما لا يستطيع أن يعرف ربه حق معرفته ، لتعاليه عن صفات البشر جدا وتنزهه عن سمة المحدثات والمحسوسات وتدبيره ألا يخاطبوا إلا بما تسعه أذهانهم . والأصل في ذلك أنه ما من موجود ، أو معدوم متحيز ، أو مجرد إلا يتعلق علم الإنسان به ، إما بحضور صورته ، أو بنحو التشبيه والمقايسة حتى العدم المطلق والمجهول المطلق ، فيعلم العدم من جهة معرفة الوجود وملاحظة عدم الاتصاف به ، ويعلم مفهوم المشتق على صيغة المفعول ، ويعلم مفهوم المطلق ، فيجمع هذه الأشياء ، ويضم بعضها إلى بعض ، فينتظم صورة تركيبية هي مكشاف البسيط المقصود تصوره الذي لا وجود له في الخارج ولا في الأذهان ، كما أنه ربما يتوجه إلى مفهوم نظري ، فيعمد إلى ما يحسبه جنسا وإلى ما يحسبه فصلا ، فيركبهما فيحصل صورة مركبة هي مكشاف المطلوب تصوره ، فيخاط وا مثلا بأن الله تعالى موجود ، لا كوجودنا ، وبأنه حي ، لا كحياتنا ، وبالجملة فيعمد إلى صفات هي مورد المدح في الشاهد ،
____________________
(1/119)
ويلاحظ ثلاثة مفاهيم فيما نشاهد ، شيء فيه هذه الصفات ، وقد صدرت من آثارها ، وشيء ليست فيه وليست من شأنه ، وشيء ليست فيه ومن شأنه أن تكون فيه كالحي والجماد والميت ، فيثبت هذه بثبوت آثارها ، ويجبر هذه التشبيه بأنه ليس كمثلنا . والثاني تمثل الصورة المحسوسة بزينتها واللذات بجمالها وامتلاء القوى العلمية بالصور الحسية ، فينقاد قلبه لذلك ، ولا يصفو التوجه إلى الحق وتدبير هذه رياضات وأعمال يستعد بها الإنسان للتجليات الشامخة ، ولو في المعاد واعتكافات وإزالة للشاغل بقدر الإمكان ، كما هتك رسول الله صلى الله عليه وسلم القرام المصور ونزع خميصه فيها أعلام والله أعلم . ( المبحث الخامس ) ( مبحث البر والإثم ) ( مقدمة في بيان حقيقة البر والإثم ) إذ قد ذكرنا لمية المجازاة وإنيتها ، ثم ذكرنا الارتفاقات التي جبل عليها البشر ، فهي مستمرة فيهم لا تنفك عنهم ، ثم ذكرنا السعادة وطريق اكتسابها ، حان أن نشتغل بتحقيق معنى البر والإثم . فالبر كل عمل يفعله الإنسان قضية لإنقياد للملأ الأعلى واضمحلاله في تلقي الإلهام من الله وصيرورته فانيا في مراد الحق ، وكل عمل يجازى عليه
____________________
(1/120)
خيرا في الدنيا أو الآخرة ، وكل عمل يصلح الارتفاقات الني بنى عليها نظام الإنسان ، وكل عمل يفيد حالة الانقياد ، ويدفع الحجب . والإثم كل عمل يفعله الإنسان قضية لانقياده للشيطان وصيرورته فانيا في مراده ، وكل عمل يجازى عليه شرا في الدنيا والآخرة ، وكل عمل يفسد الارتفاقات وكل عمل يفيد هيئة مضادة للانقياد ، ويؤكد الحجب . وكما أن الارتفاقات استنبطها أولو الخبرة ، فاقتدى بهم الناس بشهادة قلوبهم . واتفق عليه أهل الأرض ، أو من يعتد به منهم ، فكذلك للبر سننن ألهمها الله تعالى في قلوب المؤيدين في بالنور الملكي الغالب عليهم خلق الفطرة بمنزلة ما ألهم في قلوب النحل ما يصلح به معاشها ، فجروا عليها ، وأخذوا بها وأرشدوا إليها وحثوا عليها ، فاقتدى بهم الناس ، واتفق عليها أهل الملل جميعها في أقطار الأرض على تباعد بلدانهم واختلاف أديانهم بحكم مناسبة فطرية واقتضاء نوعي ، ولا يضر ذلك اختلاف صور تلك السنن بعد الاتفاق على أصولها ، ولا صدود طائفة مخدجة لو تأمل فيهم أصحاب البصائر لم يشكو أن مادتهم عصت الصورة النوعية ، ولم تمكن لأحكامها ، وهم في الإنسان كالعضو الزائد في الجسد ، زواله أجمل له من بقائه . ولشيوع هذه السنن أسباب جليلة ، وتدبيرات محكمة أحكمها المؤيدون بالوحي صلوات الله عليهم ، فأثبتوا لهم منة عظيمة في رقاب الناس ، ونحن نريد أن ننبهك على أصول هذه السنن مما أجمع عليه جمهور أهل الأقاليم الصالحة من الأمم العظيمة التي يجمع كل واحدة أقواما من المتألهين والملوك والحكماء ذوي الرأي الثاقب من عربهم وعجمهم ويهودهم ومجوسهم وهنودهم ونشرح كيفية توليدها في انقياد البهيمية للقوة الملكية ، وبعض فوائدها حسبما جربنا على أنفسنا غير مرة ، وأدى إليه العقل السليم ، والله أعلم .
____________________
(1/121)
( باب التوحيد ) أصل أصول البر ، وعمدة أنواعه هو التوحيد ، وذلك لأنه يتوقف عليه الإخبات لرب العالمين ، الذي هو أعظم الأخلاق الكاسبة للسعادة وهو أصل التدبير العلمي الذي هو أفيد التدبيرين ، وبه يحصل للإنسان التوجه التام تلقاء الغيب ، ويستعد نفسه للحوق به بالوجه المقدس ، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على عظم أمره ، وكونه من أنواع البر بمنزلة القلب إذا صلح صلح الجميع ، وإذا فسد فسد الجميع ، حيث أطلق القول فيمن مات لا يشرك بالله شيء شيئاً أنه دخل الجنة ، أو حرمه الله على النار ، أو لا يحجب من الجنة ونحو ذلك من العبارات ، وحكى عن ربه تبارك وتعالى ' من لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بالله شيئا لقيته بمثلها مغفرة ' . واعلم أن التوحيد أربع مراتب . إحداها : حصر وجوب الوجود فيه تعالى ، فلا يكون غيره واجبا . والثانية : حصر خلق العرش والسموات والأرض وسائر الجواهر فيه تعالى ، وهاتان المرتبتان لم تبحث الكتب الإلهية عنهما ، ولم يخالف فيهما مشركو العرب ، ولا اليهود ، ولا النصارى ، بل القرآن العظيم ناص على أنهما من المقدمات المسلمة عندهم . والثالثة : حصر تدبير السموات والأرض وما بينهما فيه تعالى . والرابعة : أنه لا يستحق غيره العبادة ، وهما متشابكتان متلازمتان لربط طبيعي بينهما . وقد اختلف فيهما طوائف من الناس معظمهم ثلاثة فرق : النجامون ذهبوا إلى أن النجوم تستحق العبادة ، وأن عبادتها تنفع في
____________________
(1/122)
الدنيا ، ورفع الحاجات إليها حق ، قالوا : قد تحققنا أن لها أثرا عظيما في الحوادث اليومية وسعادة المرء وشقاوته وصحته وسقمه ، وأن لها نفوساً مجردة عاقلة تبعثها على الحركة ، ولا تغفل عن عبادها ، فبنوا هيا كل على أسمائها وعبدوها والمشركون وافقوا المسلمين في تدبير الأمور العظام ، وفيما أبرم وجزم ، ولم يترك لغيره خيرة ، ولم يوافقوهم في سائر الأمور ، ذهبوا إلى أن الصالحين من قبلهم عبدوا الله وتقربوا إليه فأعطاهم الله الألوهية ، فاستحقوا العبادة من سائر خلق الله ، كما أن ملك الملوك يخدمه عبده ، فيحسن خدمته ، فيعطيه خلعة الملك ، ويفوض إليه تدبير بلد من بلاده ، فيستحق السمع والطاعة من أهل ذلك البلد ، وقالوا : لا تقبل عبادة الله إلا مضمومة بعبادتهم بل الحق في غاية التعالي ، فلا تفيد عبادته تقربا منه ، بل لا بد من عبادة هؤلاء ليقربوا إلى الله زلفى ، وقالوا هؤلاء يسمعون ، ويبصرون ، ويشفعون لعبادهم ، ويدبرون أمورهم ، وينصرونهم ، فنحتوا على أسمائهم أحجارا ، وجعلوها قبلة عند توجههم إلى هؤلاء ، فخلف من بعدهم خلف ، فلم يفطنوا للفرق بين الأصنام وبين من هي على صورته ، فظنوها معبودات بأعيانها ، ولذلك رد الله تعالى عليهم تارة بالتنبيه على أن الحكم والملك له خاصة ، وتارة ببيان أنها جمادات . ! ( ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها ) ! . والنصارى ذهبوا إلى أن للمسيح عليه السلام قربا من الله ، علوا على الخلق ، فلا ينبغي أن يسمى عبدا ، فيسوى بغيره ، لأن هذا سوء أدب معه واهمال لقربه من الله ، ثم مال بعضهم عند التعبير عن تلك الخصوصية إلى تسميته ابن الله نظرا إلى أن الأب يرحم الابن ، ويربيه على عينيه ، وهو
____________________
(1/123)
فوق العبيد ؛ فهذا الاسم أولى به وبعضهم إلى تسميته بالله نظراً إلى أن الواجب حل فيه ، وصار داخله ، ولهذا يصدر منه آثار لم تعهد من البشر ، مثل إحياء الأموات ، وخلق الطين ، فكلامه كلام الله ، وعبادته هي عبادة الله ، فخلف بعدهم خلف لم يفطنوا لوجه التسمية ، وكادوا يجعلون النبوة حقيقية ، أو يزعمون أنه الواجب من جميع الوجوه ، ولذلك رد الله تعالى عليهم تارة . بأنه لا صاحبة له وتارة بأنه بديع السموات والأرض . ! ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) ! . وهذه الفرف الثلاث لهم دعاوى عريضة وخرافات كثيرة لا تخفى على المتتبع ، وعن هاتين المرتبتين بحث القرآن العظيم ، ورد على الكافرين شبهتهم ردا مشبعا . ( باب في حقيقة الشرك ) اعلم أن العبادة هو التذلل الأقصى ، وكون تذلل أقصى من غيره لا يخلو إما أن يكون بالصورة مثل كون هذا قياما وذلك سجودا ، أو بالنية بأن نوى بهذا الفعل تعظيم العباد لمولاهم ، وبذلك تعظيم الرعية للملوك ، أو التلاميذه للأستاذ لا ثالث لهما ، ولما ثبت سجود التحية من الملائكة لآدم عليه السلام ومن أخوة يوسف ليوسف عليه السلام ، وأن السجود أعلى صور التعظيم ، وجب إلا يكون التميز إلا بالنية ، لكن الأمر إلى الآن غير منقح ؛ إذ المولى مثلا يطلق على معان ، والمراد ههنا المعبود لا محالة ، فقد أخذ في حد العبادة فالتنقيح أن التذلل يستدعي ملاحظة ضعف في الذليل ، وقوة في الآخر ، وخسة في الذليل وشرف في الآخر ، وانقياد واخبات في الذليل ، وتسخير ونفاذ حكم للآخر ، والإنسان إذا خلى ونفسه أدرك لا محالة أنه يقدر للقوة والشرف والتسخير وما أشبهها مما يعبر به عن الكمال قدرين قدراً لنفسه ولمن يشبهه بنفسه ، وقدرا لمن هو متعال عن وصمة الحدوث والإمكان بالكلية .
____________________
(1/124)
ولمن انتقل إليه شيء من خصوصيات هذا المتعالي ، فالعلم بالمغيبات يجعله على درجتين : علم برؤية وترتيب ومقدمات ، أو حدس ، أو منام أو تلقي إلهام مما يجد نفسه لا يباين ذلك بالكلية ، وعلم ذاتي هو مقتضى ذات العالم لا يلقاه من غيره ، ولا يتجشم كسبه ، وكذلك يجعل التأثير والتدبير والتسخير . أي لفظ قلت على درجتين : بمعنى المباشرة واستعمال الجوارح والقوى والاستعانة بالكيفيات المزاجية كالحرارة والبرودة وما أشبه ذلك مما يجد نفسه مستعد له استعداداً قريبا أو بعيدا ، وبمعنى التكوين من غير كيفيه جسمانية ولا مباشرة شيء وهو قوله تعالى : ! ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) ! وكذلك يجعل العظمة والشرف والقوة على درجتين : إحداهما كعظمة الملك بالنسبة إلى رعيته مما يرجع إلى كثرة الأعوان وزيادة الطول ، أو عظمة البطل و الأستاذ بالنسبة إلى ضعيف البطش والتلميذ مما يجد نفسه يشارك العظم في أصل الشيء ، وثانيتهما ما لا يوجد إلا في المتعالي جدا ، ولا تن في تفتيش هذا السر حتى تستيقن أن المعترف بانصرام سلسلة الإمكان إلى واجب لا يحتاج إلى غيره يضطر إلى جعل هذه الصفات التي يتمادحون بها على درجتين درجة لما هنالك ودرجة لما يشبهه بنفسه . ولما كانت الألفاظ المستعملة في الدرجتين متقاربة ، فربما يحمل نصوص الشرائع الإلهية على غير محملها ، وكثيرا ما يطلع الإنسان على آثر صادر من بعض أفراد الإنسان أو الملائكة أو غيرهما يستبعده من أبناء جنسه ، فيشتبه عليه الأمر ، فيثبت له شرفا مقدسا وتسخيرا إلهيا ، وليسوا في معرفة الدرجة المتعالية سواء ، فمنهم من يحيط بقوى الأنوار المحيطة الغالبة على المواليد ، ويعرفها من جنسه ، ومنهم من لا يستطيع ذلك ، وكل إنسان
____________________
(1/125)
مكلف بما عنده من الاستطاعة ، وهذا تأويل ما حكاه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم من نجاة مسرف على نفسه أمر أهله بحرقه ، وتذرية رماده حذرا من أن يبعثه ، الله ، ويقدر عليه فهذا الرجل استيقن بأن الله متصف بالقدرة التامة ، لكن القدرة إنما هي من الممكنات ، لا في الممتنعات ، وكان يظن أن جمع الرماد المتفرق نصفه في البر ونصفه في البحر ممتنع ، فلم يجعل ذلك نقصا ، فأخذ بقدر ما عنده من العلم ، ولم يعد كافرا - كان التشيبه والاشراك بالنجوم وبصالحي العباد الذين ظهر منهم خرق العوائد كالكشف واستجابة الدعاء متوارثا فيهم ، وكل نبي يبعث في قومه فإنه لا بد أن يفهمهم حقيقة الاشراك ، ويميز كلا من الدرجتين ، ويحصر الدرجة المقدسة في الواجب ، وإن تقاربت الألفاظ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لطبيب ' إنما أنت رفيق والطبيب هو الله ' وكما قال ' السيد هو الله ' يشير إلى بعض المعاني دون بعض ، ثم لما انقرض الحواريون من أصحابه وحملة دينه خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة ، واتبعوا الشهوات ، فحملوا الألفاظ المستعملة المشتبهة على غير محملها ، كما حملوا المحبوبية والشفاعة التي أثبتها الله تعالى في قاطبة الشرائع لخواص البشر على غير محملها ، وكما حملوا صدور خرق العوائد والاشراقات على انتقال العلم والتسخير الاقصيين إلى هذا الذي يرى منه ، والحق أن ذلك كله يرجع إلى قوى ناسوتية ، أو روحانية تعد لنزول التدبير الإلهي على وجه ، وليس من الإيجاد والأمور المختصة بالواجب في شيء . والمرضى بهذا المرض على أصناف : منهم من نسي جلال الله بالكلية ، فجعل لا يعبد إلا الشركاء ، ولا يرفع حاجته إلا إليهم ، لا يلتفت إلى الله أصلا ، وإن كان يعلم بالنظر البرهاني أن سلسلة الوجود تنصرم إلى الله ، ومنهم من اعتقد أن الله هو السيد وهو المدبر ، لكنه قد يخلع على بعض
____________________
(1/126)
عبيده لباس الشرف والتأله ، ويجعله متصرفا في بعض الأمور الخاصة ، ويقبل شفاعته في عباده بمنزلة ملك الملوك يبعث على كل قطر ملكا ، ويقلده تدبير تلك المملكة فيما عدا الأمور العظام ، فيتلجلج لسانه أن يسميهم عباد الله ، فيسويهم وغيرهم ، فعدل عن ذلك إلى تسميتهم أبناء الله ومحبوبي الله ، وسمى نفسه عبداً لأولئك كعبد المسيح وعبد العزى ، وهذا مرض جمهور اليهود والنصارى والمشركين وبعض الغلاة من منافقي دين محمد صلى الله عليه وسلم يومنا هذا . ولما كان مبنى التشريع على إقامة المظنة مقام الأصل عد أشياء محسوسة هي مظان الاشراك كفرا ، كسجدة الأصنام ، والذبح لها ، والحلف باسمها ، وأمثال ذلك ، وكان أول فتح هذا العلم على أن رفع لي قوم يسجدون لذباب صغير سمى لا يزال يحرك ذنبه وأطرافه ، فنفث في قلبي هل تجد فيهم ظلمة الشرك ، وهل أحاطت الخطيئة بأنفسهم كما تجدها في عبدة الأوثان ؟ قلت لا أجدها فيهم لأنهم جعلوا الذباب قبلة ولم يخلطوا درجة تذلل بالأخرى قيل فقد هديت إلى السر فيومئذ ملئ قلبي بهذا العلم ، وصرت على بصيرة من الأمر ، وعرفت حقيقة التوحيد والاشراك ، وما نصبه الشرع مظان لهما ، وعرفت ارتباط العبادة بالتدبير والله أعلم . ( باب أقسام الشرك ) حقيقة الشرك أن يعتقد إنسان في بعض المعظمين من الناس أن الآثار العجيبة الصادرة منه إنما صدرت لكونه متصفا بصفة من صفات الكمال مما لم يعهد في جنس الإنسان ، بل يختص بالواجب جل مجده لا يوجد في غيره إلا أن يخلع هو خلعة الألوهية على غيره ، أو يغني غيره في ذاته
____________________
(1/127)
ويبقى بذاته أو نحو ذلك مما يظنه هذا المعتقد من أنواع الخرافات ، كما ورد في الحديث ' إن المشركين كانوا يلبون بهذه الصيغة : لبيك لبيك لا شريك لك - إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ' فيتذلل عنده أقصى التذلل ، ويعامل معه معاملة العباد مع الله تعالى . وهذا معنى له أشباح وقوالب ، والشرع لا يبحث إلا عن أشباحه وقوالبه التي باشرها الناس بنية الشرك حتى صارت مظنة للشرك ولازمه له في العادة ، كسنة الشرع في إقامة العلل المتلازمة للمصالح والمفاسد مقامها . ونحن نريد أن ننبهك على أمور جعلها الله تعالى في الشريعة المحمدية ، على صاحبها الصلوات والتسليمات مظنات للشرك ، فنهى عنها . فمنها أنهم كانوا يسجدون للأصنام والنجوم ، فجاء النهي عن السجدة لغير الله قال الله تعالى : ! ( لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن ) ! . والاشراك في السجدة كان متلازما للاشراك في التدبير كما أومأنا إليه ، وليس الأمر كما يظن بعض المتكلمين من أن توحيد العبادة حكم من أحكام الله تعالى مما يختلف باختلاف الأديان لا يطلب بدليل برهاني ، كيف ولو كان كذلك لم يلزمهم الله تعالى بتفرده بالتخليق والتدبير ، كما قال عز من قائل : ! ( قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير ) ! . إلى آخر خمسى آيات ، بل الحمق أنهم اعترفوا بتوحيد الخلق وبتوحيد التدبير في الأمور العظام ، وسلموا أن العبادة متلازمه معهما ، لما أشرنا إليه في تحقيق معنى التوحيد فلذلك ألزمهم الله بما ألزمهم ولله الحجة البالغة .
____________________
(1/128)
ومنها أنهم كانوا يستعينون بغير الله في حوائجهم من شفاء المريض وغناء الفقير ، وينذرون لهم ، يتوقعون إنجاح مقاصدهم بتلك النذور ، ويتلون اسماءهم رجاء بركتها ، فأوجب الله تعالى عليهم أن يقولوا في صلاتهم : ! ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ! . وقال تعالى : ! ( فلا تدعوا مع الله أحدا ) ! . وليس المراد من الدعاء العبادة كما قاله المفسرون ، بل هو الاستعانة لقوله تعالى : ! ( بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون ) ! . ومنها أنهم كانوا يسمون بعض شركائهم بنات الله وأبناء الله ، فنهو عن ذلك أشد النهي ، وقد شرحنا سره من قبل . ومنها أنهم كانوا يتخذون أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله تعالى بمعنى أنهم كانوا يعتقدون أن ما أحله هؤلاء حلال لا بأس به في نفس الأمر وأن ما حرمه هؤلاء حرام يؤاخذون به في نفس الأمر ، ولما نزل قوله تعالى : ! ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم ) ! . الآية سأل عدي بن حاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : ' كانوا يحلون لهم أشياء ، فيستحلونها ، ويحرمون عليهم أشياء ، فيحرمونها . وسر ذلك أن التحليل والتحريم عبارة عن تكوين نافذ في الملكوت أن الشيء الفلاني يؤاخذ به أو لا يؤاخذ به ، فيكون هذا التكوين سببا للمؤاخذة وتركها ، وهذا من صفات الله تعالى ، وأما نسبة التحليل والتحريم
____________________
(1/129)
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبمعنى أن قوله أمارة قطعية لتحليل الله وتحريمه و ، أما نسبتها إلى المجتهدين من أمته فبمعنى روايتهم ذلك عن الشرع من نص الشارع أو استنباط معنى من كلامه . واعلم أن الله تعالى إذا بعث رسولا وثبت رسالته بالمعجزة ، وأحل على لسانه بعض ما كان حراما عندهم ، ووجد بعض الناس في نفسه انجحاما عنه ، وبقي في نفسه ميل إلى حرمته لما وجد في ملته من تحريمه فهذا على وجهين : إن كان لتردد في ثبوت هذه الشريعة ، فهو كافر بالنبي ، وإن كان لاعتقاد وقوع التحريم الأول تحريما لا يحتمل النسخ لأجل أنه تبارك وتعالى خلع على عبد خلعة الألوهية ، أو صار فانيا في الله باقيا به ، فصار نهيه عن فعل أو كراهيته له مستوجبا لحرم في ماله وأهله ، فذلك مشرك بالله تعالى ، مثبت لغيره غضبا وسخطا مقدسين وتحليلا وتحريما مقدسين . ومنها أنهم كانوا يتقربون إلى الأصنام والنجوم بالذبح لأجلهم ، إما بالاهلال عند الذبائح باسمائهم ، وأما بالذبح على الأنصاب المخصوصة لهم ، فنهوا عن ذلك ، ومنها أنهم كانوا يسيبون السوائب والبحائر تقربا إلى شركائهم فقال الله تعالى : ! ( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ) ! . الآية ومنها أنهم كانوا يعتقدون في آناس أن أسماءهم مباركة معظمة ، وكانوا يعتقدون أن الحلف باسمائهم على الكذب يستوجب حرما في ماله وأهله ، فلا يقدمون على ذلك ، ولذلك كانوا يستحلفون الخصوم بأسماء الشركاء بزعمهم ، فنهو عن ذلك وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من حلف بغير الله فقد أشرك ' وقد فسره بعض المحدثين على معنى التغليظ والتهديد ، ولا أقول
____________________
(1/130)
بذلك وإنما المراد عندي اليمين المنعقدة واليمين الغموس باسم غير الله تعالى على اعتقاد ما ذكرنا . ومنها الحج لغير الله تعالى ، وذلك أن يقصد مواضع متبركة مختصة بشركائهم يكون الحلول بها تقربا من هؤلاء ، فنهى الشرع عن ذلك ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ' لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ' . ومنها أنهم كانوا يسمون ابناءهم عبد العزى وعبد شمس ونحو ذلك فقال الله : ! ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها ) ! . وجاء في الحديث أن حواء سمت ولدها عبد الحرث وكان ذلك من وحي الشيطان ، وقد ثبت في أحاديث لا تحصى أن النبي صلى الله عليه وسلم غير أسماء أصحابه عبد العزيز وعبد شمس ونحوهما إلى عبد الله وعبد الرحمن وما أشبههما ، فهذه أشباح وقوالب للشرك نهى الشارع عنها لكونها قوالب له ، والله أعلم . ( باب الإيمان بصفات الله تعالى ) اعلم أن من أعظم أنواع البر الإيمان بصفات الله تعالى ، واعتقاد اتصافه بها ، فإنه يفتح بابا بين هذا العبد وبينه تعالى ويعده لانكشاف ما هنالك من المجد والكبرياء . واعلم أن الحق تعالى أجل من أن يقاس بمعقول ، أو محسوس ، أو يحل فيه صفات كحلول الأعراض في محالها أو تعالجه العقول العامية ، أو تتناوله الألفاظ العرفية ، ولا بد من تعريفه إلى الناس ، ليكملوا كمالهم
____________________
(1/131)
الممكن لهم ، فوجب أن تستعمل الصفات بمعنى وجود غايتها ، لا بمعنى وجود مباديها ، فمعنى الرحمة إفاضة النعم ، لا انعطاف القلب والرقة ، وأن تستعار ألفاظ تدل على تسخير الملك لمدينته لتخسيره لجميع الموجودات ، إذ لا عبارة في هذا المعنى أفصح من هذه ، وأن تستعمل تشبيهات بشرط ألا يقصد إلى أنفسها ، بل إلى معان مناسبة لها في العرف ، فيراد ببسط اليد الجود مثلا ، وبشرط ألا يوهم المخاطبين إيهاما صريحا أنه في ألواث البهيمية وذلك يختلف باختلاف المخاطبين ، فيقال يرى ، ويسمع ، ولا يقال يذوق ، ويلمس ، وأن يسمي إفاضة كل معان متفقه في أمر باسم ، كالرزاق والمصور ، وأن يسلب عنه كل ما لا يليق به لا سيما ما لهج به الظالمون في حقه مثل لم يلد ولم يولد ، وقد أجمعت الملل السماوية قاطبتها على بيان الصفات على هذا الوجه ، وعلى أن تستعمل تلك العبارات على وجهها ، ولا يبحث عنها أكثر من استعمالها ، وعلى هذا مضت القرون المشهود لها بالخير ، ثم خاض طائفة من المسلمين في البحث عنها ، وتحقيق معانيها من غير نص ، ولا برهان قاطع ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ' تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق ' وقال في قوله تعالى : ! ( وأن إلى ربك المنتهى ) ! . ' لا فكرة في الرب ' . والصفات ليست بمخلوقات محدثات ، والتفكر فيها إنما هو أن الحق كيف اتصف بها ، فكان تفكر في الخالق ، قال الترمذي في حديث ' يد
____________________
(1/132)
الله ملأى ' ، وهذا الحديث قال الأئمة نؤمن كما جاء من غير أن يفسر أو يتوهم هكذا قال غير واحد من الأئمة ، منهم سيفان الثوري ، ومالك بن أنس ، وابن عيينة ، وابن المبارك : أنه تروى هذه الأشياء ويؤمن بها ، ولا يقال كيف وقال في موضع آخر : إن إجراء هذه الصفات كما هي ليس بتشبيه ، وإنما التشبيه أن يقال : سمع كسمع وبصر كبصر ، وقال الحافظ ابن حجر : لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة من طريق صحيح التصريح بوجوب تأويل شيء من ذلك يعنى المتشابهات ولا المنع من ذكره ومن المحال أن يأمر الله نبيه بتبليغ ما أنزل إليه من ربه ، وينزل عليه : ! ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ! . ثم يترك هذا الباب فلا يميز ما يجوز نسبته إليه تعالى مما لا يجوز مع حثه على التبليغ عنه بقوله : ' ليبلغ الشاهد الغائب ' حتى نقلوا أقواله وأفعاله وأحواله وما فعل بحضرته ، فدل على أنهم اتفقوا على الإيمان به على الوجه الذي أراد الله تعالى منها ، وأوجب تنزيهه عن مشابهات المخلوقات بقوله : ( ليس كمثله شيء ) . فمن أوجب خلاف ذلك بعدهم ، فقد خالف سبيلهم . أقول لا فرق بين السمع والبصر والقدرة والضحك والكلام والاستواء فإن المفهوم عند أهل اللسان من كل ذلك غير ما يليق بجناب القدس ، وهل في الضحك استحالة إلا من جهة أنه يستدعي الفم ، وكذلك الكلام ؟ وهل في البطش والنزول استحالة إلا من جهة أنهما يستدعيان اليد والرجل ؟ وكذلك السمع والبصر يستدعيان الأذن والعين ، والله أعلم . واستطال هؤلاء الخائضون على معشر أهل الحديث ، وسموهم مجسمة
____________________
(1/133)
ومشبهة ، وقالوا هم المتسترون بالبلكفة ، وقد وضح علي وضوحا بينا أن استطالتهم هذه ليست بشيء وانهم مخطئون في مقالتهم رواية ودراية وخاطئون في طعنهم أئمة الهدى . وتفصيل ذلك أن ههنا مقامين : أحدهما أن الله تبارك وتعالى كيف اتصف بهذه الصفات ، وهل هي زائدة على ذاته أو عين ذاته ؟ وما حقيقة السمع والبصر والكلام وغيرها ؟ فإن المفهوم من هذه الألفاظ بادي الرأي غير لائق بجناب القدس . والحق في هذا المقام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم فيه بشيء ، بل حجر أمته عن التكلم فيه والبحث عنه فليس لأحد أن يقدم على ما حجره ، والثاني أنه أي شيء يجوز في الشرع أن نصفه تعالى به وأي شيء لا يجوز أن نصفه به ، والحق أن صفاته وأسماءه توقيفيه بمعنى أنا وإن عرفنا القواعد التي بنى الشرع بيان صفاته تعالى عليها كما حررنا في صدر الباب ، لكن كثيرا من الناس لو أبيح لهم الخوض في الصفات لضلوا ، وأضلوا ، وكثير من الصفات وإن كان الوصف بها جائزا في الأصل ، لكن قوما من الكفار حملوا تلك الألفاظ على غير محملها . وشاع ذلك فيما بينهم ، فكان حكم الشرع النهي عن استعمالها دفعا لتلك المفسدة ، وكثير من الصفات يوهم استعمالها على ظواهرها خلاف المراد ، فوجب الاحتراز عنها فلهذه الحكم جعلها الشرع توقيفية ، ولم يبح الخوض فيها بالرأي . وبالجملة فالضحك والفرح والتبشبش والغضب والرضا يجوز لنا استعمالها والبكاء والخوف ونحو ذلك لا يجوز لنا استعمالها ، وإن كان المأخذان متقاربين ، والمسألة على ما حققناه معتضدة بالعقل والنقل لا يحوم الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، والاطالة في إبطال اقوالهم ومذاهبهم لها موضع آخر غير هذا الموضع .
____________________
(1/134)
ولنا أن نفسرها بمعان هي أقرب وأوفق مما قالوا إبانه لأن تلك المعاني لا يتعين القول بها ، ولا يضطر الناظر في الدليل العقلي إليها ، وأنها ليست راجحة على غيرها ولا فيها مزية بالنسبة إلى ما عداها ، لا حكما بأن مراد الله ما نقول ، ولا إجماعا على الاعتقاد بها والإذعان بها هيهات ذلك ، فنقول مثلا لما كان بين يديك ثلاثة أنواع حي وميت وجماد ، وكان الحي أقرب شبها بما هنالك لكونه عالما مؤثرا في الخلق وجب أن يسمى حيا ، ولما كان العلم عندنا هو الانكشاف ، وقد انكشفت عليه الأشياء كلها بما هي مندمجة في ذاته ، ثم بما هي موجودة تفصيلا وجب أن يسمى عليما ، ولما كانت الرؤية والسمع انكشافا تاما للمبصرات والمسموعات ، وذلك هناك بوجه أتم وجب أن يسمى بصيرا سميعا ، ولما كان قولنا أراد فلان إنما نعني به هاجس عزم على فعل أو ترك ، وكان الرحمن يفعل كثيرا من أفعاله عند حدوث شرط أو استعداد في العالم ، فيوجب عند ذلك ما لم يكن واجبا ، ويحصل في بعض الأحياز الشاهقة إجماع بعد ما لم يكن بإذنه وحكمه وجب أن يسمى مريدا وأيضا فالارادة الواحدة الأزلية الذاتية المفسرة باقتضاء الذات لما تعلقت بالعالم بأسره مرة واحدة ، ثم جاءت الحوادث يوما بعد يوم صح أن ينسب إلى كل حادث حادث عن حدته ، ويقال أراد كذا وكذا ، ولما كان قولنا قدر فلان إنما نعني به أنه يمكن له أن يفعل ولا يصده من ذلك سبب خارج ، أما إيثار أحد المقدورين من القادر فإنه لا ينفي اسم القدرة ، وكان الرحمن قادرا على كل شيء ، وإنما يؤثر بعض الأفعال دون أضداده لعنايته واقتضائه الذاتي وجب أن يسمى قادرا ، ولما كان قولنا كلم فلان إنما نعني به إفاضة المعاني المرادة ، مقرونة بألفاظ دالة عليها ، وكان الرحمن ربما يفيض على عبده علوما ، ويفيض معها ألفاظا منعقدة في خياله ، دالة عليها ليكون التعليم أصرح ما يكون وجب أن يسمى متكلما قال الله تعالى :
____________________
(1/135)
! ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ) ! . فالوحي هو النفث في الروع برؤيا ، أو خلق علم ضروري عند توجهه إلى الغيب ، ومن وراء حجاب أن يسمع كلاما منظوما كأنه سمعه من خارج ، ولم ير قائله ، أو يرسل رسولا ، فيتمثل الملك له ، وربما يحصل عند توجهه إلى الغيب وانقهار الحواس صوت صلصة الجرس كما قد يكون عند عروض الغشى من رؤية ألوان حمر وسود . ولما كان في حظيرة القدس نظام ، مطلوبة إقامته في البشر ، فإن وافقوه لحقوا بالملأ الأعلى ، وأخرجوا من الظلمات إلى نور الله وبسطته ، ونعموا في أنفسهم ، وألهمت الملائكة بنو آدم أن يحسنوا إليهم ، وإن خالفوا باينوا من الملأ الأعلى ، وأصيبوا ببغضه منهم ، وعذبوا بنحو ما ذكر ، وجب أن يقال رضي وشكر ، أو سخط ولعن ، والكل يرجع إلى جريان العالم حسب مقتضى المصلحة ، وربما كان من نظام العالم خلق المدعو إليه فيقال استجاب الدعاء ، ولما كانت الرؤيا في استعمالنا انكشاف المرئي أتم ما يكون ، وكان الناس إذا انتقلوا إلى بعض ما وعدوا من المعاد اتصلوا بالتجلي القائم وسط عالم المثل ، ورأوه رأي عين بأجمعهم ، وجب أن يقال إنكم سترونه كما ترون القمر ليلة البدر ، والله أعلم . ( باب الإيمان بالقدر ) من أعظم أنواع البر الإيمان بالقدر ، وذلك أنه به يلاحظ الإنسان التدبير الواحد الذي يجمع العالم ومن اعتقده على وجهه يصير طامح البصر
____________________
(1/136)
إلى ما عند الله ، يرى الدنيا وما فيها كالظل له ، ويرى اختيار العباد من قضاء الله كالصورة المنطبعة في المرآة ، وذلك يعد له - لانكشاف ما هنالك من التدبير الوحداني ، ولو في المعاد - أتم إعداد ، وقد نبه صلى الله عليه وسلم على عظم أمره من بين أنواع البر حيث قال : ' من لم يؤمن بالقدر خيره وشره ، فأنا برئ منه ' وقال صلى الله عليه وسلم : ' لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ' . واعلم أن الله تعالى شمل علمه الأزلي الذاتي كل ما وجد ، أو سيوجد من الحوادث ، محال أن يتخلف علمه عن شيء أو يتحقق غير ما علم ، فيكون جهلا لا علما ، وهذه مسألة شمول العلم ، وليست بمسألة القدر ولا يخالف فيها فرقة من الفرق الإسلامية ، إنما القدر الذي دلت عليه الأحاديث المستفيضة ، ومضى عليه السلف الصالح ، ولم يوفق له إلا المحققون ، ويتجه عليه السؤال بأنه متدافع مع التكليف ، وأنه فيم العمل - هو القدر الملزم الذي يوجب الحوادث قبل وجودها ، فيوجد بذلك الإيجاب ، لا يدفعه هرب ، ولا تنفع منه حيلة ، وقد وقع ذلك خمس مرات . فأولها : أنه أجمع في الأزل أن يوجد العالم على أحسن وجه ممكن مراعيا للمصالح ، مؤثرا لما هو الخير النسبي حين وجوده ، وكان علم الله ينتهي إلى تعيين صورة واحدة من الصور لا يشاركها غيرها ، فكانت الحوادث سلسلة مترتبة ، مجتمعا وجودها ، لا تصدق على كثيرين ، فإرادة إيجاد العالم ممن لا تخفى عليه خافية هو بعينه تخصيص صورة وجوده إلى آخر ما ينجر إليه الأمر . وثانيها : أنه قدر المقادير ، ويروى أنه كتب مقادير الخلائق كلها ، والمعنى واحد قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وذلك أنه خلق
____________________
(1/137)
الخلائق حسب العناية الأزلية في خيال العرش ، فصور هنالك جميع الصور ، وهو المعبر عنه بالذكر في الشرائع ، فتحقق هنالك مثلا صورة محمد صلى الله عليه وسلم ، وبعثه إلى الخلق في وقت كذا ، وانذاره لهم وإنكار أبي لهب وإحاطة الخطيئة بنفسه في الدنيا ، ثم اشتعال النار عليه في الآخرة ، وهذه الصورة سبب لحدوث الحوادث على نحو ما كانت هنالك كتأثير الصورة ، المنتقشة في أنفسنا في زلق الرجل على الجذع الموضوع فوق الجدران ، ولم تكن لتزلق لو كانت على الأرض . وثالثها : أنه لما خلق آدم عليه السلام ليكون أبا البشر ، وليبدأ منه نوع الإنسان أحدث في عالم المثال صور بنيه ومثل سعادتهم وشقاوتهم بالنور والظلمة ، وجعلهم بحيث يكلفون ، وخلق فيهم معرفته والاخبات له ، وهو أصل الميثاق المدسوس في فطرتهم ، فيؤاخذون به ، وإن نسوا الواقعة إذا النفوس المخلوقة في الأرض إنما هي ظل الصور الموجودة يومئذ ، فمدسوس فيها ما دس يومئذ . ورابعها حين نفخ الروح في الجنين ، فكما أن النواة إذا ألقيت في الأرض في وقت مخصوص ، وأحاط بها تدبير مخصوص علم المطلع على خاصية نوع النخل ، وخاصية تلك الأرض وذلك الماء والهواء أنه يحسن نباتها ، ويتحقق من شأنه على بعض الأمر ، فكذلك تتلقى الملائكة المدبرة يومئذ ، وينكشف عليهم الأمر في عمره ورزقه ، وهل يعمل عمل من غلبت ملكيته على بهيميته ، أو بالعكس ، وأي نحو تكون سعادته وشقاوته . وخامسها : قبيل حدوث الحادثة ، فينزل الأمر من حظيرة القدس إلى الأرض ، وينتقل شيء مثالي ، فتنبسط أحكامه في الأرض . وقد شاهدت ذلك مرارا ، منها أن ناسا تشاجروا فيما بينهم ، وتحاقدوا ،
____________________
(1/138)
فالتجأت إلى الله ، فرأيت نقطة مثالية نورانية نزلت من حظيرة القدس إلى الأرض فجعلت تنبسط شيئا فشيئا ، وكلما انبسطت زال الحقد عنهم فما برحنا المجلس حتى تلاطفوا ، ورجع كل واحد منهم إلى ما كان من الالفة ، وكان ذلك من عجيب آيات الله عندي . ومنها أن بعض أولادي كان مريضا وكان خاطري مشغولا به ، فبينما أنا أصلي الظهر شاهدت موته نزل ، فمات في ليلته . وقد بينت السنة بيانا واضحاً أن الحوادث يخلقها الله تعالى قبل أن تحدث في الأرض خلقا ما ، ثم ينزل في هذا العالم فيظهر فيه كما خلق أول مرة سنة من الله تعالى ، ثم قد يمحى الثابت ، ويثبت المعدوم ، بحسب هذا الوجود قال الله تعالى : ( يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) مثل أن يخلق الله تعالى البلاء خلقا ما ، فينزله على المبتلى ، ويصعد الدعاء ، فيرده ، وقد يخلق الموت ، فيصعد البر ، ويدده والفقه فيه أن المخلوق النازل سبب من الأسباب العادية كالطعام والشراب بالنسبة إلى بقاء الحياة وتناول السم ، والضرب بالسيف بالنسبة إلى الموت ، وقد دل أحاديث كثيرة على ثبوت عالم تتجسم فيه الأعراض ، وتنتقل المعاني ، ويخلق الشيء قبل ظهوره في الأرض ، مثل كون الرحم معلقا بالعرش ، وتزول الفتن كمواقع القطر ، وخلق النيل والفرات في أصل السدرة ، ثم أنزالهما إلى الأرض ، وإنزال الحديد والانعام وإنزال القرآن إلى السماء الدنيا مجموعا ، وحضور الجنة والنار بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وبين جدار المسجد بحيث يمكن تناول العنقود ، ويأتي حر النار ، وكتعالج البلاء والدعاء ، وخلق ذرية آدم ، وخلق العقل ،
____________________
(1/139)
وأنه أقبل وأدبر ، وإتيان الزهراوين كأنهما فرقان ، ووزن الأعمال ، وحفوف الجنة بالمكاره والنار بالشهوات ، وأمثال ذلك مما لا يخفى على من له أدنى معرفة بالسنة . واعلم أن القدر لا يزاحم سببية الأسباب لمسبباتها ، لإنه إنما تعلق بالسلسلة المترتبة جملة مرة واحدة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في الرقى والدواء والتقاة هل ترد شيئا من قدر الله ؟ قال : ' هي من قدر الله ' ، وقول عمر رضي الله عنه في قصة سرغ أليس إن رعيتها في الخصب رعيتها بقدر الله ؟ الخ وللعباد اختيار أفعالهم ، نعم لااختيار لهم في ذلك الاختيار لكونه معلولا بحضور صورة المطلوب ونفعه ونهوض داعيه وعزم بما ليس له علم بها فكيف الاختيار فيها وهو قوله : ' إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء ' والله اعلم . ( باب الإيمان بأن العبادة حق الله تعالى على عباده لأنه منعم عليهم مجاز لهم بالارادة ) اعلم أن من أعظم أنواع البر أن يعتقد الإنسان بمجامع قلبه بحيث لا يحتمل نقيض هذا الاعتقاد عنده أن العبادة حق الله تعالى على عباده ، وأنهم مطالبون بالعبادة من الله تعالى بمنزلة سائر ما يطلبه ذوو الحقوق من حقوقهم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ : ' يا معاذ هل تدرى ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله ؟ قال معاذ : الله ورسوله أعلم قال : ' فإن
____________________
(1/140)
حق الله على العباد أن يعبدوه ، ولا يشركوا به شيئا ، وحق العباد على الله تعالى ألا يعذب من لا يشرك به شيئا ' وذلك لأن من لم يعتقد ذلك اعتقادا جازما واحتمل عنده أن يكون سدى مهملا لا يطالب بالعبادة ، ولا يؤاخذ بها من جهة رب مريد مختار - كان دهريا لا تقع عبادته ، وإن باشرها بجوارحه بموقع من قلبه ، ولا تفتح بابا بينه وبين ربه ، وكانت عادة كسائر عاداته . والأصل في ذلك أنه قد ثبت في معارف الأنبياء وورثتهم عليهم الصلوات والتسليمات أن موطنا من مواطن الجبروت فيه إرادة وقصد بمعنى الإجماع على فعل مع صحة الفعل والترك بالنظر إلى هذا الموطن ، وإن كانت المصلحة الفوقانية لا تبقي ، ولا تذر شيئا إلا أوجب وجوده ، أو أوجب عدمه ، لا وجود للحالة المنتظرة بحسب ذلك ، ولا عبرة بقوم يسمعون الحكماء يزعمون أن الإرادة بهذا المعنى ، فقد حفظوا شيئا وغابت عنهم أشياء ، وهم محجوبون عن مشاهدة هذا الموطن محجوبون بأدلة الآفاق والأنفس . أما حجابهم فهو أنهم لم يهتدوا إلى موطن بين التجلي الأعظم ، وبين الملأ الأعلى شبيه بالشعاع القائم بالجوهرة ، ولله المثل الأعلى ، ففي هذا الموطن يتمثل إجماع على شيء استوجبه علوم الملأ الأعلى وهيآتهم بعد ما كان يستوى الفعل والترك في هذا الموطن . وأما الحجة عليهم فهي أن الواحد منا يعلم بداهة أنه يمد يده ، ويتناول القلم مثلا ، وهو في ذلك مريد قاصد يستوي بالنسبة إليه الفعل والترك بحسب هذا القصد وبحسب هذه القوى المتشبحة في نفسه ، وإن كان كل شيء بحسب المصلحة الفوقانية إما واجب الفعل ، أو واجب الترك ، فكذلك الحال في كل ما يستوجبه استعداد خاص ، فينزل من بارئ الصور نزول
____________________
(1/141)
الصور على المواد المستعدة لها كالاستجابة عقيب الدعاء مما فيه دخل لمتجدد حادث بوجه من الوجوه ، ولذلك تقول هذا جهل بوجوب الشيء بحسب المصلحة الفوقانية ، فكيف يكون في موطن من مواطن الحق ؟ ! فأقول حاش لله ، بل هو علم وإيفاء لحق هذا الموطن ، إنما الجهل أن يقال ليس بواجب أصلا ، وقد نفت الشرائع الإلهية هذا الجهل حيث أثبتت الإيمان بالقدر ، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطاك لم يكن ليصيبك ، وأما إذا قيل يصح فعله وتركه بحسب هذا الموطن ، فهو علم حق لا محالة ، كما أنك إذا رأيت الفحل من البهائم يفعل الأفعال الفحلية ، ورأيت الأنثى تفعل الأفعال الأنثوية ، فإن حكمت بأن هذه الأفعال صادرة جبرا كحركة الحجر في تدحرجه كذبت ، وإن حكمت بأنها صادرة من غير علة موجبه لها ، فلا المزاج الفحلي يوجب هذا الباب ، ولا المزاج الأنثوي يوجب ذلك كذبت ، وإن حكمت بأن الإرادة المتشبحة في أنفسهما تحكى وجوبا فوقانيا ، وتعتمد عليه ، وأنها لا تفور فورانا استقلاليا كان ليس وراء ذلك مرمى ، فقد كذبت ، بل الحق اليقين أمر بين الأمرين وهو أن الاختيار معلول لا يتخلف عن علله ، والفعل المراد توجبه العلل ، ولا يمكن ألا يكون ، ولكن هذا الاختيار من شأنه أن يبتهج بالنظر إلى نفسه ، ولا ينظر إلى ما فوق ذلك . فإن أديت حق هذا الموطن ، وقلت أجد في نفسي أن الفعل والترك كانا مستويين ، وأني اخترت الفعل ، فكان الاختيار علة لفعله صدقت ، وبررت ، فأخبرت الشرائع الإلهية عن هذه الإرادة المتشبحة في هذا الموطن . وبالجملة فقد ثبتت إرادة يتجدد تعلقها ، وثبتت المجازاة في الدنيا والآخرة ، وثبت أن مدبر العالم دبر العالم بإيجاب شريعة يسلكونها ، لينتفعوا بها ، فكأن الأمر شبيها بأن السيد استخدم عبيده ، وطلب منهم
____________________
(1/142)
ذلك ورضي عمن خدم ، وسخط على من لم يخدم ، فنزلت الشرائع الإلهية بهذه العبارة لما ذكرنا أن الشرائع تنزل في الصفات وغيرها بعبارة ليس هنالك أفصح ، ولا أبين للحق منها أكانت حقيقة لغوية أو مجازا متعارفا ، ثم مكنت الشرائع الإلهية هذه المعرفة الغامضة من نفوسهم بثلاثة مقامات مسلمة عندهم جارية مجرى المشهورات البديهية بينهم أحدها : أنه تعالى منعم ، وشكر المنعم واجب ، والعبادة شكر له على نعمة . والثاني : أنه يجازي المعرضين عنه التاركين لعبادته في الدنيا أشد الجزاء . والثالث : أنه يجازي في الآخرة المطيعين والعاصين ، فانبسطت من هنالك ثلاثة علوم ، علم التذكير بآلاء الله ، وعلم التذكير بأيام الله ، وعلم التذكير بالمعاد ، فنزل القرآن العظيم شرحا لهذه العلوم . وإنما عظمت العناية بشرح هذه العلوم لأن الإنسان خلق في أصل فطرته ميل إلى بارئه جل مجده ، وذلك الميل أمر دقيق لا يتشبح إلا بخليقته ومظنته ، وخليقته ومظنته على ما أثبته الوجدان الصحيح الإيمان بأن العبادة حق الله تعالى على عباده لأنه منعم لهم مجاز على أعمالهم ، فمن أنكر الإرادة أو ثبوت حقه على العباد ، أو أنكر المجازاة ، فهو الدهري الفاقد لسلامة فطرته ، لأنه أفسد على نفسه مظنة الميل الفطري المودع في جبلته ونائبه وخليفته والمأخوذ مكانه . وإن شئت أن تعلم حقيقة هذا الميل ، فاعلم أن في روح الإنسان لطيفة نورانية تميل بطبعها إلى الله عز وجل ميل الحديد إلى المغناطيس ، وهذا أمر مدرك بالوجدان ، فكل من أمعن في الفحص عن لطائف نفسه ، وعرف كل لطيفة بحيالها لا بد أن يدرك هذه اللطيفة النورانية ، ويدرك ميلها بطبعها إلى الله تعالى ، ويسمى ذلك الميل عند أهل الوجدان بالمحبة الذاتية ، مثله كمثل سائر الوجدانيات لا يقتنص بالبراهين كجوع هذا الجائع وعطش هذا العطشان ، فإذا كان الإنسان في غاشية من أحكام لطائفه السفلية
____________________
(1/143)
كان بمنزلة من استعمل مخدرا في جسده ، فلم يحس بالحرارة والبرودة فإذا هدأت لطائفه السفلية عن المزاحمة إما بموت اضطراري يوجب تناثر كثير من أجزاء نسمته ونقصان كثير من خواصها وقواها ، أو بموت اختياري وتمسك حيل عجيبة من الرياضات النفسانية والبدنية كان كمن زال المخدر عنه ، فأدرك ما كان عنده وهو لا يشعر به ، فإذا مات الإنسان وهو غير مقبل على الله تعالى ، فإن كان عدم إقباله جهلا بسيطا ، وفقدا ساذجا ، فهو شقي بحسب الكمال النوعي ، وقد يكشف عليه بعض ما هنالك ، ولا يتم الانكشاف لفقد استعداده ، فبقي حائرا مبهوتا ، وإن كان ذلك مع قيام هيئة مضادة في قواه العلمية أو العملية كان فيه تجاذب ، فانجذبت النفس الناطقة إلى صقع الجبروت ، والنسمة بما كسبت من الهيئة المضادة إلى السفل ، فكانت فيه وحشة ساطعة من جوهر النفس منبسطة على جوهرها وربما أوجب ذلك تمثل واقعات هي أشباح الوحشة ، كما يرى الصفراوي في منامه النيران والشعل ، وهذا أصل توجيه حكمة معرفة النفس ، وكان أيضا في تحديق غضب من الملأ الأعلى يوجب إلهامات في قلوب الملائكة وغيرها من ذوات الاختيار أن تعذبه وتؤلمه وهذا أصل توجيه معرفة أسباب الخطرات والدواعي الناشئة في نفوس بني آدم . وبالجملة فالميل إلى صقيع الجبروت ووجوب العمل بما يفك وثاقه من مزاحمة اللطائف السفلية المؤاخذة على ترك هذا العمل بمنزلة أحكام الصورة النوعية وقواها وآثارها الفائضة في كل فرد من أفراد النوع من بارئ الصور ومفيض الوجود وفق المصلحة الكلية لا باصطلاح البشر والتزامهم على أنفسهم وجريان رسومهم بذلك فقط ، وكل هذه الأعمال في الحقيقة حق هذه اللطيفة النورانية المنجذبة إلى الله وتوفير مقتضاها واصلاح عوجها ، ولما كان هذا المعنى دقيقا وهذه اللطيفة لا تدركها إلا شرذمة
____________________
(1/144)
قليلة وجب أن ينسب الحق إلى ما إليه مالت وإياه قصدت ونحوه انتحت كان ذلك تعيين لبعض قوى النفس التي مالت من جهته ، وكأن ذلك اختصار قولنا حق هذه اللطيفة من جهة ميلها إلى الله ، فنزلت الشرائع الإلهية كاشفة عن هذا السر بعبارة سهلة يفهمها البشر بعلومهم الفطرية ، ويعطيها سنة الله من إنزال المعاني الدقيقة في صور مناسبة لها بحسب النشأة المثالية ، كما يتلقى واحد منا في منامه معنى مجردا في صورة شيء ملازم له في العادة أو نظيره وشبهه ، فقيل العبادة حق الله تعالى على عباده ، وعلى هذا ينبغي أن يقاس حق القرآن . وحق الرسول ، وحق المولى ، وحق الوالدين ، وحق الأرحام ، فكل ذلك حق نفسه على نفسه ، لتكمل كمالها ، ولا تقترف على نفسها جورا ، ولكن نسب الحق إلى من معه هذه المعاملة ، ومنه المطالبة ، فلا تكن من الواقعين على الظواهر ، بل من المحققين للأمر على ما هو عليه . ( باب تعظيم شعائر الله تعالى ) قال الله تعالى : ! ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) ! اعلم أن مبنى الشرائع على تعظيم شعائر الله تعالى ، والتقرب بها إليه تعالى ، وذلك لما أومأنا إليه من أن الطريقة التي نصبها الله تعالى للناس هي محاكاة ما في صقع التجرد بأشياء يقرب تناولها للبهيمية ، وأعني بالشعائر أمورا ظاهرة محسوسة جعلت ليعبد الله بها ، واختصت به حتى صار تعظيمها عندهم تعظيما لله ، والتفريط في جنبها تفريطا في جنب الله ، وركز ذلك في صميم قلوبهم لا يخرج منه إلا أن تقطع قلوبهم ، والشعائر إنما تصير شعائر
____________________
(1/145)
بنهج طبيعي ، وذلك أن تطمئن نفوسهم بعادة وخصلة ، وتصير من المشهورات الذائعة التي تلحق بالبديهيات الأولية ، ولا تقبل التشكيك ، فعند ذلك تظهر رحمة الله في صورة أشياء تستوجبها نفوسهم وعلومهم الذائعة فيما بينهم ، فيقبلونها ويكشف الغطاء عن حقيقتها ، وتبلغ الدعوة الأدانى والأقاصى على السواء ، فعند ذلك يكتب عليهم تعظيمها ، ويكون الأمر بمنزلة الحالف باسم الله يضمر في نفسه التفريط في حق الله إن حنث ، فيؤاخذ بما يضمر ، وكذلك هؤلاء يشتهر فيما بينهم أمور تنقاد لها علومهم ، فيوجب انقياد علومهم ، لها ألا تظهر رحمة الله بهم إلا فيما انقادوا له ، إذ مبنى التدبير على الأسهل فالأسهل ، ويوجب أيضا أن يؤاخذوا أنفسهم بأقصى ما عندهم من التعظيم لأن كمالهم هو التعظيم الذي لا يشوبه إهمال ، وما أوجب الله تعالى شيئا على عباده لفائدة ترجع إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، بل لفائدة ترجع إليهم ، وكانوا بحيث لا يكملون إلا بالتعظيم الأقصى ، فأخذوا بما عندهم ، وأمروا ألا يفرطوا في جنب الله ، وليس المقصود بالذات في العناية التشريعية حال فرد بل حال جماعة كأنها كل الناس ، ولله الحجة البالغة . ومعظم شعار الله أربعة : القرآن ، والكعبة ، والنبي ، والصلاة . أما القرآن فكان الناس شاع فيما بينهم رسائل الملوك إلى رعاياهم ، وكان تعظيمهم للملوك مساوقا لتعظيمهم للرسائل ، وشاع صحف الأنبياء ومصنفات غيرهم ، وكان تمذهبهم لمذاهبهم مساوقا لتعظيم تلك الكتب وتلاوتها ، وكان الانقياد للعلوم وتلقيها على مر الدهور بدون كتاب يتلى ، ويروى ، كالمحال بادي الرأي ، فاستوجب الناس عند ذلك أن تظهر رحمة الله في صورة كتاب نازل من رب العالمين ، ووجب تعظيمه ، فمنه أن يستمعوا له ، وينصتوا إذا قرئ ، ومنه أن يبادروا لأوامره كسجدة التلاوة
____________________
(1/146)
وكالتسبيح عند الأمر بذلك ، ومنه ألا يمسوا المصحف إلا على وضوء وأما الكعبة فكان الناس في زمن إبراهيم عليه السلام توغلوا في بناء المعابد والكنائس باسم روحانية الشمس وغيرها من الكواكب ، وصار عندهم التوجه إلى المجرد غير المحسوس بدون هيكل يبنى باسمه يكون الحلول فيه والتلبس به تقربا منه أمرا محالا تدفعه عقولهم بادى الرأي ، فاستوجب أهل ذلك الزمان أن تظهر رحمة الله بهم في صورة بيت يطوفون به ، ويتقربون به إلى الله ، فدعوا إلى البيت وتعظيمه ، ثم نشأ قرن بعده قرن على علم أن تعظيمه مساوق لتعظيم الله والتفريط في حقه مساوق للتفريط في حق الله ، فعند ذلك وجب حجه ، وأمروا بتعظيمه ، فمنه ألا يطوفوا إلا متطهرين ، ومنه أن يستقبلوها في صلاتهم ، وكراهية استقبالها واستدبارها عند الغائط وأما النبي فلم يسم مرسلا إلا تشبيها برسل الملوك إلى رعاياهم مخبر ين بأمرهم ونهيهم ، ولم يوجب عليهم طاعتهم إلا بعد مساوقة تعظيمهم لتعظيم المرسل عندهم ، فمن تعظيم النبي وجوب طاعته ، والصلاة عليه ، وترك الجهر عليه بالقول . وأما الصلاة فيقصد فيها التشبيه بحال عبيد الملك عند مثولهم بين يديه ومناجاتهم إياه وخضوعهم له ، ولذلك وجب تقديم الثناء على الدعاء ومؤاخذة الإنسان نفسه بالهيآت التي يجب مراعاتها عند مناجاة الملوك من ضم الأطراف وترك الالتفات وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا أحدكم صلى فإن الله قبل وجهه ' والله أعلم .
____________________
(1/147)
( باب أسرار الوضوء والغسل ) اعلم أن الإنسان قد يختطف من ظلمات الطبيعة إلى أنوار حظيرة القدس فيغلب عليه تلك الأنوار ويصير ساعة ما بريئا من أحكام الطبيعة بوجه من الوجوه ، فينسلك في سلكهم ، ويصير فيما يرجع إلى تجريد النفس كأنه منهم ، ثم يرد إلى حيث كان ، فيشتاق إلى ما يناسب الحالة الأولى ، ليغتنمه عند فقدها ، ويجعله شركا لاقتناص الفائت منها ، فيجد بهذه الصفة حالة من أحواله وهي السرور والانشراح الحاصل من هجر الرجز واستعمال المطهرات ، فيعض عليها بنواجذه ، ويتلوه إنسان سمع المخبر الصادق يخبر بأن هذه الحالة كمال الإنسان ، وأنه ارتضاها منه بارئه وأن فيها فوائد لا تحصى ، فصدقه بشهادة قلبه ، ففعل ما أمر به ، فوجد ما أخبر به حقا ، وفتحت عليه أبواب الرحمة وانصبغ بصبغ الملائكة ، ويتلوه رجل لا يعلم شيئاً من ذلك لكن قاده الأنبياء وألجأوه إلى هيآت تعدله في معاده للإنسلاك في سلك الملائكة ، وأولئك قوم جروا بالسلاسل إلى الجنة . والحدث الذي يحس أثره في النفس بادي الرأي ، والذي يليق أن يخاطب به جمهور الناس لانضباط مظانه ، والذي يكثر وقوع مثله ، وفي إهمال تعليمه ضرر عظيم بالناس - منحصر استقراء في جنسين : أحدهما اشتغال النفس بما يجد الإنسان في معدته من الفضول الثلاثة الريح والبول والغائط ، فليس من البشر أحد إلا ويعلم من نفسه أنه إذا وجد في بطنه الرياح ، أو كان حاقبل حاقنا خبثت نفسه ، فأخذت إلى الأرض ، وصارت كالحائرة المنقبضة ، وكان بينها وبين انشراحها حجاب ، فإذا اندفعت عنه الرياح ، وتخفف عنه الاخبثان ، واستعمل ما ينبه نفسه
____________________
(1/148)
للطهارة كالغسل والوضوء ، وجد انشراحا وسروراً ، وصار كأنه وجد ما فقد . والثاني اشتغال النفس بشهوة الجماع وغوصها فيها ، فإن ذلك يصرف وجه النفس إلى الطبيعة البهيمة بالكلية ، حتى إن البهائم إذا ارتضيت ، ومرنت على الآداب المطلوبة ، والجوارح إذا ذللت بالجوع والسهر ، وعلمت إمساك الصيد على صاحبها ، والطيور إذا كلفت بمحاكاة كلام الناس ، وبالجملة كل حيوان أفرغ الجهد في إزالة ماله من طبيعته واكتساب مالا تقتضيه طبيعته ، ثم قضى هذا الحيوان شهوة فرجه وعافس الإناس ، وغاص في تلك اللذة أياماً لا بد أن تنسى ما اكتسبه ، ورجع إلى عمه وجهل وضلال ، ومن تأمل في ذلك علم لا محالة أن قضاء هذه الشهوة يؤثر في تلويث النفس مالا يؤثره شيء من كثرة الأكل والمغامرة وسائر ما يميل النفس إلى الطبيعة البهيمية ، وليجرب الإنسان ذلك من نفسه ، وليرجع إلى ما ذكره الاطباء في تدبير الرهبان المنقطعين إذا أريد إرجاعهم إلى البهيمية . والطهارة التي يحس أثرها بادي الرأي ، والتي يليق أن يخاطب بها جمهور الناس لكثرة وجوج آلتها في الإقاليم المعمورة أعنى الماء وانضباط أمرها ، والتي هي أوقع الطهارات في نفوس البشر وكالمسلمات المشهورة بينهم مع كونها كالمذهب الطبيعي - تنحصر بالاستقراء في جنسين : صغرى وكبرى . أما الكبرى فتععيم البدن بالغسل والدك ، إذ الماء طهور مزيل للنجاسات قد سلمت الطقد سلمت الطبائغ منه ذلك ، فهي آلة صالحة لتنبيه النفس على خلة الطهارة ، ورب إنسان شرب الخمر ، وثمل ، وغلب السكر على طبيعة ، ثم فرط منه شيء من قتل بغير حق ، أو إضاعة مال في غاية النفاسة ،
____________________
(1/149)
فتنبهت نفسه دفعة ، وعقلت ، وكشفت عنها الثمالة ، ورب إنسان ضعيف لا يستطيع أن ينهض ، ولا أن يباشر شيئا فاتفقت واقعة تنبه النفس تنبيها قويا من عروض غضب أو حمية أو منافسة ، فعالج معالجة شديدة ، وسفك سفكا بليغا . وبالجملة فللنفس انتقال دفعي ، وتنبه من خصلة إلى خصلة هو العمدة في المعالجات النفسانية ، وإنما يحصل هذا التنبه بماركز في صميم طبائعهم وجذر نفوسهم أنه طهارة بليغة ، وما ذلك إلا الماء . والصغرى الاقتصار على غسل الأطراف ، وذلك لأنها مواضع جرت العادة في الأقاليم الصالحة بانكشافها ، وخروجها من اللباس لمذهب طبيعى إليه وقعت الإشارة حيث نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اشتمال الصماء ، فلا يتحقق حرج في غسلها ، وليس ذلك في سائر الأعضاء ، وأيضا جرت العادة في أهل الحضر بتنظيفها كل يوم ، وعند الدخول على الملوك وأشباههم ، وعند قصد الأعمال النظيفة ، وفقه ذلك أنها ظاهرة تسرع إليها الأوساخ ، وهي التي ترى ، وتبصر عند ملاقاة الناس بعضهم لبعض ، وأيضا التجربة شاهدة بأن غسل الأطراف ، ورش الماء على الوجه والرأس ، ينبه النفس من نحو النوم والغشى المثقل تنبيها قويا ، وليرجع الإنسان في ذلك إلى ما عنده من التجربة والعلم ، وإلى ما أمر به الأطباء في تدبير من غشى عليه أو أفرط به الإسهال والفصد . والطهارة باب من أبواب الارتفاق الثاني الذي يتوقف كمال الإنسان عليه ، وصار من جبلتهم ، وفيها قرب من الملائكة ، وبعد من الشياطين ، وتدفع عذاب القبر ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' أستنزهوا من البول
____________________
(1/150)
فإن عامة عذاب القبر منه ' ولها مدخل عظيم في قبول النفس لون الإحسان وهو قوله تعالى : ! ( ويحب المتطهرين ) ! وإذا استقرت في النفس وتمكنت منها تقررت فيها شعبة من نور الملائكة ، وانقهرت شعبة من ظلمة البهيمية وهو معنى كتابة الحسنات وتكفير الخطايا ، وإذا جعلت رسما نفعت من غوائل الرسوم ، وإذا حافظ صاحبها على ما فيها من هيآت يؤاخذ الناس بها أنفسهم عند الدخول على الملوك وعلى النية المستصحبة والاذكار نفعت من سوء المعرفة ، وإذا عقل الإنسان أن هذه كماله ، فآداب جوارحه حسبما عقل من غير داعية حسية وأكثر من ذلك - كانت تمرينا على انقياد الطبيعة للعقل والله أعلم . ( باب أسرار الصلاة ) اعلم أن الإنسان قد يختطف إلى الحظيرة المقدسة ، فيلتصق بجناب الله تعالى أتم لصوق ، وينزل عليه من هنالك التجليات المقدسة ، فتغلب على النفس ويشاهد هنالك ما لا يقدر اللسان على وصفه ، ثم يرد إلى حيث كان ، فلا يقر به القرار ، فيعالج نفسه بحالة هي أقرب الحالات السفلية من استغراق النفس في معرفة بارئها ، ويتخذها شركا لاقتناص ما فاته منها ، وتلك الحالة هي التعظيم والخضوع والمناجاة في ضمن أفعال وأقوال بنيت لذلك ، ويتلوه رجل سمع المخبر الصادق يدعوه إلى هذه الحالة ، ويرغب فيها ، فصدقه بشهادة قلبه ففعل ، ووجد ما وعد به حقا ، وارتقى إلى ما يرجوه ، ثم يتلوه رجل ألجأه الأنبياء إلى الصلوات ، وهو لا يعلم بمنزلة الوالد يحبس أولاده على تعليم الصناعات النافعة ، وهم كارهون ، وربما يسأل الإنسان من
____________________
(1/151)
ربه دفع بلاء أو ظهور نعمة ، فيكون الأقرب حينئذ الاستغراق في أفعال وأقوال تعظيمية لتؤثر همته التي هي روح السؤال ، وذلك ما سن من صلاة الاستسقاء . وأصل الصلاة ثلاثة أشياء . أن يخضع القلب عند ملاحظة جلال الله وعظمته ، ويعبر اللسان عن تلك العظمة ، وذلك الخضوع أفصح عبارة . وأن يؤدب الجوارح حسب ذلك الخضوع قال القائل . ( أفادتكم النعماء مني ثلاثة ** يدي ولساني والضمير المحجبا ) ومن الأفعال التعظيمية أن يقوم بين يديه مناجيا ، ويقبل عليه مواجها ، وأشد من ذلك أن يستشعر ذله وعزة ربه ، فينكس رأسه إذ من الأمر المجبول في قاطبة البشر والبهائم أن رفع العنق آية التيه والتكبر ، وتنكيسه آية الخضوع والاخبات ، وهو قوله تعالى : ! ( فظلت أعناقهم لها خاضعين ) ! وأشد من ذلك أن يعفر وجهه الذي هو أشرف أعضائه ومجمع حواسه بين يديه ، فتلك التعظيمات الثلاثة الفعلية شائعة في طوائف البشر لا يزالون يفعلونها في صلواتهم وعند ملوكهم وأمرائهم ، وأحسن الصلاة ما كان جامعا بين الأوضاع الثلاثة مترقيا من الأدنى إلى الأعلى ؛ ليحصل الترقي في استشعار الخضوع والتذلل ، وفي الترقي من الفائدة ما ليس في أفراد التعظيم الأقصى ، ولا في الانحطاط من الأعلى إلى الأدنى . وإنما جعلت الصلاة أم الأعمال المقربة دون الفكر في عظمة الله ، ودون الذكر الدائم ؛ لأن الفكر الصحيح فيها لا يتأتى إلا من قوم عالية نفوسهم ، وقليل ما هم ، وسوى أولئك لو خاضوا فيه تبلدوا ، وأبطلوا
____________________
(1/152)
رأس مالهم فضلا عن فائدة أخرى ، والذكر بدون أن يشرحه ويعضده عمل تعظيمي يعمله بجوارحه ، ويعنوا في آدابها . لقلقة خالية عن الفائدة في حق الاكثرين . أما الصلاة فهي المعجون المركب من الفكر المصروف تلقاء عظمة الله بالقصد الثاني ، والالتفات التبعي المتأتي من كل واحد ، ولا حجر لصاحب استعداد الخوض في لجة الشهود أن يخوض ، بل ذلك منبه له أتم تنبيه ، ومن الأدعية المبينة إخلاص عمله لله وتوجيه وجهه تلقاء الله وقصر الاستعانة في الله ، ومن أفعال تعظيمية كالسجود والركوع يصير كل واحد عضد الآخر ومكمله والمنبه عليه ، فصارت نافعة لعامة الناس وخاصتهم ، تريافا قوى الأثر ليكون لكل إنسان منه ما استوجبه أصل استعداده ، والصلاة معراج المؤمن معدة للتجليات الأخروية ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' إنكم سترون ربكم فإذا استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ' وسبب عظيم لمحبة الله ورحمته وهو قوله صلى الله عليه وسلم . ' أعني على نفسك بكثرة السجود ' وحكايته تعالى عن أهل النار ( ولم نك من المصلين ) وإذا تمكنت من العبد اضمحل في نور الله ، وكفرت عنه خطاياه ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ولا شيء أنفع من سوء المعرفة منها لا سيما إذا فعلت أفعالها وأقوالها على حضور القلب والنية الصالحة ، وإذا جعلت رسما مشهورا انفعت من غوائل الرسم نفعا بينا ، وصارت شعار للمسلم يتميز به من الكافر ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/153)
: : العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر ' ولا شيء في تمرين النفس على انقياد الطبيعة للعقل وجريانها في حكمة مثل الصلاة والله اعلم . ( باب أسرار الزكاة ) اعلم أن المسكين إذا عنت له حاجة ، وتضرع إلى الله فيها بلسان المقال أو الحال - قرع تضرعه باب الجود الالهي ، وربما تكون المصلحة أن يلهم في قلب زكي أن يقوم بسد خلته ، فاذا تغشاه الالهام ، وانبعث ، وفقه رضي الله عنه ، وأفاض عليه البركات من فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله ، وصار مرحوما . وسألني مسكين ذات يوم في حاجة اضطر فيها ، فأوجست في قلبي إلهاما يأمرني بالاعطاء ، ويبشرني بأجر جزيل في الدنيا والآخرة ، فأعطيت ، وشاهدت ما وعدني ربي حقا ، وكان قرعه لباب الجود وانبعاث الالهام واختياره لقلبي يومئذ ظهور الأجر كل ذلك ' بمرأى مني ' . وربما كان الانفاق في مصرف مظنة لرحمة إلهية ، كما إذا انعقدت داعية في الملأ الأعلى بتنويه ملة ، فصار كل من يتعرض لتمشيته أمرها مرحوما ، وتكون تمشيته يومئذ في الانفاق كغزوة العسرة ، وكما إذا كان أيام قحط ، وتكون أمة هي أحوج خلق الله ، ويكون المراد إحياءهم . وبالجملة فيأخذ المخبر الصادق من هذه المظنة كلية فيقول : ' من تصدق على فقير - كذا وكذا أو في حالة كذا وكذا - تقبل منه عمله ' فيسمعه سامع ، وينقاد لحكمه بشهاده قلبه ، فيجد ما وعد حقا . وربما تفطنت النفس بأن حب الأموال والشح بها يضره ، ويصده عما هو بسبيله ، فيتأذى منه أشد تأذ ، ولا يتمكن من دفعه إلا بتمرين على إنفاق أحب ما عنده ، فصار الانفاق في حقه أنفع شيء ، ولولا الانفاق
____________________
(1/154)
لبقي الحب والشح كما هو ، فيتمثل في المعاد شجاعا أقرع ، أو تمثلت الأموال ضارة في حقه وهو حديث ' بطح لها بقاع قرقر ' وقوله تعالى : ! ( والذين يكنزون الذهب والفضة ) ! وربما يكون العبد قد أحيط به ، وقضى بهلاكه في عالم المثال ، فاندفع إلى بذل أموال خطيرة ، وتضرع إلى الله هو وناس من المرحومين ، فمحا هلاكه بنفسه باهلاك ماله ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا يرد القضاء إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر ' . وربما يفرط من الإنسان أن يعمل عملا شريرا بحكم غلبة الطبيعة ، ثم يطلع على قبحه ، فيندم ، ثم تغلب عليه الطبيعة ، فيعود له ، فتكون الحكمة في معالجة هذه النفس أن تلزم بذل مال خطير غرامة على ما فعل ؛ ليكون ذلك بين عينيه ، فيردعه عما يقصد . وربما يكون حسن الخلق والمحافظة على نظام العشيرة منحصرا في إطعام طعام وإفشاء سلام وأنواع من المواساة ، فيؤمر بها ، وتعد صدقة ، والزكاة تزيد في البركة ، وتطفئ الغضب بجلبها فيضا من الرحمة ، وتدفع عذاب الآخرة المترتب على الشح ، وتعطف دعوة الملأ الأعلى المصلحين في الأرض على هذا العبد والله أعلم . ( باب أسرار الصوم ) اعلم أنه ربما يتفطن الإنسان من قبل إلهام الحق إياه أن سورة الطبيعة
____________________
(1/155)
البهيمية تصده عما هو كماله من انقيادها للملكية ، فيبغضها ، ويطلب كسر سورتها ، فلا يجد ما يغيثه في ذلك ، كالجوع والعطش ، وترك الجماع والأخذ على لسانه وقلبه وجوارحه ، ويتمسك بذلك علاجا لمرضه النفساني ، ويتلوه من يأخذ ذلك عن المخبر الصادق بشهادة قلبه ، ثم الذي يقوده الأنبياء شفقة عليه ، وهو لا يعلم ، فيجد فائدة ذلك في المعاد من انكسار السورة وربما يطلع الإنسان على أن انقياد الطبيعة للعقل كمال له ، وتكون طبيعته باغية تنقاد تارة ، ولا تنقاد أخرى ، فيحتاج إلى تمرين ، فيعمد إلى عمل شاق كالصوم ، فيكلف طبيعته ، ويلتزم وفاء العهد ، ثم ، وثم حتى يحصل الأمر المطلوب . وربما يفرط منه ذنب ، فيلتزم صوم أيام كثيرة يشق عليه بإزاء الذنب ، ليردعه عن العود في مثله . وربما تاقت نفسه إلى النساء ، ولا يجد طولا ، ويخاف العنت ، فيكسر شهوته بالصوم ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' فإن الصوم له وجاء ' . والصوم حسنة عظيمة يقوى الملكية ، ويضعف البهيمية ، ولا شيء مثله في صيقلة وجه الروح وقهر الطبيعة ، ولذلك قال الله تعالى : ' الصوم لي وأنا أجزى به ' ، ويكفر الخطايا بقدر ما اضمحل من سورة البهيمية ، ويحصل به تشبه عظيم بالملائكة ، فيحبونه ، فيكون متعلق الحب أثر ضعف البهيمية ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ' وإذا جعل رسما مشهورا نفع عن غوائل الرسوم وإذا التزمه أمة من الأمم سلسلت شياطينها ، وفتحت أبواب جنانها ، وغلقت أبواب النيران عنها .
____________________
(1/156)
والإنسان إذا سعى في قهر النفس وإزالة رذائلها كانت لعملة صورة تقديسية في المثال ، ومن أزكياء العارفين من يتوجه إلى هذه الصورة ، فيمد من الغيب في علمه ، فيصل إلى الذات من قبل التنزيه والتقديس ، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ' الصوم لي وأنا أجزى به ' . وربما يتفطن الإنسان بضرر توغله في معاشه وامتلاء حواسه مما يدخل عليه من خارج ، وينفع التفرغ للعبادة في مسجد بني للصلوات ، فلا يمكنه إدامة ذلك ، وما لا يدرك كله لا يترك كله ، فيختطف من أحواله فرصا ، فيعتكف ما قدر له ، ويتلوه المتلقي له من المخبر الصادق بشهادة قلبه ، والعامي المغلوب عليه كما مر . وربما يصوم ولا يستطيع تنزيه لسانه إلا بالاعتكاف . وربما يطلب ليلة القدر واللصوق بالملائكة فيها ، فلا يتمكن منها إلا بالاعتكاف ويسأتيك معنى ليلة القدر والله أعلم . ( باب أسرار الحج ) اعلم أن حقيقة الحج اجتماع جماعة عظيمة من الصالحين في زمان يذكر حال المنعم عليهم من الأنبياء والصديقين ، والشهداء والصالحين ، ومكان فيه آيات بينات ، قد قصده جماعات من أئمة الدين معظمين لشعائر الله ومتضرعين راغبين وراجين من الله الخير وتكفير الخطايا ، فإن الهمم إذا اجتمعت بهذه الكيفية لا يتخلف عنها نزول الرحمة والمغفرة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' ما رؤى الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة ' الحديث .
____________________
(1/157)
وأصل الحج موجود في كل أمة لا بد لهم من موضع يتبركون به لما رأوا من ظهور آيات الله فيه ، ومن قرابين وهيآت مأثورة عن أسلافهم يلتزمونها بها ؛ لانها تذكر المقربين وما كانوا فيه . وأحق ما يحج إليه بيت الله ، فيه آيات بينات ، بناه إبراهيم صلوات الله عليه المشهود له بالخير على ألسنة أكثر الأمم بأمر الله ووحيه بعد أن كانت الأرض قفرا وعرا ، إذ ليس غيره محجوج إلا وفيه إشراك أو اختراع ما لا أصل له . ومن باب الطهارة النفسانية الحلول بموضع لم يزل الصالحون يعظمونه ، ويحلون فيه ، ويعمرونه بذكر الله ، فإن ذلك يجلب تعلق همم الملائكة السفلية ، ويعطف عليه دعوة الملأ الأعلى الكلية لأهل الخير ، فإذا حل به غلب ألوانهم على نفسه ، ' وقد شاهدت ذلك رأي عين ' . ومن باب ذكر الله تعالى رؤية شعائر الله وتعظيمها ، فإنها إذا رؤيت ذكر الله كما يذكر الملزوم اللازام لا سيما عند التزام هيآت تعظيمه وقيود وحدود تنبه النفس تنبيها عظيما . وربما يشتاق الإنسان إلى ربه أشد شوق ، فيحتاج إلى شيء يقضي به شوقه فلا يجد إلا الحج . وكما أن الدولة تحتاج إلى عرضة بعد كل مدة ؛ ليتميز الناصح من الغاش والمنقاد من المتمرد ، وليرتفع الصيت ، وتعلو الكلمة ، ويتعارف أهلها فيما بينهم ، فكذلك الملة تحتاج إلى حج ليتميز الموفق من المنافق ،
____________________
(1/158)
وليظهر دخول الناس في دين الله أفواجا ، وليرى بعضهم بعضا ، فيستفيد كل واحد ما ليس عنده ، إذ الرغائب إنما تكتسب بالمصاحبة والترائي . وإذا جعل الحج رسما مشهورا نفع من غوائل الرسوم ، ولا شيء مثله في تذكر الحالة التي كان فيها أئمة الملة والتحضيض على الأخذ بها . ولما كان الحج سفرا شائعا وعملا شاقا لا يتم إلا بجهد الأنفس كان مباشرته خالصة لله مكفرا للخطايا هادما لما قبله بمنزلة الإيمان . ( باب أسرار انواع من البر ) منها الذكر فإنه لا حجاب بينه وبين الله تعالى ، ولا شيء مثله في علاج سوء المعرفة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' ألا أنبئكم بأفضل أعمالكم ' الحديث وفي كسب المحاضرة ، وطرد القسوة لا سيما لمن ضعفت بهيميته جبلة أو ضعفت كسبا ، ولمن سكت خياله جبلة عن خلط المجرد بأحكام المحسوس . ومنها الدعاء فإنه يفتح بابا عظيما من المحاضرة ، ويجعل الانقياد التام والاحتياج إلى رب العالمين في جميع الحالات بين عينيه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' الدعاء مخ العبادة ' وهو شبح توجه النفس إلى المبدأ بصفة الطلب الذي هو السر في جلب الشيء المدعو إليه . ومنها تلاوة القرآن واستماع المواعظ ، فمن ألقى السمع إلى ذلك ، ومكنه من اتصبغ بحالات الخوف والرجاء والحيرة في عظمة الله والاستغراق في منة الله وغيرها ، فينفع من خمود الطبيعة نفعا بينا ، ويعد النفس لفيضان ألوان ما فوقها ، ولذلك كان أنفع شيء في المعاد ، وهو قول الملك للمقبور :
____________________
(1/159)
' لا دريت ولا تليت ' وفي القرآن تطهير للنفس عن الهيآت السفلية ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' لكل شيء مصقلة ومصقلة القلب تلاوة القرآن ' ومنها صلة الارحام والجيران وحسن المعاشرة مع أهل القرية وأهل الملة وفك العاني بالاعتاق ، فإن ذلك يعد لنزول الرحمة والطمأنينة ، وبها يتم نظام الارتفاق الثاني والثالث ، وبها يستجلب دعوة الملائكة . ومنها الجهاد وذلك أن يلعن الحق إنسانا فاسقا ضارا بالجمهور ، إعدامه أوفق بالمصلحة الكلية من إبقائه ، فيظهر الإلهام في قلب رجل زكي ؛ ليقتله ، فينبجس من قلبه غضب ليس له سبب طبيعي ، ويكون فانيا عن مراده باقيا بمراد الحق ، ويضمحل في رحمة الله ونوره ، وينتفع العباد والبلاد بذلك ، و يتلوه أن يقضي الله بزوال دولة مدن جائرة كفروا بالله ، وأساءوا السيرة ، فيؤمر نبي من أنبياء الله بمجاهدتهم ، فينفخ داعية الجهاد في قلوب قومه ، ليكون أمة أخرجت للناس ، وتشمله الرحمة الإلهية ، ويتلوه أن يطلع قوم بالرأي الكلي على حسن أن يذبوا أنفسا سبعية عن المظلومين وإقامة الحدود على العصاة والنهي عن المنكر ، فيكون سببا لأمن العباد وطمأنينتهم ، فيشكر الله له عمله . ومنها تقريبات ترد على البشر من غير اختياره كالمصائب والأمراض ، فتعد من باب البر لمعان : منها أن الرحمة إذا توجهت إلى عبد بصلاح عمله ، واقتضت الأسباب التضيق عليه انصرفت إلى تكميل نفسه ، فكفرت خطاياه ، وكتبت له
____________________
(1/160)
الحسنات ، كما إذا صد نبع الماء نبع الماء من فوقه و من تحته ، فينسب الإجراء إلى ذلك التضيق ، والسر في المحافظة على الخير النسبي . ومنها أن المؤمن إذا اشتدت به المصائب ضاقت عليه الأرض بما رحبت ، فانكسر حجاب الطبع والرسم ، وانقلع قلبه إلا عن الله ، أما الكافر ، فلا يزال يتذكر الفائت ، ويغوص في الحياة الدنيا حتى يصير أخبث منه قبل أن يصيبه ما أصاب . ومنها أن حامل السيآت المتحجرة إنما هو البهيمية الغليظة الكثيفة ، فإذا مرض وضعف ، وتحلل منه أكثر مما يدخل فيه اضمحل كثير من الحامل ، وانتقص بقدر ذلك المحمول ، كما نرى أن المريض يزول شبقه وغضبه ، وتبدل أخلاقه ، وينسى كثيرا مما كان فيه كأنه ليس الذي كان . ومنها أن المؤمن إذا انفكت بهيميته عن ملكيته نوع انفكاك أخذ على سيآته في الدنيا غالبا ، وذلك حديث ' نصيب المؤمن من العذاب نصب الدنيا ' ' والله اعلم . ( باب طبقات الاثم ) اعلم أنه كما أن لانقياد البهيمية للملكية أعمالا هي أشباحه ومظانه والسنن الكاسبة له ، فكذلك للحالة المضادة لإنقياد كل المضادة أعمال ومظان وكواسب ، وهي الآثام ، وهي على مراتب ، المرتبة الأولى : أن ينسد سبيله إلى الكمال المطلوب رأسا ، ومعظم ذلك في نوعين : أحدهما : ما يرجع إلى المبدأ بألا يعرف أن له ربا ، أو يعرف متصفا بصفات المخلوقين ، أو يعتقد في مخلوق شيء من صفات الله : فالثاني التشبيه ، والثالث الإشراك ، فإن النفس لا تقدس أبدا حتى تجعل مطمح بصيرتها
____________________
(1/161)
التجرد الفوقاني ، والتدبير العام المحيط بالعالم ، فإذا فقدت هذه بقيت مشغولة بنفسها ، أو بما هو مثل نفسها في التقيد كل الشغل لا يقدح حجاب النكرة ، ولا موضع أبرة ، فهذا هو البلاء كل البلاء . والثاني أن يعتقد أن ليس للنفس نشأة غير النشأة الجسدية ، وأنه ليس لها كمال آخر يجب عليها طلبه ، فإن النفس إذا أضمرت ذلك لم يطمح بصرها إلى الكمال أصلا . ولما كان القول بإثبات كمال غير كمال الجسد لا يتأتى من الجمهور إلا بتصور حالة تباين الحالة الحاضرة من كل وجه ، ولولا ذلك لتعارض الكمال المعقول والمحسوس ، فمال إلى المحسوس ، وأهمل المعقول نصب له مظنة هو الإيمان بلقاء الله واليوم الآخر وهو قوله تعالى : ! ( فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون ) ! وبالجملة فإذا كان الإنسان في هذه المرتبة من الإثم ، فمات ، واضمحلت بهيميته ، وشحت عليه المنافرة من فوقه كل المنافرة بحيث لا يجد سبيلا إلى الخلاص أبدا . والمرتبة الثانية أن يتكبر بكبره البهيمي على ما نصبه الله تعالى لوصول الناس إلى كمالهم ، وقصدت الملأ الأعلى بأقصى هممها إشاعة أمره وتنويه شأنه من الرسل والشرائع ، فينكرها ، ويعاديها ، فإذا مات انعطف جميع هممهم منافرة له ، ومؤذية إياه ، وأحاطت به خطيئته من حيث لم يجد للخروج منه سبيلا ، على أنه لا ينفك هذه الحالة من عدم الوصول إلى كماله ، أو الوصل الذي لا يعتد به ، وهذه المرتبة تخرج الإنسان من ملة نبيه في جميع الشرائع .
____________________
(1/162)
والمرتبة الثالثة ترك ما ينجيه ، وفعل ما انعقد في الذكر اللعن على فاعله ، من جهة كونه مظنة غالبا لفساد كبير في الأرض ، وهيئة مضادة لتهذيب النفس . فمنها ألا يفعل من الشرائع الكاسبة للانقياد ، أو المهيئة له ما يعتد به ، ويختلف باختلاف النفوس إلا أن المنغمسة في الهيئات البهيمية الضعيفة أحوج الناس إلى إكثارها ، والأمم التي بهيميتها أشد وأغلظ أحوج الناس إلى إكثار الشاق منها . ومنها أعمال سبعية تستجلب لعنا عظيما كالقتل . ومنها أعمال شهوية ، ومنها مكاسب ضارة كالقمار والربا . وفي كل شيء من هذه المذكورات ثلمة عظيمة في النفس من جهة الاقدام على خلاف السنة اللازمة كما ذكرنا ، ولعن من الملأ الأعلى يحيط به ، فبمجموع الأمرين يحصل العذاب ، وهذه المرتبة أعظم الكبائر قد انعقد في حظيرة القدس تحريمها ، ولعن صاحبها ، ولم يزل الأنبياء يترجمون ما انعقد هنالك ، وأكثرها مجمع عليه في الشرائع . المرتبة الرابعة معصية الشرائع والمناهج المختلفة باختلاف الأمم والأعصار وذلك أن الله تعالى إذا بعث نبيا إلى قوم ؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، وليقيم عوجهم ؛ وليسوسهم أحسن السياسة - كان بعثه متضمنا لإيجاب ما لا يمكن إقامة عوجهم وسياستهم إلا به ، فلكل مقصد مظنة أكثرية أو دائمة يجب أن يؤاخذوا عليها ، ويخاطبوا بها ، وللتوقيت قوانين توجبه ، ورب أمر يكون داعيا إلى مفسدة أو مصلحة فيؤمرون حسبما يدعون إليه ، ومن ذلك ما هو مأمور أو منهي عنه حتما ، ومنه ما هو مأمور أو منهي عنه من غير عزم ' واقل ذلك ما نزل به الوحي الظاهر ، وأكثره مالا يثبته إلا اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم .
____________________
(1/163)
المرتبة الخامسة ما لم ينص عليه الشارع ولم ينعقد في الملأ الأعلى حكمه لكن توجه عبد إلى الله بمجامع همته فاعتراه شيء يظنه ممنوعا عنه ، أو مأمورا به من قبل قياس ، أو تخريج ، أو نحو ذلك ، كما يظهر للعوام تأثير بعض الأدوية من قبل تجربة ناقصة أو دوران حكم الطبيب الحاذق على علة ، ولا يعلمون وجه التأثير ، ولا ينص عليه الطبيب ، فلا يخرج مثل هذا الإنسان من العهدة حتى يأخذ بالاحتياط ، وإلا كان بينه وبين ربه حجاب فيما يظن فيؤاخذ بظنه . وأصل المرضى في هذه المرتبة أن يهمل أمرها ، ولا يلتفت إليها ، غير أن في الوجود أنفا يستوجبون ذلك فيوفر عليهم الجواد ما استوجبوه وفيها قوله تعالى : ' أنا عند ظن عبدي بي ' وقوله تعالى في القرآن العظيم : ! ( ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ) ! وقوله صلى الله عليه وسلم : ' لا تشددوا فيشدد الله عليكم ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' الإثم ما حاك في صدرك ' ويلحق بها معصية حكم مجتهد فيه إذا كان مقلداً مجمعا تقليد من يرى ذلك و ، الله أعلم . ( باب مفاسد الآثام ) واعلم أن الكبيرة والصغيرة تطلقان باعتبارين : أحدهما بحسب حكمة البر والإثم ، وثانيهما بحسب الشرائع والمناهج المختصة بعصر دون عصر . أما الكبيرة بحسب حكمة البر والإثم ، فهي ذنب يوجب العذاب في القبر وفي المحشر إيجابا قويا ، ويفسد الارتفاقات الصالحة إفسادا قويا ، ويكون من الفطرة على الطرف المخالف جدا .
____________________
(1/164)
والصغيرة ما كان مظنة لبعض ذلك ، أو مفضيا إليه في الأكثر أو يوجب بعض ذلك من وجه ، ولا يوجبه من وجه ، كمن ينفق في سبيل الله ، وأهله جياع ، فيدفع رذيلة البخل ، ويفسد تدبير المنزل . وأما بحسب الشرائع الخاصة ، فما نصت الشريعة على تحريمه أو أو عد الشارع عليه بالنار ، أو شرع عليه حدا ، أو سمى مرتكبة كافرا خارجا من الملة إبانة لقبحه وتغليظا لأمره ، فهو كبيرة ، وربما يكون شيء صغيرة بحسب حكمة البر والإثم ، كبيرة بحسب الشريعة ، وذلك أن الملة الجاهلية ربما ارتكبت شيئا حتى فشا الرسم به فيهم لا يخرج منهم إلا أن تتقطع قلوبهم ، ثم جاء الشرع ناهيا عنه ، فحصل منهم لجاج ومكابرة ، وحصل من الشرع تغليظ وتهديد بحسب ذلك حتى صار ارتكابها كالمناوأة الشديدة للملة ، ولا يتأتى الإقدام علي مثله إلا من كل مارد متمرد لا يستحي من الله ولا من الناس ، فكتب كبيرة عند ذلك . وبالجملة فنحن نؤخر الكلام في الكبائر بحسب الشريعة إلى القسم الثاني من هذا الكتاب لأن ذلك موضعه ، وننبه على مفاسد الكبائر بحسب حكمة البر والاثم ههنا كما فعلنا في أنواع البر نحوا من ذلك . وقد اختلف الناس في الكبيرة إذا مات العاصي عليها ، ولم يتب هل يجوز أن يعفو الله عنه أولا ؟ وجاء كل فرقة بأدلة من الكتاب والسنة ، وحل الاختلاف عندي أن أفعال الله تعالى على وجهين : منها الجارية على العادة المستمرة ، ومنها الخارقة للعادة ، والقضايا التي يتكلم بها الناس موجهة بجهتين : إحداهما في العادة : والثانية مطلقا ، وشرط التناقض اتحاد الجهة مثل ما قرره المنطقيون في القضايا الموجهة ، وقد تحذف الجهة فيجب اتباع القرائن ، فقولنا كل من تناول السم مات معناه بحسب العادة المستمرة ، وقولنا ليس كل من تناول السم مات معناه بحسب خرق العادة ، فلا تناقض ،
____________________
(1/165)
وكما أن لله تعالى في الدنيا أفعالا خارقة وأفعالا جارية على العادة ، فكذلك في المعاد أفعال خارقة وعادية ، أما العادة المستمرة فإن يعاقب العاصي إذا مات من غير توبة زمانا طويلا ، وقد تخرق العادة وكذلك حال حقوق العباد ، وأما خلود صاحب الكبيرة في العذاب ، فليس بصحيح وليس من حكمة الله أن يفعل بصاحب الكبيرة مثل ما يفعل يا الكافر سواء والله أعلم . ( باب في المعاصي التي هي فيما بينه وبين نفسه ) اعلم أن القوة الملكية من الإنسان اكتنفت بها القوة البهيمية من جوانبها ، وإنما مثلها في ذلك مثل طائر في قفص ، سعادته أن يخرج من هذا القفص ، فيلحق بحيزه الأصلي من الرياض الأريضة ، ويأكل الحبوب الغاذية والفواكه اللذيذة من هنالك ، ويدخل في زمرة أبناء نوعه ، فيبتهج بهم كل الابتهاج ، فأشد شقاوة الإنسان أن يكون دهريا ، وحقيقة الدهري أن يكون مناقضا للعلوم الفطرية المخلوقة فيه ، وقد بينا أن له ميلا في أصل فطرته إلى المبدأ جل جلاله ، وميلا إلى تعظيمه أشد ما يجد من التعظيم ، وإليه الإشارة في قوله تبارك وتعالى : ! ( وإذ أخذ ربك من بني آدم ) ! الآية وقوله صلى الله عليه وسلم : ' كل مولود يولد على الفطرة ' والتعظيم الأقصى لا يتمكن من نفسه إلا باعتقاد تصرف في بارئه بالقصد والاختيار ومجازاة وتكليف لهم وتشريع عليهم ، فمن أنكر أن له ربا تنتهي إليه سلسلة الوجود ، أو اعتقد ربا معطلا لا يتصرف في العالم أو يتصرف في بالإيجاب من غير إرادة أو لا يجازى عباده على ما يفعلون من خير وشر ، أو أعتقد
____________________
(1/166)
ربه كمثل سائر الخلق ، أو أشرك عباده في صفاته ، أو اعتقد أنه لا يكلفهم بشريعة على لسان نبي - فذلك الدهري الذي لم يجمع في نفسه تعظيم ربه ، وليس لعلمه نفوذ إلى حيز القدس أصلا ، وهو بمنزلة الطائر المحبوس في قفص من حديد ليس فيه منفذ ولا موضع إبرة ، فإذا مات شف الحجاب وبرزت الملكية بروزا ما ، وتحرك الميل المفطور فيه ، وعاقته العوائق في علمه بربه وفي الوصول إلى حيز القدس ، فهاجت في نفسه وحشة عظيمة ، ونظر إليها بارئها والملأ الأعلى ، وهي في تلك الحالة الخبيثة ، فأحدقت فيها بنظر السخط والازدراء ، وترشحت في نفوس الملائكة إلهامات السخط والعذاب ، فعذب في المثال وفي الخارج ، أو كافرا تكبر على الشأن الذي تطور به الله تعالى كما قال : ! ( كل يوم هو في شأن ) ! وأعني بالشأن أن للعالم أدوارا وأطواراً حسب الحكمة الإلهية ، فإذا جاء دوره أوحي الله تعالى في كل سماء أمرها ، ودبر الملأ الأعلى بما يناسبها ، وكتب لهم شريعة ومصلحة . ثم ألهم الملأ الأعلى أن يجمعوا تمشية هذا الطور في العالم ، فيكون إجماعهم سببا لإلهامات في قلوب البشر ، فهذا الشأن تلو المرتبة القديمة التي لا يشوبها حدوث ، وهذه أيضا شارحة لبعض كمال الواجب جل مجده كالمرتبة الأولى فكل من باين هذا الشأن ، وأبغضه وصد عنه أتبع من الملأ الأعلى بلعنة شديدة تحيط بنفسه ، فتحبط أعماله ، ويقسوا قلبه ، ولا يستطيع أن يكسب من أعمال البر ما ينفعه ، وإليه الإشارة في قوله تعالى
____________________
(1/167)
! ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ) ! وقوله : ! ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ) ! فهذا كطير في قفص له منافذ إلا أنه قد غشى من فوقه بغاشية عظيمة وأدنى من ذلك أن يعتقد التوحيد والتعظم على وجههما ، ولكن ترك الامتثال لما أمر به في حكمة البر والاثم ، ومثله كمثل رجل عرف الشجاعة ما هي وما فائدتها ، ولكن لا يستطيع الاتصاف بها لأن حصول نفس الشجاعة غير حصول صورتها في النفس ، وهو أحسن حالا ممن لا يعرف معنى الشجاعة أيضا ، ومثله كمثل طائر في قفص مشبك يرى الخضرة والفواكه وقد كان فيما هنالك أياما ، ثم طرأ عليه الحبس ، فيشتاق إلى ما هنالك ويضرب بجناحه ، ويدخل في المنافذ مناقيره ، ولا يجد طريقا يخرج منه ، وهذه هي الكبائر بحسب حكمة البر والاثم . وأدنى من ذلك أن يفعل هذه الأوامر ؛ ولكن لاعلى شريطتها التي تجب لها ، فمثله كمثل طائر في قفص مكسور في الخروج منه حرج ، ولا يتصور الخروج إلا بخدش في جلده و نتف في ريشه ، فهو يستطيع أن يخرج من قفصه ، ولكن بجد وكد ، ولا يبتهج في أبناء نوعه كل الابتهاج ، ولا يتناول من فواكه الرياض كما ينبغي لما أصابه من الخدش والنتف ، وهؤلاء هم الذين خلطوا عملا صالحا وأخر سيئا ، وعوائقهم هذه هي الصغائر بحسب حكمة البر والاثم وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/168)
في حديث الصراط إلى هذه الثلاثة حيث قال : ' ساقط في النار ، ومخردل ناج ، ومخدوش ناج ' والله أعلم . ( باب الآثام التي هي فيما بينه وبين الناس ) اعلم أن أنواع الحيوان على مراتب شتى : منها ما يتكون تكون الديدان من الأرض ، ومن حقها أن تلهم من بارئ الصور كيف تتغذى ، ولا تلهم كيف تدبر المنازل . ومنها ما يتناسل ويتعاون الذكر والأنثى منها في حضانة الأولاد ، ومن حقها في حكمة الله تعالى أن تلهم تدبير المنازل أيضا ، فألهم الطير كيف يتغذى ، ويطير ، وألهم أيضا كيف يسافد ، وكيف يتخذ عشا ، وكيف تزق الفراخ ، والإنسان من بينها مدني الطبع لا يتعيش إلا بالتعاون من بني نوعه ، فإنه لا يتغذى الحشيش النابت بنفسه ولا بالفواكه نيئة ، ولا يتدفأ بالوبر إلى غير ذلك مما شرحناه من قبل ، ومن حقه أن يلهم تدبير المعدن مع تدبير المنازل وآداب المعاش ، غير أن سائر الأنواع تلهم عند الاحتياج إلهاما جبليا إلا في حصة قليلة من علوم التعيش كمص الثدي عند الارتضاع والسعال عند البحة وفتح الجفون عند إرادة الرؤية ونحو ذلك ، وذلك لأن خياله كان صناعا هماما ، ففوض له علوم تدبير المنازل وتدبير المدن ، إلى الرسم وتقليد المؤيدين بالنور الملكي فيما يوحى إليهم ، وإلى تجربة ورصد تدبير غيبي وروية بالاستقراء والقياس والبرهان ، ومثله في تلقي الأمر الشائع الواجب فيضانه من بارئ الصور مع الاختلاف الناشئ من قبل استعدادتهم كمثل الواقعات التي يتلقاها في المنام يفاض
____________________
(1/169)
عليهم العلوم الفوقانية من حيزها ، فتتشبح عندهم بأشباح مناسبة ، فتختلف الصور لمعنى في المفاض عليه لا في المفيض . فمن العلوم الفائضة على أفراد الإنسان جميعا عربهم وعجمهم وحضرهم وبدوهم - وإن اختلق طريق التلقي منهم - حرمة خصال تدمر نظام مدنهم ، وهي ثلاثة أصناف : منها أعمال شهوية ، ومنها أعمال سبعية ، ومنها أعمال ناشئة من سوء الأخذ في المعاملات . والأصل في ذلك أن الإنسان متوارد أبناء نوعه في الشهوة والغيرة والحرص ، والفحول منهم يشبهون الفحول من البهائم في الطموح إلى الإناث وفي عدم تجويز المزاحمة على الموطوءة ، غير أن الفحول من البهائم تتحارب حتى يغلب أشدها بطشا وأحدها نفسا ، وينهزم ما دون ذلك ، أو لا تشعر بالمزاحمة لعدم رؤية المسافدة . والإنسان ألمعي يظن الظن كأنه يرى ويسمع ، وألهم أن التجارب لأجل ذلك مدمر لمدنهم لأنهم لا يتمدنون إلا بتعاون من الرجال ، والفحول أدخل في التمدن من الإناث ، فألهم إنشاء اختصاص كل واحد بزوجته ، وترك المزاحمة فيم اختص به أخوه ، وهذا أصل حرمة الزنا ، ثم صورة الاختصاص بالزوجات أمر موكول إلى الرسم والشرائع ، والفحول منهم أيضا يشبهون الفحول من البهائم من حيث إن سلامة فطرتهم لا تقتضي إلا الرغبة في الإناث دون الرجال ، كما أن البهائم لا تلتفت هذه اللفتة إلا قبل الإناث غير أن رجالا غلبتهم الشهوة الفاسدة بمنزلة من يتلذذ بأكل الطين والحممة فانسلخوا من سلامة الفطرة : يقضي هذا شهوته بالرجال ، وذلك صار مأبونا يستلذ ما لا يستلذه الطبع السليم ، فأعقب ذلك تغيرا لأمزجتهم
____________________
(1/170)
ومرضا في نفوسهم ، كان مع ذلك سببا لإهمال النسل من حيث إنهم قضوا حاجتهم التي قيض الله تعالى عليهم منهم ليذرأ بها نسلهم بغير طريقها ، فغيروا النظام الذي خلقهم الله تعالى عليه ، فصار قبح هذه الفعلة مندمجا في نفوسهم ، فلذلك يفعلها الفساق ، ولا يعترفون بها ، ولو نسبوا إليها لماتوا حياء إلا أن يكون انسلاخا قويا ، فيجهرون ، ولا يستحيون فلا ، يتراخى أن يعاقبوا ، كما كان في زمن سيدنا لوط عليه السلام ، وهذا أصل حرمة اللواطة . ومعاش بني آدم وتدبير منازلهم وسياسة مدنهم لا يتم إلا بعقل وتمييز ، وإدمان الخمر ترجع إلى نظامهم بخرم قوى ، ويورث محاربات وضغائن غير أن أنفسا غلبت شهوتهم الرديئة على عقولهم أقبلوا على هذه الرذيلة ، وأفسدوا عليهم ارتفاقاتهم ، فلو لم يجر الرسم بمنع عن فعلتهم تلك لهلك الناس وهذا أصل حرمة إدمان الخمر ، وأما حرمة قليلها وكثيرها ، فلا يبين إلا في مبحث الشرائع . والفحول منهم يشبهون الفحول من البهائم في الغضب على من يصد عن مطلوب ، ويجري عليه مؤلما في نفسه أو في بدنه ، لكن الفحول من البهائم لا تتوجه إلا إلى مطلوب محسوس أو متوهم ، والإنسان يطلب المتوهم والمعقول ، وحرصه أشد من حرص البهائم ، وكانت البهائم تتقاتل حتى ينهزم واحد ، ثم ينسى الحقد إلا ما كان من مثل الفحول من الإبل والبقر والخيل ، والإنسان يحقد ولا ينسى ، فلو فتح فيهم باب التقاتل لفسدت مدينتهم ، واختلت معايشهم ، فألهموا حرمة القتل والضرب إلا لمصلحة عظيمة من قصاص ونحوه ، وهاج من الحقد في صدور بعضهم مثل ما هاج في صدور الأولين ، وخافوا القصاص فانحدروا إلى أن يدسوا السم ، في الطعام
____________________
(1/171)
أو يقتلوا بالسحر ، وهذا حالة بمنزلة حال القتل بل أشد منه ، فإن القتل ظاهرة يمكن التخلص منه ، وهذه لا يمكن التخلص منها ، وانحدروا أيضا إلى القذف والمشي به إلى ذي سلطان ليقتل . والمعايش التي جعلها الله تعالى لعباده إنما هي الالتقاط من الأرض المباحة والرعي والزراعة والصناعة والتجارة وسياسة المدينة والملة وكل كسب تجاوز عنها فإنه لا مدخل له في تمدنهم . وانحدر بعضهم إلى أكساب ضارة كالسرقة والغصب ، وهذه كلها مدمرة للمدينة فألهم أنها محرمة ، واجتمع بنو آدم كلهم على ذلك وإن باشرها العصاة منهم في غلواء نفوسهم ، وسعى الملوك العادلة في إبطالها ومحقها ، واستشعر بعضهم سعي الملوك في إبطالها ، فانحدروا إلى الدعاوى والكاذبة واليمين الغموس وشهادة الزور وتطفيف الكيل والوزن والقمار والربا أضعافا مضاعفة ، وحكمها حكم تلك الأكساب الضارة ، وأخذ العشر النهك بمنزلة قطع الطريق ، بل أقبح . وبالجملة فلهذه الأسباب دخلت في نفوس بني آدم حرمة هذه الأشياء ، وقام أقواهم عقلا وأسدهم رأيا وأعلمهم بالمصلحة الكلية يمنع عن ذلك طبقة بعد طبقة حتى صار رسما فاشيا ، ودخلت في البديهيات الأولية كسائر المشهورات الذائعة ، فعند ذلك رجع إلى الملأ الأعلى لون منهم حسبما كان انحدر إليهم من الإلهام أن هذه محرمة وأنها ضارة أشد الضرر ، فصاروا كلما فعل واحد من بني آدم شيئا من تلك الأفعال تأذوا منه ، مثل ما يضع أحدنا رجله على الجمرة ، فتنتقل إلى القوى الإدراكية في تلك اللمحة ، وتتأذى منه ، ثم صار لتأذيها خطوط شعاعية تحيط بهذا العاصي ، وتدخل في قلوب المستعدين من الملائكة وغيرهم أن يؤذوه إذا أمكن إيذاؤه ،
____________________
(1/172)
ورخت فيه مصلحته المكتوبة عليه المسماة في الشرع بالهام الملائكة ما رزقه وما أجله ، وما عمره ، وشقي أو سعيد ، وفي النجوم بأحكام الطالع حتى إذا مات وهدأت عنه هذه المصلحة فرغ له بارئه كما قال : ! ( سنفرغ لكم أيها الثقلان ) ! وجازاه الجزاء الأوفى والله اعلم . ( المبحث السادس ) ( مبحث السياسات الملية ) ( باب الحاجة إلى هداة السبل ومقيمى الملل ) قال الله تعالى : ! ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) ! واعلم أن السنن الكاسبة لانقياد البهيمية للملكية والآثام المباينة لها ، وإن كان العقل السليم يدل عليها ، ويدرك فوائد هذه ومضار تلك ، لكن الناس في غفلة منها ، لأنه تغلب عليهم الحجب ، فيفسد وجدانهم ، كمثل الصفراوي ، فلا يتصورون الحالة المقصودة ولا نفعها ولا الحالة المحوفة ولا ضررها ، فيحتاجون إلى عالم بالسنة الراشدة يسوسهم ، ويأمر بها ، ويحض عليها ، وينكر على مخالفتها . ومنهم ذو رأي فاسد لا يقصد بالذات إلا لأضداد الطريقة المطلوبة فيضل ويضل ، فلا يستقيم أمر القوم إلا بكبته وإخماله . ومنهم ذو رأي راشد في الجملة لا يدرك إلا حصة ناقصة من الاهتداء
____________________
(1/173)
فيحفظ شيئا ، ويغيب عنه أشياء ، أو يظن في نفسه أنه الكامل الذي لا يحتاج إلى مكمل ، فيحتاج إلى من ينبهه على جهله . وبالجملة فالناس يحتاجون لا محالة إلى عالم حق العلم تؤمن فلتاته . ولما كانت المدينة مع استبداد العقل المعاشى الذي يوجد عند كثير من الناس بإدراك النظام المصلح لها تضطر إلى رجل عارف بالمصلحة على وجهها يقوم بسياستها ، فما ظنك بأمة عظيمة من الأمم تجمع استعدادات مختلفة جدا في طريقة لا يقبلها بشهادة القلوب إلا الازكياء أهل الفطرة الصافية أو التجريد البالغ ، ولا يهدى إليها إلا الذين هم في أعلى درجة من أصناف النفوس - وقليل ما هم . وكذلك أيضا لما كانت الحدادة والنجارة وأمثالهما لا تتأتى من جمهور الناس بسنن مأثورة عن أسلافهم وأساتذة يهدونهم إليها ، ويحضونهم عليها ، فما ظنك بهذه المطالب الشريفة التي لا يهتدي إليها إلا الموفقون ، ولا يرغب فيها إلا المخلصون . ثم لا بد لهذا العالم أن يثبت على رءوس الاشهاد أنه عالم بالسنة الراشدة ، وأنه معصوم فيما يقوله من الخطأ والاضلال ، ومن أن يدرك حصة من الاصلاح ، ويترك حصة أخرى لا بد منها ، وذلك ينحصر في وجهين : إما أن يكون راويا عن رجل قبله انقطع عنده الكلام لكونهم مجمعين على اعتقاد كماله وعصمته وكون الرواية محفوظة عندهم ، فيمكن له أن يؤاخذهم بما اعتقدوه ، ويحتج عليهم ، ويفحمهم ، أو يكون هو الذي انقطع عنده الكلام ، وأجمعوا عليه . وبالجملة فلا بد للناس من رجل معصوم يقع عليه الإجماع يكون فيهم ، أو تكون الرواية محفوظة عندهم ، وعلمه بحالة الانقياد وتوليد هذه السنن
____________________
(1/174)
منها ووجوه منافعها ، وعلمه الآثام ووجوه مضارها لا يمكن أن يحصل بالبرهان ، ولا بالعقل المتصرف في المعاش ، ولا بالحس ، بل هي أمور لا يكشف عن حقيقتها إلا الوجدان . فكما أن الجوع والعطش ، وتأثير الدواء المسخن أو المبرد لا يدرك إلا بالوجدان ، فكذلك معرفة ملاءمة الشيء للروح ومباينته لها لا طريق إليها إلا الذوق السليم . وكونه مأمونا عن الخطأ في نفسه إنما يكون بخلق الله علما ضروريا فيه بأن جميع ما أدرك وعلم حق مطابق للواقع بمنزلة ما يقع للمبصر عند الابصار ، فإنه إذا أبصر شيئا لا يحتمل عنده أن تكون عينه مؤفة ، وأن يكون الابصار على خلاف الواقع ، وبمنزلة العلم بالموضوعات اللغوية ، فإن العربي مثلا لا يشك أن الماء موضوع لهذا العنصر ، ولفظ الأرض لذلك مع أنه لم يقم له على ذلك برهان ، وليس بينهما ملازمة عقلية ، ومع ذلك فإنه يخلق فيه علم ضروري . وإنما يحصل ذلك في الأكثر بأن يكون لنفسه ملكة جبلية يكون بها تلقي العلم الوجداني على سنن الصواب دائما ، وإن يتتابع الوجدان ، ويتكرر تجربة صدق وجدانه . . ، وعند الناس إنما يكون بأن يصحح عندهم بأدلة كثيرة برهانية أو خطابية أن ما يدعو إليه حق ، وأن سيرته صالحة يبعد منها الكذب ، وأن يروا منه آثار القرب ، كالمعجزات واستجابة الدعوات ، حتى لا يشكوا أن له في التدبير العالي منزلة عظيمة ، وأن نفسه من النفوس القدسية اللاحقة بالملائكة ، وأن مثله حقيق بألا يكذب على الله ، ولا يباشر معصية ، ثم بعد ذلك تحدث أمور تؤلفهم تأليفا عظيما ، وتصيره عندهم أحب من أموالهم وأولادهم والماء الزلال عند العطشان ، فهذا كله لا يتحقق انصباغ أمة من الأمم بالحالة المقصودة بدونه ، ولذلك لم يزل المشغولون بنظائر هذه العبادات يسندون أمرهم إلى من يعتقدون فيه هذه الأمور أصابوا أم أخطأوا ، والله اعلم .
____________________
(1/175)
( باب حقيقة النبوة وخواصها ) اعلم أن أعلى طبقات الناس المفهمون ، وهم ناس أهل اصطلاح ملكيتهم في غاية العلو ، يمكن لهم أن ينبعثوا إلى إقامة نظام مطلوب بداعية حقانية ، ويترشح عليهم من الملأ الأعلى علوم وأحوال إلهية ، ومن سيرة المفهم أن يكون معتدل المزاج سوي الخلق والخلق ليس فيه خبابة مفرطة بحسب الآراء الجزئية ، ولا ذكاء مفرط لا يجذبه من الكلى إلى الجزئي ، ومن الروح إلى الشبح سبيلا ، ولا غباوة مفرطة لا يتخلص بها إلى الكلى ، ومن الشبح إلى الروح ، ويكون ألزم الناس من بالسنة الراشدة ذا سمت حسن في عباداته ، ذا عدالة في معاملته مع الناس ، محبا للتدبير الكلي ، راغبا في النفع العام ، لا يؤذي أحدا إلا بالعرض بأن يتوقف النفع العام عليه أو يلازمه ، لا يزال مائلا إلى عالم الغيب ، يحس أثر ميله في كلامه ووجه وشأنه كله ، يرى أنه مؤيد من الغيب ، ينفتح له بأدنى رياضة ما لا ينفتح لغيره من القرب والسكينة . والمفهون على أصناف كثيرة واستعدادات مختلفة : فمن كان أكثر حاله أن يتلقى من الحق علوم تهذيب النفس بالعبادات فهو الكامل . ومن كان أكثر حاله تلقي الأخلاق الفاضلة وعلوم تدبير المنزل ونحو ذلك فهو الحكيم . ومن كان أكثر حاله تلقي السياسات الكلية ، ثم وفق لإقامة العدل في الناس وذب الجور عنهم يسمى خليفة ، ومن ألمت به الملأ الأعلى ، فعلمته وخاطبته ، وتراءت له ، وظهرت أنواع من كراماته يسمى بالمؤيد بروح القدس .
____________________
(1/176)
ومن جعل منهم في لسانه وقلبه نور ، فنفع الناس بصحبته وموعظته ، وانتقل منه إلى حواريين من أصحابه سكينة ونور ، فبلغوا بواسطته مبالغ الكمال ، وكان حثيثا على هدايتهم يسمى هاديا مزكيا . ومن كان أكثر علمة ومعرفة قواعد الملة ومصالحها ، وكان حثيثا على إقامة المندرس منها يسمى إماما . ومن نفث في قلبه أن يخبرهم بالداهية المقدرة عليهم في الدنيا ، أو تفطن بلعن الحق قوما ، فأخبرهم بذلك ، أو جرد من نفسه في بعض أوقاته ، فعرف ما سيكون في القبر والحشر ، فأخبرهم بتلك الأخبار يسمى منذرا . وإذا اقتضت الحكمة الالهية أن يبعث إلى الخلق واحد من المفهمين ، فيجعله سببا لخروج الناس من الظلمات إلى النار ، وفرض الله على عباده أن يسلموا وجوههم وقلوبهم له ، وتأكد في الملأ الأعلى الرضا عمن انقاد له ، وانضم إليه ، واللعن على من خالفه ، وناوأه فأخبر الناس بذلك ، وألزمهم طاعته فهو النبي ، وأعظم الأنبياء شأنا من له نوع آخر من البعثة أيضا ، وذلك أن يكون مراد الله تعالى فيه أن يكون سببا لخروج الناس من الظلمات إلى النور ، وأن يكون قومه خير أمة أخرجت للناس ، فيكون بعثه يتناول بعثا آخر . وإلى الأول وقعت الاشارة في قوله تعالى : ! ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ) ! الآية وإلى الثاني في قوله تعالى : ! ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) !
____________________
(1/177)
وقوله صلى الله عليه وسلم ' فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ' ونبينا صلى الله عليه وسلم استوعب جميع فنون المفهمين ، واستوجب أتم البعثين ، وكان من الأنبياء قبله من يدرك فنا أو فنين ونحو ذلك . واعلم أن اقتضاء الحكمة الإلهية لبعث الرسل لا يكون إلا لانحصار الخير النسبي المعتبر في التدبير في البعث ، ولا يعلم حقيقة ذلك إلا علام الغيوب ، إلا أنا نعلم قطعا أن هنالك أسبابا لا يتخلف عنها البعث البتة ، وافتراض الطاعة إنما يكون بأن يعلم الله تعالى صلاح أمة من الأمم أن يطيعوا الله ، ويعبدوه ، ويكونوا بحيث لا تستوجب نفوسهم التلقي من الله ، ويكون صلاح أمرهم محصورا يومئذ في اتباع النبي ، فيقضي الله في حظيرة القدس بوجوب اتباعه ، ويتقرر هنالك الأمر ، وذلك إما بأن يكون الوقت وقت ابتداء ظهور دولة ، وكبت الدول بها ، فيبعث الله تعالى من يقيم دين أصحاب تلك الدولة كبعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، أو يقدر الله تعالى بقاء قوم واصطفاءهم على البشر ، فيبعث من يقوم عوجهم ، ويعلمهم الكتاب كبعث سيدنا موسى عليه السلام ، أو يكون نظم ما قضى لقوم من استمرار دولة أو دين يقتضي بعث مجدد كداود وسليمان وجمع من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام ، وهؤلاء الأنبياء قد قضى الله بنصرتهم على أعدائهم كما قال : ! ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ) ! ووراء هؤلاء قوم يبعثون لاتمام الحجة ، والله أعلم . وإذا بعث النبي وجب على المبعوث إليهم أن يتبعوه ، وإن كانوا على سنة راشدة ، لأن مناوأة هذا المنوه شأنه يورث لعنا من الملأ الأعلى ، وإجماعا على خذلانه ، فينسد سبيل تقربهم من الله ، ولا يفيد كدهم شيئا ،
____________________
(1/178)
وإذا ماتوا أحاطت اللعنة بنفوسهم ، على أن هذه صورة مفروضة غير واقعة ، ولك عبرة باليهود : كانوا أحوج خلق الله إلى بعث الرسول لغلوهم في دينهم وتحريفاتهم في كتابهم . وثبوت حجة الله على عباده ببعثه الرسل إنما هو بأن أكثر الناس خلقوا بحيث لا يمكن لهم تلقي ما لهم وما عليهم بلا واسطة ، بل استعدادهم إما ضعيف يتقوى بأخبار الرسل ، أو هنالك مفاسد لا تندفع إلا بالقصر ، على رغم أنفهم ، وكانوا بحيث يؤاخذون في الدنيا والآخرة ، فأوجب لطف الله عند اجتماع بعض الأسباب العلوية والسفلية أن يوحى إلى أزكى القوم أن يهديهم إلى الحق ، ويدعوهم إلى الصراط المستقيم ، فمثله في ذلك كمثل سيد مرض عبيده ، فأمر بعض خواصه أن يكلفهم شرب دواء أشاؤا ، أم أبو ، فلو أنه أكرههم على ذلك كان حقا ، ولكن تمام اللطف يقتضي أن يعلمهم أولا أنهم مرضى ، وأن الدواء نافع ، وأن يعمل أمورا خارقة تطمئن نفوسهم بها على أنه صادق فيما قال ، وان يشوب الدواء بحلو ، فحينئذ يفعلون ما يؤمرون به على بصيرة منه وبرغبة فيه ، فليست المعجزات ، ولا استجابة الدعوات ، ونحو ذلك إلا أمورا خارجة عن أصل النبوة لازمة لها في الأكثر ، وظهور معظم المعجزات يكون من أسباب ثلاثة : أحدها كونه من المفهمين ، فإن ذلك يوجب انكشاف بعض الحوادث عليه ، ويكون سببا لاستجابة الدعوات وظهور البركات فيما يبرك عليه . والبركة إما زيادة نفع الشيء بأن يخيل إليهم مثلا أن الجيش كثير ، فيفشلوا أو بصرف الطبيعة الغذاء إلى خلط صالح ، فيكون كمن تناول أضعاف ذلك الغداء ، أو زيادة عين الشيء بأن تتقلب المادة الهوائية بتلك الصورة لحلول قوة مثالية ، ونحو ذلك من الأسباب التي يعسر إحصاؤها . والثاني أن تكون الملأ الأعلى مجمعة إلى تمشية أمره ، فيوجب ذلك
____________________
(1/179)
إلهامات وإحالات وتقريبات لم تكن تعهد من قبل ، فينصر الأحباء ، ويخذل الأعداء ، ويظهر أمر الله ولو كره الكافرون . والثالث أن تحدث حوادث لأسبابها الخارجية من مجازاة العصاة وحدوث الأمور العظام في الجو ، فيجعلها الله تعالى معجزة له بوجه من الوجوه ، إما لتقدم إخبار بها ، أو تربت المجازاة على مخالفة أمره ، أو كونها موافقة بما أخبر من سنة المجازاة ، أو أمر مما يشبه ذلك . والعصمة لها أسباب ثلاثة : أن يخلق الإنسان نقيا عن الشهوات الرذيلة سمحا لا سيما فيما يرجع إلى محافظة الحدود الشرعية ، وأن يوحي إليه حسن الحسن وقبح القبيح ومالهما ، وأن يحول الله بينه وبين ما يريد من الشهوات الرذيلة . واعلم أن من سيرة الأنبياء عليهم السلام ألا يأمروا بالتفكر في ذات الله تعالى وصفاته ، فان ذلك لا يستطيعه جمهور الناس ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله ' وقوله في آية . ! ( وأن إلى ربك المنتهى ) ! قال : ' لا فكرة في الرب ' وإنما يأمرون في التفكر في نعم الله تعالى وعظيم قدرته . ومن سيرتهم ألا يكلموا الناس إلا على قدر عقولهم التي خلقوا عليها وعلومهم التي هي حاصلة عندهم بأصل الخلقة ، وذلك لأن نوع الإنسان حيثما وجد فله في أصل الخلقة حد من الإدراك زائد على إدراك سائر الحيوانات إلا إذا عصت المادة جدا ، وله علوم لا يخرج إليها إلا بخرق العادة المستمرة كالنفوس القدسية من الأنبياء والأولياء ، أو برياضات شاقة تهيئ
____________________
(1/180)
نفسه لإدراك ما لم يكن عنده بحساب ، أو بممارسة قواعد الحكمة والكلام وأصول الفقه ونحوها مدة طويلة ، فالأنبياء لم يخاطبوا الناس إلا على منهاج إدراكهم الساذج المودع فيهم بأصل الخلقة ، ولم يلتفتوا إلى ما يكون نادر الأسباب قلما يتفق وجودها ، فلذلك لم يكلفوا الناس أن يعرفوا ربهم بالتجليات والمشاهدات ، ولا بالبراهين والقياسات ، ولا أن يعرفوه منزها عن جميع الجهات ، فان ذلك كالممتنع بالإضافة إلى من لم يشتغل بالرياضات ، ولم يخالط المعقوليين مدة طويلة ، ولم يرشدوهم إلى طريق الاستنباط والاستدلالات ووجوه الاستحسانات ، والفرق بين الأشباه والنظائر بمقدمات دقيقة المأخذ ، وسائر ما يتطاول به أصحاب الرأي على أهل الحديث . ومن سيرتهم ألا يشتغلوا بما لا يتعلق بتهذيب النفس وسياسة الأمة كبيان أسباب حوادث الجو من المطر والكسوف والهالة وعجائب النبات والحيوان ومقادير سير الشمس والقمر وأسباب الحوادث اليومية وقصص الأنبياء والملوك والبلدان ونحوها اللهم إلا كلمات يسيرة ألفها أسماعهم ، وقبلها عقولهم يؤتى بها في التذكير بآلاء الله والتذكير بأيام الله على سبيل الاستطراد بكلام إجمالي يسامح في مثله بإيراد الاستعارات وبالمجازات ، ولهذا الأصل لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن لمية نقصان القمر وزيادته أعرض الله تعالى عن ذلك إلى بيان فوائد الشهور فقال : ! ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) ! وترى كثيراً من الناس فسد ذوقهم بسبب الألفة بهذه الفنون أو غيرها من الأسباب ، فحملوا كلام الرسل على غير محمله ، والله اعلم .
____________________
(1/181)
( باب بيان أن أصل الدين واحد والشرائع والمناهج مختلفة ) قال الله تعالى : ! ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) ! قال مجاهد : أوصيناك يا محمد وإياهم دينا واحداً ، وقال تعالى : ! ( وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ) ! يعني ملة الإسلام ملتكم ، / فتقطعوا يعني المشركين واليهود والنصارى وقال تعالى : ! ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) ! قال ابن عباس : سبيلا وسنة وقال الله تعالى : ! ( لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه ) ! يعني شريعة هم عاملون بها . اعلم أن أصل الدين واحد اتفق عليه الأنبياء عليهم السلام ، وإنما الاختلاف في الشرائع والمناهج .
____________________
(1/182)
تفصيل ذلك أنه أجمع الأنبياء عليهم السلام على توحيد الله تعالى عبادة واستعانة ، وتنزيهه عما لا يليق بجنابه ، وتحريم الإلحاد في أسمائه ، وأن حق الله على عباده أن يعظموه تعظيما لا يشوبه تفريط ، وأن يسلموا وجوههم وقلوبهم إليه ، وأن يتقربوا بشعائر الله إلى الله ، وأنه قدر جميع الحوادث ، قبل أن يخلقها ، وأن لله ملائكة لا يعصونه فيما أمر ، ويفعلون ما يأمرون ، وأنه ينزل الكتاب على من يشاء من عباده ، ويفرض طاعته على الناس ، وأن القيامة حق ، والبعث بعد الموت حق ، والجنة ، والنار حق ، وكذلك أجمعوا على أنواع البر من الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والتقرب إلى الله بنوافل الطاعات من الدعاء والذكر وتلاوة الكتاب المنزل من الله ، وكذلك أجمعوا على النكاح وتحريم السفاح وإقامة العدل بين الناس وتحريم المظالم وإقامة الحدود على أهل المعاصي والجهاد مع أعداء الله والاجتهاد في إشاعة أمر الله ودينه ، فهذا أصل الدين ، ولذلك لم يبحث القرآن العظيم عن لمية هذه الأشياء إلا ما شاء الله ، فإنها كانت مسلمة فيمن نزل القرآن على ألسنتهم ، وإنما الاختلاف في صور هذه الأمور وأشباحها ، فكان من شريعة موسى عليه السلام الاستقبال في الصلاة إلى بيت المقدس ، وفي شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة ، وكان من شريعة موسى عليه السلام الرجم فقط ، وجاءت في شريعتنا بالرجم للمحصن والجلد لغيره ، وكان في شريعة موسى عليه السلام القصاص فقط ، وجاءت شريعتنا بالقصاص والدية جميعا ، وعلى ذلك اختلافهم في أوقات الطاعات وآدابها وأركانها . وبالجملة فالأوضاع الخاصة التي مهدت ، وبنيت بها أنواع البر والارتفاقات هي الشرعة والمنهاج واعلم أن الطاعات التي امر الله تعالى بها في جميع الأديان إنما هي أعمال تنبعث من الهيئات النفسانية التي هي في المعاد للنفوس أو عليها ، وتمد فيها
____________________
(1/183)
وتشرحها ، وهي أشباحها وتماثيلها ، ولا جرم أن ميزانها وملاك أمرها تلك الهيئات ، فمن لم يعرفها لم يكن من الأعمال على بصيرة ، فربما اكتفى بما لا يكفي ، وربما صلى بلا قراءة ولا دعاء ، يفيد فلا بد من سياسة عارف حق المعرفة يضبط الخفى المشتبه بأمارات واضحة ، ويجعلها أمرا محسوسا يميزه الأداني والأقاصي ، ولا يشتبه عليهم ليطالبوا به ويؤاخذوا عليه على حجة من الله واستطاعة منهم والآثام ربما تشتبه بما ليس باثم كقول المشركين : ! ( إنما البيع مثل الربا ) ! إما لقصور العلم ، أو لغرض دنيوي يفسد بصيرته ، فمست الحاجة إلى أمارات يتميز بها الاثم من غيره ، ولو لم يؤقت الأوقات لاستكثر بعضهم القليل من الصلاة والصوم ، فلم يغن ذلك عنهم شيئا ، ولم تمكن المعاقبة على تسللهم واحتيالهم ، ولو لم يعين لهم الأركان والشروط لخبطوا خبط عشواء ولو لا الحدود لم ينزجر أهل الطغيان . وبالجملة فجمهور الناس لا يتم تكليفهم إلا بأوقات وأركان وشروط وعقوبات وأحكام كلية ، ونحو ذلك ، وإذا شئت أن تعرف للتشريع ميزانا ، فتأمل حال الطبيب الحاذق عندما يجتهد في سياسة المرضى ، ويخبرهم بما لا يعرفون ، ويكلفهم بما لا يحيطون بدقائقه علما كيف يعمد إلى مظنات محسوسة ، فيقيمها مقام الأمور الخفية كما يقيم حمرة البشرة وخروج الدم من اللثة مقام غلبة الدم ، وكيف ينظر إلى قوة المرض وسن المريض وبلده وفصله وإلى قوة الدواء وجميع ما هناك ، فيحدس بمقدار خاص من الدواء يلائم الحال ، فيكلفه به ، وربما اتخذ قاعدة كلية من قبل إقامة المظنة
____________________
(1/184)
مقام سبب المرض وإقامة هذا القدر الذي تفطن به من الدواء مقام إزالة المادة المؤذية أو تغيير هيئتها الفاسدة ، فيقول مثلا : من احمرت بشرته ودميت لثته وجب عليه بحكم الطب أن يحتسي على الريق شراب العناب أو ماء العسل ، ومن لم يفعل ذلك فإنه على شرف الهلاك ، ويقول : من تناول من معجون كذا وكذا وزن مثقال زال عنه مرض كذا ، وأمن من مرض كذا ، فيؤثر عنه تلك الكلية ، ويعمل بها ، فيجعل الله في ذلك نفعا كثيرا ، وتأمل حال الملك الحكيم الناظر في إصلاح المدينة وسياسة الجيوش كيف ينظر إلى الأراضي وريعها ، وإلى الزراع ومؤنتهم ، وإلى الحراس وكفايتهم ، فيضرب العشر والخراج حسب ذلك ، وكيف يقيم هيئات محسوسة وقرائن مقام الأخلاق والملكات التي يجب وجودها في الأعوان ، فيتخذهم على ذلك القانون وكيف ينظر إلى الحاجات التي لا بد من كفايتها ، وإلى الأعوان وكثرتهم ، فيوزعهم توزيعا يكفي المقصود ، ولا يضيق عليهم ، وتأمل حال معلم الصبيان بالنسبة إلى صبيانه ، والسيد بالنسبة إلى غلمانه يريد هذا تعليمهم ، وذلك كفاية الحاجة المقصودة بأيديهم ، وهم لا يعرفون حقيقة المصلحة ، ولا يرغبون في إقامتها ، ويتسللون ، و يعتذرون ، يعتذرون ، ويحتالون كيف يعرفان مظنة الثلمة قبل وقوعها ، فيسدان الخلل ، ولا يخاطبانهم إلا بطريقة ليلها نهارها ، ونهارها ليلها ، لا يجدون منها حيلة ، ولا يتمكنون من التسلل وهي تقضي إلى المقصود من حيث يعلمون أو لا يعلمون . وبالجملة فكل من تولى لإصلاح جم غفير مختلفة استعدادهم ، وليسوا من الأمر على بصيرة ولا فيه على رغبة يضطر إلى تقدير وتوقيت وتعيين أوضاع وهيئات يجعلها العمدة في المطالبة والمؤاخذة . وأعلم أن الله تعالى لما اراد ببعثة الرسل أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور ، فأوحى إليهم أمره لذلك ، وألقى عليهم نوره ، ونفث فيهم الرغبة
____________________
(1/185)
في إصلاح العالم ، وكان اهتداء القوم يومئذ لا يتحقق إلا بأمور ومقدمات وجب في حكمة الله أن يلتوى جميع ذلك في إرادة بعثتهم ، وأن يكون افتراض طاعة الرسل وانقيادهم منفسحا إلى افتراض مقدمات الإصلاح ، وكل ما لا يتم في العقل أو العادة إلا به فإنه جملة بجر بعضها بعضا ، والله لا يخفى عليه خافية ، وليس في دين الله جزاف ، فلا يعين شيء دون نظائره إلا بحكم وأسباب يعلمها الراسخون في العلم ، ونحن نريد ان ننبه على جملة صالحة من تلك الحكم والأسباب ، والله أعلم . ( باب أسباب نزول الشرائع الخاصة بعصر دون عصر وقوم دون قوم ) والأصل فيه قوله تعالى : ! ( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) ! . تفسيرها أن يعقوب عليه السلام مرض مرضا شديدا ، فنذر لئن عافاه الله ليحرمن على نفسه أحب الطعام والشراب إليه ، فلما عوفي حرم على نفسه لحمان الإبل وألبانها ، وأقتدى به بنوه في تحريمها ، ومضى على ذلك القرون حتى أضمروا في نفوسهم التفريط في حق الأنبياء إن خالفوهم بأكلها ، فنزل التوراة بالتحريم ، ولما بين النبي صلى اله عليه وسلم أنه على ملة إبراهيم قالت اليهود كيف يكون على ملته وهو يأكل لحوم الإبل وألبانها ، فرد الله تعالى عليهم أن كل الطعام كان حلا في الأصل وإنما حرمت الإبل لعارض لحق باليهود ، فلما ظهرت النبوة في بني إسماعيل وهم برآء من ذلك العارض لم يجب رعايته .
____________________
(1/186)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة التراويح ' ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتى خشيت أن يكتب عليكم ، ولو كتب عليكم ما قمتم به ، فصلوها أيها الناس في بيوتكم ' فكبحهم النبي صلى الله عليه وسلم عن جعلها شائعا ذائعا بينهم لئلا تصير من شعائر الدين ، فيعتقدوا تركها تفريطا في جنب الله ، فتفرض عليهم . وقوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء ، فحرم لأجل مسألته ' . وقوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة ' . وقوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الحج ' أهو في كل عام لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت لم تقوموا بها ، ولو لم تقوموا بها عذبتم ' . واعلم أنه إنما اختلفت شرائع الأنبياء عليهم السلام لأسباب ومصالح ، وذلك أن شعائر الله إنما كانت شعائر لمعدات وأن المقادير يلاحظ في شرعها حال المكلفين وعاداتهم . فلما كانت أمزجة قوم نوح عليه السلام في غاية القوة والشدة كما نبه عليه الحق تعالى - استوجبوا أن يؤمروا بدوام الصيام ؛ ليقاوم سورة بهيميتهم ، ولما كانت أمزجة هذه الأمة ضعيفة نهوا عن ذلك ، وكذلك لم يجعل الله تعالى الغنائم حلالا للأولين ، وأحلها لنا لما رأى ضعفنا ، وأن مراد الأنبياء عليهم السلام إصلاح ما عندهم من الارتفاقات ، فلا يعدل عنها إلى ما يباين المألوف إلا ما شاء الله ، وأن مظان المصالح تختلف باختلاف الأعصار والعادات ، ولذلك صح وقوع النسخ ، وإنما مثله كمثل الطبيب يعمد إلى حفظ المزاج المعتدل في جميع الأحوال ، فتختلف أحكامه باختلاف الأشخاص والزمان ، فيأمر الشاب بما لا يأمر به الشائب ، ويأمر في الصيف
____________________
(1/187)
بالنوم في الجو لما يرى أن الجو مظنة الاعتدال حينئذ ، ويأمر في الشتاء بالنوم داخل البيت لما يرى أنه مظنة البرد حينئذ . فمن عرف أصل الدين وأسباب اختلاف المناهج لم يكن عنده تغيير ولا تبديل ولذلك نسبت الشرائع إلى أقوامها ، ورجعت اللائمة إليهم حين استوجبوا بها بما عندهم من الاستعداد ، وسألوها جهد سؤالهم بلسان الحال ، وهو قوله تعالى : ! ( فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ) ! . ولذلك ظهر فضل أمة نبينا صلى الله عليه وسلم حين استحقوا تعيين الجمعة لكونهم أميين برآء من العلوم المكتسبة ، واستحقت اليهود السبت لاعتقادهم أنه يوم فرغ الله فيه من الخلق وأنه أحسن شيء لأداء العبادة مع أن الكل بأمر الله ووحيه ، ومثل الشرائع في ذلك كمثل العزيمة يؤمرون بها أولا ، ثم يكون هنالك أعذار وحرج ، فتشرع لهم الرخص لمعنى يرجع إليهم فربما توجه بذلك بعض اللائمة إليهم لكونهم استوحبوا ذلك بما عندهم قال الله تعالى : ! ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ! . وقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ' ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن ' وبين نقصان دينهن بقوله ' أرأيت أنها إذا حاضت لم تصل ، ولم تصم ' . واعلم أن أسباب نزول المناهج في صورة خاصة كثيرة لكنها ترجع إلى نوعين .
____________________
(1/188)
أحدهما كالأمر الطبيعي الموجب لتكليفهم بتلك الأحكام ، فكما أن لأفراد الإنسان جميعها طبيعة وأحوالا ورثتها من النوع توجب تكليفهم بأحكام ، كما أن الأكمه لا يكون في خزانة خياله الألوان والصور ، وإنما هنالك الألفاظ والملموسات ونحو ذلك ، فاذا تلقى من الغيب علما في رؤيا أو واقعة أو نحو ذلك ، فإنما يتشبح علمه في صورة ما اختزنه خياله دون غيره ، وكما أن العربي الذي لا يعرف غير لغة العرب إذا تمثل له علم في نشأة اللفظ ، فإنما يتمثل له في لغة العرب دون غيرها ، وكما أن البلاد التي يوجد فيها الفيل وغيره من الحيوانات سيئة المنظر يتراءى لأهلها إلمام الجن وتخويف الشياطين في صورة تلك الحيوانات دون غير تلك البلاد ، والتي يعظم فيها بعض الأشياء ، ويوجد فيها بعض الطيبات من الأطعمة والألبسة - تتراءى لأهلها النعمة وانبساط الملائكة في تيك الصور دون غير تلك البلاد ، وكما أن العربي المتوجه إلى شيء ليفعله أو طريق ليسلكه إذا سمع لفظة راشد أو نجيح كان دليلا على حسن ما يستقبله دون غير العربي وقد جاءت السنة ببعض هذا النوع - فكذلك يعتبر في الشرائع علوم مخزونة في القوم واعتقادات كامنة فيهم وعادات تتجارى فيهم كما يتجارى الكلب . ولذلك نزل تحريم لحوم الابل وألبانها على بنى إسرائيل دون بني إسماعيل ، ولذلك كان الطيب والخبيث في المطاعم مفوضا إلى عادات العرب ، ولذلك حرمت بنات الأخت علينا دون اليهود ، فانهم كانوا يعدونها من قوم أبيها لا مخالطة بينهم وبينها ، ولا ارتباط ، ولا اصطحاب ، فهي كالأجنبية بخلاف العرب ، ولذلك كان طبخ العجل في لبن أمه حراما عليهم دوننا ، فان علم كون ذلك تغييرا لخلق الله ومصادمة لتدبير الله حيث صرف
____________________
(1/189)
ما خلقه الله لنشء العجل ونموه إلى فك بنيته وحل تركيبه كان راسخا في اليهود متجاريا فيهم ، وكان العرب أبعد خلق الله عن هذا العلم حتى لو ألقى عليهم لما فهموه ، ولما أدركوا المناط المناسب للحكم ، والمعتبر في نزول الشرائع ليس العلوم والحالات والعقائد المتمثلة في صدورهم فقط ، بل أعظمها اعتبارا ، وأولاها اعتدادا ما نشأوا عليه واندفعت عقولهم إليه من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون ، كما ترى ذلك في علاقات تمثل شيء بصورة غيره كتمثل منع الناس عن السحور في صورة الختم على الأفواه ، فان الختم شبح المنع عند القوم استحضروه أم لا . وحق الله على عباده في الأصل أن يعظموه غاية التعظيم ، ولا يقدموا على مخالفة أمره بوجه من الوجوه ، والواجب فيما بين الناس أن يقيموا مصلحة التأليف والتعاون ، ولا يؤذى أحد أحدا إلا إذا أمر به الرأى الكلي ونحو ذلك ، ولذلك كان الذي وقع على امرأة يعلم أنها أجنبية - قد أرخى بينه وبين الله حجاب ، وكتب ذلك من اجترائه على الله ، وإن كانت امرأته في الحقيقة لأنه أقدم على مخالفة أمر الله وحكمه ، والذي وقع على أجنبية وهو يعلم أنها امرأته لا يألوا في ذلك معذورا فيما بينه وبين الله ، وكان الذي نذر الصوم ماخوذا بنذره دون من لم ينذر ، وكان من تشدد في الدين شدد عليه ، وكانت لطمة اليتيم للتاديب حسنة ، وللتعذيب سيئة ، وكان المخطئ والناسى معفوا عنهما في كثير من الأحكام ، فهذا الأصل يتلقاه علوم القوم وعاداتهم الكامنة منها والبارزة ، فيتشخص الشرائع في حقهم حسب ذلك . واعلم أن كثيرا من العادات والعلوم الكامنة يتفق فيها العرب والعجم وجمع سكان الأقاليم المعتدلة وأهل الأمزجة القابلة للأخلاق الفاضلة . كالحزن لميتهم واستحباب الرفق به . وكالفخر بالأحساب والأنساب .
____________________
(1/190)
وكالنوم إذا مضى ربع الليل أو ثلثه . أو نحو ذلك . والاستيقاظ في تباشير الصبح إلى غير ذلك مما أو ما نا إليه في الارتفاقات . فتلك العادات والعلوم أحق الأشياء بالاعتبار ثم بعدها عادات وعقائد تختص بالمبعوث إليهم . فتعتبر تلك أيضا وقد جعل الله لكل شيء قدرا . واعلم أن النبوة كثيرا ما تكون من تحت الملة كما قال الله تعالى : ! ( ملة أبيكم إبراهيم ) ! . وكما قال : ! ( وإن من شيعته لإبراهيم ) ! . وسر ذلك أنه تنشأ قرون كثيرة على التدين بدين . وعلى تعظيم شعائره . وتصير أحكامه من المشهورات الذائعة اللاحقة بالبديهيات الأولية التي لا تكاد تنكر . فتجيء نبوة أخرى لإقامة ما اعوج منها : وصلاح ما فسد منها بعد اختلاط رواية نبيها ، فتفتش عن الأحكام المشهورة عندهم ، فما كان صحيحا موافقا لقواعد السياسة الملية لا تغيره ، بل تدعو إليه ، وتحث عليه ، وما كان سقيما قد دخله التحريف ، فإنها تغيره ، بقدر الحاجة ، وما كان حريا أن يزداد ، فإنها تزيده على ما كان عندهم ، وكثيرا ما يستدل هذا النبي في مطالبه بما بقي عندهم من الشريعة الأولى ، فيقال عند ذلك هذا النبي في ملة فلان النبي أو من شيعته ، وكثيرا ما تختلف النبوات لاختلاف الملل النازلة تلك النبوة فيها . والنوع الثاني بمنزلة طارئ عارض ، وذلك أن الله تعالى وإن كان
____________________
(1/191)
متعاليا عن الزمان ، فله ارتباط بوجه من الوجوه بالزمان والزمانيات ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يقضي بعد كل مائة بحادثة عظيمة من الحوادث ، وأخبر آدم وغيره من الأنبياء عليهم السلام في حديث الشفاعة بشيء من هذا الباب حيث قال كل واحد منهم : ' إن ربي تبارك وتعالى قد غضب اليوم غضبا لم يغضبه قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ' فإذا تهيأ العالم لإفاضة الشرائع وتعيين الحدود ، وتجلى الحق منزلا عليهم الدين ، وامتلأ الملأ الأعلى بهمة قوية حسب ذلك يكون حينئذ أدنى سبب من الأسباب الطارئة كافيا في قرع باب الجود ، ومن دق باب الكريم انفتح ، ولك عبرة بفصل الربيع يؤثر في أدنى شيء من الغرس والبذر ما لا يؤثر في غيره أضعاف ذلك ، وهمة النبي صلى الله عليه وسلم ، واستشرافه للشيء ، ودعوته له ، واشتياقه إليه ، وطلبه إياه سبب قوي لنزول القضاء في ذلك الباب ، وإذا كانت دعوته تحيي السنة الشهباء ، وتغلب فئة عظيمة من الناس ، وتزيد الطعام والشراب زيادة محسوسة ، فما ظنك في نزول الحكم الذي هو روح لطيف إنما يتعين بوجود مثالي ، وعلى هذا الأصل ينبغي أن يخرج أن حدوث حادثة عظيمة فخيمة في ذلك الزمان يفزع لها النبي صلى الله عليه وسلم ، كقصة الإفك ، وسؤال سائل يراجع النبي صلى الله عليه وسلم ويحاوره فيهم له صلى الله عليه وسلم كقصة الظهار يكون سببا لنزول الأحكام ، وأن يكشف عليه فيها جلية الحال ، وأن استبطاء القوم عن الطاعة وتبلدهم عن الانقياد ، وإخلادهم عن العصيان ، وكذا رغبتهم في شيء ، وعضهم عليه بالنواجذ ، واعتقادهم التفريط في جنب الله عند تركه - يكون سببا لأن يشدد عليهم بالوجوب الأكيد والتحريم الشديد ، ومثل ذلك كله في استمطار الجود كمثل الإنسان الصالح قوي الهمة يتوخى ساعة انتشار
____________________
(1/192)
الروحانية وقوة السعادة ، فيسأل الله فيها بجهد همته ، فلا تتراخى إجابته ، وإلى هذه المعاني وقعت الإشارة في قوله تبارك وتعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ) . وأصل المرضى أن يقل هذا النوع من أسباب نزول الشرائع لأنه يعد لنزول ما يغلب فيه حكم المصلحة الخاصة بذلك الوقت ، فكثيرا ما كان تضييقا على الذين يأتون من بعد ، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره المسائل ، وكان يقول : ' ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ' . وقال : ' إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل شيئا فحرم لأجل مسئلته ' وجاء في الخبر : ' أن بني إسرائيل لو ذبحوا أي بقرة شاءوا كفت عنهم لكن شددوا فشدد عليهم ' والله أعلم . ( باب أسباب المؤاخذة على المناهج ) لنبحث عن المناهج والشرائع التي ضربها الله تعالى لعباده هل يترتب الثواب والعذاب عليها كما يترتب على أصول البر والاثم ، أو لا يترتب إلا على ما جعلت مظنات وأشباحا وقوالب له ؟ فمن ترك صلاة وقت من الأوقات ، وقلبه مطمئن بالاخبات ، هل يعذب بتركها ؟ ومن صلى صلاة وأدى الأركان والشروط حسبما يخرج عن العهدة ، ولم يرجع بشيء من الاخبات ، ولم يدخل ذلك في صميم قلبه هل يثاب على فعلها ؟ وليس الكلام في كون معصية المناهج مفسدة عظيمة من جهة كونها قدحا في السنة الراشدة ، وفتحا لباب الإثم ، وغشا بالنسبة إلى جماعة المسلمين ، وضررا للحي والمدينة والإقليم بمنزلة سيل سد مجراه لمصلحة المدينة ، فجاء رجل ،
____________________
(1/193)
ونقب السد ، ونجا بنفسه وأهلك أهل مدينته ، ولكن الكلام فيما يرجع إلى نفسه من إحاطة السيئات بها أو إحاطة الحسنات . فذهب أهل الملل قاطبة إلى أنها توجب الثواب والعذاب بنفسها ، فالمحققون منهم والراسخون في العلم والحواريون من أصحاب الأنبياء عليهم السلام يدركون مع ذلك وجه المناسبة والارتباط لتلك الأشباح والقوالب بأصولها وأرواحها ، وعامة حملة الدين ووعاة الشرائع يكتفون بالأول ، وذهب فلاسفة الإسلام إلى أن العذاب والثواب إنما يكونان على الصفات النفسانية والأخلاق المتشبثة بذيل الروح ، وإنما ذكر قوالبها وأشباحها في الشرائع تفهيما وتقريبا للمعاني الدقيقة إلى أذهان الناس ، هذا تحرير المقام على مشرب القوم . أقول : والحق ما ذهب إليه المحققون من أهل الملل - بيان ذلك أن الشرائع لها معدات وأسباب تشخصها ، وترجح بعض محتملاتها على بعض ، والحق يعلم أن القوم لا يستطيعون العمل بالدين إلا بتلك الشرائع والمناهج ، ويعلم أن هذه الأوضاع هي التي يليق أن تكون عليهم ، فتندرج في عناية الحق بالقوم أزلا ، ثم لما تهيأ العالم لفيضان صور الشرائع وإيجاد شخوصها المثالية ، فاوجدها وأفاضها ، وتقرر هنالك أمرها - كانت أصلا من الأصول ، ثم لما فتح الله على الملأ الأعلى هذا العلم ، وألهمهم أن المظنات قائمة مقام الأصول ، وأنها أشباحها وتماثيلها ، وأنه لا يمكن تكليف القوم إلا بتلك - حصل في حظيرة القدس إجماع ما على أنها هي بمنزلة اللفظ بالنسبة إلى الحقيقة الموضوع لها ، والصورة الذهنية بالنسبة إلى الحقيقة الخارجية المنتزعة منها ، والصورة التصويرية بالنسبة إلى من انتقشت مكشافا له ، والصورة الخطية بالنسبة إلى الألفاظ الموضوعة هي لها ، فإنه في كل ذلك لما قويت العلاقة بين الدال والمدلول ، وحصل بينهما تلازم وتعانق أجمع في حيز ما من الأحياز أنه هو ، ثم ترشح شبح هذا العلم أو حقيقته في مدركات
____________________
(1/194)
بني آدم عربهم وعجمهم ، فاتفقوا عليه ، فلن ترى أحدا إلا ويضمر في نفسه شعبة من ذلك ، وربما سميناه وجودا شبيها للمدلول ، وربما كان لهذا الوجود آثار عجيبة لا تخفى على المتتبع ، وقد روعي في الشرائع بعض ذلك ، ولذلك جعلت الصدقة من أوساخ المتصدقين ، وسرت شناعة العمل في الأجرة ، ثم لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وأيد بروح القدس ، ونفث في روعه إصلاح القوم ، وفتح لجوهر روحه فج واسع إلى الهمة القوية في باب نزول الشرائع وصدور الشخوص المثالية ، فعزم على ذلك أقصى عزيمته ، ودعا للموافقين ، ولعن على المخالفين بجهد همته ، وأن هممهم تخترق السبع الطباق ، وأنهم يستسقون ، وما هنالك قزعة سحاب ، فتنشأ أمثال الجبال في الحال وأنهم يدعون ، فيحيى الموتى بدعوتهم - تأكد انعقاد الرضا والسخط في حظيرة القدس ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم ' إن إبراهيم نبيك وعبدك دعا لمكة وأنا أدعو للمدينة ' الحديث . ثم إن هذا العبد إذا علم أن الله تعالى أمره بكذا وكذا ، وأن الملأ الأعلى تؤيد النبي صلى الله عليه وسلم فيما يأمر ، وينهى ، وعلم أن إهمال هذا والإقدام على ذلك اجتراء على الله وتفريط في جنب الله ، ثم أقدم على العمل عن قصد وعمد ، وهو يرى ويبصر - فإن ذلك لا يكون إلا لغاشية عظيمة من الحجب وانكسار تام للملكية ، وذلك يوجب قيام خطيئة بالنفس ، وإذا أقدم على عمل شاق تنجم عنه طبيعته لا لمراءة الناس ، بل تقربا من الله وحفظا على مرضياته ، فإن ذلك لا يكون إلا لغاشية عظيمة من الإحسان وانكسار تام للبهيمية ، وذلك يوجب قيام حسنة بالنفس ، أما من ترك صلاة وقت من الأوقات ، فيجب أن يبحث عنه لم تركها ؟ وأي شيء حمله على ذلك ؟ فإن نسيها ، أو نام عنها ، أو جهل وجوبها ، أو شغل عنها بما لا يجد منه بدا ، فنص الملة أنه ليس بآثم ، وإن تركها وهو يعلم ، ويتذكر ،
____________________
(1/195)
وأمره بيده ، فإن ذلك لا يكون لا محالة إلا من حزازة في دينه ، وغاشية شيطانية أو نفسانية غشيت بصيرته ، وهو يرجع إلى نفسه ، وأما من صلى صلاة ، وخرج عن عهدة ما وجب عليه ، فيجب أن يبحث عنه ، أيضا إن فعلها رياء وسمعة أو جريانا على عادة قومه أو عبثا - فنص الملة أنه ليس بمطيع ، ولا يعتد بفعله ذلك ، وإن فعلها تقربا من الله ، وأقدم عليها إيمانا واحتسابا وتصديقا بالموعود ، واستحضر النية وأخلص دينه لله - فلا جرم أنه فتح بينه وبين الله باب ، ولو كرأس إبرة ، وأما من أهلك المدينة ، ونجا بنفسه فلا نسلم أنه نجا بنفسه ، كيف وهنالك لله ملائكة أقصى همتهم الدعاء لمن يسعى في إصلاح العالم ، وعلى من سعى في إفساده ، وأن دعوتهم تقرع باب الجود ، ويكون سببا لنزول الجزاء بوجه من الوجوه ، بل هنالك لله تعالى عناية بالناس توجب ذلك ، ولدقة مدركها جعلنا دعوة الملائكة عنوانا لها ، والله أعلم . ( باب أسرار الحكم والعلة ) اعلم أن للعباد أفعالا يرضى لأجلها رب العالمين عنهم ، وأفعالا يسخط لأجلها عليهم ، وأفعالا لا تقتضي رضا ولا سخطا ، فاقتضت حكمته البالغة ورحمته التامة أن يبعث إليهم الأنبياء ، ويخبرهم على ألسنتهم بتعلق الرضا والسخط بتلك الأفعال ، ويطلب منهم الفصل الأول ، وينهى عن الثاني ، ويخيرهم فيما سوى ذلك : ! ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ) ! . فتعلق الرضا والسخط بالفعل ، وكونه غفلا منهما ، وكون الشيء بحيث يطلب منهم ، وينهون عنه ، ويخيرون فيه أيا ما شئت ، فقل هو الحكم . والطلب منه مؤكد يقتضي الرضا والثواب على فعل المطلوب ، والسخط
____________________
(1/196)
والعقاب على تركه ، ومنه غير مؤكد يقتضي الرضا والثواب على فعل المطلوب دون السخط والعقاب على تركه . وكذلك النهي منه مؤكد يقتضي الرضا والثواب على الكف منه لأجل النهي ، ويقتضي السخط والعقاب على فعل المنهي عنه ، ومنه غير مؤكد يقتضي الرضا والثواب على الكف عنه لأجل النهي دون السخط والعقاب على فعله واعتبر بما عندك من ألفاظ الطلب والمنع وبمحاورات الناس في ذلك ، فإنك ستجد تثنية كل قسم من جهة سريان الرضا والسخط في ضد المنطوق أولا أمرا طبيعيا لا محيص عنه ، فالأحكام خمسة : إيجاب ، وندب ، وإباحة ، وكراهية ، وتحريم ، والذي يؤتى به في مخاطبة الناس لا يمكن أن يكون حال كل فعل على حدته من أفعال المكلفين لعدم انحصارها ، ولعدم استطاعة الناس الإحاطة بعلمها ، فوجب إذا أن يكون ما يخاطبون به قضايا كلية معنوية بوحدة تنظم كثرة ، ليحيطوا بها علما ، فيعرفوا منها حال أفعالهم ، ولك عبرة بالصناعات الكلية التي جعلت لتكون قانونا في الأمور الخاصة يقول النحوي : الفاعل مرفوع فيعي مقالته السامع ، فيعرف بها حال زيد في قولنا قام زيد ، وعمر في قولنا قعد عمر ، وهلم جرا ، وتلك الوحدة التي تنظم كثرة هي العلة التي يدور الحكم على دوراناها وهي قسمان : قسم يعتبر فيها حالة توجد في المكلفين ، ولا يمكن أن تكون حالة دائمة لا تنفك عنهم ، فيكون مضمون الخطاب تكليفهم بالأمر دائما إذ لا يستطيعون ذلك اللهم إلا في الإيمان خاصة فلا جرم أن تعتبر حالة مركبة من صفة لازمة في المكلف بها يصح كونه مخاطبا وهيئة طارئة تنوبه مرة بعد مرة ، وأكثر ما يكون هذا القسم في العبادات والهيئة إما وقت أو استطاعة ميسرة أو مظنة حرج ، أو إرادة شيء ، ونحو ذلك كقول الشرع ' من أدرك وقت الصلاة ، وهو عاقل بالغ وجب عليه أن يصليها ، ومن شهد الشهر ، وهو عاقل بالغ مطيق وجب عليه أن يصومه ، ومن ملك نصابا ، وحال عليه الحول وجب أن يزكيه ، ومن كان على سفر جاز له القصر والإفطار ، ومن أراد
____________________
(1/197)
الصلاة ، وكان محدثا وجب عليه الوضوء ' وفي مثل هذا ربما تسقط الصفات المعتبرة في أكثر الأوامر ، وتخص الصفة التي بها امتاز بعضها من البعض ، فيسامح بتسميتها علة ، فيقال علة الصلاة إدراك الوقت ، وعلة الصوم شهود الشهر ، وربما يجعل الشارع لبعض تلك الأوصاف دون بعض أثرا ، كما جوز تعجيل الزكاة لسنة أو سنتين لمن ملك النصاب دون من لم يملكه ، فيعطى الفقيه كل ذي حق حقه ، فيخص بعضها بسبب والآخر بالشرط . وقسم يعتبر فيه حال ما يقع عليه الفعل أو يلابسه ، وهي إما صفة لازمة له كقول الشارع : يحرم شرب الخمر ، ويحرم أكل الخنزير ، ويحرم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ، ويحرم نكاح الأمهات أو صفة طارئة تنوبه كقوله تعالى : ! ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) ! . وقوله تعالى : ! ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) ! . وربما يجمع بين اثنين فصاعدا من أحوال ما يقع عليه الفعل ، كقول الشارع : يجب رجم الزاني المحصن ، وجلد زان غير محصن ، وربما يجمع بين حال المكلف وحال ما يقع عليه الفعل ، كقول الشارع : يحرم الذهب والحرير على رجال الأمة دون نسائها . وليس في دين الله جزاف ، فلا يتعلق الرضا والسخط بتلك الأفعال إلا بسبب ، وذلك أن ههنا شخوصا يتعلق بها الرضا والسخط في الحقيقة وهي نوعان : أحدهما البر والاثم والارتفاقات وإضاعتها وما يحذو حذو ذلك ، وثانيهما ما يتعلق بالشرائع والمناهج من سد باب التحريف والاحتراز
____________________
(1/198)
من التسلل ونحو ذلك ، ولها محال ولوازم يتعلقان بها بالغرض ، وينسبان إليها توسعا ، نظيره ما يقال من أن علة الشفاء تناول الدواء ، وإنما العلة في الحقيقة نضج الأخلاط أو إخراجها وهو شيء يعقب الدواء في العادة ، وليس هو هو ، ويقال علة الحمى قد تكون الجلوس في الشمس ، وقد تكون الحركة المنعبة ، وقد تكون تناول غذاء حار ، والعلة في الحقيقة سخونة الأخلاط ، وهي واحدة في ذاتها ولكنها طرق إليها وأشباح لها ، وكان الاكتفاء بالأصول وترك اعتبار تعدد الطرق والمحال لسان المتعقمين في الفنون النظرية دون العامة ، وإنما نزل الشرع بلسان الجمهور ، ويجب أن يكون علة الحكم صفة يعرفها الجمهور ولا تخفى عليهم حقيقتها ولا وجودها من عدمها ، ويكون مظنة لأصل من الأصول التي تعلق بها الرضا والسخط إما لكونها مفضية إليه ، أو مجاورة له ، ونحو ذلك كشرب الخمر فإنه مظنة لمفاسد يتعلق بها السخط من الإعراض عن الإحسان والإخلاد إلى الأرض وإفساد نظام المدينة والمنزل ، وكان لازما لها غالبا ، فتوجه المنع إلى نوع الخمر . وإذا كان لشيء لوازم وطرق لم يخص للعلية منها إلا ما تميز من سائر ما هنالك برجحان من جهة الظهور والانضباط أو من جهة لزوم الأصل أو نحو ذلك كرخصة القصر والإفطار - أديرت على السفر والمرض دون سائر مظنات الحرج ؛ لأن الأكساب الشاقة كالفلاحة والحدادة وإن كان يلزمها الحرج لكنها مخلة بالطاعة لأن المكتسب بها يداوم عليها ، ويتوقف عليها معاشه وأما وجود الحر والبرد فغير منضبط لأن لهما مراتب مختلفة يعسر إحصاؤها وتعيين شيء منها بأمارات وعلامات ، وإنما يعتبر عند السبر مظنات كانت في الأمة الأولى أكثرية معروفة ، وكان السفر والمرض بحيث لا يشتبه عليهم الأمر فيهما ، وإن كان اليوم بعض الاشتباه لانقراض العرب الأول وتعمق الناس في الاحتمالات حتى فسد ذوقهم السليم الذي يجده قح العرب ، والله أعلم .
____________________
(1/199)
( باب المصالح المقتضية لتعيين الفرائض والأركان والآداب ونحو ذلك ) اعلم أنه يجب عند سياسة الأمة أن يجعل لكل شيء من الطاعات حدان : أعلى وأدنى فالأعلى هو ما يكون مفضيا إلى المقصود منه على الوجه الأتم ، والأدنى هو ما يكون مفضيا إلى جملة من المقصود ليس بعدها شيء يعتد به ، وذلك لأنه لا سبيل إلى أن يطلب منهم الشيء ، ولا يبين لهم أجزاءه وصورته ومقدار المطلوب منه ، فإنه ينافي موضوع الشرع ، ولا سبيل إلى أن يكلف الجميع بإقامة الآداب والمكملات لأنه بمنزلة التكليف بالمحال في حق المشتغلين أو المتعسر ، وإنما بناء سياسة الأمة على الاقتصاد دون الاستقصاء ، ولا سبيل إلى أن يهمل الأعلى ، ويكتفي بالأدنى ، فإنه مشرب السابقين وحظ المخلصين ، وإهمال مثله لا يلائم اللطف ، فلا محيص إذا من أن يبين الأدنى ، ويسجل على التكليف به ، ويندب إلى ما يزيد عليه من غير إيجاب ، والذي يسجل على التكليف به ينقسم إلى مقدار مخصوص من الطاعة كالصلوات الخمس وصيام رمضان ، وإلى أبعاض لها لا يعتد بها بدونها كالتكبير وكقراءة فاتحة الكتاب للصلاة وتسمى بالأركان ، وأمور خارجة منها لا يعتد بها بدونها وتسمى بالشروط كالوضوء للصلاة . واعلم أن الشيء قد يجعل ركنا بسبب يشبه المذهب الطبيعي ، وقد يجعل بسبب طارئ . فالأول أن تكون الطاعة لا تتقوم ولا تفيد فائدتها إلا به كالركوع والسجود في الصلاة والإمساك عن الأكل والشرب والجماع في الصوم ، أو يكون ضبطا لمبهم خفي لا بد منه فيها كالتكبير ، فإنه ضبط للنية واستحضار لها ، وكالفاتحة فإنها ضبط للدعاء ، وكالسلام فإنه ضبط للخروج من الصلاة بفعل صالح لا ينافي الوقار والتعظيم . والثاني أن يكون واجبا بسبب آخر من الأسباب ، فيجعل ركنا في الصلاة ، لأنه يكملها ، ويوفر الغرض منها ، ويكون التوقيت بها أحسن توقيت
____________________
(1/200)
كقراءة سورة من القرآن على مذهب من يجعلها ركنا ، فإن القرآن من شعائر الله ، يجب تعظيمه ، وألا يترك ظهريا ، ولا أحسن في التوقيت من أن يؤمروا بها في آكد عباداتهم وأكثرها وجودا وأشملها تكليفا ، أو يكون التمييز بين مشتبهين أو التفريق بين مقدمة والشيء المستقل - موقوفا على شيء ، فيجعل ركنا ، ويؤمر به كالقومة بين الركوع والسجود بها يحصل الفرق بين الإنحناء الذي هو مقدمة السجود ، وبين الركوع الذي هو تعظيم برأسه ، وكالإيجاب والقبول والشهود وحضور الولي ورضا المرأة في النكاح ، فإن التميز بين السفاح والنكاح لا يحصل إلا بذلك ، ويمكن أن يخرج بعض الأركان على الوجهين جميعا . وعلى ما ذكرنا في الركن ينبغي أن يقاس حال الشرط ، فربما يكون الشيء واجبا بسبب من الأسباب ، فيجعل شرطا لبعض شعائر الدين تنويها به ، ولا يكون ذلك حتى تكون تلك الطاعة كاملة بانضمامه كاستقبال القبلة لما كانت الكعبة من شعائر الله وجب تعظيمها ، وكان من أعظم التعظيم أن تستقبل في أحسن حالاتهم ، وكان الاستقبال إلى جهة خاصة هنالك بعض شعائر الله ، منها للمصلي على صفات الأخبات والخضوع ، مذكرا له هيئة قيام العبيد بين أيدي سادتهم جعل استقبال القبلة شرطا في الصلاة . وربما يكون الشيء لا يفيد فائدة بدون هيئة ، فيشترط لصحته كالنية ، فإن الأعمال إنما تؤثر لكونها أشباح هيآت نفسانية ، والصلاة شبح الاخبات ، ولا إخبات بدون النية ، وكاستقبال القبلة أيضا على تخريج آخر ، فإن توجيه القلب لما كان خفيا نصب توجيه الوجه إلى الكعبة التي من شعائر الله مقامه ، وكالوضوء وستر العورة وهجر الرجز ، فإنه لما كان التعظيم أمرا خفيا نصبت الهيآت التي يؤاخذ الإنسان بها نفسه عند الملوك وأشباههم ، ويعدونها
____________________
(1/201)
تعظيما ، وصار ذلك كامنا في قلوبهم ، وأجمع عليه عربهم وعجمهم مقامه . وإذا عين شيء من الطاعات للفرضية فلا بد من ملاحظة أصول : منها ألا يكلف إلا بالميسر ، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم ' لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ' وتفسيره ما جاء في رواية أخرى ' لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك عند كل صلاة كما فرضت عليهم الوضوء ' . ومنها أن الأمة إذا اعتقدت في مقدار أن تركه وإهماله تفريط في جنب الله ، واطمأنت به نفوسهم إما لكونه مأثورا عن الأنبياء مجمعا عليه من السلف أو نحو ذلك - كانت الحكمة أن يكتب ذلك المقدار عليهم كما استوجبوه ، كتحريم لحوم الإبل وألبانها على بني إسرائيل وهو قوله صلى الله عليه وسلم في قيام ليالي رمضان حتى : ' خشيت أن يكتب عليكم ' . ومنها إلا يسجل على التكليف بشيء حتى يكون ظاهرا منضبطا لا يخفى عليهم ، فلذلك لا يجعل من أركان الإسلام الحياء وسائر الأخلاق ، وأن كانت من شعبة . ثم الأدنى قد يختلف باختلاف حالتي الرفاهية والشدة ، فيجعل القيام ركنا للصلاة في حق المطيق ، ويجعل القعود مكانه في حق غيره . وأما الحد الأعلى فيزيد كما وكيفا : أما الكم فنوافل من جنس الفرائض ، كسنن الرواتب وصلاة الليل وصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وكالصدقات المندوبة ونحو ذلك ، وأما الكيف فهيآت وأذكار وكف لا يلائم الطاعة يؤمر بها في الطاعة لتكمل ، وتكون مفضية إلى المقصود منها على الوجه الاتم كتعهد المغابن ويؤمر به في الوضوء لتكمل النظافة ، وكالابتداء باليمين
____________________
(1/202)
يؤمر به لتكون النفس متنبهة على عظم أمر الطاعة ، وتقبل عليها حين أخذت نفسها بما يفعل في الأعمال المهمة . واعلم أن الإنسان إذا أراد أن يحصل خلقا من الأخلاق ، وتنصبغ نفسه ، ويحيط بها من جميع جوانبها ، فحيلة ذلك أن يؤاخذ نفسه بما يناسب ذلك الخلق من فعل وهيآت ولو في الأمور القليلة التي لا يعبأ بها العامة ، كالمترن على الشجاعة يؤاخذ نفسه ألا ينحجم عن الخوض في الوحل والمشي في الشمس والسري في الليلة الظلماء ونحو ذلك ، وكذلك المتمرن على الاخبات يحافظ على الآداب العظيمة كل حال ، فلا يجلس على الغائط إلا مطرقا مستحييا وإذا ذكر الله جمع أطرافه ونحو ذلك وكذلك المتمرن على الاخبات يحافظ على الآداب العظيمة كل حال ، فلا يجلس على الغائط إلا مطرقاً مستحيياً وإذا ذكر الله جمع أطرافه ونحو ذلك ، والمتمرن على العدالة يجعل لكل شيء حقا ، فيجعل اليمين للأكل والطيبات ، واليسار لإزالة النجاسة ، وهو سر ما قيل عن للنبي صلى الله عليه وسلم في السواك ' كبر كبر ' وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة حويصة ومحيصة ' كبر الكبر ' فهذا أصل أبواب من الآداب . واعلم أن سر قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن الشيطان يأكل بشماله ' ونحو ذلك من نسبة بعض الأفعال إلى الشياطين - على ما فهمني ربي تبارك وتعالى - أن الشياطين قد أقدرهم الله تعالى على أن يتشكلوا في رؤيا الناس ولابصارهم في اليقظة بأشكال تعطيها أمزجتهم وأحوال طارئة عليهم في وقت
____________________
(1/203)
التشكل ، وقد علم أهل الوجدان السليم أن مزاجهم يعطي التلبس بأفعال شنيعة وأفعال تميل إلى طيش وضجر والتقرب من النجاسات والقسوة عن ذكر الله والإفساد لكل نظام مستحسن مطلوب . وأعنى بالأفعال الشنيعة ما إذا فعله الإنسان اشمأزت قلوب الناس عنه واقشعرت جلودهم ، وانطلقت ألسنتهم باللعن والطعن ، ويكون ذلك ، كالمذهب الطبيعي لبني آدم تعطيه الصورة النوعية ، ويستوي فيه طوائف الأمم لا للمحافظة على رسم قوم دون قوم أو ملة دون ملة ، مثل أن يقبض على ذكره ، ويثب ، ويرقص ، أو يدخل إصبعه في دبره ، ويلطخ لحيته بالمخاط ، أو يكون أجدع الأنف والأذن مسخم الوجه ، أو ينكس لباسه ، فيجعل أعلى القميص أسفل ، أو يركب دابة ، فيجعل وجهه من قبل ذنبها ، أو يلبس خف في رجل والرجل الأخرى حافية ونحو ذلك من الأفعال والهيآت المنكرة التي لا يراها أحد إلا لعن ، وسب ، وشتم وقد شاهدت في بعض الواقعات الشياطين يفعلون بعض ذلك . وأعنى بأفعال الطيش مثل العبث بثوبه وبالحصى وتحريك الأطراف على وجه منكر . وبالجملة فقد كشف الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم تلك الأفعال ، وأنها تعطيها أمزجة الشياطين ، فلا يتمثل الشيطان في رؤيا أحد أو يقظته إلا وهو يتلبس ببعضها ، وأن المرضى في حق المؤمن أن يتباعد من الشياطين وهيئاتهم بقدر الاستطاعة ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأفعال والهيآت ، وكرهها ، وأمر بالاحتراز عنها . ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم : ' أن هذه الحشوش محتضرة ' .
____________________
(1/204)
وقوله صلى الله عليه وسلم : ' أن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم ' وأنه يضحك إذا قال الإنسان هاه هاه ' وقس على ذلك الترغيب في هيآت الملائكة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' ألا تصفون كما تصف الملائكة ' وهذا أصل آخر لأبواب من الآداب . واعلم أن من أسباب جعل الشيء فرضا بالكفاية أن يكون اجتماع الناس عليه بأجمعهم مفسدا لمعاشهم ومفضيا إلى إهمال ارتفاقاتهم ، ولا يمكن تعيين بعض الناس له وتعيين آخرين لغيره ، كالجهاد لو اجتمعوا عليه ، وتركوا الفلاحة والتجارة والصناعات - لبطل معاشهم ، ولا يمكن تعيين بعض الناس للجهاد وآخرين للتجارة وآخرين للفلاحة وآخرين للقضاء وتعليم العلم ؛ فإن كل واحد يتيسر له ما لا يتيسر إلى يغيره ؛ ولا يعلم المستعد لشيء من ذلك بالأسامى والأصناف ليدر الحكم عليها . ومنها أن تكون المصلحة المقصودة به وجود نظام ، ولا يلحق بتركه فساد حال النفس وغلبة البهيمية ، كالقضاء ، وتعلم علوم الدين ، والقيام بالخلافة ، فإنها شرعت للنظام ، وتحصل بقيام رجل واحد بها وكعيادة المريض والصلاة على الجنازة ، فان المقصود ألا تضيع المرضى والموتى ، وتحصل بقيام البعض بها ، والله أعلم . ( باب أسرار الأوقات ) لا تتم سياسة الأمة إلا بتعيين أوقات طاعاتها ، والأصل في التعيين الحدس المعتمد على معرفة حال المكلفين واختيار ما لا يشق عليهم ، وهو يكفي من المقصود ، ومع ذلك ففيه حكم ومصالح يعلمها الراسخون في العلم ، وهي ترجع إلى أصول ثلاث . أحدها أن الله تعالى وإن كان متعاليا عن الزمان لكن قد تظاهرت
____________________
(1/205)
الآيات والأحاديث على أنه في بعض الأوقات يتقرب إلى عباده ، وفي بعضها تعرض عليه الأعمال ، وفي بعضها يقدر الحوادث إلى غير ذلك من الأحوال المتجددة ، وإن كان لا يعلم كنه حقيقتها إلا الله تعالى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ' وقال : ' إن أعمال العباد تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس ' وقال في ليلة النصف من شعبان : ' إن الله ليطلع فيها ' وفي رواية ' ينزل فيها إلى السماء الدنيا ' والأحاديث في هذا الباب كثيرة معلومة . وبالجملة فمن ضروريات الدين أن هنالك أوقاتا يحدث فيها شيء من انتشار الروحانية في الأرض وسريان قوة مثالية فيها ، وليس وقت أقرب لقبول الطاعات واستجابة الدعوات من تلك الأوقات ، ففي أدنى سعي حينئذ يتفتح باب عظيم من انقياد البهيمية للملكية ، والملأ الأعلى لا يعرفون انتشار تلك الروحانية وسريان تلك القوة بحساب الدورات الفلكية ، بل بالذوق والوجدان ، وبأن ينطبع شيء في قلوبهم ، فيعلموا أن هنالك قضاء نازلا وانتشارا للروحانية ونحو ذلك ، وهذا هو المعبر عنه في الحديث ' بمنزلة سلسلة على صفوان ' . والأنبياء عليهم السلام تنطبع تلك العلوم في قلوبهم من الملأ الأعلى ، فيدركونها بالوجدان دون حساب الدورات الفلكية ، ثم يجتهدون في نصب مظنة لتلك الساعة ، فيأمرون القوم بالمحافظة عليها . فمن تلك الساعات ما يدور بدوران السنين ، وذلك بقوله تبارك وتعالى : ! ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين ) ! وفيها تعينت روحانية القرآن في السماء الدنيا ، واتفق أنها كانت في رمضان .
____________________
(1/206)
ومنها ما يدور بدوران الأسبوع ، وهي ساعة خفيفة ترجى فيها استجابة الدعاء وقبول الطاعات ، وإذا انتقل الناس إلى المعاد كانت تلك هي ساعة تجلى الله عليهم وتقربه منهم ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن مظنتها يوم الجمعة استدل على ذلك بأن الحوادث العظيمة وقعت فيه كخلق آدم عليه السلام ، وبأن البهائم ربما تتلقى من الملأ السافل علما بعظم تلك الساعة ، فتصير دهشة مرعوبة كالذي هاله صوت عظيم ، وأنه شاهد ذلك في يوم الجمعة . ومنها ما يدور بدوران اليوم وتلك روحانية أضعف من الروحانيات الأخرى ، وقد أجمعت أذواق من شأنهم التلقي من الملأ الأعلى على أنها أربع ساعات قبيل طلوع الشمس وبعيد استوائها وبعد غروبها وفي نصف الليل إلى السحر ، ففي تلك الأوقات وقبلها بقليل وبعدها بقليل تنتشر الروحانية ، وتظهر البركة ، وليست في الأرض ملة إلا وهي تعلم أن هذه الأوقات أقرب شيء من قبول الطاعات ، لكن المجوس كانوا قد حرفوا الدين ، فجعلوا يعبدون الشمس من دون الله ، فسد النبي صلى الله عليه وسلم مدخل التحريف ، فغير تلك الأوقات إلى ما ليس ببعيد منها ولا مفوت لأصل الغرض ، ولم يفرض عليهم الصلاة في نصف الليل لما في ذلك من الحرج ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ' إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى فيها خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه ' وذلك كل ليلة ، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ' أفضل الصلاة نصف الليل وقليل فاعله ' وسئل أي الدعاء أسمع ؟ قال ' جوف الليل ' وقال في ساعة الزوال : ' إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء ، فأحب أن يصعد لي فيها عملا صالح ' وقال ' ملائكة النهار تصعد إليه قبل ملائكة الليل و وقال ' ملائكة الليل تصعد إليه قبل ملائكة النهار ' وقد أشار الله تعالى في محكم كتابه إلى هذه المعاني حيث قال :
____________________
(1/207)
( فسبحن الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون ) والنصوص في هذا الباب كثيرة معلومة وقد شاهدت منه أمرا عظيما . الأصل الثاني أن وقت التوجه إلى الله هو وقت كون الإنسان خاليا عن التشويشات الطبيعية ، كالجوع المفرط والشبع المفرط ، وغلبة النعاس ، وظهور الكلال ، وكونه حاقبا حاقنا ، والخيالية كامتلاء السمع بالأراجيف واللغط ، والبصر بالصور المختلفة والألوان المشوشة ، ونحو ذلك من أنواع التشويشات ، وذلك مختلف باختلاف العادات ، لكن الذي يشبه أن يكون كالمذهب الطبيعي لعربهم وعجمهم ومشارقتهم ومغاربتهم ، والذي يليق أن يتخذ دستورا في النواميس الكلية ، والذي يعد مخالفة كالشيء النادر - هو الغدوة والدلجة ، والإنسان يحتاج إلى مصقلة تزيل عنه الرين بعد تمكنه من نفسه ، وذلك إذا أوى إلى فراشه ، ومال للنوم ؛ ولذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن السمر بعد العشاء وعن قرض الشعر بعده . وسياسة الأمة لا تتم إلا بأن يؤمر بتعهد النفس بعد كل برهة من الزمان حتى يكون انتظاره للصلاة واستعداده لها من قبل أن يفعلها ، وبقية لونها وصبابة نورها بعد أن يفعلها في حكم الصلاة ، فيتحقق استيعاب اكثر الأوقات إن لم يكن استيعاب كلها ، وقد جربنا أن النائم على عزيمة قيام الليل لا يتغلغل في النوم البهيمي ، وأن المتوزع خاطره على ارتفاق دنيوي وعلى محافظة وقت صلاة أو ورد ألا يفوته - لا يتجرد للبهيمية ، وهذا سر
____________________
(1/208)
قوله صلى الله عليه وسلم ' من تعار من الليل ' الحديث وقوله تعالى : ! ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) ! ويصلح أن يجعل الفصل بين كل وقتين ربع النهار ، فإنه يحتوي على ثلاث ساعات ، وهي أول حد كثرة للمقدار المستعمل عندهم في تجزئة الليل والنهار عربهم وعجمهم ، وفي الخبر ' أن أول من جزأ النهار والليل إلى الساعات نوح عليه السلام وتوارث ذلك بنوه ' . الأصل الثالث أن وقت أداء الطاعة هو الوقت الذي يكون مذكرا لنعمة من نعم الله تعالى ، مثل يوم عاشوراء نصر الله تعالى فيه موسى عليه السلام على فرعون فصامه ، وأمر بصيامه ، وكرمضان نزل فيه القرآن ، وكان ذلك ابتداء ظهور الملة الإسلامية ، أو مذكراً لطاعة أنبياء الله تعالى لربهم ، وقبوله أياها منهم كيوم الأضحى يذكر قصة ذبح إسماعيل عليه السلام وفدائه بذبح عظيم ، أو يكون أداء الطاعة فيه تنويها ببعض شعائر الدين كيوم الفطر في إيقاع الصلاة ، والصدقة فيه تنويه برمضان وأداء شكر ما أنعم الله تعالى من توفيق صيامه ، وكيوم الأضحى فيه تشبه بالحاج وتعرض لنفحات الله المعدة لهم ، أو تكون جرت سنة الصالحين المشهود لهم بالخير على ألسن الأمم أن يطيعوا الله تعالى فيه ، مثل أوقات الصلوات الخمس لقول جبرائيل : ' هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك ' ومثل رمضان على وجه واحد في تفسير قوله تعالى : ! ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) !
____________________
(1/209)
وكصوم يوم عاشوراء بالنسبة إلينا ، ويشبه أن يكون الأصل الثالث معتبرا في أكثر الأوقات ، والأصلان الأولان أصل الأصل ، والله أعلم . ( باب أسرار الأعداد والمقادير ) اعلم أن الشرع لم يخص عددا ولا مقدارا دون نظيره إلا لحكم ومصالح ، وإن كان الاعتماد الكلي على الحدس المعتمد على معرفة حال المكلفين وما يليق بهم عند سياستهم ، وهذه الحكم والمصالح ترجع إلى أصول : الأول أن الوتر عدد مبارك لا يجاوز عنه ما كان فيه كفاية ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن الله وتر يحب الوتر ، فأوتروا يا أهل القرآن ' وسره أنه ما من كثرة إلا مبدؤها وحدة ، وأقرب الكثرات من الواحدة ما كان وترا ؛ إذ كل مرتبة من العدد فيها وحدة غير حقيقة بها تصير تلك المرتبة ، فالعشرة مثلا وحدات مجتمعة اعتبرت واحدا لا خمسة وخمسة ، وعلى هذا القياس ، وتلك الوحدة نموذج الوحدة الحقيقة في تلك المراتب وميراثها منها ، وفي الوتر هذه ومثلها معها وهو الوحدة - بمعنى عدم الانقسام إلى عددين صحيحين متساويين - فهو أقرب إلى الوحدة من الزوج ، وقرب كل موجود من مبدئه يرجع إلى قربه من الحق لأنه مبدأ المبادى ، والأتم في الوحدة متخلق بخلق الله . ثم اعلم أن الوتر على مراتب شتى : وتر يشبه الزوج ، ويجنحه كالتسعة والخمسة فإنهما بعد إسقاط الواحد ينقسمان إلى زوجين ، والتسعة وإن لم تنقسم إلى عدديين متساويين فإنها تنقسم إلى ثلاثة متساوية ، كما أن الزوج أيضا على مراتب زوج يشبه الوتر - كاثنى عشر - فإنه ثلاثة أربعات ،
____________________
(1/210)
وكالستة فإنها ثلاث اثنينات ، وإمام الأوتار وأبعدها من مشابهة الزوج الواحد ، ووصيه فيها وخليفته ووارثه ثلاثة وسبعة ، وما سوى ذلك فإنه من قوم الواحد وأمته ، ولذلك اختار النبي صلى الله عليه وسلم الواحد والثلاثة والسبعة في كثير من المقادير ، وحيث اقتضت الحكمة أن يؤمر بأكثر منها اختار عددا يحصل من أحدها بالترفع كالواحد يتدفع إلى عشرة ومائة وألف وأيضا إلى أحد عشر ، وكالثلاثة تترفع إلى ثلاثين وثلاثة وثلاثين ، وثلاثمائة ، وكالسبعة إلى سبعين وسبعمائة ، فإن الذي يحصل بالترفع كأنه هو بعينه ولذلك سن النبي صلى الله عليه وسلم مائة كلمة بعد كل صلاة الصلاة ، ثم قسمها إلى ثلاثة وثلاثين ثلاث مرات ، وأفضل واحد ليصير الأمر كله وترا راجعا إلى الامام أو وصية ، وكذلك لكل مقولة من مقولات الجوهر والعرض إمام ووصي كالنقطة إمام ، والدائرة والكرة وصياه ، وأقرب الأشكال إليه . وحدثني أبي قدس سره أنه رأى واقعة عظيمة تمثل فيها الحياة والعلم والارادة وسائر الصفات الالهية - أو قال الحي والعليم والمريد وسائر الأسماء - لا أدري أي ذلك قال : بصورة دوائر مضيئة ، ثم نبهني على أن تمثل الشيء البسيط في نشأة الأشكال إنما يكون بأقربها إلى النقطة ، وهو في السطح الدائرة وفي الجسم الكرة انتهى كلامه . واعلم أن سنة الله جرت بأن نزول الوحدة إلى الكثرة إنما يكون بارتباطات مثالية ، وعلى تلك الارتباطات تتمثل الوقائع وإياها يراعى تراجمة لسان القدم ما أمكنت مراعاتها . الأصل الثاني في كشف سر ما بين في الترغيب والترهيب ونحو ذلك من العدد . واعلم أنه ربما يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم خصال من البر والاثم ، ويكشف عليه فضائل هذه ومثالب تلك ، فيخبر عما علمه الله ، ويذكر عدد ما علم
____________________
(1/211)
حالة حينئذ ، وليس من قصده الحصر قال صلى الله عليه وسلم : ' عرضت علي أعمال أمتي : حسنها وسيئها ، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ، ووجدت في مساوى أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن ' وقال : ' عرضت على أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد ، وعرضت علي ذنوب أمتي ، فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن ، أو آية أوتيها رجل ، ثم نسيها ' وعلى هذا ينبغي أن يخرج قوله صلى الله عليه وسلم : ' ثلاثة لهم أجران ' الحديث وقوله صلى الله عليه وسلم ' ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى ' الحديث وقوله صلى الله عليه وسلم ' أربعون خصلة أعلاهن منحة العنز لا يعمل عبد بخصلة منها رجاء ثوابها أو تصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة ' وربما يكشف عليه فضائل عمل أو أبعاض شيء إجمالا ، فيجتهد في إقامة وجه ضبط لها ونصب عدد يحصر فيه ما كثر وقوعه أو عظم شأنه و نحو ذلك ، فيخبر بذلك ، وعلى هذا ينبغي أن يخرج قوله صلى الله عليه وسلم ' صلاة الجماعة تفضل صلاة الغذ بسبع وعشرين درجة ' فإن هذا العدد ثلاثة في ثلاثة في ثلاثة ، وقد رأى أن منافع الجماعة ترجع إلى ثلاثة أقسام : ما يرجع إلى نفع نفسه من تهذيبها وظهور الملكية وقهر البهيمية ، وما يرجع إلى الناس من شيوع السنة الراشدة فيهم وتنافسهم فيها وتهذيبهم بها واجتماع كلمتهم عليها ، وما يرجع إلى الملة المصطفوية من بقائها غضة طرية لم يخالطها التحريف ولا التهاون وفي الأول ثلاثة : القرب من الله والملأ الأعلى ، وكتابة الحسنات لهم ، وتكفير الخطيآت عنهم ، وفي الثاني ثلاثة :
____________________
(1/212)
انتظام حيهم ومدينتهم ، ونزول البركات عليهم في الدنيا ، وشفاعة بعضهم لبعض في الآخرة : وفي الثالث ثلاثة : تمشية إجماع الملأ الأعلى وتمسكهم بحبل الله الممدود ، وتعاكس أنوار بعضهم على بعض ، وفي كل من هذه التسعة ثلاثة : رضا الله عنهم ، وصلوات الملائكة عليهم ، وانخناس الشياطين عنهم ، وفي رواية أخرى بخمس وعشرين ووجهه أن منافع الجماعة خمس في خمسة : استقامة نفوسهم ، وتألف جماعتهم ، وقيام ملتهم ، وانبساط الملائكة ، وانخناس الشياطين عنهم ، وفي كل واحد خمسة : رضا الله عنهم ، ونزول البركات في الدنيا عليهم ، وكتابة الحسنات لهم ، وتكفير الخطيآت عنهم ، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة لهم . وسبب اختلاف الروايات في ذلك اختلاف وجوه الضبط ، والله أعلم . وربما يؤتى بالعدد إظهارا لعظم الشيء وكبره ، فيخرج العدد مخرج المثل ، نظيره ما يقال محبة فلان في قلبي مثل الجبل ، وقدر فلان يصل إلى عنان السماء ، وعلى هذا ينبغي أن يخرج قوله صلى الله عليه وسلم ' يفسح في قبره سبعون ذراعا ' وقوله ' مد البصر ' وقوله ' إن حوضي ما بين الكعبة وبيت المقدس ' وقوله ' حوضي لأبعد من أيلة إلى عدن ' وفي مثل ذلك ربما يذكر تارة مقدار ، وأخرى مقدار آخر ، ولا تناقض في ذلك بحسب ما يرجع إلى الغرض . الأصل الثالث أنه لا ينبغي أن يقدر الشيء إلا بمقدار ظاهر معلوم يستعمله المخاطبون في نظام الحكم ، وله مناسبة بمدار الحكم وحكمته ، فلا
____________________
(1/213)
ينبغي أن يقدر الدراهم إلا بالأواق ، ولا التمر إلا بالأوساق ، ولا ينبغي أن يؤتى بجزء لا يستخرجه إلا المتعمقون في الحساب ، كجزء من سبعة عشر ، وجزء من تسعة وعشرين ، ولذلك ما ذكره الله تعالى في الفرائض إلاكسورا يسهل تنصيفها وتضعيفها ومعرفة مخارجها ، وذلك فضلان : أحدهما سدي وثلث وثلثان ، وثانيهما ثمن وربع ونصف ، وسره أن يظهر فضل ذي الفضل ، ونقصان ذي النقصان بادي الرأي ، وأن يسهل تخريج المسائل على الأدانى والأقاصي ، وحيثما وقعت الحاجة إلى مقدار دون المقدار المعتبر أولا لا تكون النسبة بينهما نسبة الضعف ، فلا ينبغي أن يتعدى من الثلثين بين النصف والواحد ، ومن الثلث بين الربع والنصف لأن سائر الاجزاء أخفى منهما ، وإذا أريد تقدير ما هو كثير في الجملة ، فالمناسب أن يقدر بثلاثة ، إذا أريد تقدير ما هو أكثر من ذلك ، فالمناسب تقديره بعشرة ، وإذا كان الشيء قد يكون قليلا ، وقد يكون كثيرا ، فالمناسب أن يؤخذ أقل حد وأكثر حد ، فينصف بينهما ، والمعتبر في باب الزكاة خمس ، وعشر ، ونصف العشر ، وربع العشر ؛ لأن زيادة الصدقة تدور على كثرة الريع وقلة المؤنة ، وكانت مكاسب جمهور أهل الاقاليم لا تنتظم إلا في أربع مراتب وكان المناسب أن يظهر الفرق بين كل مرتبتين - أصرح ما يكون - وذلك أن تكون الواحدة منها ضعف الآخرى ، وسيأتيك تفصيله ، وإذا وقعت الحاجة إلى تقدير اليسار مثلا ينبغي أن ينظر إلى ما يعد في العرف يسارا ، ويرى فيه ما هو من أحكام اليسار . وذلك بحسب عادة جمهور المكلفين مشارقتهم ومغاربتهم عربهم وعجمهم ، وبحسب ما هو كالمذهب الطبيعي لهم لولا المانع فإن لم يكن بناء الأمر على عادة الجمهور لتشتت حالهم ، فالمعتبر حال العرب الأول الذين نزل القرآن بلغتهم ، وتعينت الشريعة في عاداتهم ، ولذلك قدر الشرع الكنز بخمس
____________________
(1/214)
أواق لأنها تكفي أقل أهل بيت سنة كاملة في أكثر أطراف المعمورة - اللهم إلا في الجدب أو البلاد العظيمة جدا أو أعمالها - وقدر الثلة الصغيرة من الغنم بأربعين ، والكبير بمائة وعشرين ، وقدر الزرع الكثير بخمسة أوساق لأن أقل البيت زوج وزوجة وثالث أما خادم أو ولد بينهما ، وأكثر ما يأكله الإنسان في اليوم والليلة مد أو رطل ، ويحتاج مع ذلك إلى إدام ، وهذا القدر يكفي من ذلك سنة كاملة ، وقدر الماء الكثير بقلتين ، ولأنه حد لا ينزل منه المعادن ولا يرتقي إليه الاوانى في عادة العرب وقس على ذلك سائر التقديرات والله أعلم . ( باب أسرار القضاء والرخصة ) اعلم أن من السياسة أنه إذا أمر بشيء ، أو نهي عن شيء ، وكان المخاطبون لا يعلمون الغرض من ذلك حق العلم وجب أن يجعل عندهم كالشيء المؤثر بالخاصية ، يصدق بتأثيره ، ولا يدرك سبب التأثير ، وكالرقي لا يدرك سبب تأثيرها ولذلك سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن بيان أسرار الأوامر والنواهي تصريحا في الأكثر ، وإنما لوح بشيء منه للراسخين في العلم من أمته ، ولذلك كان اعتناء حملة الملة من الخلفاء الراشدين وأئمة الدين بإقامة أشباح الملة أكثر من الاعتناء بإقامة أرواحها حتى روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال : أحسب جزية البحرين وأنا في الصلاة ، وأجهز الجيش وأنا في الصلاة ، ولذلك كان سنة المفتين قديما وحديثا ألا يتعرضوا لدليل المسألة عند الافتاء ، ووجب أن يسجل على الأخذ بالمأمور حق التسجيل ، ويلام على تركه أشد الملامة ، وتجعل أنفسهم ترغب
____________________
(1/215)
فيها وتألفها حق الرغبة والألفة حتى تصير داعية الحق محيطة بظواهرهم وبواطنهم ، وإذا كان كذلك ، ثم منع من المأمور به مانع ضروري - وجب أن يشرع له بدل يقوم مقامه لأن المكلف حينئذ بين أمرين : إما أن يكلف به مع ما فيه من المشقة والحرج ، وذلك خلاف موضوع الشرع . قال الله تعالى : ! ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ! وإما أن ينبذ وراء الظهر بالكلية ، فتألف النفس بتركه ، وتسترسل مع إهماله ، وإنما تمرن النفس تمرين الدابة الصعبة يغتنم منها الألفة والرغبة ، ومن اشتغل برياضة نفسه أو تعليم الأطفال أو تمرين الدواب ونحو ذلك يعلم كيف تحصل الألفة بالمداومة ، ويسهل بسببها العمل ، وكيف تذهب الألفة بالترك والإهمال ، فتضيق النفس بالعمل ، ويثقل عليها ، فإن رام العود إليه احتاج إلى تحصيل الالفة ثانيا ، فلا بد إذا من شرع القضاء إذا فات وقت العمل ، ومن الرخص في العمل ليتأتي منه ، ويتيسر له ، والعمدة في ذلك الحدس المعتمد على معرفة حال المكلفين وغرض العمل وأجزائه التي لا بد منها في تحصيل ذلك الغرض ، ومع ذلك فله أصول يعلمها الراسخون في العلم ، أحدها : أن الركن والشرط فيهما شيئان : أحدهما الأصلي الذي هو داخل حقيقة الشيء ، أو لازمه الذي لا يعتمد به بدونه بالنظر إلى أصل الغرض منه كالدعاء وفعل الانحناء الدال على التعظيم والتنبه لخلتى الطهارة والخشوع ، وهذا القسم من شأنه ألا يترك في المكره والمنشط سواء ؛ إذ لا يتحقق من العمل شيء عند تركه . وثانيهما التكميلي الذي إنما شرع لكونه واجبا لمعنى آخر محتاجا إلى التوقيت ، ولا وقت له أحسن من هذه الطاعة ، أو لأنه آلة صالحة لأداء أصل الغرض كاملا وافرا ، وهذا القسم من شأنه أن يرخص فيه عند
____________________
(1/216)
المكاره ، وعلى هذا الأصل ينبغي أن تخرج الرخصة في ترك استقبال القبلة إلى التحري في الظلمة ونحوها ، وترك ستر العورة لمن لا يجد ثوبا ، وترك الوضوء إلى التيمم لمن لا يجد ماء ، وترك الفاتحة إلى ذكر من الأذكار لمن لا يقدر عليها ، وترك القيام إلى القعود والاضطجاع لمن لا يستطيعه وترك الركوع والسجود إلى الانحناء لمن لا يستطيعها . الأصل الثاني : أنه ينبغي أن يلتزم في البدل شيء يذكر الأصل ويشعر بأنه نائبة وبدله ، وسره تحقيق الغرض المطلوب من شرع الرخص ، وهو أن تبقى الألفة بالعمل الأول ، وأن تكون النفس كالمنتظرة ، ولذلك اشترط في المسح على الخفين الطهارة وقت اللبس وجعل له مدة ينتهي إليها ، واشترط التحري في القبلة . والأصل الثالث : أنه ليس كل حرج يرخص لأجله ، فإن وجوه الحرج كثيرة ، والرخص في جميع ذلك تفضي إلى إهمال الطاعة ، والاستقصاء في ذلك نبغي العناء ومقاساة التعب ، وهو المعرف لانقياد الشرع واستقامة النفس ، فاقتضت الحكمة ألا يدور الكلام إلا على وجوه وقوعها وعظم الابتلاء بها لا سيما في قوم نزل القرآن بلغتهم ، وتعينت الشريعة في عاداتهم ولا ينبغي أن يجاوز من ملاحظة كون الطاعة مؤثرة بالخاصية متى ما أمكن ، ولذلك شرع القصر في السفر دون الاكساب الشاقة ، ودون الزراع والعمال ، وجوز للمسافر المترفه ما جوز لغير المترفه ، والقضاء منه قضاء بمثل معقول ، ومنه بمثل غير معقول ، ولما كان أصل الطاعة انقياد القلب لحكم الله ومؤاخذة النفس بتعظيم الله كان كل من عمل عن غير قصد ولا عزيمة أو هو من جنس من لا يتكامل قصده ولا يتمكن من مؤاخذة نفسه بالتعظيم كما ينبغي - من حقه أن يعذر وألا يضيق عليه كل التضييق
____________________
(1/217)
وعلى هذا ينبغي أن يخرج قوله صلى الله عليه وسلم : ' رفع القلم عن ثلاثة ' الحديث والله أعلم . ( باب إقامة الارتفاقات واصلاح الرسوم ) قد ذكرنا فيما سبق تصريحا أو تلويحا أن الارتفاق الثاني والثالث مما جبل عليه البشر ، وامتازوا به عن سائر أنواع الحيوان ، محال أن يتركوهما ، أو يهملوهما ، وأنهم يحتاجون في كثير من ذلك إلى حكيم عالم بالحاجة وطريق الارتفاق منها ، منقاد للمصلحة الكلية إما مستنبط بالفكر والروية أو يكون نفسه قد جبلت فيها قوة ملكية ، فيكون مهيئا لنزول علوم من الملأ الأعلى ، وهذا أتم الأمرين وأوثق الوجهين ، وأن الرسوم من الارتفاقات هي بمنزلة القلب من الجسد ، وأنه قد يدخل في الرسوم مفاسد من جهة ترأس قوم ليس عندهم مسكة العقل الكلي فيخرجون إلى أعمال سبعية أو شهوية أو شيطانية ، فيروجونها ، فيقتدي بهم أكثر الناس ، ومن جهة أخرى نحو ذلك ، فتمس الحاجة إلى رجل قوي مؤيد من الغيب منقاد للمصلحة الكلية ، ليغير رسومهم إلى الحق بتدبير لا يهتدي له في الأكثر إلا المؤيدون من روح القدس . فإن كنت قد أحطت علما بما هنالك فاعلم أن أصل بعثة الأنبياء وإن كان لتعليم وجوه العبادات أولا وبالذات ، لكنه قد تنضم مع ذلك إرادة إخمال الرسوم الفاسدة والحث على وجوه من الارتفاقات ، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ' بعثت لمحق المعازف ' . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ' .
____________________
(1/218)
واعلم أنه ليس رضا الله تعالى في إهمال الارتفاق الثاني والثالث . ولم يأمر بذلك أحد من الأنبياء عليهم السلام . وليس الأمر كما ظنه قوم فروا إلى الجبال ، وتركوا مخالطة الناس رأسا في الخير والشر ، وصاروا بمنزلة الوحش ، ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم على من أراد التبتل وقال : ' ما بعثت بالرهبانية وإنما بعثت بالملة الحنيفية السمحة ' لكن الانبياء عليهم السلام أمروا بتعديل الارتفاقات ، وألا يبلغ بها حال المتعمقين في الرفاهية كملوك العجم ، ولا ينزل بها إلى - حال سكان شواهق الجبال اللاحقين بالوحش . وهنا قياسان متعارضان : أحدهما أن الترفه حسن يصح به المزاج ، ويستقيم به الأخلاق ، ويظهر به المعاني التي امتاز به الآدمي من سائر بني جنسه ، والغباوة والعجز ونحوهما تنشأ من سوء التدبير . وثانيهما أن الترفه قبيح لاحتياجه إلى منازعات ومشاركات وكد وتعب وإعراض عن جانب الغيب وإهمال لتدبير الآخرة ، ولذلك كان المرضى التوسط وإبقاء الارتفاقات وضم الأذكار معها والآداب وانتهاز فرص للتوجه إلى الجبروت ، والذي أتى به الأنبياء قاطبة من عند الله تعالى في هذا الباب هو أن ينظر إلى ما عند القوم من آداب الأكل والشرب واللباس والبناء ووجوه الزينة ، ومن سنة النكاح وسيرة المتناكحين ، ومن طرق البيع والشراء ، ومن وجوه المزاجر عن المعاصي وفصل القضايا ونحو ذلك . فإن كان الواجب بحسب الرأي الكلي منطبقا عليه ، فلا معنى لتحويل شيء منه من موضعه ولا العدول عنه إلى غيره ، بل يجب أن يحث القوم على الأخذ بما عندهم ، وأن يصوب رأيهم في ذلك ، ويرشدوا إلى ما فيه من المصالح ، وإن لم ينطق عليه ، ومست الحاجة إلى تحويل شيء أو إخماله لكونه مفضيا إلى تأذي بعضهم من بعض أو تعمقا في لذات الحياة الدنيا وإعراضا عن الإحسان ، أو من المسليات التي تؤدي إلى إهمال مصالح الدنيا والآخرة
____________________
(1/219)
ونحو ذلك - فلا ينبغي أن يخرج إلى ما يباين مألوفهم بالكلية ، بل يحول إلى نظير ما عندهم أو نظير ما اشتهر من الصالحين المشهود لهم بالخير عند القوم ، وبالجملة فإلى ما لو ألقي عليهم لم تدفعه عقولهم ، بل اطمأنت بأنه حق ، ولهذا المعنى اختلفت شرائع الأنبياء عليهم السلام . والراسخ في العلم يعلم أن الشرع لم يجيء في النكاح والطلاق ، والمعاملات والزينة واللباس والقضاء والحدود وقسمة الغنيمة بما لم يكن لهم به علم ، أو يترددوا فيه إذا كلفوا به ، نعم إنما وقع إقامة المعوج وتصحيح السقيم كان قد كثر فيهم الربا ، فنهوا عنه ، وكانوا يبيعون الثمار قبل أن يبدو صلاحها يختصمون ، ويحتجون بعاهات تصيبها فيه عن ذلك البيع ، وكانت الدية على عهد عبد المطلب عشرة من الابل ، فلما رأى أن القوم لا يرتدعون عن القتل بلغها مائة ، فأبقاها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، وأول قسامة وقعت هي التي كانت بحكم أبي طالب ، وكان لرئيس القوم مرباع كل غارة ، فسن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس من كل غنيمة ، وكان قباذ وابنه أنوشروان وضعا عليهم الخراج والعشر ، فجاء الشرع بنحو من ذلك ، وكان بنو إسرائيل يرجمون الزناة ، ويقطعون السراق ويقتلون النفس بالنفس ، فنزل القرآن بذلك . . . ، وأمثال هذه كثيرة جدا لا تخفى على المتتبع ، بل لو كنت فطنا محيطا بجوانب الأحكام لعلمت أيضا أن الأنبياء عليهم السلام لم يأتوا في العبادات غير ما عندهم هو أو نظيره ، لكنهم نفوا تحريفات الجاهلية ، وضبطوا بالأوقات والأركان ما كان مبهما وأشاعوا بين الناس ما كان خاملا . اعلم أن العجم والروم لما توارثوا الخلافة قرونا كثيرة ، وخاضوا في لذة الدنيا ، ونسوا الدار الآخرة ، واستحوذ عليهم الشيطان - تعمقوا
____________________
(1/220)
في مرافق المعيشة ، وتباهوا بها ، وورد عليهم حكماء الآفاق يستنبطون لهم دقائق المعاش ومرافقه ، فما زالوا يعملون بها ، ويزيد بعضهم على بعض ، ويتباهون بها حتى قيل إنهم كانوا يعيرون من كان يلبس من صناديدهم ، منطقة أو تاجا قيمتها دون مائة ألف درهم ، أولا يكون له قصر شامخ وآبزن وحمام وبساتين ، ولا يكون له دواب فارهة وغلمان حسان ، ولا يكون له توسع في المطاعم وتجمل في الملابس ، وذكر ذلك يطول . . ، وما تراه من ملوك بلادك يغنيك عن حكاياتهم ، فدخل كل ذلك في أصول معاشهم ، وصار لا يخرج من قلوبهم إلا أن تمزع وتولد من ذلك داء عضال دخل في جميع أعضاء المدينة ، وآفة عظيمة لم يبق منهم أحد من أسواقهم ورسناقهم وغنيهم وفقيرهم إلا وقد استولت عليه ، وأخذت بتلابيبه ، وأعجزته في نفسه ، وأهاجت عليه غموما وهموما لا أرجاء لها ، وذلك أن تلك الأشياء لم تكن لتحصل إلا ببذل أموال خطيرة ، ولا تحصل تلك الأموال إلا بتضعيف الضرائب على الفلاحين والتجار وأشباههم والتضييق عليهم ، فان امتنعوا قاتلوهم ، وعذبوهم ، وإن أطاعوا جعلوهم بمنزلة الحمير والبقر يستعمل في النضح والدياس والحصاد ، ولا تقتني إلا ليستعان بها في الحاجات ، ثم لا تترك ساعة من العناء حتى صاروا لا يرفعون رؤسهم إلى السعادة الأخوية أصلا ، ولا يستطيعون ذلك ، وربما كان إقليم واسع ليس فيهم أحد يهمه دينه ، ولم يكن ليحصل أيضا إلا بقوم يتكسبون بتهيئة تلك المطاعم والملابس والابنية وغيرها ، ويتركون أصول المكاسب التي عليها بناء نظام العالم ، وصار عامة من يطوف عليهم يتكلفون محاكاة الصناديد في هذه الأشياء ، وإلا لم يجدوا عندهم حظوة ، ولا كانوا عندهم على بال ، وصار جمهور الناس عيالا على الخليفة يتكففون منه تارة على أنهم من الغزاة والمدبرين للمدينة يترسمون برسومهم ولا يكون المقصود دفع الحاجة ولكن
____________________
(1/221)
القيام بسيرة سلفهم ، وتارة على أنهم شعراء جرت عادة الملوك بصلتهم ، وتارة على أنهم زهاد وفقراء يقبح من الخليفة ألا يتفقد حالهم ، فيضيق بعضهم بعضا ، وتتوقف مكاسبهم على صحبة الملوك والرفق بهم وحسن المحاورة معهم والتملق منهم ، وكان ذلك هو الفن الذي تتعمق أفكارهم فيه ، وتضيع أوقاتهم معه ، فلما كثرت هذه الأشغال تشبح في نفوس الناس هيآت خسيسة ، وأعرضوا عن الأخلاق الصالحة وإن شئت أن تعرف حقيقة هذا المرض ، فانظر إلى قوم ليست فيهم الخلافة ، ولا هم متعمقون في لذائذ الأطعمة والألبسة - تجد كل واحد منهم بيده أمره ، وليس عليه من الضرائب الثقيلة ما يثقل ظهره ، فهم يستطيعون التفرغ لأمر الدين والملة ، ثم تصور حالهم لو كان فيهم الخلافة ، وملأوها ، وسخروا الرعية ، وتسلطوا عليهم فلما عظمت المصيبة واشتد هذا المرض - سخط عليهم الله والملائكة المقربون ، وكان رضاه تعالى في معالجة هذا المرض بقطع مادته ، فبعث نبيا أميا صلى الله عليه وسلم لم يخالط العجم والروم ، ولم يترسم برسومهم ، وجعله ميزانا يعرف به الهدى الصالح المرضي عند الله من غير المرضي ، وأنطقه بذم عادات الأعاجم وقبح الاستغراق في الحياة الدنيا والاطمئنان بها ، ونفث في قلبه أن يحرم عليهم رءوس ما اعتاده الأعاجم ، وتباهوا بها كلبس الحرير والقسى والأرجوان واستعمال أواني الذهب والفضة وحلي الذهب غير المقطع والثياب المصنوعة فيها الصور وتزويق البيوت وغير ذلك ، وقضى بزوال دولتهم بدولته ، ورياستهم برياسته ، وبأنه هلك كسرى ، فلا كسرى بعده وهلك قيصر ، فلا قيصر بعده . واعلم أنه كان في أهل الجاهلية مناقشات ضيقت على القوم وصعبت ، ولم يكن زوالها إلا بقطع رءوسهم في ذلك الباب كثأر القتلة كان الإنسان يقتل إنسانا فيقتل ولي المقتول أخا القاتل أو ابنه ، ويعود هذا فيقتل واحدا
____________________
(1/222)
منهم ، ويدور الأمر كذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ' كل دم موضوع تحت قدمي هذه ، وأول دم أضعه دم ربيعة ' وكالمواريث وكان رؤساء القوم يقضون فيها بقضايا مختلفة ، وكان الناس لا يمتنعون من نحو غصب وربا ، فيمرقون على ذلك ، ثم يأتي قرن آخر ، فيحتجون بحجج ، فقطع النبي صلى الله عليه وسلم المناقشة من بينهم ، فقال كل شيء أدركه الاسلام يقسم على حكم القرآن ، وكل ما قسم في الجاهلية ، أو حازه إنسان في الجاهلية بوجه من الوجوه ، فهو على ما كان لا ينقض ، وكالربا كان أحدهم يقرض مالا ويشترط زيادة ، ثم يضيق عليه ، فيجعل المال وما اشترط جميعا أصلا ، ويشترط الزيادة عليه وهلم جرا حتى يصير قناطير مقنطرة ، فوضع الربا ، وقضى برأس المال . ! ( لا تظلمون ولا تظلمون ) ! إلى غير ذلك من أمور لم تكن لتترك لولا النبي صلى الله عليه وسلم . واعلم أنه ربما يشرع للناس رسم قطعا لضغائنهم كالابتداء من اليمين في السقي ونحوه ، فإنه قد يكون ناس متشاكسون ، ولا يسلم الفضل ليبدأ بصاحبه ، فلا تنقطع المناقشة بينهم إلا بمثل ذلك ، وكأمامة صاحب البيت ، وكتقدم صاحب الدابة على رفيقه إذا ركباها ونحو ذلك ، والله أعلم .
____________________
(1/223)
( باب الأحكام التي يجر بعضها لبعض ) قال الله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر أن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم لعلهم يتفكرون ) اعلم أن أن الله تعالى بعث نبيه صلى الله عليه وسلم ، ليبين للناس ما أوحاه إليه من أبواب العبادات ؛ ليأخذوا بها ومن أبواب الآثام ، ليجتنبوها ، وما ارتضاه لهم من الارتفاقات ، ليقتدوا بها . . . ، ومن هذا البيان أن يعلمهم ما يقتضيه الوحي ، أو يومئ أليه و نحو ذلك . وهذه أصول يخرج عليها جملة عظيمة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ونذكر ههنا معظمها : منها أن الله تعالى إذا أجرى سنته على نحو بأن رتب الأسباب مفضية إلى مسبباتها ، لتنظم المصلحة المقصودة بحكمته البالغة ورحمته التامة - اقتضى ذلك أن يكون تغير خلق الله شرا وسعيا في الافساد وسببا لترشح النفرة عليه من الملأ الأعلى ، فلما خلق الله الإنسان على وجه لا يتكون في أكثر الأوقات والأحيان من الأرض تكون الديدان منها ، وكانت حكمته تقضى بقاء نوع الإنسان ، بل انتشار أفراده وكثرتهم في العالم - أودع فيهم قوى التناسل ، ورغبهم في طلب النسل ، وجعل الغلمة مسلطة عليهم منهم ؛ ليقضي الله بذلك أمرا أوجبته الحكمة البالغة ، فلما أطلع الله النبي صلى الله عليه وسلم على هذا السر ، وكشف عليه جلية الحال - اقتضى ذلك أن ينهى عن قطع هذا السبيل وإهمال تلك القوى
____________________
(1/224)
المقتضية أو صرفها في غير محلها ، ولذلك نهى أشد النهي عن الخصاء واللواطة وكره العزل . واعلم أن أفراد الإنسان عند سلامة مزاجها وتمكين المادة وأحكام النوع من نفسها - تكون على هيئة معلومة من استواء القامة وظهور البشرة ونحو ذلك وهذا حكم النوع ومقتضاه وأثره في الأفراد ، وفي الخير العالي طلب واقتضاء لبقاء الأنواع وظهور اشباحها في الأرض ، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ، ثم نهى عن ذلك ، وقال : ' إنها أمة من الأمم ' يعني أن النوع له مقتض عند الله ، ونفى أشباحه من الأرض غير مرضى ، وهذا الاقتضاء ينجر إلى اقتضاء ظهور أحكام النوع في الأفراد ، فمنافضة هذا الاقتضاء والسعي في رد قبيح منافر للمصلحة الكلية ، وعلى هذه القاعدة يخرج التصرف في البدن بما لا يقتضيه حكم النوع كالخصاء والتفلج والتنمص ونحو ذلك ، أما الكحل والتسريح فان ذلك كالاعانة على ظهور الأحكام المقصودة والموافقة بها ، ولما شرع الله تعالى لبني آدم شريعة ينتظم بها شملهم ، ويصلح بها حالهم ، كان في الملكوت داعية لظهورها كان أمرها كأمرها الأنواع في طلب ظهور الأشباح في الأرض ، ولذلك كان السعي في إهمالها مسخوطا عند الملأ الأعلى منافرا لما هو مقتضاهم ومطمح همهم ، وكذلك الارتفاقات التي أحمع عليها طوائف الناس من عربهم وعجمهم وأقاصيهم وأدانيهم فإنها كالأمر الطبيعي . فلما شرع الله تعالى الإيمان والبينات موضحة لجلية الحال اقتضى ذلك أن تكون شهادة الزور واليمين الكاذبة مسخوطة عند الله وملائكته .
____________________
(1/225)
ومنها أنه إذا أوحى إليه بحكم من أحكام الشرع ، واطلع على حكمته وسببه كان له أن يأخذ تلك المصلحة ، وينصب لها علة ، ويدير عليها ذلك الحكم ، وهذا قياس النبي صلى الله عليه وسلم . . . ، وإنما قياس أمته أن يعرفوا علة الحكم المنصوص عليه ، فيديروا الحكم حيث دارت ، مثاله الأذكار التي وقتها النبي صلى الله عليه وسلم بالصباح والمساء ووقت النوم ، فإنه لما اطلع على حكمة شرع الصلوات اجتهد في ذلك . ومنها أنه إذا فهم النبي صلى الله عليه وسلم من آية وجه سوق الكلام ، وإن لم يكن غيره يفهم منه ذلك لدقة مأخذه أو تزاحم الاحتمالات فيه - كان له أن يحكم حسبما فهم كقوله تعالى : ! ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) ! فهم منه النبي صلى الله عليه وسلم أن تقديم الصفا على المروة لأجل موافقة البيان لما هو المشروع لهم كما قد يكون لموافقة السؤال ونحو ذلك ، فقال : ' ابدءوا ما بدأ الله به ' وكقوله تعالى : ! ( لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن ) ! وقوله تعالى : ! ( فلما أفل قال لا أحب الآفلين ) ! فهم منهما النبي صلى الله عليه وسلم استحباب أن يعبدوا الله تعالى عند الكسوف والخسوف ، وكقوله تعالى : ! ( ولله المشرق والمغرب ) ! الآية
____________________
(1/226)
فهم منه أن استقبال القبلة فرض يحتمل السقوط عند العذر ، فخرج حكم من تحرى في الليلة الظلماء ، فاخطأ جهة القبلة ، وصلى لغيرها ، وحكم الراكب على الدابة يصلي النافلة خارج البلد . ومنها أنه إذا أمر الله تعالى أحدا بشيء من معاملة الناس اقتضى ذلك أن يؤمر الناس بالانقياد له فيها ، فلما أمر القضاة أن يقيموا الحدود اقتضى ذلك أن يؤمر العصاة بأن ينقادوا لهم فيها ، ولما أمر المصدق بأخذ الزكاة من القوم أمروا ألا يصدر عنهم إلا راضياً ، ولما أمر النساء أن يسترن أمر الرجال أن يغضوا أبصارهم عنهن . ومنها أنه إذا نهى عن شيء اقتضى ذلك أن يؤمر بضده وجوبا أو ندبا حسب اقتضاء الحال ، وإذا أمر بشيء اقتضى ذلك أن ينهى عن ضده فلما أمر بصلاة الجمعة والسعي إليها وجب أن ينهى عن الاشتغال بالبيع والمكاسب حينئذ . ومنها أنه إذا أمر بشيء حتما اقتضى ذلك أن يرغب في مقدماته ودواعيه ، وإذا نهى عن شيء حتما اقتضى ذلك أن يسدد ذرائعه ، ويحمل دواعيه ، ولما كانت عبادة الصنم إثما وكانت المخالطة بالصور والأصنام مفضية إليه كما وقع في الأمم السالفة وجب أن يقبض على أيدي المصورين ، ولما كان شرب الخمر إثما وجب أن يقبض على أيدي العصارين ، وينهى عن الحضور على المائدة التي فيها خمر ، ولما كان القتال في الفتنة إثما وجب أن ينهى عن بيع السلاح في وقت الفتنة . ونظير هذا الباب من سياسة المدينة أنهم لما اطلعوا على مفسدة دس السم في الطعام والشراب أخذوا المواثيق من بائعي الأدوية ألا يبيعوا السم إلا قدرا لا يهلك شاربه غالبا ، ولما اطلعوا على خيانة قوم اشترطوا عليهم
____________________
(1/227)
ألا يركبوا الخيل ، ولا يحملوا السلاح . . . ، وكذلك باب العبادات لما كانت الصلاة أعظم أبواب الخير وجب أن يحض على الجماعة فانها إعانة على الأخذ بها ، ووجب أن يحض على الأذان ، ليحصل الاجتماع في زمان واحد في مكان واحد ، ووجب الحث على بناء المساجد وتطييبها وتنظيفها ، ولما كانت معرفة أول يوم من رمضان متوقفة عند الغيم ونحوه على عدة شعبان استحب إحصاء هلال شعبان . ونظيره من سياسة المدينة أنهم لما رأوا في الرمي منفعة عظيمة أمروا بالاكثار من اصطناع القسى والنبل والتجارة فيها . ومنها أنه إذا أمر بشيء ، أو نهى عن شيء أقضى ذلك بذلك أن ينوه بشأن المطيعين ، ويزدري بالعصاة ، ولما كانت قراءة القرآن مطلوبا شيوعها والمواظبة عليها وجب أن يسن ألا يؤمهم إلا أقرؤهم ، وأن يوقر القراء في المجالس ، ولما كان القذف إثما وجب أن يسقط القاذف من مرتبة قبول الشهادة ، وعلى ذلك يخرج ما ورد من النهي عن مفاتحة المبتدع والفاسق بالسلام والكلام . . . ، ونظيره من سياسة المدينة زيادة جائزة الرماة وتقديمهم في الاثبات والاعطاء . ومنها أنه إذا أمر القوم بشيء ، أو نهوا عنه كان من حق ذلك أن يؤمروا بعزيمة الأقدام على هذا والكف عن ذلك وأن يأخذوا قلوبهم باضمار الداعية حسب الفعل ، ولذلك ورد التوبيخ عن إضمار أن يقصد عدم الأداء في القرض والمهر . ومنها أنه إذا كان شيء يحتمل مفسدة كان من حقه أن يكره كقوله صلى الله عليه وسلم : ' فلا يغمس يده في الاناء ، فإنه لا يدري أين باتت يده ' وبالجملة علم الله نبيه أحكاما من العبادات والارتفاقات فبينها النبي
____________________
(1/228)
صلى الله عليه وسلم بهذا النحو من البيان وخرج منها أحكاما جليلة في كل باب باب ، وهذا الباب من البيان مع الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى تلقاهما فقهاء الأمة من بين علوم النبي صلى الله عليه وسلم ووعاهما قلوبهم بتدبر ، فانشعب منها ما أودعوه في مصنفاتهم وكتبهم ، والله أعلم . ( باب ضبط المبهم وتميز المشكل والتخريج من الكلية ونحو ذلك ) اعلم أن كثير من الأشياء التي أديرت الأحكام على أساميها معلوم بالمثال والقسمة ، غير معلوم بالحد الجامع المانع الذي يكشف حال كل فرد فرد أنه منه أولا كالسرقة قال الله تعالى : ! ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) ! أجري الحد على اسم السارق ، ومعلوم أن الواقع في قصة بني الأبيرق وطعيمة والمرأة المخزومية هي السرقة ومعلوم أن اخذ مال الغير أقسام : منها السرقة ، ومنها قطع الطريق ، ومنها الاختلاس ، ومنها الخيانة ، ومنها الالتقاط ، ومنها الغصب ، ومنها قلة المبالاة ، وفي مثل ذلك ربما يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صورة صورة هل هي من السرقة سؤال مقال أو سؤال حال ، فيجب عليه أن يبين حقيقة السرقة متميزة عما يشاركها بحيث يتضح حال كل فرد فرد ، وطريق التميز أن ينظر إلى ذاتيات هذه الأسامي التي لا توجد في السرقة ، ويقع بها التفارق بين القبلتين وإلى ذاتيات السرقة التي يفهمها أهل العرف من تلك اللفظة ، ثم يضبط السرقة بأمور معنوية يحصل بها التمييز ، فيعلم مثلا أن قطع الطريق والحرابة ونحوهما من الأسامي تنبئ عن اعتماد القوة بالنسبة إلى المظلومين واختيار مكان أو زمان لا يلحق فيه
____________________
(1/229)
الغوث من الجماعة ، وأن الاختلاس ينبئ عن اختطاف على أعين الناس ، وفي مرأى منهم ومسمع ، والخيانة تنبئ عن تقدم شركة أو مباسطة ، وحفظ الالتقاط ينبئ عن وجدان شيء في غير حرز ، والغصب ينبئ عن غلبة بالنسبة إلى المظلوم جهرة معتمدا على جدل أو ظن ألا ترفع القضية إلى الولاة ، أو لا ينكشف عليهم جلية الحال ، أو لا يقضوا بحق لنحو رشوة ، وقلة المبالاة تقال في الشيء التافه الذي جرى العرف ببذله والمواساة به كالماء والحطب ، والسرقة تنبئ عن الأخذ خفية ، فضبط النبي صلى الله عليه وسلم السرقة بربع دينار أو ثلاثة دراهم ، ليتميز عن التافه وقال : ' ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع ' وقال ' لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة الجبل ' يشير إلى اشتراط الحرز و ، كالرفاهية البالغة فإنها مفسدة غير مضبوطة ، ولا متميز مواقع وجودها بأمارات ظاهرة يؤاخذ بها الأداني والأقاصي ، ولا يشتبه على أحد أن الرفاهية متحققة فيها ، معلوم أن عادة العجم في اقتناء المراكب الفارهة والأبنية الشامخة والثياب الرفيعة والحلي المترفة ونحو ذلك من الرفاهية البالغة ، ومعلوم أن الترفه مختلف باختلاف الناس ، فترفه قوم تقشف عند الآخرين ، وجيد إقليم تافه في إقليم آخر ، ومعلوم أن الارتفاق قد يكون بالجيد وبالرديء والثاني ليس بترفه . . . ، والارتفاق بالجيد قد يكون من غير قصد إلى جودته ، أو من غير أن يكون ذلك غالبا عليه في أكثر أمره ، فلا يسمى في العرف مترفها ، فأطلق الشرع التنبه على مفاسد الرفاهية مطلقا ، وخص أشياء وجدهم لا يرتفقون بها إلا للترفه ، ووجد الترفه بها عادة فاشية فيهم ، ورأى أهل العصر من العجم والروم كالمجمعين على ذلك ، فنصبها مظنة للرفاهية البالغة ، وحرمها ، ولم ينظر إلى الارتفاقات النادرة ، ولا إلى عادة الأقاليم البعيدة ، فتحريم الحرير وأواني الذهب والفضة من هذا الباب ، ثم أنه وجد حقيقة الرفاهية اختيار الجيد
____________________
(1/230)
من كل الارتفاق والأعراض عن رديئة ، والرفاهية البالغة اختيار الجيد وترك الردئ من جنس واحد ، ووجد من المعاملات ما لا يقصد فيه إلا اختيار الجيد والإعراض عن الردئ من جنس واحد اللهم إلا في مواد قليلة لا يعبأ بها في قوانين الشرائع فحرمها لأنها كالشبح لمعنى الرفاهية وكالتمثال لها وتحريمها كالمقتضى الطبيعي لكراهته الرفاهية وإذا كانت مظان الشيء محرمة لأجله وجب أن يحرم شبحه وتمثاله بالأولى ، وتحريم بيع النقد والطعام بجنسهما متفاضلا مخرج على هذه القاعدة ، ولم يحرم اشتراء الجيد بالثمن الغالي لأن الثمن ينصرف إلى ذات المبيع دون وصفه عند اختلاف الجنس ولم يحرم اشتراء جارية بجاريتين ، ولا ثوب بثوبين لأنها من ذوات القيم فتنصرف زيادة الثمن إلى خواص الشخص ، وتكون الجودة مغمورة في تلك الخواص ، فلا يتحقق اعتبار الجودة بادي الرأي . ومما مهدنا ينكشف كثير من النكت المتعلقة بهذا الباب كسبب كراهية بيع الحيوان بالحيوان وغير ذلك ، فليتدبر ، وقد يكون شيآن مشتبهين لا يتميزان لأمر خفي لا يدركه إلا النبي صلى الله عليه وسلم والراسخون في العلم من أمته ، فتمس الحاجة إلى معرفة علامة ظاهرة لكل منهما وإدارة حكم البر والإثم على علاماتهما ، وأحكام التفريق بينهما ( مثاله ) النكاح والسفاح فحقيقة النكاح إقامة المصلحة التي يبنى عليها نظام العالم بالتعاون بين الزوج وزوجته وطلب النسل وتحصين الفرج ونحو ذلك ، وذلك مرضى عنه مطلوب ، وحقيقة السفاح جريان النفس في غلوائها وإمعانها في اتباع شهوتها وخرق جلباب الحياء والتقيد عنها وترك التعريج إلى المصلحة الكلية والنظام الكلي ، وذلك مسخوط عليه ممنوع عنه ، وهما متشابهان في أكثر الصور ، فإنهما يشتركان في قضاء الشهوة وإزالة ألم الغلمة والميل إلى النساء ونحو ذلك ، فمست الحاجة إلى تميز كل واحد عن صاحبه بعلامة ظاهرة ، وإدارة الطلب والمنع عليها ، فحض النبي صلى الله عليه وسلم النكاح بأمور ( منها ) أن يكون بالنساء دون الرجال ، فإن طلب النسل لا يكون
____________________
(1/231)
إلا منهن ، وأن يكون من عزم ومشورة وإعلان ، فشرط حضور الشهود والأولياء ورضا المرأة ، ومنها توطين النفس على التعاون ، ولا يكون ذلك في الأكثر إلا بأن يكون دائما لازما غير مؤقت ، فحرم نكاح السر والمتعة ، وحرم اللواطة ، وربما يكون فعل من البر مشتبها بما هو من مقدمات الآخر ، فتمس الحاجة إلى التفرقة بينهما كالقومة شرعت فاصلة بين الركوع والانحناء الذي هو من مقدمات السجود ، وربما لا يكون الشيء متكثر الارتفاق كالجلوس بين السجدتين ، وربما يكون الشرط أو الركن في الحقيقة أمرا خفيا وفعلا من أفعال القلب ، فينصب له إمارة من أفعال الجوارح أو الأقوال ، ويجعل هو ركنا ضبطا للخفي به كالنية ، وإخلاص العمل لله أمر خفي ، فنصب استقبال القبلة والتكبير له مظنة ، وجعلا أصلا في الصلاة ، وإذا ورد النص بصيغة ، أو اقتضى الحال إقامة نوع مدارا للحكم ، ثم حصل في بعض المواد اشتباه ، فمن حقه أن يرجع في تفسير تلك الصيغة أو تحقيق حد جامع مانع لذلك النوع إلى عرف العرب ، كما ورد النص في الصوم بشهر رمضان ، ثم وقع الاشتباه في صورة الغيم ، فكان الحكم ما عند العرب من إكمال عدة شعبان ثلاثين ، وأن الشهر قد يكون ثلاثين يوما ، وقد يكون تسعة وعشرين ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم ' إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر كذا ' الحديث . وكما ورد النص في القصر بصيغة السفر ، ثم وقع الاشتباه في بعض المواد ، فحكم الصحابة أنه خروج من الوطن إلى موضع لا يصل إليه في يومه ذلك ولا أوائل ليلته تلك ، ومن ضرورته أن يكون مسيرة يوم وشيء معتد به من اليوم الآخر ، فيضبط بأربعة برد . واعلم أن العمدة في تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بحكم من بين أمته أن يكون الحكم راجعا إلى مظنة شيء دون حقيقته ، وهو قول طاوس في ركعتين بعد العصر إنما نهى عنهما لئلا يتخذ سلما ، والنبي صلى الله عليه وسلم يعرف الحقيقة ، فلا اعتبار في حقه للمظنة بعد ما عرف
____________________
(1/232)
المثنه كتزوج أكثر من أربعة نسوة هو مظنة ترك الاحسان في العشرة الزوجية وإهمال أمرهن ، ويشتبه على سائر الناس ، أما النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو يعرف ما هو المرضى عنه في العشرة الزوجية ، فأمر بنفسه دون مظنته ، أو يكون راجعا إلى تحقيق الرسم دون معنى تهذيب النفس كنهيه عن بيع وشرط ، ثم ابتاع من جابر بعيرا على أن له ظهره إلى المدينة ، أو يكون مفضيا إلى شيء بالنسبة إلى من ليس له مسكة العصمة ، وهو قول عائشة رضي الله عنها في قبلة الصائم أيكم يملك أربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك أربه ، أو تكون نفسه العالية مقتضية لنوع من البر فيؤمر به لأن هذه النفس تشتاق إلى زيادة التوجه إلى الله ، وإلى زيادة خلع جلباب الغفلة ، كما يشتاق الرجل القوي إلى أكل طعام كثير كالتهجد والضحى والأضحية على قول ، والله أعلم . ( باب التيسير ) قال الله تعالى : ! ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) ! . وقال : ! ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ! . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى ، ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهما لما بعثهما إلى اليمن ' يسرا ، ولا تعسرا ، وبشرا
____________________
(1/233)
ولا تنفرا ، وتطاوعا ، ولا تختلفا ، وقال صلى الله عليه وسلم ' فإنما بعثتم ميسرين ، ولم تبعثوا معسرين ' . والتيسير يحصل بوجوه منها ألا يجعل شيء يشق عليهم ركنا أو شرطا لطاعة ، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم ' لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ' . ومنها أن يجعل شيء من الطاعات رسوما يتباهون بها داخلة فيما كانوا يفعلونه بداعية من عند أنفسهم كالعيدين والجمعة وهو قوله صلى الله عليه وسلم . ' ليعلم اليهود أن في ديننا فسحة ' فإن التجمل في الاجتماعات العظيمة والمنافسة فيما يرجع إلى التباهي ديدن الناس . ومنها أن يسن لهم في الطاعات ما يرغبون فيه بطبيعتهم لتكون الطبيعة داعية إلى ما يدعو إليه العقل فيتعاضد الرغبتان ، ولذلك سن تطييب المساجد وتنظيفها والاغتسال يوم الجمعة والتطيب فيه ، واستحب التغني بالقرآن وحسن الصوت بالاذان . ومنها أن يوضع عنهم الإصر ، وما يتنفرون منه بطبيعتهم ، ولذلك كره إمامة العبد والأعرابي ومجهول النسب ، فإن القوم ينجحمون من الاقتداء بمثل ذلك . ومنها أن يبقي عليهم شيء مما تقتضيه طبيعة أكثرهم ، أو يجدون عند تركه حرجا في أنفسهم كالسلطان هو أحق بالامامة ، وصاحب البيت أحق بالامامة ، والذي ينكح امرأة جديدة يجعل لها سبعا أو ثلاثا ، ثم يقسم بين أزواجه . ومنها أن يجعل السنة بينهم تعليم العلم والمواعظة والأمر بالمعروف
____________________
(1/234)
والنهي عن المنكر ؛ لتمتلئ به أوعية قلوبهم ، فينقادوا للنواميس من غير كلفة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالمواعظة . ومنها أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم أفعالا مما يأمرهم به أو يرخصهم فيه ليعتبروا بفعله . ومنها أن يدعوا الله تعالى أن يجعل القوم مهذبين كاملين . ومنها أن تنزل عليهم سكينة من ربهم بواسطة الرسول ، فيصيروا بين يديه بمنزلة من على رأسه الطير . ومنها أن يرغم أنف من أراد غير الحق بتأييسه كالقاتل لا يرث ، والمكره في الطلاق لا ينفذ طلاقه ، فيكون كابحا للجبارين من الاكراه إذ لم يحصل غرضهم . ومنها ألا يشرع لهم ما فيه مشقة إلا شيئا فشيئا وهو قول عائشة رضي الله عنها إنما أنزل أول نزل منه سور من المفصل فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا ، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا . ومنها أن لا يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما تختلف به قلوبهم ، فيترك بعض الأمور المستحبة لذلك ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة ' لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة ، وبنيتها على أساس إبراهيم عليه السلام ' .
____________________
(1/235)
ومنها أن الشارع أمر بأنواع البر من الوضوء والغسل والصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها ، ولم يتركها مفوضة إلى عقولهم ، بل ضبطها بالأركان والشروط والآداب ونحوها ، ثم لم يضبط الأركان والشروط والآداب كثير ضبط ، بل تركها مفوضة إلى عقولهم وإلى ما يفهمونه من تلك الألفاظ ، وما يعتادونه في ذلك الباب ، فبين مثلا أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ، ولم يبين مخارج الحروف التي تتوقف عليها صحة قراءة الفاتحة وتشديداتها وحركاتها وسكناتها ، وبين أن استقبال القبلة شرط في الصلاة ، ولم يبين قانونا نعرف به استقبالها ، وبين أن نصاب الزكاة مائتا درهم ، ولم يبين أن الدرهم ما وزنه ، وحيث سئل عن مثل ذلك لم يزد على ما عندهم ، ولم يأتهم بما لا يجدونه في عاداتهم ، فقال في مسألة هلال شهر رمضان ' فإذا غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ' وقال في الماء يكون في فلاة من الأرض ترده السباع والبهائم ' إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا ' وأصله معتاد فيهم كما بينا . والسر في ذلك أن كل شيء منها لا يمكن أن يبين إلا بحقائق مثلها في الظهور والخفاء وعدم الانضباط ، فيحتاج أيضا إلى البيان وهلم جرا ، وذلك حرج عظيم من حيث أن كل توقيت تضييق عليهم في الجملة ، فإذا كثرت التوقيتات ضاق المجال كل الضيق ، ومن حيث أن الشرع يكلف به الأدانى والأقاصي كلهم ، وفي حفظ تلك الحدود على تفصيلها حرج شديد ، وأيضا والناس إذا اعتنوا باقامة ما ضبط به البر اعتناء شديداً لم يحسوا بفوائد البر ، ولم يتوجهوا إلى أرواحها كما ترى كثيرا من المجودين لا يتدبرون معنى القرآن لاشتغال بالهم بالالفاظ ، فلا أوفق بالمصلحة من أن يفوض إليهم الأمر بعد أصل الضبط ، والله أعلم .
____________________
(1/236)
ومنها أن الشارع لم يخاطبهم إلا على ميزان العقل المودع في أصل خلقتهم قبل أن يتعانوا دقائق الحكمة والكلام والأصول ، فأثبت لنفسه جهة فقال : ! ( الرحمن على العرش استوى ) ! . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا مرأة سوداء : ' أين الله فأشارت إلى السماء فقال هي مؤمنة ' ولم يكلفهم في معرفة استقبال القبلة وأوقات الصلاة والأعياد حفظ مسائل الهيئة والهندسة وأشار بقوله ' القبلة ما بين المشرق والمغرب ' إذا استقبل الكعبة إلى وجه المسئلة وقال : ' الحج يوم تحجون والفطر يوم تفطرون ' والله أعلم . ( باب أسرار الترغيب والترهيب ) من نعمة الله تبارك وتعالى على عباده أن أوحى إلى أنبيائه صلوات الله عليهم ما يترتب على الأعمال من الثواب والعذاب ؛ ليخبروا القوم به ، فتمتلئ قلوبهم رغبة ورهبة ، ويتقيدوا بالشرائع بداعية منبعثه من أنفسهم كسائر ما فيه دفع ضر أو جلب نفع وهو قوله تعالى : ( وانها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ) . ثم إن ههنا قواعد كلية إليها ترجع جزيئات الترغيب والترهيب ، وكان فقهاء الصحابة يعلمونها إجمالا ، وإن لم يكونوا أحرزوها تفصيلا ، ومما يدل على ما ذكرنا ما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ' وفي بضع أحدكم صدقة ، فقالوا يأتي أحدنا شهوته ، ويكون له فيها أجر ؟ قال
____________________
(1/237)
أرأيتم لو وضعها في حرام كان عليه وزر ' فما توقفوا في هذه المسألة دون غيرها ، وما اشتبه عليهم لميتها إلا لما عندهم من معرفة مناسبة الأعمال لأجزيتها ، وأنها ترجع إلى أصل معقول المعنى ، ولولا ذلك لم يكن لسؤالهم ولا لجواب النبي صلى الله عليه وسلم - بالاعتبار بأصل واضح - وجه ، وقولي هذا نظير ما قاله الفقهاء في حديث ، ' لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه ؟ قال نعم قال فدين الله أحق أن يقضي ' من أنه يدل على أن الأحكام معلقة بأصول كلية وحاصل السؤال أن الصدقات ترجع إلى تهذيب النفس كالتسبيح والتهليل والتكبير أو إقامة المصلحة في نظام المدينة ، وأن السيئات ترجع إلى أضداد هاتين . وقضاء شهوة الفرج اتباع لداعية البهيمية ، ولا يعقل فيه مصلحة زائدة على العادات أو نحو ذلك مما يرجع إلى معرفة كلية واستغراب رجوع المسألة إليها . وحاصل الجواب أن جماع الحليلة يحصن فرجها وفرجه ، وفيه خلاص مما يكون قضاء الشهوة في غير محلها اقتحاما فيه . وللترغيب والترهيب طرق : ولكل طريقه سر ، ونحن ننبهك على معظم تلك الطرق . فمنها بيان الأثر المترتب على العمل الذي تهذب النفس من انكسار إحدى القوتين أو غلبتها وظهورها ، ولسان الشارع أن يعبر عن ذلك بكتابه الحسنات ومحو السيئات كقوله صلى الله عليه وسلم : ' من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كان له عدل عشر رقاب ، وكتب له مائة حسنة ، ومحيت عنه مائة سيئة ، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه ' وقد ذكرنا سره فيما سبق .
____________________
(1/238)
ومنها بيان أثره في الحفظ عن الشيطان وغيره كقوله صلى الله عليه وسلم ' وكان في حرز من الشيطان حتى يمسي ' وقوله صلى الله عليه وسلم ' لا يستطيعها البطلة ' أو توسيع الرزق وظهور البركة ونحو ذلك ، والسر في بعض ذلك أنه طلب من الله السلامة ، وهو سبب أن يستجاب دعاؤه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم راويا عن الله تبارك وتعالى : ' ولئن استعاذني لأعيذنه ، ولئن سألني لأعطينه ' وفي البعض الآخر إن الغوص في ذكر الله والتوجه إلى الجبروت والاستمداد من الملكوت يقطع المناسبة بهؤلاء ، وإنما التأثير بالمناسبة ، وفي البعض الآخر أن الملائكة تدعوا لمن كان على هذه الحالة ، فيدخل في شراج كثيرة ، فتارة في جلب نفع ، وتارة في دفع ضرر . ومنها بيان أثره في المعاد ، وسره ينكشف بمقدمتين . إحداهما أن الشيء لا يحكم عليه بكونه سببا للثواب أو العذاب في المعاد حتى يكون له مناسبة بأحد سببي المجازاة ، إما أن يكون له دخل في الأخلاق الأربعة المبنية عليها السعادة وتهذيب النفس إثباتا أو نفيا ، وهي النظافة والخشوع لرب العالمين ، وسماحة النفس ، والسعي في إقامة العدل بين الناس ، أو يكون له دخل في تمشية ما أجمع الملأ الأعلى على تمشيته من التمكين للشرائع والنصرة للأنبياء عليهم السلام إثباتا أو نفيا ، ومعنى المناسبة أن يكون العمل مظنة لوجود هذا المعنى أو متلازما له في العادة أو طريقا إليه ، كما أن كونه يصلي ركعتين لا يحدث فيهما نفسه مظنة الاخبات وتذكر جلال الله والترقي من حضيض البهيمية ، وكما أن إسباغ الوضوء طريق إلى النظافة
____________________
(1/239)
المؤثرة في النفس ، وكما أن بذل المال الخطير الذي يشح به عادة والعفو عمن ظلم وترك المراء فيما هو حق له مظنة لسماحه النفس ومتلازم لها ، وكما أن إطعام الجائع وسقي الظمآن والسعي في إطفاء ثائرة الحرب من بين الأحياء مظنة إصلاح العالم وطريق إليه ، وكما أن حب العرب طريق إلى التزيى بزيهم ، وذلك طريق عطف إلى الأخذ بالملة الحنيفية ، لأنها تشخصت في عاداتهم وتنويه بأمر الشريعة المصطفوية ، وكما أن المحافظة على تعجيل الفطر تباعد عن اختلاط الملل وتحريفها ، وما زالت طوائف الناس من الحكماء وهل الصناعات والأطباء يديرون الأحكام على مظانها ، وما زال العرب جارين على ذلك في خطبهم ومحاوراتهم ، وقد ذكرنا بعض ذلك . . . ، أو يكون عملا شاقا أو خاملا أو غير موافق للطبيعة لا يقصده ، ولا يقدم عليه إلا المخلص حق الإخلاص ، فيصير شرحا لإخلاصه كالتضلع من ماء زمزم وكحب علي رضي الله عنه فإنه كان شديدا في أمر الله وكحب الأنصار فإنه لم تزل العرب المعدية واليمينية متباعضين فيما بينهم حتى ألفهم الإسلام ، فالتأليف معرف لدخول بشاشة الإسلام في القلب وكالطلوع على الجبل والسهر في حراسة جيوش المسلمين فإنه معرف لصدق عزيمته في إعلاء كلمة الله وحب دينه . المقدمة الثانية أن الإنسان إذا مات ورجع إلى نفسه وإلى هيآتها التي انصبغت بها ، الملائمة لها ، والمنافرة إياها - لا بد أن تظهر صورة التألم والتنعم بأقرب ما هنالك ، ولا اعتبار في ذلك للملازمة العقلية ، بل لنوع آخر من الملازمة لأجلها يجر بعض حديث النفس بعضا ، وعلى حسبها يقع تشبح المعاني في المنام كما يظهر منع المؤذن الناس عن الجماع والأكل بصورة الختم على الفروج والأفواه ، ثم إن في عالم المثال مناسبات تبنى عليها الأحكام ، فما ظهر جبريل في صورة دحية دون غيره إلا لمعنى ، ولا ظهرت النار
____________________
(1/240)
على موسى عليه السلام إلا لمعنى ، فالعارف بتلك المناسبات يعلم أن جزاء هذا العمل في أي صورة يكون ، كما أن العارف بتأويل الرؤيا يعرف أنه أي معنى ظهر في صورة ما رآه . وبالجملة فمن هذا الطريق يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يكتم العلم ، ويكف نفسه عن التعليم عند الحاجة إليه يعذب بلجام من نار ، لأنه تألمت النفس بالكف ، واللجام شبح الكف وصورته ، والذي يحب المال ، ولا يزال يتعلق به خاطره يطوق بشجاع أقرع ، والذي يتعانى في حفظ الدراهم والدنانير والأنعام ، ويحوط بها عن البذل لله يعذب بنفس تلك الأشياء على ما تقرر عندهم من وجه التأذي ، والذي يعذب نفسه بحديدة أو سم ، ويخالف أمر الله بذلك يعذب بتلك الصورة ، والذي يكسو الفقير يكسى يوم القيامة من سندس الجنة ، والذي يعتق مسلما ويفك رقبته عن آفة الرق المحيط به يعتق بكل عضو منه عضو منه من النار . ومنها تشبيه ذلك العمل بما تقرر في الأذهان حسنه أو قبحه ، أما من جهة الشرع أو العادة وفي ذلك لا بد من أمر جامع بين الشيئين مشترك بينهما ولو بوجه من الوجوه ، كما شبه المرابط في المسجد بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس بصاحب حجة وعمرة ، وشبه العائد في هبته بالكلب العائد في قيئه ، ونسبته إلى المحبوبين أو المبغوضين ، والدعاء لفاعله أو عليه ، وكل ذلك ينبه على حال العمل إجمالا من غير تعرض لوجه الحسن أو القبح كقول الشارع : تلك صلاة المنافق ، وليس منا من فعل كذا ، وهذا العمل عمل
____________________
(1/241)
الشياطين أو عمل الملائكة ، ورحم الله أمرءاً فعل كذا وكذا ' ونحو هذه العبارات . ومنها حال العمل في كونه متعلقا لرضا الله أو سخطه وسببا لانعطاف دعوة الملائكة إليه أو عليه كقول الشارع - إن الله يحب كذا وكذا ، ويبغض كذا وكذا - وقوله صلى الله عليه وسلم ' إن الله تعالى وملائكته يصلون على ميامن الصفوف ' وقد ذكرنا سره ، والله أعلم . ( باب طبقات الأمة باعتبار الخروج إلى الكمال المطلوب أو ضده ) والأصل في هذا الباب قوله تعالى في سورة الواقعة : ( وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون أولئك المقربون ) . إلى آخر السورة . وقوله تعالى : ! ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ) ! . قد علمت أن أعلى مراتب النفوس هي نفوس المفهمين وقد ذكرناها ، ويتلو المفهمين جماعة تسمى بالسابقين ، وهم جنسان : جنس أصحاب اصطلاح وعلو كان استعدادهم كاستعداد المفهمين في تلقي تلك الكمالات إلا أن السعادة لم تبلغ بهم مبلغهم ، فكان استعدادهم كالنائم يحتاج إلى من يوقظه ، فلما أيقظه أخبار الرسل أقبلوا على ما يناسب استعدادهم من تلك العلوم مناسبة
____________________
(1/242)
خفية في باطن نفوسهم ، فصاروا كالمجتهدين في المذهب ، وصار إلهامهم أن يتلقوا من الإلهام الجملي الكلي الذي توجه إلى نفوسهم بما يشملهم من الاستعداد في حظيرة القدس ، وهو الأمر المشترك في أكثرهم ، وترجم عنه الرسل . وجنس أصحاب تجاذب وعلو ، ساقهم سائق التوفيق إلى رياضات وتوجهات قهرت بهيمتهم ، فآتاهم الحق كمالا علميا ، وصاروا على بصيرة من أمرهم فكانت لهم وقائع إلهية وإرشاد وإشراق مثل أكابر طرق الصوفية ، ويجمع السابقين أمران : أحدهما أنهم يستفرغون طاقتهم في التوجه إلى الله والتقرب منه ، وثانيهما أن جبلتهم قوية فتمثل الملكات المطلوبة عندهم على وجهها من غير نظر إلى أشباح لها ، وإنما يحتاجون إلى الأشباح شرحا لتلك الملكات وتوسلا بها إليها . . ، منهم المفردون المتوجهون إلى الغيب طرح الذكر عنهم أثقالهم . . . ، والصديقون المتميزون عن سائر الناس بشدة انقياد الحق والتجرد له . . . ، والشهداء الذين أخرجوا للناس ، وحل فيهم صبغ الملأ الأعلى من لعن الكافرين والرضا عن المؤمنين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعلاء الملة بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان يوم القيامة قاموا يخاصمون الكفرة ، ويشهدون عليهم ، وهم بمنزلة أعضاء النبي صلى الله عليه وسلم في بعثته بهم ليكمل الأمر المراد في البعثة ، ولذلك وجب تفضيلهم على غيرهم وتوقيرهم . . . ، والراسخون في العلم أولو ذكاء وعقل لما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم العلم والحكمة صادف ذلك منهم استعدادا فصار يمد لهم في باطنهم فهم معاني كتاب الله على وجهها ، وإليه أشار علي رضي الله عنه حيث قال - أو فهم أعطيه رجل مسلم . . . ،
____________________
(1/243)
والعباد الذين أدركوا فوائد العبادة عيانا ، وانصبغت نفوسهم بأنوارها ، ودخلت في صميم أفئدتهم فهم يعبدون الله على بصيرة من أمرهم . . . ، والزهاد الذين أيقنوا بالمعاد وبما هنالك من اللذة فاستحقروا في جنبها لذة الدنيا وصار الناس عندهم كأباعير الإبل . . . ، والمستعدون لخلافة الأنبياء عليهم السلام ممن يعبدون الله تعالى بخلق العدالة ، فيصرفونه فيما أمر الله تعالى . . . ، وأصحاب الخلق الحسن أعني أهل السماحة من الجود والتواضع والعفو عمن ظلم . . ، والمتشبهون بالملائكة والمخالطون بهم ، كما يذكر أن بعض الصحابة كان يسلم عليهم الملائكة . ولكل فرقة من هذه الفرق استعداد جبلي يقتضي كماله بتيقظ بأخبار الأنبياء عليهم السلام واستعداد كسبي يتهيأ بأخذ للشرائع فيهما يحصل كما لهم ، ومن كان من المفهمين لم يبعث إلى الخلق فإنه يعد في الشرائع من السابقين ، ويتلو السابقين جماعة تسمى بأصحاب اليمين ، وهم أجناس : جنس نفوسهم قريبة المأخذ من السابقين لم يوفقوا لتكميل ما جبلوا له ، فاقتصروا على الأشباح دون الأرواح لكنهم ليسوا بأجنبيين منها ، وجنس أصحاب النجاذب نفوسهم ضعيفة الملكية قوية البهيمية وفقوا لرياضات شاقة ، فأثمرت فيهم ما للملأ السافل أو ضعيفة البهيمية استهتروا بذكر الله تعالى فترشح عليهم إلهامات جزئية وتعبد وتطهر جزئيان . وجنس أهل الاصطلاح ضعيفة الملكية جدا عضوا على الرياضات الشاقة إن كانوا قويي البهيمية ، أو الأولاد الدائمة إن كانوا ضعيفيها فلم يثمر ذلك لهم شيئا من الانكشاف لكن دخلت الأعمال والهيآت التي هي أشباح الملكات الحسنة في جذر نفوسهم ، وكثير منهم لا يشترط في عمله الإخلاص التام والتبري من مقتضى الطبع والعادة بالكلية فيتصدقون بنية ممتزجة من دقة الطبع ورجاء الثواب ويصلون لجريان سنة قومهم على ذلك ولرجاء الثواب ،
____________________
(1/244)
ويمتنعون من الزنا وشرب الخمر خوفا من الله وخوفا من الناس أو لا يستطيعون اتباع العشيقات ولا بذل الأموال في الملاهي ، فيقبل منهم ذلك بشرط أن تضعف قلوبهم عن الإخلاص الصرف ، وأن تتمسك نفوسهم بالأعمال أنفسها لا بما هي شروح للملكات . وكان في الحكمة الأولى - إن من الحياء خيرا ومنه ضعفا - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ' الحياء خير كله ' ينبه على ما ذكرنا ، وكثير منهم يبرق عليهم بارقة ملكية في أوقات يسيرة ، فلا يكون ملكة لهم ، ولا يكونون أجنبيين عنها كالمستغفرين اللوامين أنفسهم ، وكالذي يذكر الله خاليا وفاضت عيناه ، وكالذي لا تمسك نفسه الشر لضعف في جبلته إنما قلبه كقلب الطير أو لتحلل طارئ على مزاجه كالمبطون وأهل المصائب كفرت بلاياهم خطاياهم . وبالجملة فأصحاب اليمين فقدوا إحدى خصلتي السابقين ، وحصلوا الأخرى ، وبعدهم جماعة تسمى بأصحاب الأعراف وهم جنسان : قوم صحت أمزجتهم ، وزكت فطرتهم ، ولم تبلغهم الدعوة الإسلامية أصلا أو بلغتهم ، ولكن بنحو لا تقوم به الحجة ، ولا تزول به الشبهة فنشأوا غير منهمكين في الملكات الخسيسة والأعمال المردية ولا ملتفتين إلى جناب الحق لا نفيا ، ولا إثباتا ، كان أكثر أمرهم الاشتغال بالارتفاقات العاجلة ، فأولئك إذا ماتوا رجعوا إلى حالة عمياء لا إلى عذاب ، ولا إلى ثواب حتى تنفسخ بهيمتهم ، فيبرق عليهم شيء من بوارق الملكية . وقوم نقصت عقولهم كأكثر الصبيان والمعتوهين والفلاحين والأرقاء ، وكثير يزعمهم الناس أنهم لا بأس بهم ، وإذا نقح حالهم عن الرسوم بقوا لا عقل لهم ، فأولئك يكتفي من إيمانهم بمثل ما اكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجارية السوداء سألها ' أين الله ' فأشارت إلى السماء ، إنما يراد منهم أن يتشبهوا بالمسلمين لئلا تتفرق الكلمة .
____________________
(1/245)
أما الذين نشأوا منهمكين في الرذائل والتفتوا إلى جناب الحق على غير الوجه الذي ينبغي أن يكون ، فهم أهل الجاهلية يعذبون بأصناف العذاب . . . ، وبعدهم جماعة تسمى بالمنافقين نفاق العمل ، وهم أجناس لم تبلغ بهم السعادة إلى وجود الكمال المأمور به على ما هو عليه ، إما غلب عليهم حجاب الطبيعة ، ففنوا في ملكة رذيلة مثل شره الطعام والنساء والحقد ما وضعت عنهم طاعتهم أوزارهم ، أو حجاب الرسم ، فلا يكادون يسمحون بترك رسوم الجاهلية ولا بمهاجرة الأخوان والأوطان ، أو حجاب سوء المعرفة مثل المتشبهة والذين أشركوا بالله عبادة أو استعانة شركا خفيا زاعمين أن الشرك المبغض غير ما يفعلونه ، وذلك فيما لم تنص فيه الملة ، ولم يكشف عنه الغطاء ، ومنهم أولو ضعف وسماجة وأهل مجون وسخافة ، لم ينفع حب الله وحب رسوله فيهم التبري عن المعاصي كقصة من كان يشرب الخمر ، وكان يحب الله ورسوله بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم . . . ، وجماعة تسمى بالفاسقين وهم الذين يغلب عليهم أعمال السوء أكثر من الملكات الرذيلة ، منهم أصحاب بهيمية شديدة اندفعوا إلى مقتضيات السبعية والبهيمية ، ومنهم أولو أمزجة فاسدة وآراء كاسدة بمنزلة المريض الذي يحب أكل الطين والخبز المحترق ، فصاروا يندفعون إلى الشيطنة . . . ، وبعدهم الكفار وهم المردة المتمردة أبوا أن يقولوا لا إله إلا الله مع تمام عقلهم وصحة التبليغ إليهم ، أو ناقضوا إرادة الحق في تمشية أمر الأنبياء عليهم السلام ، فصدوا عن سبيل الله ، واطمأنوا بالحياة الدنيا ، ولم يلتفتوا إلى ما بعدها ، فأولئك يلعنون لعنا مؤبدا ، ويسجنون سجنا مخلدا ، ومنهم أهل الجاهلية ، ومنهم المنافق الذي آمن بلسانه ، وقلبه باق على الكفر الخالص ، والله أعلم .
____________________
(1/246)
( باب الحاجة إلى دين ينسخ الأديان ) استقرئ الملل الموجودة على وجه الأرض ، هل ترى من تفاوت عما أخبرتك في الأبواب السابقة ؟ كلا والله ، بل الملل كلها لا تخلو من اعتقاد صدق صاحب الملة وتعظيمه ، وأنه كامل منقطع النظير لما رأوا منه من الاستقامة في الطاعات أو ظهور الخوارق واستجابة الدعوات ، ومن الحدود والشرائع والمزاجر مما لا تنتظم الملة بغيرها ، ثم بعد ذلك أمور تفيد الاستطاعة الميسرة مما ذكرنا ومما يضاهيه ، ولكل قوم سنة وشريعة يتبع فيها عادة أوائلهم ، ويختار فيها سيرة حملة الملة وأئمتها ، ثم أحكم بنيانها ، وشدد أركانها حتى صار أهلها ينصرونها ، ويتناضلون دونها ، ويبذلون الأموال والمهج لأجلها ، وما ذلك إلا لتدبيرات محكمة ومصالح متقنة لا تبلغها نفوس العامة . ولما انفرز كل قوم بملة ، وانتحلوا سننا وطرائق ، ونافحوا دونها بألسنتهم ، وقاتلوا عليها بأسنتهم ، ووقع فيهم الجور ، إما لقيام من لا يستحق إقامة الملة بها ، أو لاختلاط الشرائع الابتداعية ، ودسها فيها ، أو لتهاون حملة الملة ، فأهملوا كثيرا مما ينبغي ، فلم تبق إلا دمنة لم تتكلم من أم أوفى ، ولا مت كل ملة أختها ، وأنكرت عليها ، وقاتلها ، واختفى الحق - مست الحاجة إلى إمام راشد يعامل مع الملل معاملة الخليفة الراشد مع الملوك الجائرة . ولك عبرة فيما ذكره ناقل كتاب الكليلة والدمنة من الهندية إلى الفارسية من اختلاط الملل ، وأنه أراد أن يتحقق الصواب فلم يقدر إلا على شيء يسير ، وفيما ذكره أهل التاريخ من حال الجاهلية واضطراب أديانهم . وهذا الإمام الذي يجمع الأمم على ملة واحدة يحتاج إلى أصول أخرى غير الأصول المذكورة فيما سبق .
____________________
(1/247)
منها أن يدعو قوما إلى السنة الراشدة ، ويزكيهم ، ويصلح شأنهم ، ثم يتخذهم بمنزلة جوارحه ، فيجاهد أهل الأرض ، ويفرقهم في الآفاق ، وهو قوله تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت لناس ) . وذلك لأن هذا الإمام نفسه لا يتأتى منه مجاهدة أمم غير محصورة ، وإذا كان كذلك وجب أن تكون مادة شريعته ما هو بمنزلة المذهب الطبيعي لأهل الأقاليم الصالحة عربهم وعجمهم ، ثم ما عند قومه من العلم والارتفاقات ، ويراعى فيهم حالهم أكثر من غيرهم ، ثم يحمل الناس جميعا على اتباع تلك الشريعة لأنه لا سبيل إلى أن يفوض الأمر إلى كل قوم أو إلى أئمة كل عصر ، إذ لا يحصل منه فائدة التشريع أصلا ، ولا إلى أن ينظر ما عند كل قوم ، ويمارس كلا منهم ، فيجعل لكل شريعة ؛ إذ الإحاطة بعاداتهم وما عندهم على اختلاف بلدانهم وتباين أديانهم كالممتنع ، وقد عجز جمهور الرواة عن رواية شريعة واحدة ، فما ظنك بشرائع مختلفة ، والأكثر أنه لا يكون انقياد الآخرين إلا بعد عدد ومدد لا يطول عمر النبي إليها ، كما وقع في الشرائع الموجودة الآن فإن اليهود والنصارى والمسلمين ما آمن من أوائلهم إلا جمع ، ثم أصبحوا ظاهرين بعد ذلك فلا أحسن ولا أيسر من أن يعتبر في الشعائر والحدود والارتفاقات عادة قومه المبعوث فيهم ، ولا يضيق كل التضييق على الآخرين الذين يأتون بعد ، ويبقى عليهم في الجملة ، والأولون يتيسر لهم الأخذ بتلك الشريعة بشهادة قلوبهم وعاداتهم ، والآخرون يتيسر لهم ذلك بالرغبة في سير أئمة الملة والخلفاء ، فإنها كالأمر الطبيعي لكل قوم في كل عصر قديما أو حديثا .
____________________
(1/248)
والأقاليم الصالحة لتولد الأمزجة المعتدلة كانت مجموعة تحت ملكين كبيرين يومئذ : أحدهما كسرى - وكان متسلطا على العراق واليمن وخراسان وماوليهما ، وكانت ملوك ما وراء النهر والهند تحت حكمه يجبي إليه منهم الخراج كل سنة ، والثاني قيصر ، وكان متسلطا على الشام والروم ، وماوليهما ، وكان ملوك مصر والمغرب والإفريقية تحت حكمه يجبي إليه منهم الخراج . وكان كسر دولة هذين الملكين والتسلط على ملكهما بمنزلة الغلبة على جميع الأرض ، وكانت عاداتهم في الترفه سارية في جميع البلاد التي هي تحت حكمهما ، وتغير تلك العادات ، وصدهم عنها مفضيا في الجملة إلى تنبيه جميع البلاد على ذلك وإن اختلفت أمورهم بعده ، وقد ذكر الهرمزان شيئا من ذلك حين استشاره عمر رضي الله عنه في غزاة العجم ، أما سائر النواحي البعيدة عن اعتدال المزاج ، فليس بها كثير اعتداد في المصلحة الكلية ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ' اتركوا الترك ما تركوكم ، ودعوا الحبشة ما ودعوكم ' . وبالجملة فلما أراد الله تعالى إقامة الملة العوجاء ، وأن يخرج للناس أمة تأمرهم بالمعروف ، وتنهاهم عن المنكر ، وتغير رسومهم الفاسدة كان ذلك موقوفا على زوال دولة هذين متيسرا بالتعرض لحالهما فإن حالهما يسرى في جميع الأقاليم الصالحة أو يكاد يسري فقضى الله بزوال دولتهما ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن هلك كسرى ، فلا كسرى بعده ، وهلك قيصر ، فلا قيصر بعده ، ونزل الحق الدامغ لباطل جميع الأرض في دمغ باطل العرب بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ودمغ باطل هذين الملكين بالعرب ، ودمغ سائر البلاد بملتهما ، ولله الحجة البالغة .
____________________
(1/249)
ومنها أن يكون تعليمه الدين إياهم مضموما إلى القيام بالخلافة العامة ، وأن يجعل الخلفاء من بعده أهل بلده وعشيرته الذين نشئوا على تلك العادات والسنن ، وليس التكحل في العينين كالكحل ، ويكون الحمية الدينية فيهم مقرونة بالحمية النسبية ، ويكون علو أمرهم ونباهة شأنهم علوا لأمر صاحب الملة ونباهة لشأنه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' الأئمة من قريش ' ، ويوصي الخلفاء بإقامة الدين وإشاعته ، وهو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم . ومنها أن يجعل هذا الدين غالبا على الأديان كلها ، ولا يترك أحدا إلا قد غليه الدين بعز عزيز أو ذل ذليل ، فينقلب الناس ثلاث فرق : منقاد للدين ظاهرا وباطنا ، ومنقاد بظاهره على رغم أنفه لا يستطيع التحول عنه ، وكافر مهان يسخره في الحصاد والدياس وسائر الصناعات كما تسخر البهائم في الحرث وحمل الاثقال ، ويلزم عليه سنة زاجرة ، ويؤتى الجزية عن يد وهو صاغر . وغلبة الدين على الأديان لها أسباب : منها إعلان شعائره على شعائر سائر الأديان ، وشعائر الدين أمر ظاهر يختص به يمتاز صاحبه به من سائر الأديان كالختان وتعظيم المساجد والأذان والجمعة والجماعات . ومنها أن يقبض على أيدي الناس ألا يظهروا شعائر سائر الأديان . ومنها ألا يجعل المسلمين أكفاء للكافرين في القصاص والديات ولا في المناكحات ولا في القيام بالرياسات ليلجئهم ذلك إلى الإيمان الجاء . ومنها أن يكلف الناس بأشباح البر والاثم ، ويلزمهم ذلك إلزاما عظيما ،
____________________
(1/250)
ولا يلوح لهم بأرواحها كثير تلويح ، ولا يخيرهم في شيء من الشرائع ، ويجعل علم أسرار الشرائع الذي هو مأخذ الأحكام التفصيلية علما مكنونا لا يناله إلا من ارتسخت قدمه في العلم ، وذلك لان أكثر المكلفين لا يعرفون المصالح ولا يستطيعون معرفتها إلا إذا ضبطت بالضوابط ، وصارت محسوسة يتعاطاها كل متعاط ، فلو رخص لهم في ترك شيء منها ، وبين أن المقصود الاصلي غير تلك الأشباح لتوسع لهم مذاهب الخوض ، ولا اختلفوا اختلافا فاحشا ولم يحصل ما أراد الله فيهم ، والله اعلم . ومنها أنه لما كانت الغلبة بالسيف فقط لا تدفع رين قلوبهم ، فعسى أن يرجعوا إلى الكفر عن قليل - وجب أن يثبت بأمور برهانية أو خطابية نافعة في أذهان الجمهور أن تلك الاديان لا ينبغي أن تتبع ، لأنها غير مأثورة عن المعصوم ، أو أنها غير منطبقة على قوانين الملة ، أو أن فيها تحريفا ووضعا للشيء في غير موضعه ، ويصحح ذلك على رءوس الاشهاد ، ويبين مرجحات الدين القويم من أنه سهل سمح ، وأن حدوده واضحة يعرف العقل حسنها ، وأن ليلها نهارها ، وأن سننها أنفع للجمهور وأشبه بما بقي عندهم من سيرة الانبياء السابقين عليهم السلام وأمثال ذلك ، والله أعلم . ( باب احكام الدين من التحريف ) لا بد لصاحب السياسة الكبرى الذي يأتي من الله بدين ينسخ الأديان من أن يحكم دينه من أن يتطرف إليه تحريف ، وذلك لأنه يجمع أمما كثيرة ذوي استعدادات شتى وأغراض متفاوتة ، فكثيرا ما يحملهم الهوى أو حب الدين الذي كانوا عليه سابقا والفهم الناقص حيث عقلوا شيئا ، و غابت مصالح كثيرة أن يهملوا ما نصت الملة عليه ، أو يدسوا فيها ما ليس منها ، فيختل الدين ، كما قد وقع في كثير من الأديان قبلنا ، ولما لم يمكن الاستقصاء
____________________
(1/251)
في معرفة مداخل الخلل فإنها غير محصورة ولا متعينة ، وما لا يدرك كله لا يترك كله - وجب أن ينذرهم من أسباب التحريف إجمالا أشد الانذار ، ويخص مسائل قد علم بالحدس أن التهاون والتحريف في مثلها أو بسببها داء مستمر في بني آدم فيسد مدخل الفساد منها بأثم وجه ، وأن يشرع شيئا يخالف مألوف الملل الفاسدة فيما هو أشهر الأشياء عندهم كالصلوات مثلا . ومن أسباب التحريف التهاون وحقيقته أن يخلف بعد الحواريين خلف أضاعوا الصلاة ، واتبعوا الشهوات لا يهتمون باشاعة الدين تعلما وتعليما وعملا ، ولا يأمرون بالمعروف ، ولا ينهون عن المنكر ، فينعقد عما قريب رسوم خلاف الدين ، وتكون رغبة الطباع خلاف رغبة الشرائع ، فيجيء خلف آخرون يزيدون في التهاون حتى ينسى معظم العلم . . . ، والتهاون من سادة القوم وكبرائهم أضر بهم وأكثر إفسادا . وبهذا السبب ضاعت ملة نوح وإبراهيم عليهما السلام ، فلم يكد يوجد منهم من يعرفها على وجهها ، ومبدأ التهاون أمور . منها عدم تحمل الرواية عن صاحب الملة والعمل به ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم من حلال فأحلوه ، وما وجدتم منه حرام ، فحرموه ، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' أن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا ، وأضلوا ' . ومنها الأغراض الفاسدة الحاملة على التأويل الباطل كطلب مرضاة الملوك في اتباعهم الهوى لقوله تعالى :
____________________
(1/252)
! ( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ) ! . ومنها شيوع المنكرات وترك علمائهم النهي عنها وهو قوله تعالى : ( فلولا كان من القرون من قبلكم ألوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا مما أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ) . وقوله صلى الله عليه وسلم لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي : ' نهتهم علماؤهم ، فلم ينتهوا ، فجالسوهم في مجالسهم ، وآكلوهم ، وشاربوهم ، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا ، وكانوا يعتدون ' . ومن أسباب التحريف التعمق ، وحقيقته أن يأمر الشارع بأمر وينهى عن شيء فيسمعه رجل من أمته ، ويفهمه حسبما يليق بذهنه ، فيعدي الحكم إلى ما يشاكل الشيء بحسب بعض الوجوه أو بعض أجزاء العلة أو إلى أجزاء الشيء ومظانه ودواعيه ، وكلما اشتبه عليه الأمر لتعارض الروايات التزم الأشد ، ويجعله واجبا ، ويحمل كل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على العبادة ، والحق أنه فعل أشياء على العادة ، فيظن أن الأمر والنهي شملا في هذه الأمور ، فيجهر بأن الله تعالى أمر بكذا ، ونهى عن كذا ، كما أن الشارع لما شرع الصوم لقهر النفس ومنع عن الجماع فيه ظن قوم أن السحور خلاف المشروع ؛ لأنه يناقض قهر النفس ، وأنه يحرم على الصائم قبلة امرأته لأنها من دواعي الجماع ، ولأنها تشاكل الجماع في قضاء الشهوة ، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فساد هذه المقاملة وبين أنه تحريف .
____________________
(1/253)
ومنها التشدد وحقيقته اختيار عبادات شاقة لم يأمر بها الشارع كدوام الصيام والقيام التبتل وترك التزوج ، وأن يلتزم السنن والآداب كالتزام الواجبات وهو حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو وعثمان ابن مظعون عما قصدا من العبادات الشاقة وهو قوله صلى الله عليه وسلم ' لن يشاد الدين أحد إلا غلبه ' فإذا صار هذا المتعمق أو المتشدد معلم قوم ورئيسهم ظنوا أن هذا أمر الشرع ورضاه ، وهذا داء رهبان اليهود والنصارى . ومنها الاستحسان وحقيقته أن يرى رجل الشارع يضرب لكل حكمة مظنة مناسبة ، ويراه يعقد التشريع ، فيختلس بعض ما ذكرنا من أسرار التشريع ، فيشرع للناس حسبما عقل من المصلحة . كما أن اليهود رأوا أن الشارع إنما أمر بالحدود زجرا عن المعاصي للاصلاح ، ورأوا أن الرجم يورث اختلافا وتقاتلا بحيث يكون في ذلك اشد الفساد ، واستحسنوا تحميم الوجه والجلد ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه تحريف ونبذ لحكم الله المنصوص بالتوراة بآرائهم . عن ابن سيرين قال : أول من قاس إبليس ، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس . وعن الحسن أنه تلا هذه الآية : ! ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) ! . قال : قاس إبليس وهو أول من قاس . وعن الشعبي قال : والله لئن أخذتم بالمقاييس لتحر من الحلال ، ولتحلن الحرام . وعن معاذ بن جبل : يفتح القرآن على الناس حتى يقرأه المرأة والصبي والرجل ، فيقول الرجل قد قرأت القرآن ، فلم أتبع ، والله لاقومن به فيهم لعلي أتبع ، فيقوم به فيهم ، فلا يتبع ، فيقول : قد قرأت القرآن فلم أتبع ، وقد قمت به فيهم ، فلم أتبع
____________________
(1/254)
لأحتظرن في بيتي مسجدا لعلي أتبع ، فيخظر في بيته مسجدا ، فلا يتبع ، فيقول : قد قرأت القرآن ، فلم أتبع ، وقمت به فيهم ، فلم أتبع ، وقد احتظرت في بيتي مسجدا ، فلم أتبع ، والله لآتينهم بحديث لا يجدونه في كتاب الله ولم يسمعوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي أتبع قال معاذ : فاياكم وما جاء به فإن ما جاء به ضلالة ، وعن عمر رضي الله عنه قال : يهدم الاسلام زلة العالم وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين ، والمراد بهذا كله ما ليس استنباطا من كتاب الله وسنة رسوله . ومنها اتباع الإجماع وحقيقته أن يتفق قوم من حملة الملة الذين اعتقد العامة فيهم الإصابة غالبا أو دائما على شيء فيظن أن ذلك دليل قاطع عن ثبوت الحكم ، وذلك فيما ليس له أصل من الكتاب والسنة ، وهذا غير الإجماع الذي اجتمعت الأمة عليه فإنهم اتفقوا على القول بالإجماع الذي مستنده الكتاب والسنة أو الاستنباط من أحدهما ولم يجوزوا القول بالاجماع الذي ليس مستندا إلى أحدهما ، وهو قوله تعالى : ( وإذا قيل لهم أمنوا بما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ) الآية وما تمسكت اليهود في نفي نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام إلا بأن أسلافهم فحصوا عن حالهما ، فلم يجدوهما على شرائط الأنبياء ، والنصارى ، لهم شرائع كثيرة مخالفة للتوراة والأنجيل ليس لهم فيها متمسك إلا إجماع سلفهم . ومنها تقليد غير المعصوم أعني غير النبي الذي ثبتت عصمته ، وحقيقته أن يجتهد واحد من علماء الأمة في مسألة ، فيظن متبعوه أنه على الإصابة قطعا أو غالبا ، فيردوا به حديثا صحيحا ، وهذا التقليد غير ما اتفق عليه
____________________
(1/255)
الأمة المرحومة ، فإنهم اتفقوا على جواز التقليد للمجتهدين مع العلم بأن المجتهد يخطئ ، ويصيب ، ومع الاستشراف لنص النبي صلى الله عليه وسلم في المسألة والعزم على أنه إذا ظهر حديث صحيح خلاف ما قلد فيه ترك التقليد ، واتبع الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : ! ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ! . إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه ' . ومنها خلط ملة بملة حتى لا تتميز واحدة من الأخرى ، وذلك أن يكون إنسان في دين من الأديان تعلق بقلبه علوم تلك الطبقة ، ثم يدخل في الملة الإسلامية ، قيبقى ميل قلبه إلى ما تعلق به من قبل ، فيطلب لأجله وجها في هذه الملة ولو ضعيفا أو موضوعا ، وربما جوز الوضع ورواية الموضوع لذلك ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلا حتى نشأ فيهم المولدون وأبناء سبايا الأمم ، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا ' ومما دخل في ديننا علوم بني إسرائيل وتذكير خطباء الجاهلية وحكمة اليونانيين ودعوة البابليين وتاريخ الفارسيين والنجوم والرمل والكلام ، وهو سر غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرئ بين يديه نسخة من التوراة ، وضرب عمر رضي الله عنه من كان يطلب كتب دانيال ، والله أعلم . ( باب أسباب اختلاف دين نبينا صلى الله عليه وسلم ودين اليهود والنصرانية ) اعلم أن الحق تعالى إذا بعث رسولا في قوم ، فأقام الملة لهم على لسانه ، فإنه لا يترك فيها عوجا ولا أمتا ، ثم إنه تمضى الرواية عنه ، ويحملها
____________________
(1/256)
الحواريون من أمته كما ينبغي برهة من الزمان ، ثم بعد ذلك يخلف خلف يحرفونها ، ويتهاونون فيها ، فلا تكون حقا صرفا بل ممزوجا بالباطل ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' ما من نبي بعثه الله في أمته إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ، ويقتدون بأمره ، ثم يخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يأمرون ' الحديث ، وهذا الباطل منه إشراك جلي وتحريف صريح يؤاخذون عليه على كل حال ، ومنه إشراك خفي وتحريف مضمر لا يؤاخذ الله بها حتى يبعث الرسول فيهم ، فيقيم الحجة ، ويكشف الغمة ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة ، فإذا بعث فيهم الرسول رد كل شيء إلى أصله ، فنظر إلى شرائع الملة الأولى . . . فما كان منها من شعائر الله لا يخالطها شرك ومن سنن العبادات أو طرق الارتفاقات التي ينطبق عليها القوانين الملية - أبقاها ، ونوه بالخامل منها ، ومهد لكل شيء أركانا وأسبابا ، وما كان من تحريف وتهاون أبطله ، وبين أنه ليس من الدين . . . ، وما كان من الأحكام المنوطة بمظان المصالح يومئذ ، ثم اختلفت المظان بحسب اختلاف العادات - بدلها ، إذا المقصود الأصلي في شرع الأحكام هي المصالح . ويعنون بالمظان ، وربما كان شيء مظنة لمصلحة ثم صار ليس مظنة لها ، كما أن علة الحمى في الأصل ثوران الأخلاط ، فيتخذ الطبيب له مظنة ينسب إليها الحمى كالمشي في الشمس والحركة المتعبة وتناول الغذاء الفلاني ، ويمكن أن تزول مظنة هذه الأشياء ، فتختلف الأحكام حسب ذلك ، وما كان انعقد عليه إجماع الملأ الأعلى فيما يعملون ويعتادون ، وفيما يثبت عليه علومهم ، ودخل في جذر نفوسهم زاده . وكان الأنبياء عليهم السلام قبل نبيا صلى الله عليه وسلم يزيدون ، ولا ينقصون ، ولا يبدلون إلا قليلا ، فزاد إبراهيم عليه السلام على ملة نوح عليه السلام أشياء من المناسك وأعمال الفطرة والختان وزاد موسى
____________________
(1/257)
عليه السلام على ملة إبراهيم عليه السلام أشياء كتحريم لحوم الأبل ووجوب السبت ورجم الزناة وغير ذلك ، ونبينا صلى الله عليه وسلم زاد ، ونقص ، وبدل . والناظر في دقائق الشريعة إذا استقرأ هذه الأمور وجدها على وجوه : منها أن الملة اليهودية حملها الأحبار والرهبان ، فحرفوها بالوجوه المذكورة فيما سبق ، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم رد كل شيء إلى أصله ، فاختلفت شريعته بالنسبة إلى اليهودية التي هي في أيديهم ، فقالوا هذا زيادة ونقص وتبديل وليس تبديلا في الحقيقة . ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعثة تتضمن بعثة أخرى فالأولى إنما كانت إلى بني إسمعيل وهو قوله تعالى : ! ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ) ! . وقوله تعالى : ! ( لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ) ! . وهذه البعثة تستوجب أن يكون مادة شريعته ما عندهم من الشعائر وسنن العبادات ووجوه الارتفاقات إذ الشرع إنما هو إصلاح ما عندهم ، لا تكليفهم بما لا يعرفونه أصلا ونظيره قوله تعالى : ! ( قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) ! .
____________________
(1/258)
وقوله تعالى : ! ( لو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي ) ! . وقوله تعالى : ! ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) ! . والثانية كانت إلى جميع أهل الأرض عامة بالارتفاق الرابع وذلك لأنه لعن في زمانه أقواما ، وقضى بزوال دولتهم كالعجم والروم ، فأمر بالقيام باللارتفاق الرابع ، وجعل شرفه وغلبته تقريبا لأتمام الأمر المراد ، وآتاه مفاتيح كنوزهما ، فحصل له بحسب هذا الكمال أحكام أخرى غير أحكام التوراة كالخراج والجزية والمجاهدات والاحتياط عن مداخل التحريف . ومنها أنه بعث في زمان فترة قد اندرست فيه الملل الحقة ، وحرفت ، وغلب عليها التعصب واللجاج ، فكانوا لا يتركون ملتهم الباطلة ولا عادات الجاهلية إلا بتأكيد بالغ في مخالفة تلك العادات ، فصار ذلك معدا لكثير من الاختلافات . ( باب أسباب النسخ ) والأصل فيه قوله تعالى : ! ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) ! . اعلم أن النسخ قسمان : أحدهما أن ينظر النبي صلى الله عليه وسلم في الارتفاقات أو وجوه
____________________
(1/259)
الطاعات ، فيضبطها بوجوب الضبط على قوانين التشريع ، وهو اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم لا يقرره الله عليه ، بل يكشف عليه ما قضى الله في المسألة من الحكم ، إما بنزول القرآن حسب ذلك ، أو تغيير اجتهاده إلى ذلك وتقريره عليه ، مثال الأول ما امر النبي صلى الله عليه وسلم من الاستقبال قبل بيت المقدس ، ثم نزل القرآن بنسخه ، ومثال الثاني أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الانتباذ إلا في السقاء ثم أباح لهم الانتباذ في كان آنية ، وقال : ' لا تشربوا مسكرا ' وذلك أنه لما رأى أن الإسكار أمر خفي نصب له مظنة ظاهرة ، وهي الانتباذ في الأوعية التي لا مسام لها كالمأخوذة من الخزف والخشب والدباء ، فإنه يسرع الأسكار فيما ينبذ فيها ، ونصب الانتباذ في السقاء مظنة لعدم الإسكار إلى ثلاثة أيام ، ثم تغير اجتهاده صلى الله عليه وسلم إلى إدارة الحكم على الإسكار ؛ لأنه يعرف بالغليان وقذف الزبد ، ونصب ما هو من لوازم السكر أو من صفات الشيء المسكر مظنة أولى من نصب ما هو أمر أجنبي . . . ، وعلى تخريج آخر نقول : رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن القوم مولعون بالمسكر ، فلو نهوا عنه كان مدخل أن يشربه أحد متعذرا بأنه ظن أنه ليس بمسكر وأنه اشتبه عليه علامات الاسكار ، أو كانت أوانيهم ملطخة بالمسكر والاسكار يسرع إلى ما ينبذ في مثل ذلك ، فلما قوى الاسلام ، واطمأنوا بترك المسكرات ، ونفدت تلك الأواني أدار الحكم على نفس الاسكار وعلى هذا التخريج ، وهذا مثال لاختلاف الحكم حسب اختلاف المظنات وفي هذا القسم قوله صلى الله عليه وسلم : ' كلامي لا ينسخ كلام الله ، وكلام الله ينسخ كلامي ، وكلام الله ينسخ بعضه بعضا ' . والثاني أن يكون شيء مظنة مصلحة أو مفسدة ، فيحكم عليه حسب ذلك ، ثم يأتي زمان لا يكون فيه مظنة لها ، فيتغير الحكم ، مثاله لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وانقطعت النصرة بينهم وبين ذوي أرحامهم ،
____________________
(1/260)
وإنما كانت بالإخاء الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم لمصلحة ضرورية رآها - نزل القرآن بادارة التوارث على الإخاء ، وبين الله تعالى فائدة حيث قال : ! ( إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) ! . ثم لما قوى الإسلام ، ولحق بالمهاجرين أولو أرحامهم - رجع الأمر إلى ما كان من التوارث بالنسب . . . ، أو لا يكون شيء مصلحة في النبوة التي لم يضم معها الخلافة كما كان قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، وكما كان في زمانه قبل الهجرة ، ويكون مصلحة في النبوة المضمومة بالخلافة ، مثاله أن الله تعالى لم يحل الغنائم لمن قبلنا ، وأحل لنا . وعلل ذلك في الحديث بوجهين : أحدهما أن الله رأى ضعفنا ، فأحلها لنا ، وثانيهما أن ذلك من تفضيل الله نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء وأمته على سائر الأمم . وتحقيق الوجهين أن الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يبعثون لي أقوامهم خاصة ، وهو محصورون يتأتى الجهاد معهم في سنة أو سنتين ونحو ذلك ، وكان أممهم أقوياء يقدرون على الجمع بين الجهاد والتسبب بمثل الفلاحة والتجارة ، فلم يكن لهم حاجة إلى الغنائم ، فأراد الله تعالى ألا يخلط بعملهم غرض دنيوي ، ليكون أتم لأجورهم ، وبعث نبينا صلى الله عليه وسلم إلى كافة الناس ، وهم غير محصورين ، ولا كان زمان الجهاد معهم محصورا ، وكانوا لا يستطيعون الجمع بين الجهاد والتسبب بمثل الفلاحة والتجارة ، فكان لهم حاجة إلى إباحة الغنائم ، وكانت أمته لعموم دعوته تشتمل ناسا ضعفاء في النية ، وفيهم ورد ' - أن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ' لا يجاهد أولئك إلا لغرض عاجل وكانت الرحمة شملتهم في أمر الجهاد شمولا عظيما ، وكان الغضب متوجها إلى أعدائهم توجها عظيما ، وهو
____________________
(1/261)
قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن الله نظر إلى أهل الأرض ، فمقت عربهم وعجمهم ' فأوجب ذلك زوال عصمة أموالهم ودمائهم على الوجه الأتم ، وأوجب إغاظة قلوبهم بالتصرف في أموالهم ، كما أهدى إلى الحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعير أبي جهل في أنفه برة فضة يغيظ الكفار ، وكما أمر بقطع النخيل وإحراقها إغاظة لأهلها ، فلذلك نزل القرآن بإباحة الغنائم لهذه الأمة . مثال آخر لم يحرم لهذه الأمة قتال الكفار في أول الأمر ، ولم يكن حينئذ هناك جند ولا خلافة ، ثم لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ، وثاب المسلمون ، وظهرت الخلافة ، وتمكنوا من مجاهدة أعداء الله أنزل الله تعالى : ! ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) ! . وفي هذا القسم قوله تعالى : ! ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) ! . فقوله : ( بخير منها ) فيما تكون النبوة مضمومة بالخلافة وقوله : ( أو مثلها ) فيما يختلف الحكم باختلاف المظان ، والله أعلم . ( باب بيان ما كان عليه حال أهل الجاهلية فاصلحه النبي صلى الله عليه وسلم ) إن كنت تريد النظر في معاني شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتحقق أولا حال الأميين الذين بعث فيهم التي هي مادة تشريعه ، وثانيا
____________________
(1/262)
كيفية إصلاحه لها بالمقاصد المذكورة في باب التشريع والتيسير وأحكام الملة ، فاعلم أنه صلى الله عليه وسلم بعث بالملة الحنيفية الإسماعيلية لإقامة عوجها وإزالة تحريفها وإشاعة نورها ، وذلك قوله تعالى : ! ( ملة أبيكم إبراهيم ) ! . ولما كان الأمر على ذلك وجب أن تكون أصول تلك الملة مسلمة ، وسنتها مقررة إذ النبي إذا بعث إلى قوم فيهم بقية سنة راشدة ، فلا معنى لتغييرها وتبديلها ، بل الواجب تقريرها ، لأنه أطوع لنفوسهم وأثبت عند الاحتجاج عليهم ، وكان بنو إسماعيل توارثوا منهاج أبيهم إسماعيل ، فكانوا على تلك الشريعة إلى أن وجد عمرو بن لحي ، فأدخل فيها أشياء برأيه الكاسد ، فضل ، وأضل ، وشرع عبادة الأوثان ، وسيب السوائب ، وبحر البحائر ، فهنالك بطل الدين ، واختلط الصحيح بالفاسد ، وغلب عليهم الجهل والشرك والكفر ، فبعث الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مقيما لعوجهم ومصلحا لفسادهم فنظر صلى الله عليه وسلم في شريعتهم ، فما كان منها موافقا لمنهاج إسماعيل عليه السلام أو من شعائر الله أبقاه ، وما كان منها تحريفا أو افسادا أو من شعائر الشرك والكفر أبطله وسجل على إبطاله ، وما كان من باب العادات وغيرها فبين آدابها ومكروهاتها مما يحترز به عن غوائل الرسوم ، ونهى عن الرسوم الفاسدة ، وأمر بالصالحة ، وما كان من مسألة أصلية أو عملية تركت في الفترة أعادها غضة طرية كما كانت ، فتمت بذلك نعمة الله ، واستقام دينه ، وكان أهل الجاهلية في زمان النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون جواز بعثة الأنبياء ، ويقولون بالمجازاة ، ويعتقدون أصول أنواع البر ، ويتعاملون بالارتفاقات الثاني والثالث . ولا ينافي ما قلناه وجود فرقتين فيهم وظهورهما وشيوعهما :
____________________
(1/263)
إحداهما الفساق ، والزنادقة ، فالفساق يعملون الأعمال البهيمية أو السبعية بخلاف الملة لغلبة نفوسهم وقلة تدينهم ، فأولئك إنما يخرجون عن حكم الملة شاهدين على أنفسهم بالفسق ، والزنادقة يجبلون على الفهم الأبتر لا يستطيعون التحقيق التام الذي قصده صاحب الملة ، ولا يقلدونه ، ولا يسلمونه بما أخبر ، فهم على ريبهم يترددون على خوف من ملتهم ، والناس ينكرون عليهم ، ويونهم خارجين عن الدين خالعين ربقة الملة عن أعناقهم ، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا من الإنكار وقبح الحال فخروجهم لا يضر . والثانية الجاهلون الغافلون الذين لم يرفعوا رءوسهم إلى الدين رأسا ، ولم يلتفتوا لفتة أصلا ، وكان هؤلاء أكثر شيء في قريش وما والاها لبعد عهدهم عن الأنبياء ، وهو قوله تبارك وتعالى : ! ( لتنذر قوما ما أتاهم من نذير ) ! . غير انهم لم يبعدوا عن المحجة كل البعد بحيث لا تثبت عليهم الحجة ، ولا يتوجه عليهم الإلزام ، ولا يتحقق فيهم الإقحام . فمن تلك الأصول القول بأن لا شريك لله في خلق السموات والأرض وما فيها من الجواهر ، ولا شريك له في تدبير الأمور العظام ، وأنه لا راد لحكمه ولا ما نع لقضائه إذا أبرم وجزم وهو قوله تعالى : ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقون الله ) . وقوله : ! ( بل إياه تدعون ) ! .
____________________
(1/264)
وقوله تعالى : ( ضل ما تدعون إلا إياه ) . ولكن كان من زندقتهم قولهم : أن هناك أشخاص من الملائكة والأرواح تدبر أهل الأرض فيما دون الأمور العظام من إصلاح حال العابد فيما يرجع إلى خصوصية نفسه وأولاده وأمواله ، وشبهوهم بحال الملوك بالنسبة إلى ملك الملوك وبالحال الشفعاء والندماء بالنسبة إلى السلطان المتصرف بالجبروت ، ومنشأ ذلك ما نطقت به الشرائع من تفويض الأمور إلى الملائكة واستجابة دعاء المقربين من الناس ، فظنوا ذلك تصرفا منهم كتصرف الملوك قياسا للغائب على الشاهد وهو الفساد . ومنها تنزيهه عما لا يليق بجنابه وتحريم الإلحاد في أسمائه ، لكن كان من زندقتهم زعمهم أن الله اتخذ الملائكة بنات ، وأن الملائكة إنما جعلوا واسطة ، ليكتسب الحق منهم عالما ليس عنده قياسا على الملوك بالنسبة إلى الجواسيس . ومنها أن الله تعالى قدر جميع الحوادث قبل أن يخلقها ، وهو قول الحسن البصري : لم يزل أهل الجاهلية يذكرون القدر وخطبهم وأشهارهم ، ولم يزده الشرع إلا تأكيدا . ومنها أن هناك موطنا يتحقق فيه القضاء بالحوادث شيئا فشيئا ، وأن هنالك لأدعية الملائكة المقربين وأفاضل الآدميين تأثيرا بوجه من الوجوه ، لكن صار ذلك في أذهانهم متمثلا بشفاعة ندماء الملوك . ومنها أنه كلف العباد بما شاء ، فأحل وحرم ، وأنه مجاز على الأعمال إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وأن لله تعالى ملائكة هم مقربو الحضرة
____________________
(1/265)
وأكابر المملكة ، وأنهم مدبرون في العالم بأذن الله وبأمره ، وأنهم : ! ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) ! . وأنهم لا يأكلون ولا يشربون ، ولا يتغوطون ولا ينكحون ، وأنهم قد يظهرون لأفاضل الآدميين ، فيبشرونهم ، وينذرونهم ، وأن الله قد يبعث إلى عباده بفضله ولطفه رجلا منهم ، فليقى وحيه إليه ، وينزل الملك عليه ، وأنه يفرض طاعته عليهم ، فلا يجدون منها بدا ، ولا يستطيعون دونها محيصا ، وقد كثر ذكر الملأ الأعلى وحملة العرش في أشعار الجاهلية . ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صدق أمية ابن أبي الصامت في بيتين من شعره فقال : ( رجل وثور تحت رجل يمينه ** والنسر للأخرى وليث مرصد ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدق فقال ؛ ( والشمس تطلع كل آخر ليلة ** حمراء يصبح لونها يتورد ) ( تأبى فما تطلع لنا في رسلها ** إلا معذبة وإلا تجلد ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق . وتحقيق هذا أن أهل الجاهلية كانوا يزعمون أن حملة العرش أربعة أملاك ، أحدهم في صورة الإنسان ، وهو شفيع بني آدم عند الله ، والثاني في صورة الثور ، وهو شفيع البهائم ، والثالث في صورة النسر ، وهو شفيع الطيور ، والرابع في صورة الأسد ، وهو شفيع السباع ، فقد ورد الشرع
____________________
(1/266)
بقريب من ذلك إلا أنه سماهم جميعهم وعولا ، وذلك بحسب ما يظهر في عالم المثال من صورهم ، فهذا كله كان معلوما عندهم مع ما دخل فيه من قياس الغائب على الشاهد وخلط المألوف بالأمور العلمية . . . ، وإن كنت في ريب مما ذكرنا ، فانظر فيما قص الله تعالى في القرآن العظيم واحتج عليهم بما عندهم من بقية العلم ، وكشف ما أدخلوه فيه من الشبه والشكوك لا سيما قوله تعالى : لما أنكروا نزول القرآن ! ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ) ! . ولما قالوا . ( مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ) . أنزل قوله تعالى : ! ( قل ما كنت بدعا من الرسل ) ! . وما يشابه ذلك فتعلم من هنالك أن المشركين وإن كانوا قد تباعدوا عن المحجة المستقيم لكن كانوا بحيث تقوم عليهم الحجة ببقية ما عندهم من العلم ، وانظر إلى خطب حكمائهم كقس بن ساعدة . وزيد بن عمرو بن نفيل ، وإلى أخبار من كان قبل عمرو بن لحى تجد ذلك مفصلا ، بل لو أمعنت في تصفح أخبارهم غاية الأمعان وجدت أفاضلهم وحكماءهم وكانوا يقولون بالمعاد
____________________
(1/267)
وبالحفظة وغير ذلك ، ويثبتون التوحيد على وجهه حتى قال زيد بن عمرو ابن نفيل في شعره : ( عبادك يخطئون وأنت رب ** بكفيك المنايا والحتوم ) وقال أيضا : ( أربا واحدا أم ألف رب ** أدين إذا تقسمت الأمور ) ( تركت اللات والعزى جميعا ** كذلك يفعل الرجل البصير ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمية بن أبي الصلت : ' آمن شعره ، ولم يؤمن قلبه ' وذلك مما توارثوه من منهاج إسمعيل ، ودخل فيهم من أهل الكتاب ، وكان من المعلوم عندهم أن كمال الإنسان أن يسلم وجهه لربه ، ويغبده أقصى مجهوده . وإن من أبواب العبادة الطهارة ، وما زال الغسل من الجنابة سنة معمولة عندهم ، وكذلك الختان وسائر خصال الفطرة ، وفي التوراة إن الله تعالى جعل الختان ميسمة على إبراهيم وذريته ، وهذا الوضوء يفعله المجوس واليهود وغيرهم ، وكانت تفعله حكماء العرب ، وكانت فيهم الصلاة ، وكان أبو ذر رضي الله عنه يصلي قبل أن يقدم على النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين ، وكان قس بن ساعدة الأيادي يصلي ، والمحفوظ من الصلاة في أمم اليهود والمجوس وبقية العرب أفعال تعظيمية لا سيما السجود وأقوال من الدعاء والذكر ، وكانت فيهم الزكاة ، وكان المعمول عندهم منها قرى الضيف وابن السبيل وحمل الكل والصدقة على المساكين وصلة الأرحام والإعانة في نوائب الحق ، وكانوا يمدحون بها ، ويعرفون أنها كمال الإنسان وسعادته ، قالت خديجة فوالله : لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم ، وتقرى الضيف ، وتحمل
____________________
(1/268)
الكل ، وتعين على نوائب الحق ، وقال ابن الدغنة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه مثل ذلك ، وكان فيهم الصوم من الفجر إلى غروب الشمس ، وكانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية وكان الجوار في المسجد ، وكان عمر نذر اعتكاف ليلة في الجاهلية ، فاستفتى في ذلك رسول صلى الله عليه وسلم ، وكان عاص ابن وائل أوصى أن يعتق عنه كذا وكذا من العبيد . وبالجملة كان أهل الجاهلية يتحنثون بأنواع التحنثات ، وأما حج بيت الله وتعظيم شعائر والأشهر الحرم ، فأمره أظهر من أن يخفى ، وكان لهم أنواع من الرقى والتعوذات ، وكانوا أدخلوا فيها الاشراك ، ولم تزل سنتهم الذبح في الحق والنحر في اللبة ما كانوا يخنقون ، ولا يبعجون ، وكانوا على بقية دين إبراهيم عليه السلام في ترك النجوم وترك الخوض في دقائق الطبيعيات غير ما ألجأ إليه البداهة ، وكان العمدة عندهم في تقدمة المعرفة الرؤيا وبشارات الأنبياء من قبلهم ، ثم دخل فيه الكهانة والاستقسام بالازلام والطيرة ، وكانوا يعرفون أن هذه لم تكن في أصل الملة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم حين رأى صورة إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام في أيديهم الازلام : ' لقد علموا أنهما لم يستقسما قط ' وكان بنو إسمعيل على منهاج أبيهم إلى أن وجد فيهم عمرو بن لحى - وذلك قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قريبا من سبعمائة سنة ، وكانت لهم سنن متأكدة يتلاومون على تركها في مأكلهم ومشربهم ولباسهم وولائمهم وأعيادهم ودفن موتاهم ونكاحهم وطلاقهم وعدتهم وإحدادهم ، وبيوعهم ومعاملاتهم ، وما زالوا يحرمون المحارم كالبنات والأمهات والأخوات وغيرها ، وكانت
____________________
(1/269)
لهم مزاجر في مظالمهم كالقصاص والديات والقسامة وعقوبات على الزنا والسرقة ، ودخلت فيهم من الاكاسرة والقياصرة علوم الارتفاق الثالث والرابع ، لكن دخلهم الفسوق والتظالم بالسبي والنهب وشيوع الزنا والنكاحات الفاسدة والربا ، وكانوا تركوا الصلاة والذكر ، وأعرضوا عنهما فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم - وهذا حالهم ، فنظر في جميع ما عند القوم ، فما كان بقية الملة الصحيحة أبقاه ، وسجل على الأخذ به ، وضبط لهم العبادات بشرع الأسباب والأوقات والشروط والأركان والآداب والمفسدات والرخصة والعزيمة والأداء والقضاء ، وضبط لهم المعاصي ببيان الأركان والشروط ، وشرع فيها حدوداً ومزاجر وكفارات ، ويسر لهم الدين ببيان الترغيب والترهيب ، وسد ذرائع الأثم والحث على مكملات الخير إلى غير ذلك مما سبق ذكره ، وبالغ في إشاعة الملة الحنيفية وتغليبها على الملل كلها ، وما كان من تحريفاتهم نفاه ، وبالغ في نفيه ، وما كان من الارتفاقات الصحيحة سجل عليه ، وأمر به ، وما كان في رسومهم الفاسدة منعهم عنه ، وقبض على أيديهم ، وقام بالخلافة الكبرى ، وجاهد بمن معه من دونهم حتى تم أمر الله وهم كارهون ، وجاء في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ' بعثت بالملة السمحة الحنيفية البيضاء ' يريد بالسمحة ما ليس فيه مشاق الطاعات كما ابتدعه الرهبان ، بل فيها لكل عذر رخصة يتأتى العمل بها للقوي والضعيف والمكتسب والفارغ ، وبالحنيفية ما ذكرنا من أنها ملة إبراهيم صلوات الله عليه ، فيها إقامة شعائر الله وكبت شعائر الشرك وإبطال التحريف والرسوم الفاسدة ، وبالبيضاء أن عللها وحكمها والمقاصد التي بنيت عليها واضحة لا ريب فيها لمن تأمل ، وكان سليم العقل غير مكابر ، والله أعلم .
____________________
(1/270)
( المبحث السابع مبحث استنباط الشرائع من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ) ( باب بيان أقسام علوم النبي صلى الله عليه وسلم ) اعلم أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ودون في كتب الحديث على قسمين . أحدهما ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة ، وفيه قوله تعالى : ! ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ! منه علوم المعادو عجائب الملكوت ، وهذا كله مستند إلى الوحي ، ومنه شرائع وضبط للعبادات والارتفاقات بوجوه الضبط المذكورة فيما سبق ، وهذه بعضها مستند إلى الوحي ، وبعضها مستند إلى الاجتهاد ، واجتهاده صلى الله عليه وسلم بمنزلة الوحي ؛ لأن الله تعالى عصمه من أن يتقرر رأيه على الخطأ ، وليس يجب أن يكون اجتهاده استنباطا من المنصوص كما يظن ، بل أكثره أن يكون علمه الله تعالى مقاصد الشرع وقانون التشريع والتيسير والأحكام ، فبين المقاصد المتلقاة بالوحي بذلك القانون ، ومنه حكم مرسلة ومصالح مطلقة لم يوقتها ، ولم يبين حدودها كبيان الأخلاق الصالحة وأضدادها ، ومستندها غالبا الاجتهاد بمعنى أن الله تعالى علمه قوانين الارتفاقات ، فاستنبط منها حكمه ، وجعل فيها كلية ، ومنه فضائل الأعمال ومناقب العمال ، ورأى أن بعضها مستند إلى الوحي وبعضها إلى الاجتهاد ، وقد سبق بيان تلك القوانين ، وهذا القسم هو الذي نقصد شرحه وبيان معانيه . وثانيهما ما ليس من باب تبليغ الرسالة ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : ' إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من
____________________
(1/271)
رأيي ، فإنما أنا بشر ' وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة تأبير النخل : ' فانى إنما ظننت ظنا ، ولا تؤاخذوني بالظن ، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا ، فخذوا به ، فإني لم أكذب على الله ' فمنه الطب ، ومنه باب قوله صلى الله عليه وسلم ' عليكم بالأدهم الأقرح ' ومستنده التجربة ، ومنه ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل العادة دون العبادة وبحسب الاتفاق دون القصد ، ومنه ما ذكره كما كان يذكره قومه كحديث أم زرع وحديث خرافة وهو قول زيد بن ثابت حيث دخل عليه نفر ، فقالوا له حدثنا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ' كنت جاره ، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إلي ، فكتبته له ، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا ، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا ، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا ، فكل هذا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنه ما قصد به مصلحة جزئية يومئذ وليس من الأمر اللازمة لجميع الأمة ، وذلك مثل ما يأمر به الخليفة من تعبئة الجيوش وتعيين الشعار ، وهو قول عمر رضي الله عنه : ما لنا وللرمل كنا نتراءى به قوما قد أهلكهم الله ، ثم خشي أن يكون له سبب آخر ، وقد حمل كثير من الأحكام عليه كقوله صلى الله عليه وسلم : ' من قتل قتيلا فله سلبة ' ومنه حكم وقضاء خاص ، وإنما كان يتبع فيه البينات والايمان وهو قوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه : ' الشاهد يرى ما لا يراه الغائب ' .
____________________
(1/272)
( باب الفرق بين المصالح والشرائع ) اعلم أن الشارع أفادنا نوعين من العلم متمايزين بأحكامهما متباينين في منازلهما . فأحد النوعين علم المصالح والمفاسد أعني ما بينه من تهذيب النفس باكتساب الأخلاق النافعة في الدنيا أو في الآخرة وإزالة أضدادها ، ومن تدبير المنزل وآداب المعاش وسياسة المدينة غير مقدر لذلك بمقادير معينة ولا ضابط مبهمة بحدود مضبوطه ولا مميز لمشكلة بأمارات معلومة ، بل رغب في الحمائد ، وزهد في الرذائل تاركا كلامه إلى ما يفهم منه أهل اللغة مديرا للطلب أو المنع على أنفس المصالح لا على مظان منصوبة لها وأمارات معرفة إياها كما مدح الكيس والشجاعة ، وأمر بالرفق والتودد والقصد في المعيشة ولم يبين أن الكيس مثلا ما حده الذي يدور عليه الطلب ، وما مظنته التي يؤاخذ الناس بها ، وكل مصلحة حثنا الشرع عليها وكل مفسدة ردعنا عنها فإن ذلك لا يخلو من الرجوع إلى أحد أصول ثلاثة أحدها : تهذيب النفس بالخصال الأربع النافعة في المعاد أو سائر الخصال النافعة في الدنيا ، وثانيها إعلاء كلمة الحق وتمكين الشرائع والسعي في إشاعتها وثالثها انتظام أمر الناس وإصلاح ارتفاقاتهم وتهذيب رسومهم ، ومعنى رجوعها إليها أن يكون للشيء دخل في تلك الأمور إثباتا لها أو نفيا إياها بأن يكون شعبة من خصلة منها أو ضدا لشعبتها أو مظنة لوجودها أو عدمها أو متلازما معها أو مع ضدها أو طريق إليها أو إلى الإعراض عنها ، والرضا في الأصل إنما يتعلق بتلك المصالح ، والسخط إنما يناط بتلك المفاسد قبل بعث الرسل وبعده سواء ، ولولا تعلق الرضا والسخط بتينك القبيلتين لم يبعث الرسل ، وذلك لأن الشرائع والحدود إنما كانت بعد بعث الرسل ، فما كان في
____________________
(1/273)
التكليف بها والمؤاخذة عليها ابتداء لطف ، ولكن المصالح والمفاسد كانت مؤثرة مقتضية لتهذيب النفس أو تلويثها أو انتظام أمورهم أو فسادها قبل بعث الرسل ، فاقتضى لطف الله أن يخبروا بما يهمهم ، ويكلفوا بما لا بد لهم منه ، ولم يكن يتم ذلك إلا بمقادير وشرائع ، فاقتضى اللطف تلك القبيلة بالعرض ، وهذا النوع معقول المعنى ، فمنه ما تستقل العقول العامية بفهمه ، ومنه ما لا يفهمه إلا عقول الأذكياء الفائض عليهم الأنوار من قلوب الأنبياء نبههم الشرع ، فتنبهوا ، ولوح لهم ، فتفطنوا ، ومن أتقن الأصول التي ذكرناها لم يتوقف في شيء منها . والنوع الثاني علم الشرائع والحدود والفرائض : أعني ما بين الشرع من المقادير ، فنصب للمصالح مظان وأمارات مضبوطة معلومة ، وأدار الحكم عليها ، وكلف الناس بها ، وضبط أنواع البر بتعيين الأركان والشروط والآداب ، وجعل من كل نوع حدا يطلب منهم لا محالة وحدا يندبون إليه من غير إيجاب ، واختار من كل بر عددا يوجب عليهم ، وآخر يندبون إليه ، فصار التكليف متوجها إلى أنفس تلك المظان ، وصارت الأحكام دائرة على أنفس تلك الأمارات ، وصار مرجع هذا النوع إلى قوانين السياسة الملية ، . . . وليس كل مظنة لمصلحة توجب عليهم ، ولكن ما كان منها مضبوطا أمرا محسوسا أو وصفا ظاهرا يعلمه الخاصة والعامة ، وربما يكون للايجاب والتحريم أسباب طارئة يكتب لأجلها في الملأ الأعلى فيتحقق هنالك صورة الإيجاب والتحريم كسؤال سائل ورغبة قوم فيه أو أعراضهم عنه ، وكل ذلك غير معقول المعنى بمعنى أنا وإن كنا نعلم قوانين التقدير والتشريع ، فلا نعلم وجود كتابته في الملأ الأعلى وتحقق صورة الوجوب في حظيرة القدس إلا بنص الشرع ، فإنه من الأمور التي لا سبيل إلا إدراكها إلا الإخبار الإلهي مثل ذلك - كمثل الجمد - نعلم
____________________
(1/274)
أن سبب حدوثه برودة تضرب الماء ولا نعلم أن ماء القعب في ساعتنا هذه صار جمدا أو لا إلا بالمشاهدة أو إخبار من شاهد ، فعلى هذا القياس نعلم أنه لا بد من تقدير النصاب في الزكاة ، ونعلم أن مائتي درهم وخمسة أو ساق قدر صالح للنصاب ، لأنه يحصل بها غني معتد به ، وهما أمران مضبوطان مستعملان عند القوم ، ولا نعلم أن الله تعالى كتب علينا هذا النصاب ، وأدار الرضا ، والسخط عليه إلا بنص الشرع ، كيف وكم من سبب له لا سبيل إلى معرفته إلا الخبر ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' أعظم المسلمين في المسلمين جرما ' الحديث وقوله صلى الله عليه وسلم : ' خشيت أن يكتب عليكم ' . وقد اتفق من يعتد به من العلماء على أن القياس لا يجري في باب المقادير ، وعلى أن حقيقة القياس تعدية حكم الأصل إلى الفرع لعلة مشتركة لا جعل مظنة مصلحة علة أو جعل شيء مناسب ركنا أو شرطا ، وعلى أنه لا يصلح القياس لوجود المصلحة ، ولكن لوجود علة مصبوطة أدير عليها الحكم ، فلا يقاس مقيم به حرج على المسافر في رخص الصلاة والصوم فان دفع الحرج مصلحة الترخيص لاعلة القصر والأفطار ، وإنما العلة هي السفر فهذه المسائل لم يختلف فيها العلماء إجمالا ، ولكن يحملها أكثرهم عند التفصيل وذلك لأنه ربما تشتبه المصلحة بالعلة ، والتشريع ، وبعض الفقهاء عندما خاضوا في القياس تحيروا فلجوا ببعض المقادير ، وأنكروا استبدالها بما يقرب منها ، وتسامحوا في بعضها ، فنصبوا أشياء مقامها ، . . . مثال ذلك تقديرهم نصاب القطن بخمسة أحمال ، ونصبهم ركوب السفينة مظنة لدوران الرأس ، وإدارة رخصة العقود في الصلاة عليه ، وتقدير الماء بالعشر في العشر وكلما أفهم الشرع المصلحة في موضع ، فوجدنا تلك المصلحة في موضع آخر عرفنا أن الرضا يتعلق بها بعينها لا بخصوص ذلك الموضع ، بخلاف المقادير
____________________
(1/275)
فان الرضا يتعلق هناك بالمقادير أنفسها ، . . . تفصيل ذلك أن من ترك صلاة وقت كان آثما وإن شغل ذلك الوقت بالذكر وسائر الطاعات ، ومن ترك زكاة مفروضة ، وصرف أكثر من ذلك المال في وجوه الخير كان آثما ، وكذلك إن لبس الحرير والذهب في الخلوة حيث لا يتصور كسر قلوب الفقراء وحمل الناس على الإكثار من الدنيا ولم يقصد به الترفه - كان آثما وكذلك إن شرب الخمر بنية التداوي ، ولم يكن هناك فساد ، ولا ترك صلاة كان آثما لأن الرضا والسخط متعلقان فأنفس هذه الأشياء ، وإن كان الغرض الأصلي كبحهم عن الفساد وحملهم على المصالح ، ولكن الحق علم أن سياسة الأمة لا تمكن في هذا الوقت إلا بايجاب أنفس هذه الأشياء وتحريمها فتوجه الرضا والسخط إلى أنفسها ، وكتب ذلك في الملأ الأعلى بخلاف ما إذا لبس الصوف الرفيع الذي هو أعلى وأغلى من الحرير ، واستعمل أواني الياقوت فإنه لا يأثم بنفس هذا الفعل ، ولكن إن تحقق كسر قلوب الفقراء وحمل الناس على فعل ذلك أو قصد الترفه بعد من الرحمة لأجل تلك المفاسد وإلا فلا ، وحيث وجدت الصحابة والتابعين فعلوا ما يشبه التقدير ، فانما مرادهم بيان المصلحة والترغيب فيها ، والمفسدة والترهيب عنها ، وإنما أخرجوا تلك الصورة مخرج المثل لا يقصدون إليها بالخصوص ، وإنما يقصدون إلى المعاني وإن اشتبه الأمر بادي الرأي ، وحيث جوز الشرع استبدال مقدار بقيمته كبنت المخاص بقيمتها على قول فعلى التسليم هو أيضا نوع من التقدير ، وذلك لأن التقدير لا يمكن الاستقصاء فيه بحيث يفضي إلى التضييق ، ولكن ربما يقدر بأمر ينطبق على أمور كثيرة كبنت المخاض نفسها فانها ربما كانت بنت مخاض آرفه من بنت مخاض ، وربما كان التقدير بالقيمة تقديراً بحد معلوم في الجملة كتقدير نصاب القطع بما يكون قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم .
____________________
(1/276)
واعلم أن التحريم والايجاب والتحريم من التقدير ، وذلك لأنه كثيرا ما تعن مصلحة أو مفسدة لها صور كثيرة ، فتعين صورة للايجاب أو التحريم ، لأنها من الأمور المضبوطة أو لأنها مما عرفوا حالها في الملل السابقة ، أو رغبوا فيها أكثر رغبة ولذلك اعتذر النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ' خشيت أن يكتب عليكم ' وقال ' لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك ' وإذا كان الأمر على ذلك لم يجز حمل غير المنصوص حكمه على المنصوص حكمه ، أما الندب والكراهة ففيهما تفصيل : فأي مندوب أمر الشارع بعينه ، ونوه بأمره ، وسنه للناس - فحاله حال الواجب ، وأي مندوب اقتصر الشارع على بيان مصلحته ، أو اختار العمل هو به من غير أن يسنه ، و ينوه بأمره - فهو باق على الحالة التي كانت قبل التشريع ، وإنما نصاب الأجر فيه من قبل المصلحة التي وجدت معه لا باعتبار نفسه ، وكذلك حال المكروه على هذا التفصيل ، وإذا تحققت هذه المقدمة اتضح عندك أن أكثر المقاييس التي يفتخر بها القوم ، ويتطاولون لأجلها على معشر أهل الحديث يعود وبالا عليهم من حيث لا يعلمون . ( باب كيفية تلقي الأمة الشرع من النبي صلى الله عليه وسلم ) واعلم أن تلقي الأمة منه الشرع على وجهين : أحدهما تلقي الظاهر ، ولا بد أن يكون بنقل إما متواترا ، أو غير متواتر . . . ، والمتواتر منه المتواتر لفظا كالقرآن العظيم ، وكنبذ يسير من الأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم : ' إنكم سترون ربكم ' ، ومنه
____________________
(1/277)
المتواتر معنى ككثير من أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والبيوع والنكاح والغزوات مما لم يختلف فيه فرقة من فرق الإسلام . . . ، وغير المتواتر أعلى درجاته المستفيض ، وهو ما رواه ثلاثة من الصحابة فصاعدا ، ثم لم يزل يزيد الرواة إلى الطبقة الخامسة ، وهذا قسم كثير الوجود ، وعليه بناء رءوس الفقه . ثم الخبر المقضي له بالصحة أو الحسن على ألسنة حفاظ المحدثين وكبرائهم ، ثم أخبار فيها كلام قبلها بعض ، ولم يقبلها آخرون ، فما اعتضد منها بالشواهد أو قول أكثر أهل العلم أو العقل الصريح وجب إتباعه . وثانيهما التلقي دلالة ، وهي أن يرى الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، ويفعل ، فاستنبطوا من ذلك حكما من الوجوب وغيره ، فأخبروا بذلك الحكم ، فقالوا . الشيء الفلاني واجب ، وذلك الآخر جائز ، ثم تلقى التابعون من الصحابة كذلك ، فدون الطبقة الثالثة فتاواهم وقضاياهم ، وأحكموا الأمر ، وأكابر هذا الوجه عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم ، لكن كان من سيرة عمر رضي الله عنه أنه كان يشاور الصحابة ، ويناظرهم حتى تنكشف الغمة ، ويأتيه الثلج ، فصار غالب قضاياه وفتاواه متبعة في مشارق الأرض ومغاربها ، وهو قول إبراهيم لما مات عمر رضي الله عنه : ذهب تسعة أعشار العلم ، وقول ابن مسعود رضي الله عنه : كان عمر إذا سلك طريقا وجدناه سهلا ، وكان علي رضي الله عنه لا يشاور غالبا ، وكان أغلب قضاياه بالكوفة ، فلم يحملها عنه إلا ناس ، وكان ابن مسعود رضي الله بالكوفة ، فلم يحمل عنه غالبا إلا أهل تلك الناحية ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما اجتهد بعد عصر الأولين ، فناقضهم في كثير من الأحكام ، واتبعه في ذلك أصحابه من أهل
____________________
(1/278)
مكة ، ولم يأخذ بما تفرد به جمهور أهل الإسلام ، وأما غير هؤلاء الأربعة فكانوا يروون دلالة ، ولكن ما كانوا يميزون الركن والشرط من الآداب والسنن ، ولم يكن لهم قول عند تعارض الأخبار وتقابل الدلائل إلا قليلا كابن عمر وعائشة وزيد بن ثابت رضي الله عنهم ، وأكابر هذا الوجه من التابعين بالمدينة الفقهاء السبعة لا سيما ابن المسيب بالمدينة ، وبمكة عطاء ابن أبي رباح ، وبالكوفة إبراهيم وشريح والشعبي ، وبالبصرة الحسن . وفي 1 كل من الطريقتين خلل إنما ينجبر بالأخرى ، ولا غنى لأحداهما عن صاحبتها . أما الأولى فمن خللها ما يدخل في الرواية بالمعنى من التبديل ، ولا يؤمن من تغيير المعنى ، ومنه ما كان الأمر في واقعة خاصة ، فظنه الراوي حكما كليا ، ومنه ما أخرج فيه الكلام مخرج التأكيد ؛ ليعضوا عليه بالنواجذ ، فظن الراوي وجوبا أو حرمة ، وليس الأمر على ذلك - فمن كان فقيها ، وحضر الواقعة استنبط من القرائن حقيقة الحال كقول زيد رضي الله عنه في النهي عن المزارعة وعن بيع الثمار قبل أن يبدوا صلاحها : إن ذلك كان كالمشورة ، وأما الثانية فيدخل فيها قياسات الصحابة والتابعين واستنباطهم من الكتاب والسنة ، وليس الاجتهاد مصيبا في جميع الأحوال ، وربما كان لم يبلغ أحدهم الحديث ، أو بلغه بوجه لا ينتهض بمثله الحجة ، فلم يعمل به ، ثم ظهر جلية الحال على لسان صحابي آخر بعد ذلك كقول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما في التيمم عن الجنابة ، وكثيرا ما كان اتفاق رءوس الصحابة رضي الله عنهم على شيء من قبل دلالة العقل على ارتفاق وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ' وليس من أصول الشرع ، فمن كان متبحرا في الأخبار وألفاظ الحديث يتيسر له التفصى عن مزال الأقدام ، ولما كان الأمر كذلك وجب على الخائض في الفقه أن يكون متضلعا من كلا المشربين ، ومتبحرا في كلا المذهبين ، وكان أحسن شعائر الملة ما أجمع عليه جمهور الرواة وحملة العلم ، وتطابق فيه الطريقتان جميعا ، والله أعلم .
____________________
(1/279)
( باب طبقات كتب الحديث ) اعلم أنه لا سبيل لنا إلى معرفة الشرائع والأحكام إلا خبر النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف المصالح ، فإنها قد تدرك بالتجربة والنظر الصادق والحدس ونحو ذلك ، ولا سبيل لنا إلى معرفة أخباره صلى الله عليه وسلم إلا تلقي الروايات المنتهية إليه بالاتصال والعنعنة سواء كانت من لفظه صلى الله عليه وسلم ، أو كانت أحاديث موقوفة قد صحت الرواية بها عن جماعة من الصحابة والتابعين بحيث يبعد إقدامهم على الجزم بمثله لولا النص أو الاشارة من الشارع ، فمثل ذلك رواية عنه صلى الله عليه وسلم دلالة ، وتلقي تلك الروايات لا سبيل إليه في يومنا هذا إلا تتبع الكتب المدونة في علم الحديث ، فإنه لا يوجد اليوم رواية يعتمد عليها غير مدونة ، وكتب الحديث على طبقات مختلفة ومنازل متباينة فوجب الاعتناء بمعرفة طبقات كتب الحديث . فتقول هي باعتبار الصحة والشهرة على أربع طبقات : وذلك لأن أعلى أقسام الحديث - كما عرفت فيما سبق - ما ثبت بالتواتر ، وأجمعت الأمة على قبوله العمل به ، . . . ثم ما استفاض من طرق متعددة لا يبقى معها شبهة يعتد بها ، واتفق على العمل به جمهور فقهاء الأمصار ، أو لم يختلف فيه علماء الحرمين خاصة ، فإن الحرمين محل الخلفاء الراشدين في القرون الأولى ومحط رحال العلماء طبقة بعد طبقة يبعد أن يسلموا منهم الخطأ الظاهر ، أو كان قولا مشهورا معمولا به في قطر عظيم مرويا عن جماعة عظيمة من الصحابة والتابعين ، ثم ما صح ، أو حسن سنده ، وشهد به علماء الحديث ، ولم يكن قولا متروكا لم يذهب إليه أحد من الأمة ، أما ما كان ضعيفا موضوعا أو منقطعا أو مقلوبا في سنده أو متنه أو من رواية المجاهيل أو مخالفا لما أجمع عليه السلف طبقة بعد طبقة ، فلا سبيل إلى القول به ، . . . ، فالصحة أن يشترط مؤلف الكتاب على نفسه إيراد ما صح أو حسن غير مقلوب ولا شاذ ولا ضعيف إلا مع بيان حاله ، فإن إيراد الضعيف مع بيان حاله لا يقدح في الكتاب .
____________________
(1/280)
والشهرة أن تكون الأحاديث المذكورة فيها دائرة على ألسنة المحدثين قبل تدوينها وبعد تدوينها ، فيكون أئمة الحديث قبل المؤلف رووها بطرق شتى ، وأوردوها في مسانيدهم ومجاميعهم ، وبعد المؤلف اشتغلوا برواية الكتاب وحفظه وكشف مشكله وشرح غريبه وبيان إعرابه وتخريج طرق أحاديثه واستنباط فقهها والفحص عن أحوال رواتها طبقة بعد طبقة إلى يومنا هذا حتى لا يبقى شيء مما يتعلق به غير مبحوث عنه إلا ما شاء الله ، ويكون نقاد الحديث قبل المصنف وبعده وافقوه في القول بها ، وحكموا بصحتها ، وارتضوا رأي المصنف فيها ، وتلقوا كتابه بالمدح والثناء ، ويكون أئمة الفقه لا يزالون يستنبطون عنها ، ويعتمدون عليها ، ويعتنون بها ، ويكون العامة لا يخلون عن اعتقادها وتعظيمها . وبالجملة فإذا اجتمعت هاتان الخصلتان كملا في كتاب كان من الطبقة الأولى ثم وثم ، وإن فقدتا رأسا لم يكن له اعتبار ، وما كان أعلى حد في الطبقة الأولى فإنه يصل حد التواتر ، وما دون ذلك يصل إلى الاستفاضة ، ثم إلى الصحة القطعية أعني القطع المأخوذ في علم الحديث المفيد للعمل ، والطبقة الثانية إلى الاستفاضة أو الصحة القطعية أو الظنية وهكذا ينزل الأمر . فالطبقة الأولى منحصرة بالاستقراء في ثلاثة كتب ، الموطأ ، وصحيح البخاري ، وصحيح مسلم . قال الشافعي : أصح الكتب بعد كتاب الله موطأ مالك ، واتفق أهل الحديث على أن جميع ما فيه صحيح على رأي مالك ومن وافقه ، وأما على رأي غيره فليس فيه مرسل ولا منقطع إلا قد اتصل السند به من طرق أخرى ، فلا جرم أنها صحيحة من هذا الوجه ، وقد صنف في زمان مالك موطآت كثيرة في تخريج أحاديثه ووصل منقطعه ، مثل كتاب ابن أبي ذئب وابن عيينة والثوري ومعمر وغيرهم ممن شارك مالكا
____________________
(1/281)
في الشيوخ ، وقد رواه عن مالك بغير واسطة أكثر من ألف رجل وقد ضرب الناس فيه أكباد الإبل إلى مالك من أقاصي البلاد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم ذكره في حديثه ، فمنهم المبرزون من الفقهاء كالشافعي ومحمد بن الحسن ، وابن وهب وابن القاسم ، ومنهم نحارير المحدثين كيحيى ابن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق ، ومنهم الملوك والأمراء كالرشيد وابنيه ، وقد اشتهر في عصره حتى بلغ على جميع ديار الإسلام ، ثم لم يأت زمان إلا وهو أكثر له شهرة وأقوى به عناية ، وعليه بنى فقهاء الأمصار مذاهبهم حتى أهل العراق في بعض أمرهم ، ولم يزل العلماء يخرجون أحاديثه ، ويذكرون متابعاته وشواهده ، ويشرحون غريبه ، ويضبطون مشكله ويبحثون عن فقهه ، ويفتشون عن رجاله إلى غاية ليس بعدها غاية . وإن شئت الحق الصراح فقس كتاب الموطأ بكتاب الأثار لمحمد والأمالي لأبي يوسف تجد بينه وبينهما بعد المشرقين ، فهل سمعت أحدا من المحدثين والفقهاء تعرض لهما واعتنى بهما ؟ . أما الصحيحان فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع ، وأنهما متواتران إلى مصنفيهما ، وأنه كل من يهون أمرهما فهو مبتدع متبع غير سبيل المؤمنين . وإن شئت الحق الصراح فقسهما بكتاب ابن أبي شيبة وكتاب الطحاوي ومسند الخوارزمي وغيرهما تجد بينها وبينهما بعد المشرقين وقد استدرك الحاكم عليهما أحاديث هي على شرطهما ولم يذكراها ، وقد تتبعت ما استدركه ، فوجدته قد أصاب من وجه ، ولم يصب من وجه ، وذلك لأنه وجد أحاديث مروية عن رجال الشيخين بشرطهما في الصحة والاتصال ، فاتجه استدراكه عليهما من هذا الوجه ، ولكن الشيخين لا يذكران إلا حديثا قد تناظر فيه مشايخهما ، وأجمعوا على القول به والتصحيح له ، كما أشار مسلم حيث قال : لم أذكر ههنا إلا ما أجمعوا عليه ، وجل ما تفرد به المستدرك كالموكا عليه المخفي مكانه في
____________________
(1/282)
زمن مشايخهما وإن اشتهر أمره من بعد ، أو ما اختلف المحدثون في رجاله فالشيخان كأساتذتهما كانا يعتنيان بالبحث عن نصوص الأحاديث في الوصل والانقطاع وغير ذلك حتى يتضح الحال ، والحاكم يعتمد في الأكثر على قواعد مخرجة من صنائعهم كقوله : زيادة الثقات مقبولة ، وإذا اختلف الناس في الوصل والإرسال والوقف والرفع وغير ذلك فالذي حفظ الزيادة حجة على من لم يحفظ ، والحق أنه كثيرا ما يدخل الخلل في الحفاظ من قبل الموقوف ووصل المنقطع لا سيما عند رغبتهم في المتصل المرفوع وتنويههم به ، فالشيخان لا يقولان بكثير مما يقوله الحاكم ، والله أعلم . وهذه الكتب الثلاثة التي اعتنى القاضي عياض في المشارق بضبط مشكلها ورد تصحيفها . الطبقة الثانية : كتب لم تبلغ مبلغ الموطأ والصحيحين ، ولكنها تتلوها . كان مصنفوها معروفين بالوثوق والعدالة والحفظ والتبحر في فنون الحديث ، ولم يرضوا في كتبهم هذه بالتساهل فيما اشترطوا على أنفسهم ، فتلقاها من بعدهم بالقبول ، واعتنى بها المحدثون والفقهاء طبقة بعد طبقة ، واشتهرت فيما بين الناس ، وتعلق بها القوم شرحا لغريبها وفحصا عن رجالها واستنباطا لفقهها . وعلى تلك الأحاديث بناء عامة العلوم كسنن أبي داود وجامع الترمذي ومجتبى النسائي ، وهذه الكتب مع الطبقة الأولى اعتنى بأحاديثها رزين في تجريد الصحاح وابن الأثير في جامع الأصول وكاد مسند أحمد يكون من جملة هذه الطبقة ، فإن الإمام أحمد جعله أصلا يعرف به الصحيح والسقيم قال : ما ليس فيه فلا تقبلوه . والطبقة الثالثة : مسانيد وجوامع ومصنفات صنفت - قبل البخاري ومسلم وفي زمانهما وبعدهما - جمعت بين الصحيح والحسن والضعيف
____________________
(1/283)
والمعروف والغريب والشاذ والمنكر والخطأ والصواب والثابت والمقلوب ، ولم تشتهر في العلماء ذلك الاشتهار وإن زال عنها اسم النكارة المطلقة ، ولم يتداول ما تفردت به الفقهاء كثير تداول ، ولم تفحص عن صحتها وسقمها المحدثون كثير فحص ، ومنه ما لم يخدمه لغوي لشرح غريب ، ولا فقيه بتطبيقه بمذاهب السلف ، ولا محدث ببيان مشكله ، ولا مؤرخ بذكر أسماء رجاله ، ولا أريد المتأخرين المتعمقين ، وإنما كلامي في الأئمة المتقدمين من أهل الحديث فهي باقية على استتارها واختفائها وخمولها كمسند أبي علي ومصنف عبد الرازق ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة ومسند عبد ابن حميد والطيالسي وكتب البيهقي والطحاوي والطبراني وكان قصدهم جمع ما وجدوه لا تلخيصه وتهذيبه وتقريبه من العمل . والطبقة الرابعة . كتب قصد مصنفوها بعد قرون متطاولة جمع ما لم يوجد في الطبقتين الأوليين وكانت في المجاميع والمسانيد المختفية فنوهوا بأمرها ، وكانت على ألسنة من لم يكتب حديثه المحدثون ككثير من الوعاظ المتشدقين وأهل الأهواء والضعفاء ، أو كانت من آثار الصحابة والتابعين ، أو من أخبار بني إسرائيل ، أو من كلام الحكماء والوعاظ خلطها الرواة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم سهوا أو عمدا ، أو كانت من محتملات القرآن والحديث الصحيح ، فرواها بالمعنى قوم صالحون لا يعرفون غوامض الرواية ، فجعلوا المعاني أحاديث مرفوعة ، أو كانت معاني مفهومة من إشارات الكتاب والسنة جعلوها أحاديث مستبدة برأسها عمدا ، أو كانت جملا شتى في أحاديث مختلفة جعلوها حديثا واحدا بنسق واحد ، ومظنة هذه الأحاديث كتاب الضعفاء لابن حبان وكامل ابن عدي ، وكتب الخطيب وأبي نعيم والجوزقاني وابن عساكر وابن النجار والديلمي ، وكاد مسند الخوارزمي يكون من هذه الطبقة ، وأصلح هذه الطبقة ما كان ضعيفا
____________________
(1/284)
محتملا وأسوؤها ما كان موضوعا أو مقلوبا شديد النكارة . وهذه الطبقة مادة كتاب الموضوعات لابن الجوزي . ههنا طبقة خامسة منها ما اشتهر على ألسنة الفقهاء والصوفية والمؤرخين ونحوهم ، وليس له أصل في هذه الطبقات الأربع ، ومنها ما دسه الماجن في دينه العالم بلسانه فأتى بإسناد قوي لا يمكن الجرح فيه ، وكلام بليغ لا يبعد صدروه عنه صلى الله عليه وسلم ، فأثار في الإسلام مصيبة عظيمة ، لكن الجهابذة من أهل الحديث يوردون مثل ذلك على المتابعات والشواهد ، فتهتك الأستار ويظهر العوار ، أما الطبقة الأولى والثانية فعليهما اعتماد المحدثين ، وحوم حماهما مرتعهم ومسرحهم . وأما الثالثة فلا يباشرها للعمل عليها والقول بها إلا النحارير الجهابذة الذين يحفظون أسماء الرجال وعلل الأحاديث ، نعم ربما يؤخذ منها المتابعات والشواهد . ( قد جعل الله لكل شيء قدرا ) . وأما الرابعة فالاشتغال بجمعها أو الاستنباط منها نوع تعمق من المتأخرين . وإن شئت الحق فطوائف المبتدعين من الرافضة والمعتزلة وغيرهم يتمكنون بأدنى عناية أن يلخصوا منها شواهد مذاهبهم ، فالانتصار بها غير صحيح في معارك العلماء بالحديث ، والله أعلم . ( باب كيفية فهم المراد من الكلام ) اعلم أن تعبير المتكلم عما في ضميره وفهم السامع إياه يكون على درجات مترتبة في الوضوح والخفاء : أعلاها ما صرح فيه بثبوت الحكم للموضوع له عينا ، وسيق الكلام لأجل تلك الإفادة ، ولم يحتمل معنى آخر ، ويتلوه ما عدم فيه أحد القيود الثلاثة ، إما أثبت الحكم لعنوان عام يتناول
____________________
(1/285)
جمعا من المسميات شمولا أو بدلا مثل الناس والمسلمون والقوم والرجال ، وأسماء الإشارة إذا عمت صلتها والموصوف بوصف عام والمنفي بلا الجنس فإن العام يلحقه التخصيص كثيرا ، وإما لم يسبق الكلام لتلك الإفادة إن لزمت مما هنالك ، مثل جاءني زيد الفاضل بالنسبة إلى الفضل ويا زيد الفقير بالنسبة إلى ثبوت الفقر له ، وإما احتمل معنى آخر أيضا كاللفظ المشترك والذي له حقيقة مستعملة ومجاز متعارف والذي يكون معروفا بالمثال والقسمة غير معروف بالحد الجامع المانع كالسفر معلوم أن من أمثلته الخروج من المدينة قاصدا لمكة ، ومعلوم أن من الحركة تفرج ، ومنها تردد في الحاجة بحيث يأوي إلى القرية في يومه ، ومنها سفر ولا يعرف الحد والدائر بين شخصين كاسم الإشارة والضمير عند تعارض القرائن أو صدق الصلة عليهما ، ثم يتلوه ما أفهمه الكلام من غير توسط استعمال اللفظ فيه ، ومعظمه ثلاثة ، الفحوى وهو يفهم أن الكلام حال المسكوت عنه بواسطة المعنى الحامل على الحكم مثل : ( ولا تقل لهما أف ) . يفهم منه حرمة الضرب بطريق الأولى ، ومثل ' من أكل في نهار رمضان وجب عليه القضاء ' يفهم منه أن المراد نقض الصوم ، وإنما خص الأكل لأنه صورة تتبادر إلى الذهن ، والاقتضاء وهو أن يفهمها بواسطة لزومه للمستعمل فيه عادة أو عقلا أو شرعا ، اعتقت ، وبعت - يقتضيان سبق ملك ، مشى يقتضي سلامة الرجل ، صلى يقتضي أنه على الطهارة ، والإيماء وهو أن أداء المقصود يكون بعبارات بإزاء الاعتبارات المناسبة ، فيقصد البلغاء مطابقة العبارة للاعتبار المناسب الزائد على أصل المقصود ،
____________________
(1/286)
فيفهم الكلام الاعتبار المناسب له كالتقييد بالوصف أو الشرط يدلان على عدم الحكم عند عدمهما حيث لم يقصد مشاكلة السؤال ولا بيان الصورة المتبادرة إلى الأذهان ولا بيان فائدة الحكم وكمفهوم الاستثناء والغاية والعدد ، وشرط اعتبار الإيماء أن يجري التناقض به في عرف أهل اللسان مثل - على عشرة إلا شيء إنما على واحد - يحكم عليه الجمهور بالتناقض ، وأما ما لا يدركه إلا المتعمقون في علم المعاني ، فلا عبرة به ، ثم يتلوه ما استدل عليه بمضمون الكلام ومعظمه ثلاثة ، الدرج في العموم مثل الذئب ذو ناب وكل ذي ناب حرام ، وبيانه بالاقتراني وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' وما أنزل علي في الخمر شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة : ! ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) ! . ومنه استدلال ابن عباس بقوله تعالى : ! ( فبهداهم اقتده ) ! . وقوله تعالى : ! ( وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب ) ! . حيث قال نبيكم أمر بأن يقتدى به ، والاستدلال بالملازمة أو المنافاة مثل لو كان الوتر واجبا لم يؤد على الراحلة لكنه يؤدى كذلك ، وبيانه بالشرطي ومنه قوله تعالى : ! ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) ! .
____________________
(1/287)
والقياس ، وهو تمثيل صورة بصورة في علة جامعة بينهما مثل الحمص ربوى كالحنطة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ' أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان يجزى عنه ؟ قال نعم قال فاحجج عنه ' والله أعلم . ( باب كيفية فهم المعاني الشرعية من الكتاب والسنة ) واعلم أن الصيغة الدالة على الرضا والسخط هي الحب والبغض ، والرحمة واللعنة ، والقرب والبعد ونسبة الفعل إلى المرضيين أو المسخوطين كالمؤمنين والمنافقين ، والملائكة والشياطين ، وأهل الجنة والنار والطلب والمنع ، وبيان الجزاء المترتب على الفعل ، والتشبيه بمحمود في العرف أو مذموم ، واهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بفعله أو اجتنابه عنه مع حضور دواعيه . وأما التمييز بين درجات الرضا والسخط من الوجوب والندب والحرمة والكراهية ، فأصرحه ما بين حال مخالفه مثل ' من لم يؤد زكاة ماله مثل له ' الحديث وقوله صلى الله عليه وسلم ' ومن لا فلا حرج ' ، ثم اللفظ مثل يجب ، ولا يحل ، وجعل الشيء ركن الإسلام أو الكفر ، والتشديد البالغ على فعله ، أو تركه ، ومثل - ليس من المروءة ، ولا ينبغي - ، ثم حكم الصحابة والتابعين في ذلك كقول عمر رضي الله عنه : إن سجدة التلاوة ليست بواجبة ، وقول علي رضي الله عنه : إن الوتر ليس بواجب ، ثم حال المقصد من كونه تكميلا لطاعة أو سدا لذريعة إثم أو من باب الوقار وحسن الأدب . وأما معرفة العلة والركن والشرط فأصرحها ما يكون بالنص مثل ' كل مسكر حرام ' ' لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب ' ' لا تقبل صلاة أحدكم حتى يتوضأ ' ، ثم بالإشارة والإيماء مثل قول الرجل : ' واقعت أهلي في رمضان قال : ' أعتق رقبة ' ، وتسمية الصلاة قياما وركوعا وسجودا يفهم أنها أركانها .
____________________
(1/288)
قوله صلى الله عليه وسلم : ' دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ' يفهم اشتراط الطهارة عند لبس الخفين ، ثم أن يكثر الحكم بوجود الشيء عند وجوده أو عدمه عند عدمه حتى يتقرر في الذهن عليه الشيء أو ركنيته أو شرطيته بمنزلة ما يدب في ذهن الفارسي من معرفة موضوعات اللغة العربية عند ممارسة العرب واستعمالهم إياها في المواضع المقرونة بالقرائن من حيث لا يدري ، وإنما ميزانه نفس تلك المعرفة فإذا رأينا الشارع كلما صلى ركع ، وسجد ، ودفع عنه الزجر ، وتكرر ذلك جزمنا بالمقصود ، وإن شئت الحق فهذا هو المعتمد في معرفة الأوصاف النفسية مطلقا ، فإذا رأينا الناس يجمعون الخشب ، ويصنعون منه شيئا يجلس عليه ، ويسمونه السرير نزعنا من ذلك أوصافه النفسية ، ثم تخريج لمناط اعتمادا على وجدان مناسبة أو على السبر والحذف . وأما معرفة المقاصد التي بني عليها الأحكام فعلم دقيق لا يخوض فيه إلا من لطف ذهنه ، واستقام فهمه ، وكان فقهاء الصحابة تلقت أصول الطاعات والآثام من المشهورات التي أجمع عليها الأمم الموجودة يومئذ كمشركي العرب كاليهود والنصارى ، فلم تكن لهم حاجة إلى معرفة لمياتها ، ولا البحث عما يتعلق بذلك . أما قوانين التشريع والتيسير وأحكام الدين فتلقوها من مشاهدة مواقع الأمر والنهي ، كما أن جلساء الطبيب يعرفون مقاصد الأدوية التي يأمر بها بطول المخالطة والممارسة ، وكانوا في الدرجة العليا من معرفتها ، ومنه قول عمر رضي الله عنه لمن أراد أن يصل النافلة بالفريضة : بهذا هلك من قبلكم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ' أصاب الله بك يا ابن الخطاب ' وقول ابن عباس رضي الله عنهما في بيان سبب الأمر بغسل يوم الجمعة ، وقول عمر رضي الله عنه : وافقت ربي في ثلاث : وقول زيد رضي الله عنه في البيوع
____________________
(1/289)
المنهي عنها : إنه كان يصيب الثمار مراض قشام دمان الخ ، وقول عائشة رضي الله عنها : ' لو أردك النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدثه النساء لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل ' . وأصرح طرقها ما بين في نص الكتاب والسنة مثل . ! ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) ! . وقوله تعالى : ! ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم ) ! . وقوله تعالى : ! ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) ! . وقوله تعالى : ! ( إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) ! . وقوله تعالى : ! ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) ! .
____________________
(1/290)
وقوله صلى الله عليه وسلم : ' لا يدري أين باتت يده ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' إن الشيطان يبيت على خيشومه ' ثم ما أشير إليه أو أومئ مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ' اتقوا اللاعنين ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' وكاء السه العينان ' ثم ما ذكره الصحابي الفقيه ، ثم تخريج المناط بوجه يرجع إلى مقصد ظهر اعتباره أو اعتبار نظيره في نظير المسألة ، وليس في الأمر جزاف فيجب أن يبحث عن المقادير لم عينت دون نظائرها ، وعن مخصصات العموم لم استثنيت لفقد المقصد أو لقيام مانع يرجح عند التعارض والله أعلم . ( باب القضاء في الأحاديث المختلفة ) الأصل أن يعمل بكل حديث إلا أن يمتنع العمل بالجميع للتناقض ، وأنه ليس في الحقيقة اختلاف ، ولكن في نظرنا فقط ، فإذا ظهر حديثان مختلفان فإن كانا من باب حكاية الفعل ، فحكى صحابي أنه صلى الله عليه وسلم فعل شيئا ، وحكى آخر أنه فعل شيئا آخر ، فلا تعارض ، ويكونان مباحين إن كانا من باب العادة دون العبادة ، أو أحدهما مستحبا والآخر جائزا إن لاح على أحدهما آثار القربة دون الآخر ، أو يكونان جميعا مستحبين أو واجبين يكفي أحدهما كفاية الآخر إن كانا جميعا من باب القربة ، وقد نص حفاظ الصحابة على مثله في كثير من السنن كالوتر بإحدى عشرة ركعة وبتسع وسبع وكالجهر في التهجد والمخافتة ، وعلى هذا الأصل ينبغي أن يقضي في رفع اليدين إلى الأذنين أو المنكبين ، وفي تشهد عمر وابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهم ، وفي الوتر هل هو ركعة منفردة أو ثلاث ركعات ، وفي أدعية الاستفتاح وأدعية الصباح والمساء وسائر الأسباب والأوقات . . . أو يكونان مخلصين عن مضيق إن تقدم ما يوجب ذلك كخصال الكفارة وكأجزية المحارب في قول ، أو يكون هنالك علة خفية
____________________
(1/291)
توجب ، أو تحسن أحد الفعلين في وقت والآخر في وقت ، أو توجب شيئا وقتا ، وترخص وقتا ، فيجب أن يفحص عنها ، أو يكون أحدهما عزيمة والآخر رخصة إن لاح أثر الأصالة في الأول واعتبار الحرج في الثاني وإن ظهر دليل النسخ قيل به . . . ، وإن كان أحدهما حكاية فعل والآخر رفع قول فإن لم يكن القول قطعي الدلالة على تحريم أو وجوب أو قطعي الرفع احتملا وجوها . وإن كان قطعيا حملا على تخصيص الفعل به صلى الله عليه وسلم أو النسخ ، فيفحص عن قرائنهما وإن كان قولين فإن كان أحدهما ظاهرا في معنى مؤلا في غيره ، وكان التأويل قريبا حمل على أن أحدهما بيان للآخر ، وإن كان بعيدا لم يحمل عليه إلا عند قرينة قوية جدا أو نقل التأويل عن صحابي فقيه كقول عبد الله بن سلام في الساعة المرجوة إنها قبيل الغروب ، فأورد أبو هريرة أنها ليست وقت صلاة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ' لا يسأل الله فيها مسلم قائم يصلي ' فقال عبد الله بن سلام المنتظر للصلاة كأنه في الصلاة فهذا تأويل بعيد لا يقبل مثله لولا ذهاب الصحابي الفقيه إليه ، وضابطة البعيد أنه إن عرض على العقول السليمة بدون القرينة أو تجشم الجدل لم يحتمل ، وإذا كان مخالفا لايماء ظاهر أو مفهوم واضح أو مورد نص لم يجز أصلا ، فمن القريب قصر عام جرت العادة باستعمال بعض أفراده فقط في نظير ذلك الحكم على ذلك البعض ، وعام يستعمل في موضع جرت العادة بالتسامح فيه كالمدح والذم ، وعام سيق لشرع وضع في حكم بعد إفادة أصل الحكم ، فيجعل في قوة القضية المهملة كقوله : ' ما سقته السماء ففيه العشر ' وقوله : ' ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ' ومنه تنزيل كل واحد على صورة إن شهد المناط والمناسب ، وحملهما على الكراهية وبيان الجواز في الجملة إن أمكن ، وحمل التشديد على الزجر إن تقدم لجاج أما قوله
____________________
(1/292)
! ( حرمت عليكم الميتة ) ! . أي أكلها ! ( حرمت عليكم أمهاتكم ) ! . أي نكاحهن ، وقوله ' العين حق ' أي تأثيرها ثابت ' والرسول حق ' أي مبعوث حقا وقوله ' رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ' أي إثم ما وقعا فيه وقوله : ' لا صلاة إلا بطهور ' ' لا نكاح إلى بولي ' ' إنما الأعمال بالنيات ' أي لا يترتب على هذه الأشياء آثارها التي جعلها الشارع لها ، ! ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ) ! . أي إن لم تكونوا على الوضوء فظاهر ليس بمؤل ؛ لأن العرب يستعملون كل لفظة منها في محل ، ويريدون ما يناسب ذلك المحل ، وتلك لغتهم التي لا يرون فيها صرفا عن الظاهر ، وإن كانا من باب الفتوى في مسألة والقضاء في واقعة ، فإن ظهرت علة فارقة قضي على حسبها ، مثاله : سأله شاب عن القبلة للصائم ، فنهاه ، وشيخ ، فرخص له ، وإن دل السياق في أحدهما دون الآخر على وجود الحاجة أو إلحاح السائل أو كونه إغماضا عن إكمال أوردا للمتعنت المتشدد على نفسه قضى بالعزيمة والرخصة ، وإن كانا مخلصين لمبتلى ، أو عقوبتين لجان ، أو كفارتين من حنث جاز الحمل على صحة الوجهين ، واحتمل النسخ ، وعلى هذا الأصل يقضى في المستحاضة أفتاها تارة بالغسل لكل صلاتين ، وتارة بالتحيض أيام عادتها أو أيام ظهور الدم الشديد على قول إنه كان خيرها بين أمرين ، وأن العادة ولون الدم كلاهما يصلحان مظنة للحيض في الصيام ، والإطعام عمن مات وعليه
____________________
(1/293)
صوم على قول ، والشاك في الصلاة يلغي شكه بأحد أمرين : بتحري الصواب أو أخذ المتيقن على قول ، والقضاء في إثبات النسب بالقائف أو القرعة على قول ، وإن ظهر دليل النسخ حمل عليه ، ويعرف النسخ بنص النبي صلى الله عليه وسلم كقوله : ' كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ' وبمعرفة تأخر أحدهما عن الآخر مع عدم إمكان الجمع ، وإذا شرع الشارع شرعا ، ثم شرع مكانه آخر وسكت عن الأول ، عرف فقهاء الصحابة أن ذلك نسخ للأول ، أو اختلفت الأحاديث وقضى الصحابي بكون أحدهما ناسخا للآخر ، فذلك ظاهر في النسخ غير قطعي ، وقول الفقهاء - لما يجدونه خلاف عمل مشايخهم : منسوخ - غير مقنع ، والنسخ فيما يبدونها تغير حكم بغيره ، وفي الحقيقة انتهاء الحكم لانتهاء علته ، أو انتهاء كونه مظنة للمقصد الأصلي ، أو لحدوث مانع من العلية ، أو ظهور ترجيح حكم آخر على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي الجلي ، أو باجتهاده وهذا إذا كان الأول اجتهاديا ، قال الله تعالى في حديث المعراج : ! ( ما يبدل القول لدي ) ! . وإذا لم يكن للجمع والتأويل مساغ ، ولم يعرف النسخ تحقق التعارض فإن ظهر ترجيح أحدهما إما بمعنى في السند من كثرة الرواة وفقه الراوي ، وقوة الاتصال ، وتصريح صيغة الرفع ، وكون الراوي صاحب المعاملة بأن يكون هو المستفتي أو المخاطب أو المباشر ، أو بمعنى في المتن من التأكيد والتصريح ، أو بمعنى في الحكم وعلته من كونه مناسبا بالأحكام الشرعية ، وكونها علة شديدة المناسبة عرف تأثيرها ، أو من خارج من كونه متمسك أكثر أهل العلم أخذ بالراجح وإلا تساقطا ، وهي صورة مفروضة لا تكاد توجد . . . ، وقول الصحابي أمر ، ونهى ، وقضى ، ورخص ، ثم قوله : أمرنا ، ونهينا ، ثم قوله : من السنة كذا ، وعصى أبا القاسم من فعل كذا ،
____________________
(1/294)
ثم قوله : هذا حكم النبي ظاهر في الرفع ، ويحتمل طروق اجتهاد في تصوير العلة المدار عليها ، أو تعيين الحكم من الوجوب والاستحباب ، أو عمومه وخصوصه ، وقوله . كان يفعل كذا ظاهر في تعدد الفعل ، ولا ينافيه قول الآخر كان يفعل غيره وقوله : صحبته ، فلم أره ينهى ، وكنا نفعل في عهده ظاهر في التقرير ، وليس نصا . وقد تختلف صيغ حديث لاختلاف الطرق وذلك من جهة نقل الحديث بالمعنى فإن جاء حديث ولم يختلف الثقات في لفظه كان ذلك لفظه صلى الله عليه وسلم ظاهرا ، وأمكن الاستدلال بالتقديم والتأخير والواو والفاء ونحو ذلك من المعاني الزائدة على أصل المراد ، وإن اختلفوا اختلافا محتملا وهم متقاربون في الفقه والحفظ والكثرة سقط الظهور ، فلا يمكن الاستدلال بذلك إلا على المعنى جاءوا به جميعا ، وجمهور الرواة كانوا يعتنون برءوس المعاني لا بحواشيها ، وإن اختلفت مراتبهم أخذ بقول الثقة الذي والأكثر والأعرف بالقصة ، وأن أشعر قول ثقة بزيادة الضبط مثل قوله : قالت - وثب - وما قالت - قام - وقالت - أفاض على جلده الماء - وما قالت - اغتسل - أخذ به ، وإن اختلفوا اختلافا فاحشا وهم متقاربون ولا مرجح سقطت الخصوصيات المختلف فيها . والمرسل إن اقترن بقرينة مثل أن يعتضد بموقوف صحابي أو مسنده الضعيف أو مرسل غيره . والشيوخ متغايرة ، أو قول أكثر أهل العلم ، أو قياس صحيح ، أو إيماء من نص ، أو عرف أنه لا يرسل إلا عن عدل - صح الاحتجاج به وكان نازلا من المسند وإلا لا . وكذلك الحديث الذي يرويه قاصر الضبط غير متهم أو مجهول الحال - المختار أنه يقبل إن اقترن بقرينة مثل موافقة القياس ، أو عمل أكثر أهل العلم ، وإلا لا . وإذا تفرد الثقة بزيادة لا يمتنع سكوت الباقين عنها فهي مقبولة كإسناد
____________________
(1/295)
المرسل وزيادة رجل في الإسناد وذكر مورد الحديث وسبب الرواية وإطناب الكلام وإيراد جملة مستقلة لا تغير معنى الكلام ، وإن امتنع كالزيادة المغيرة للمعنى ، أو نادرة لا يترك ذكرها عادة لم يقبل ، وإذا حمل الصحابي حديثا على محمل ، فإن كان للاجتهاد فيه مساغ كان ظاهرا في الجملة إلى أن تقوم الحجة بخلافه ، وإلا كان قويا ، كما إذا كان فيما يعرفه العاقل العارف باللغة من القرائن الحالية والقالية . أما اختلاف آثار الصحابة والتابعين ، فإن تيسر الجمع بينها ببعض الوجوه المذكورة سابقا فذلك ، وإلا كانت المسألة على قولين ، أو أقوال ، فينظر أيها أصوب ، ومن العلم المكنون معرفة مأخذ مذاهب الصحابة ، فاجتهد تنل منه حظا والله أعلم . ( تتمة ) ( باب أسباب اختلاف الصحابة والتابعين في الفروع ) اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن الفقه في زمانه الشريف مدونا ، ولم يكن البحث في الأحكام يومئذ مثل البحث من هؤلاء الفقهاء حيث يبنون بأقصى جهدهم الأركان والشروط ، وآداب كل شيء ممتازا عن الآخر بدليله ، ويفرضون الصور يتكلمون على تلك الصور المفروضة ،
____________________
(1/296)
ويحدون ما يقبل الحد ، ويحصرون ما يقبل الحصر إلى غير ذلك من صنائعهم ، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يتوضأ ، فيرى الصحابة وضوءه ، فيأخذون به من غير أن يبين أن هذا ركن وذلك أدب ، وكان يصلي ، فيرون صلاته ، فيصلون كما رأوه يصلي ، وحج ، فرمق الناس حجه ، ففعلوا كما فعل ، فهذا كان غالب حاله صلى الله عليه وسلم ، ولم يبين أن فروض الوضوء ستة أو أربعة ، ولم يفرض أنه يحتمل أن يتوضأ إنسان بغير موالاة حتى يحكم عليه بالصحة أو الفساد إلا ما شاء الله ، وقلما كانوا يسألونه عن هذه الأشياء . عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سألوه عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض ، كلهن في القرآن منهن . ! ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) ! . ! ( ويسألونك عن المحيض ) ! . قال : ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم . قال ابن عمر : لا تسأل عما لم يكن فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن . قال القاسم : إنكم تسألون عن أشياء ما كنا نسأل عنها وتنقرون عن أشياء ما كنا ننقر عنها . تسالون عن أشياء ما أدري ما هي ، ولو علمناها ما حل لنا أن نكتمها . عن عمر بن إسحاق قال : لمن أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ممن سبقني منهم ، فما رأيت قوما أيسر سيرة ، ولا أقل تشديدا منهم ، وعن عبادة بن بسر الكندي ، وسئل عن امرأة ماتت مع قوم ليس لها ولي ، فقال : أدركت أقواما ما كانوا يشددون تشديدكم ، ولا يسألون مسائلكم ،
____________________
(1/297)
أخرج هذه الآثار الدارمي . وكان صلى الله عليه وسلم يستفتيه الناس في الوقائع ، فيفتيهم ، وترفع إليه القضايا ، فيقضي فيها ، ويرى الناس يفعلون معروفا ، فيمدحه أو منكرا ، فينكر عليه ، وكل ما أفتى به مستفتيا ، أو قضى به في قضية ، أو أنكره على فاعله ، كان في الاجتماعات ، وكذلك كان الشيخان أبو بكر وعمر إذا لم يكن لهما علم في المسألة يسألون الناس عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال أبو بكر رضي الله عنه : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيها شيئا يعني - الجدة - وسأل الناس ، فلما صلى الظهر قال : أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الجدة شيئا ؟ فقال المغيرة بن شعبة : أنا ، قال : ماذا قال ؟ قال : أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم سدسا ، قال : أيعلم ذاك أحد غيرك ؟ فقال محمد بن سلمة : صدق ، فأعطاها أبو بكر السدس ، وقصة سؤال عمر الناس في الغرة ، ثم رجوعه إلى خبر مغيرة ، وسؤاله إياهم في الوباء ، ثم رجوعه إلى خبر عبد الرحمن بن عوف ، وكذا رجوعه في قصة المجوس إلى خبره ، وسرور عبد الله بن مسعود بخبر معقل بن يسار لما وافق رأيه ، وقصة رجوع أبي موسى عن باب عمر وسؤاله عن الحديث ، وشهادة أبي سعيد له ، وأمثال ذلك كثيرة معلومة مروية في الصحيحين والسنن : وبالجملة فهذه كانت عادته الكريمة صلى الله عليه وسلم ، فرأى كل صحابي ما يسره الله له من عبادته وفتاواه وأقضيته ، فحفظها ، وعقلها ، وعرف لكل شيء وجها من قبل حفوف القرائن به ، فحمل بعضها على الإباحة ، وبعضها على النسخ لأمارات وقرائن كانت كافية عنده ، ولم يكن العمدة عندهم إلا وجدان الاطمئنان والثلج من غير التفات إلى طرق الاستدلال كما ترى الأعراب يفهمون مقصود الكلام فيما بينهم ، وتثلج صدورهم بالتصريح والتلويح والإيماء من حيث لا يشعرون ، فانقضى عصره الكريم وهم على ذلك ، ثم إنهم تفرقوا في البلاد وصار كل واحد مقتدى ناحية من النواحي ،
____________________
(1/298)
فكثرت الوقائع ، ودارت المسائل ، فاستفتوا فيها ، فأجاب كل واحد حسبما حفظه ، أو استنبط ، وإن لم يجد فيما حفظه أو استنبط ما يصلح للجواب - اجتهد برأيه ، وعرف العلة التي أدار رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها الحكم في منصوصاته ، فطرد الحكم حيثما وجدها لا يألوا جهدا في موافقة غرضه عليه الصلاة والسلام ، فعند ذلك وقع الاختلاف بينهم على ضروب : منها أن صحابيا سمع حكما في قضية أو فتوى ، ولم يسمعه الآخر فاجتهد برأيه في ذلك . وهذا على وجوه : أحدها أن يقع اجتهاده موافق الحديث . مثاله ما رواه النسائي وغيره أن ابن مسعود رضي الله عنه سئل عن امرأة مات عنها زوجها ، ولم يفرض لها فقال : لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي في ذلك ، فاختلفوا عليه شهرا ، وألحوا ، فاجتهد برأيه ، وقضى بأن لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط ، وعليها العدة ، ولها الميراث ، فقام معقل بن يسار ، فشهد بأنه صلى الله عليه وسلم قضى بمثل ذلك في امرأة منهم ، ففرح بذلك ابن مسعود فرحة لم يفرح مثلها قط بعد الإسلام . ثانيها أن يقع بينهما المناظرة ، ويظهر الحديث بالوجه الذي يقع به غالب الظن ، فيرجع عن اجتهاده إلى المسموع . مثاله ما رواه الأئمة من أن أبا هريرة رضي الله عنه كان من مذهبه أنه من أصبح جنبا فلا صوم له حتى أخبرته بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف مذهبه ، فرجع . وثالثها أن يبلغه الحديث ولكن لا على الوجه الذي يقع به غالب الظن ، فلم يترك اجتهاده ، بل طعن في الحديث ، مثاله ما رواه أصحاب الأصول من أن فاطمة بنت قيس شهدت عند عمر بن الخطاب بأنها كانت مطلقة
____________________
(1/299)
الثلاث فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى ، فرد شهادتها وقال : لا أترك كتاب الله بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت لها النفقة والسكنى ، وقالت عائشة رضي الله عنها لفاطمة : ألا تتقي الله - يعني في قولها - لا سكنى ولا نفقة . . . ومثال آخر روى الشيخان أنه كان من مذهب عمر بن الخطاب أن التيمم لا يجزئ للجنب الذي لا يجد ماء ، فروى عنده عمار أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فأصابته جنابة ولم يجد ماء ، فتمعك في التراب فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' إنما كان يكفيك أن تفعل هكذا ، وضرب بيديه على الأرض ، فمسح بهما وجهه ويديه ، فلم يقبل عمر ، ولم ينهض عنده حجة لقادح خفي رآه فيه حتى استفاض الحديث في الطبقة الثانية من طرق كثيرة ، واضمحل وهم القادح فأخذوا به . ورابعها ألا يصل إليه الحديث أصلا ، مثاله ما أخرج مسلم أن ابن عمر كان يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن ، فسمعت عائشة بذلك ، فقالت يا عجبا لابن عمر هذا يأمر النساء أن ينقضن رءوسهن ، أفلا يأمرهن أن يحلقن رءوسهن لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ، وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث أفرغات مثال آخر ما ذكره الزهري من أن هندا لم تبلغها رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المستحاضة ، فكانت تبكي لأنها لا تصلي . ومن تلك الضروب أن يروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل فعلا ، فحمله بعضهم على القربة ، وبعضهم على الإباحة ، مثاله ما رواه أصحاب الأصول في قضية التحصيب - أي النزول بالأبطح عند النفر - نزل رسول الله
____________________
(1/300)
صلى الله عليه وسلم به ، فذهب أبو هريرة وابن عمر إلى أنه على وجه القربة فجعلوه من سنن الحج ، وذهبت عائشة وابن عباس إلى أنه وجه الاتفاق وليس من السنن . ومثال آخر ذهب الجمهور إلى أن الرمل في الطواف سنة ، وذهب ابن عباس إلى أنه إنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الارتفاق لعارض عرض ، وهو قول المشركين حطمهم حمى يثرب وليس بسنة . . . ومنها اختلاف الوهم ، مثاله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج ، فرآه الناس ، فذهب بعضهم إلى أنه كان متمتعا ، وبعضهم إلى أنه كان قارنا ، وبعضهم إلى أنه كان مفردا . مثال آخر أخرج أبو داود عن سعيد بن جبير أنه قال : قلت لعبد الله ابن عباس يا أبا العباس عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوجب فقال : إني لأعلم الناس بذلك ، إنها كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة ، فمن هناك اختلفوا ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً ، فلما صلى في مسجد ذي الحليفة ركعة أوجب في مجلسه وأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه ، فسمع ذلك من أقوام ، فحفظته عنه ، ثم ركب ، فلما استقلت به ناقته أهل وأدرك ذلك منه أقوام ، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالا ، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل ، فقالوا : إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استقلت به ناقته ، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما علا على شرف البيداء ، أهل وأدرك ذلك منه أقوام ، فقالوا : إنما أهل حين علا على شرف البيداء وايم الله لقد أوجب في مصلاه ، وأهل حين استقلت به ناقته ، وأهل حين علا على شرف البيداء .
____________________
(1/301)
ومنها اختلاف السهو والنسيان ، مثاله ما روى أن ابن عمر كان يقول اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة في رجب ، فسمعت بذلك عائشة فقضت عليه بالسهو . ومنها اختلاف الضبط . مثاله ما روى ابن عمر - أو عمر - عنه صلى الله عليه وسلم من أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه . فقضت عائشة عليه بأنه لم يأخذ الحديث على وجهه . مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكي عليها أهلها فقال : ' إنهم يبكون عليها وأنها تعذب في قبرها ' فظن العذاب معلولا للبكاء ، فظن الحكم عاما على كل ميت ومنها اختلافهم في علة الحكم . مثاله القيام للجنازة فقال قائل لتعظيم الملائكة فيعم المؤمن والكافر ، وقال قائل : لهول الموت ، فيعمهما . وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة يهودي فقام لها كراهية أن تعلوا فوق رأسه ، فيخص الكافر . ومنها اختلافهم في الجمع بين المختلفين . مثاله رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في المتعة عام خيبر ، ثم رخص فيها عام أوطاس ، ثم نهى عنها ، فقال ابن عباس كانت الرخصة للضرورة ، والنهي لانقضاء الضرورة والحكم باق على ذلك ، وقال الجمهور : كانت الرخصة إباحة والنهي نسخا لها . مثال آخر ، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استقبال القبلة في الاستنجاء ، فذهب قوم إلى عموم هذا الحكم وكونه غير منسوخ ، ورآه جابر يبول قبل أن يتوفى بعام مستقبل القبلة فذهب إلى أنه نسخ للنهي المتقدم ورآه ابن عمر قضى حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام ، فرد به قولهم ، وجمع قوم بين الروايتين ، فذهب الشعبي وغيره إلى أن النهي مختص بالصحراء ، فإذا كان في المراحيض فلا بأس بالاستقبال والاستدبار ، وذهب قوم
____________________
(1/302)
إلى أن القول عام محكم ، الفعل يحتمل كونه خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا ينتهض ناسخا ولا مخصصا . وبالجملة فاختلفت مذاهب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخذ عنهم التابعون كذلك كل واحد ما تيسر له ، فحفظ ما سمع من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومذاهب الصحابة وعقلها ، وجمع المختلف على ما تيسر له ورجح بعض الأقوال على بعض ، واضمحل في نظرهم بعض الأقوال وإن كان مأثورا عن كبار الصحابة كالمذهب المأثور عن عمر وابن مسعود في تيمم الجنب اضمحل عندهم لما استفاض من الأحاديث عن عمار وعمران ابن الحصين وغيرهما ، فعند ذلك صار لكل عالم من العلماء التابعين مذهب على حياله ، فانتصب في كل بلد إمام مثل سعيد بن المسيب ، وسالم بن عبد الله ابن عمر في المدينة ، وبعدها الزهري والقاضي يحيى بن سعيد وربيعة بن عبد الرحمن فيها ، وعطاء بن أبي رباح بمكة ، وإبراهيم النخعي والشعبي ، بالكوفة ، والحسن البصري بالبصرة ، وطاوس بن كيسان باليمن ، ومكحول بالشام ، فأظمأ الله أكبادا إلى علومهم ، فرغبوا فيها ، وأخذوا عنهم الحديث وفتاوى الصحابة وأقاويلهم ، ومذاهب هؤلاء العلماء وتحقيقاتهم من عند أنفسهم ، واستفتى منهم المستفتون ، ودارت المسائل بينهم ، ورفعت إليهم الأقضية ، وكان سعيد بن المسيب وإبراهيم وأمثالهما جمعوا أبواب الفقه أجمعها ، وكان لهم في كل باب أصول تلقوها من السلف ، وكان سعيد وأصحابه يذهبون إلى أن أهل الحرمين أثبت الناس في الفقه ، وأصل مذهبهم فتاوى عبد الله بن عمر وعائشة وابن عباس ، وقضايا قضاة المدينة ، فجمعوا من ذلك ما يسره الله لهم ، ثم نظروا فيها نظر اعتبار وتفتيش ، فما كان منها مجمعا عليه بين علماء المدينة فإنهم يأخذون عليه بنواجذهم ، وما كان فيه اختلاف عندهم ، فإنهم يأخذون بأقواها وأرجحها إما بكثرة من ذهب إليه منهم أو لموافقته بقياس قوى أو تخريج صريح ، من الكتاب والسنة أو نحو ذلك ، وإذا لم يجدوا فيما حفظوا منهم جواب المسألة خرجوا من كلامهم وتتبعوا الإيماء والاقتضاء ،
____________________
(1/303)
فحصل لهم مسائل كثيرة في كل باب باب ، وكان إبراهيم وأصحابه يرون أن عبد الله بن مسعود وأصحابه أثبت الناس في الفقه كما قال علقمة لمسروق : هل أحد منهم أثبت من عبد الله ؟ وقول أبي حنيفة رضي الله عنه للأوزاعي إبراهيم أفقه من سالم ، ولولا فضل الصحبة لقلت أن علقمة أفقه من عبد الله ابن عمرو وعبد الله - هو عبد الله - وأصل مذهبه فتاوى عبد الله بن مسعود وقضايا علي رضي الله عنهما وفتاواه وقضايا شريح وغيره من قضاة الكوفة ، فجمع من ذلك ما يسره الله . ثم صنع في آثارهم كما صنع أهل المدينة في آثار أهل المدينة ، وخرج كما خرجوا ، فلخص له مسائل الفقه في كل باب باب . وكان سعيد بن المسيب لسان فقهاء المدينة ، وكان أحفظهم لقضايا عمر ولحديث أبي هريرة ، وإبراهيم لسان فقهاء الكوفة ، فإذا تكلما بشيء ، ولم ينسباه إلى أحد فإنه في الأكثر منسوب إلى أحد من السلف صريحا أو إيما و نحو ذلك ، فاجتمع عليهما فقهاء بلدهما وأخذوا عنهما وعقلوه وخرجوا عليه والله أعلم . ( باب أسباب اختلاف مذاهب الفقهاء ) اعلم أن الله تعالى أنشأ بعد عصر التابعين نشئا من حملة العلم إنحازا لما وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : ' يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له ' فأخذوا عمن اجتمعوا معه منهم صفة الوضوء والغسل والصلاة والحج والنكاح والبيوع وسائر ما يكثر وقوعه ، ورووا حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وسمعوا قضايا قضاة البلدان وفتاوى مفتيها ، وسألوا عن المسائل ، واجتهدوا في ذلك كله ، ثم صاروا كبراء قوم ، ووسد إليهم الأمر ، فنسجوا على منوال شيوخهم ، ولم يألوا في تتبع الإيماآت
____________________
(1/304)
والاقتضاآت ، فقضوا ، وأفتوا ، ورووا ، وعلموا . وكان صنيع العلماء في هذه الطبقة متشابها . وحاصل صنيعهم أن يتمسك بالمسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرسل جميعا ، ويستدل بأقوال الصحابة والتابعين علما منهم أنها إما أحاديث منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتقروها ، فجعلوها موقوفة كما قال إبراهيم ، وقد روى حديث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة فقيل له : أما تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا غير هذا ؟ قال : بلى ولكن أقول قال عبد الله قال علقمة : أحب إلي ، وكما قال الشعبي - وقد سئل عن حديث - وقيل إنه يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال لا بأعلى من دون النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلي ، فإن كان فيه زيادة و نقصان كان علي من دون النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يكون استنباطا منهم من المنصوص أو اجتهادا منهم بآرائهم وهم أحسن صنيعا في ذلك ممن يجيء بعدهم وأكثر إصابة وأقدم زمانا وأوعى علما ، فتعين العمل بها إلا إذا اختلفوا وكان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يخالف قولهم مخالفة ظاهرة ، وأنه إذا اختلفت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة رجعوا إلى أقوال الصحابة ، فإن قالوا بنسخ بعضها أو بصرفه عن ظاهره ، أو لم يصرحوا بذلك ، ولكن اتفقوا على تركه وعدم القول بموجبه فإنه كابداء على فيه أو الحكم بنسخه أو تأويله - اتبعوهم في كل ذلك ، وهو قول مالك في حديث ولغ الكلب جاء هذا الحديث
____________________
(1/305)
ولكن لا أدري ما حقيقته يعني حكاه ابن الحاجب في مختصر الأصول لم أر الفقهاء يعملون به . . . ، وأنه إذا اختلفت مذاهب الصحابة والتابعين في مسألة فالمختار عند كل عالم مذهب أهل بلده وشيوخه لأنه أعرف بصحيح أقاويلهم عن السقيم وأوعى للاصوال المناسبة لها وقلبه أميل إلى فضلهم وتبحرهم فمذهب عمر وعثمان وابن عمر وعائشة وابن عباس وزيد بن ثابت ، وأصحابهم مثل سعيد بن المسيب فإنه كان أحفظهم لقضايا عمر ، وحديث أبي هريرة ، ومثل عروة وسالم وعطاء بن يسار وقاسم وعبيد الله وابن عبد الله والزهري ، ويحيى بن سعيد وزيد بن أسلم وربيعة - أحق بالأخذ من غيره عند أهل المدينة لما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل المدينة ، ولأنها مأوى الفقهاء ومجمع العلماء في كل عصر ، ولذلك ترى مالكا يلازم محجتهم ، ومذهب عبد الله بن مسعود وأصحابه ، وقضايا على وشريح والشعبي وفتاوى إبراهيم ، - أحق بالأخذ عن أهل الكوفة من غيره وهو قول علقمة حين مال مسروق إلى قول زيد بن ثابت في التشريك قال : هل أحد منكم أثبت من عبد الله ؟ فقال لا ولكن رأيت زيد بن ثابت وأهل المدينة يشركون ، فإن اتفق أهل البلد على شيء أخذوا بنواجذه ، وهو الذي يقول في مثله مالك : السنة التي لا اختلاف فيها عندنا كذا وكذا ، وإن اختلفوا أخذوا بأقواها وأرجحها إما بكثرة القائلين به أو لموافقته لقياس قوي ، أو تخريج من الكتاب والسنة ، وهو الذي يقول في مثله مالك : هذا أحسن ما سمعت ، فإذا لم يجدوا فيما حفظوا منهم جواب المسألة خرجوا من كلامهم ، وتتبعوا الإيماء والاقتضاء ، وألهموا في هذه الطبقة التدوين ، فدون مالك ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب بالمدينة ، وابن جريج وابن عيينة بمكة ، والثوري بالكوفة ، وربيع بن صبيح بالبصرة . وكلهم مشوا على هذا المنهج الذي ذكرته ، ولما حج المنصور قال لمالك : قد عزمت أن أمر بكتبك هذه
____________________
(1/306)
التي صنفتها ، فتنسخ ، ثم أبعث في كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة ، وآمرهم بأن يعملوا بما فيها ، ولا يتعدوه إلى غيره ، فقال : يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل ، وسمعوا أحاديث ، ورووا روايات ، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ، وأتوا به من اختلاف الناس ، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم ، ويحكى نسبة هذه القصة إلى هارون الرشيد ، وأنه شاور مالكاً في أن يعلق الموطأ في الكعبة ، ويحمل الناس على ما فيه ، فقال : لا تفعل فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع ، وتفرقوا في البلدان ، وكل سنة مضت قال : وفقك الله يا أبا عبد الله حكاه السيوطي . وكان مالك من أثبتهم في حديث المدنيين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوثقهم إسنادا وأعلمهم بقضايا عمر وأقاويل عبد الله بن عمر وعائشة وأصحابهم من الفقهاء السبعة ، وبه وبأمثاله قام علم الرواية والفتوى ، فلما وسد إليه الأمر حدث ، وأفتى ، وأفاد ، وأجاد ، وعليه انطبق قول النبي صلى الله عليه وسلم : ' يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم ، فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة ' على ما قاله ابن عيينة وعبد الرزاق - وناهيك بهما - فجمع أصحابه رواياته ومختاراته لخصوها ، وحرروها ، وشرحوها ، وخرجوا عليها ، وتكلموا في أصولها ودلائلها ، وتفرقوا إلى المغرب ونواحي الأرض ، فنفع الله بهم كثيرا من خلقه . وإن شئت أن تعرف حقيقة ما قلناه ، من أصل مذهبه فانظر في كتاب الموطأ تجده كما ذكرنا . وكان أبو حنيفة رضي الله عنه ألزمهم بمذهب إبراهيم وأقرانه لا يجاوزه إلا ما شاء الله ، وكان عظيم الشأن في التخريج على مذهبه دقيق النظر في وجوه التخريجات مقبلا على الفروع أتم إقبال ، وإن شئت أن تعلم حقيقة
____________________
(1/307)
ما قلنا فلخص أقوال إبراهيم وأقرانه من كتاب الآثار لمحمد رحمه الله وجامع عبد الرزاق ومصنف أبو بكر بن أبي شيبة ، ثم قايسه بمذهبه تجده لا يفارق تلك المحجة إلا في مواضع يسيرة وهو في تلك اليسيرة أيضا لا يخرج عما ذهب إليه فقهاء الكوفة ، وكان أشهر أصحابه ذكرا أبو يوسف رحمه الله ، فولى قضاء القضاة أيام هارون الرشيد ، فكان سببا لظهور مذهبه والقضاء به في أقطار العراق وخراسان وما وراء النهر ، وكان أحسنهم تصنيفا وألزمهم درسا محمد بن الحسن ، وكان من خبره أنه تفقه على أبي يوسف ، ثم خرج ، إلى المدينة ، فقرأ الموطأ على مالك ، ثم رجع إلى نفسه ، فطبق مذهب أصحابه على الموطأ مسألة مسألة فإن وافق فيها وإلا فإن رأى طائفة من الصحابة والتابعين ذاهبين إلى مذهب أصحابه فكذلك ، وإن وجد قياسا ضعيفا أو تخريجا لينا يخالفه حديث صحيح فيما عمل به الفقهاء أو يخالفه عمل أكثر العلماء - تركه إلى مذهب من مذاهب السلف مما يراه أرجح ما هناك ، وهذان لا يزالان على محجة إبراهيم وأقرانه ما أمكن لهما كما كان أبو حنيفة رضي الله عنه يفعل ذلك . وإنما كان اختلافهم في أحد شيئين : إما أن يكون لشيخهما تخريج على مذهب إبراهيم يزاحمانه فيه ، أو يكون هناك لإبراهيم ونظرائه أقوال مختلفة يخالفان شيخهما في ترجيح بعضها على بعض ، فصنف محمد رحمه الله وجمع رأي هؤلاء الثلاثة ، ونفع كثيرا من الناس ، فتوجه أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه إلى تلك التصانيف تلخيصا وتقريبا أو شرحا أو تخريجا أو تأسيسا أو استدلالا ، ثم تفرقوا إلى خراسان وما وراء النهر ، فيسمى ذلك مذهب أبي حنيفة . ونشأ الشافعي في أوائل ظهور المذهبين وترتيب أصولهما وفروعهما ، فنظر في صنيع الأوائل ، فوجد فيه أمورا كبحت عنانه عن الجريان في طريقهم ، وقد ذكرها في أوائل كتاب الأم .
____________________
(1/308)
منها أنه وجدهم يأخذون بالمرسل والمنقطع ، فيدخل فيهما الخلل ، فإنه إذا جمع طرق الحديث يظهر أنه كم من مرسل لا أصل له ، وكم من مرسل يخالف مسندا ، فقرر ألا يأخذ بالمرسل إلا عند وجود شروط ، وهي مذكورة في كتب الأصول . ومنها أنه لم تكن قواعد الجمع بين المختلفات مضبوطة عندهم فكان يتطرق بذلك خلل في مجتهداتهم ، فوضع لها أصولاً ، ودونها في كتاب ، وهذا أول تدوين كان في أصول الفقه . مثاله ما بلغنا أنه دخل على محمد ابن الحسن وهو يطعن على أهل المدينة في قضائهم بالشاهد الواحد مع اليمين ، ويقول : هذه زيادة على كتاب الله ، فقال الشافعي : أثبت عندك أنه لا تجوز الزيادة على كتاب الله بخبر الواحد ؟ قال : نعم قال : فلم قلت إن الوصية للوارث لا تجوز لقوله صلى الله عليه وسلم ' ألا لا وصية لوارث ' وقد قال الله تعالى : ! ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ) ! . وأورد عليه أشياء من هذا القبيل ، فانقطع كلام محمد ابن الحسن . ومنها أن بعض الأحاديث الصحيحة لم يبلغ علماء التابعين ممن وسد إليهم الفتوى ، فاجتهدوا بآرائهم ، أو اتبعوا العمومات ، أو اقتدوا بمن مضى من الصحابة فأفتوا حسب ذلك . ثم ظهرت بعد ذلك في الطبقة الثالثة فلم يعلموا بها ظنا منهم أنها تخالف عمل أهل مدينتهم وسنتهم التي لا اختلاف
____________________
(1/309)
لهم فيها ، وذلك قادح في الحديث وعلة مسقطة له ، أو لم تظهر في الثالثة ، وإنما ظهر ت بعد ذلك عندما أمعن أهل الحديث في جمع طرق الحديث ، ورحلوا إلى أقطار الأرض ، وبحثوا عن حملة العلم ، فكثر من الأحاديث ما لا يرويه من الصحابة إلا رجل أو رجلان ، ولا يرويه عنه أو عنهما إلا رجل أو رجلان ، وهلم جرا ، فخفي على أهل الفقه ، وظهر في عصر الحفاظ الجامعين لطرق الحديث كثيرة من الأحاديث ، رواه أهل البصرة مثلا وسائر الأقطار في غفلة منه ، فبين الشافعي أن العلماء من الصحابة والتابعين لم يزل شأنهم أنهم يطلبون الحديث في المسألة ، فاذا لم يجدوا تمسكوا بنوع آخر من الاستدلال ، ثم إذا ظهر عليهم الحديث بعد رجعوا من اجتهادهم إلى الحديث فاذا كان الأمر على ذلك لا يكون عدم تمسكهم بالحديث قدحا فيه ، اللهم إلا إذا بينوا العلة القادحة . مثاله حديث القلتين فإنه حديث صحيح روى بطرق كثيرة معظمها ترجع إلى أبي الوليد بن كثير . عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله - أو محمد بن عباد بن جعفر - عن عبيد الله بن عبد الله كلاهما عن ابن عمر ، ثم تشعبت الطرق بعد ذلك ؛ وهذان وإن كانا من الثقات لكنهما ليس ممن وسد إليهم الفتوى ، وعول الناس عليهم ، فلم يظهر الحديث في عصر سعيد بن المسيب ولا في عصر الزهري ، ولم يمش عليه المالكية ولا الحنفية ، فلم يعملوا به ، وعمل به الشافعي ، وكحديث - خيار المجلس - فانه حديث صحيح روي بطرق كثيرة ، وعمل به ابن عمر وأبو هريرة من الصحابة ، ولم يظهر على الفقهاء السبعة ومعاصريهم ، فلم يكونوا يقولون به ، فرأى مالك وأبو حنيفة هذه علة قادحة في الحديث ، وعمل به الشافعي . ومنها أن أقوال الصحابة جمعت في عصر الشافعي ، فتكثرت ، واختلف وتشعبت ، ورأى كثيراً منها يخالف الحديث الصحيح حيث لم يبلغهم ، ورأى
____________________
(1/310)
السلف لم يزالوا يرجعون في مثل ذلك إلى الحديث ، فترك التمسك بأقوالهم ما لم يتفقوا ، وقال : هم رجال ونحن رجال . ومنها أنه رأى قوما من الفقهاء يخلطون الرأي الذي لم يسوغه الشرع بالقياس الذي أثبته ، فلا يميزون واحد منها من الآخر ، ويسمونه تارة بالاستحسان - وأعني بالرأي أن ينصب مظنة حرج أو مصلحة علة لحكم وإنما القياس أن تخرج العلة من الحكم المنصوص ، ويدار عليها الحكم - فأبطل هذا النوع أتم إبطال ، وقال من أستحسن : فانه أراد أن يكون شارعا ، حكاه ابن الحاجب في - مختصر الأصول - مثاله رشد اليتيم أمر خفي ، فاقاموا مظنة الرشد وهو بلوغ خمس عشرين سنة مقامه ، وقالوا : إذا بلغ اليتيم هذا العمر سلم إليه ماله ، قالوا : هذا استحسان ، والقياس لا يسلم إليه . وبالجملة لما رأى في صنيع الأوائل مثل هذه الأمور ، أخذ الفقه من الرأس ، فأسس الأصول ، وفرع الفروع ، وصنف الكتب فأجاد ، وأفاد ، واجتمع عليه الفقهاء ، وتصرفوا اختصارا وشرحا واستدلالا وتخريجا ، ثم تفرقوا في البلدان ، فكان هذا مذهبا للشافعي والله أعلم . ( باب الفرق بين أهل الحديث وأصحاب الرأي ) اعلم أنه كان من العلماء في عصر سعيد بن المسيب وإبراهيم والزهري ، وفي عصر مالك وسفيان ، وبعد ذلك - قوم يكرهون الخوض بالرأي ، ويهابون الفتيا والاستنباط إلا لضرورة لا يجدون منها بدا ، وكان أكبر همهم رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سئل عبد الله بن مسعود عن شيء ، فقال : إني لأكره أن أحل لك شيئا حرمه الله عليك ، أو أحرم ما أحله الله لك . وقال معاذ بن جبل : يا أيها الناس ، لا تعجلوا بالبلاء قبل
____________________
(1/311)
نزوله ، فإنه لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سرد ، وروي نحو ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود في كراهة التكلم فيما لم ينزل . وقال ابن عمر لجابر بن زيد : إنك من فقهاء البصرة ، فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية ، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت ، وأهلكت وقال أبو النصر - لما قدم أبو سلمة البصرة - أتيته أنا والحسن فقال للحسن : أنت الحسن ؟ ما كان أحد بالبصرة أحب إلى لقاء منك ، وذلك أنه بلغني أنك تفتي برأيك ، فلا تفت برأيك إلا أن يكون سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كتاب منزل . وقال ابن المنكدر : إن العالم يدخل فيما بين الله وبين عباده ، فليطلب لنفسه المخرج . وسئل الشعبي . كيف كنتم تصنعون إذا سئلتم ؟ قال : على الخبير وقعت كان إذا سئل الرجل قال لصاحبه : أفتهم ، فلا يزال حتى يرجع إلى الأول ، وقال الشعبي : ما حدثوك هؤلاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ به ، وما قالوه برأيهم ، فألقه في الحش أخرج هذه الآثار عن آخرها الدارمي ، فوقع شيوع تدوين الحديث والأثر في بلدان الإسلام ، وكتابة الصحف والنسخ حتى قل من يكون أهل الرواية إلا كان له تدوين أو صحيفة أو نسخة من حاجتهم لموقع عظيم ، فطاف من أدرك من عظمائهم ذلك الزمان بلاد الحجاز والشام والعراق ، ومصر واليمن وخراسان ، وجمعوا الكتب ، وتتبعوا النسخ ، وأمعنوا في التفحص عن غريب الحديث ونوادر الأثر ، فاجتمع باهتمام أولئك من الحديث والآثار ما لم يجتمع لأحد قبلهم ، وتيسر لهم ما لم يتيسر لأحد قبلهم ، وخلص إليهم من طرق الأحاديث شيء كثير حتى كان يكثر من الأحاديث عندهم مائة طريق فما فوقها ، فكشف بعض الطرق ما استتر في بعضها الآخر ، وعرفوا محل كل حديث من الغرابة والاستفاضة ، وأمكن لهم النظر في المتابعات والشواهد ، وظهر عليهم أحاديث صحيحة
____________________
(1/312)
كثيرة لم تظهر على أهل الفتوى من قبل . قال الشافعي لأحمد : أنتم أعلم بالأخبار الصحيحة منا ، فإذا كان خبر صحيح ، فأعلموني حتى أذهب إليه كوفيا كان أو بصريا أو شاميا ، حكاه ابن الهمام ، وذلك لأنه كم من حديث صحيح لا يرويه إلا أهل بلد خاصة كأفراد الشاميين والعراقيين أو أهل بيت خاصة كنسخة بريد عن أبي بردة عن أبي موسى ، ونسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أو كان الصحابي مقلا خاملا لم يحمل عنه إلا شرذمة قليلون ، فمثل هذه الأحاديث يغفل عنها عامة أهل الفتوى ، واجتمعت عندهم آثار فقهاء كل بلد من الصحابة والتابعين ، وكان الرجل فيما قبلهم لا يتمكن إلا من جمع حديث بلده وأصحابه ، وكان من قبلهم يعتمدون في معرفة أسماء الرجال ومراتب عدالتهم ما يخلص إليهم من مشاهدة الحال وتتبع القرائن ، وأمعن هذه الطبقة في هذا الفن وجعلوه شيئا مستقلا بالتدوين والبحث ، وناظروا في الحكم بالصحة وغيرها ، فانكشف عليهم بهذا التدوين والمناظرة ما كان خافيا من حال الاتصال والانقطاع ، وكان سفيان ووكيع وأمثالهما يجتهدون غاية الاجتهاد ، فلا يتمكنون من الحديث المرفوع المتصل إلا من دون ألف حديث كما ذكره أبو داود السجستاني في رسالته إلى أهل مكة . وكان أهل هذه الطبقة يروون أربعين ألف حديث ، فما يقرب منها بل صح عن البخاري أنه اختصر صحيحه من ستة آلاف حديث ، وعن أبي داود أنه اختصر سننه من خمسة آلاف حديث ، وجعل أحمد مسنده ميزانا يعرف به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما وجد فيه ولو بطريق واحد منه فله أصل وإلا فلا أصل له ، فكان رءوس هؤلاء عبد الرحمن بن مهدي . ويحيى بن سعيد القطان ويزيد بن هارون وعبد الرزاق وأبو بكر بن أبي شيبة ومسدد وهناد وأحمد ين حنبل وإسحق بن راهوية والفضل بن دكين وعلي المديني وأقرانهم .
____________________
(1/313)
وهذه الطبقة هي الطراز الأول من طبقات المحدثين ، فرجع المحققون منهم بعد إحكام فن الرواية ومعرفة مراتب الأحاديث إلى الفقه ، فلم يكن عندهم من الرأي أن يجمع على تقليد رجل ممن مضى مع ما يرون من الأحاديث والآثار المناقضة في كل مذهب من تلك المذاهب ، فأخذوا يتتبعون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة والتابعين والمجتهدين على قواعد أحكموها في نفوسهم - وأنا أبينها لك في كلمات يسيرة - . كان عندهم أنه إذا وجد في المسألة قرآن ناطق ، فلا يجوز التحول منه إلى غيره ، وإذا كان القرآن محتملا لوجوه فالسنة قاضية عليه ، فإذا لم يجدوا في كتاب الله أخذوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان مستفيضا دائرا بين الفقهاء ، أو يكون مختصا بأهل بلد أو أهل بيت أو بطريق خاصة ، وسواء عمل به الصحابة والفقهاء ، أو لم يعملوا به ، ومتى كان في المسألة حديث فلا يتبع فيه خلاف أثر من الآثار ، ولا اجتهاد أحد من المجتهدين ، وإذا فرغوا جهدهم في تتبع الأحاديث ، ولم يجدوا في المسألة حديثا - أخذوا بأقوال جماعة من الصحابة والتابعين ، ولا يتقيدون بقوم دون قوم ، ولا بلد دون بلد ، كما كان يفعل من قبلهم ، فإن اتفق جمهور الخلفاء والفقهاء على شيء فهو المقنع ، وإن اختلفوا أخذوا بحديث أعلمهم علما وأورعهم ورعا أو أكثرهم ضبطا أو ما اشتهر عنهم ، فإن وجدوا شيئا يستوي فيه قولان فهي مسألة ذات قولين ، فإن عجزوا عن ذلك أيضا تأملوا في عمومات الكتاب والسنة وإيما آتهما واقتضا آتهما ، وحملوا نظير المسألة عليها في الجواب إذا كانتا متقاربتين بادى الرأي لا يعتمدون في ذلك على قواعد من الأصول ، ولكن على ما يخلص إلى الفهم ، ويثلج به الصدر ، كما أنه ليس ميزان التواتر عدد الرواة ، ولا حالهم ، ولكن اليقين الذي يعقبه في قلوب الناس - كما نبهنا على ذلك في بيان حال الصحابة ، وكانت هذه الأصول مستخرجة عن صنيع الأوائل وتصريحاتهم ، وعن ميمون بن مهران قال كان أبو بكر
____________________
(1/314)
إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله ، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به ، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضى بها ، فإن أعياه خرج ، فسأل المسلمين وقال : أتاني كذا وكذا ، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء ؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء فيقول أبو بكر الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا . فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رءوس الناس وخيارهم ، فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به . وعن شريح أن عمر بن الخطاب كتب إليه إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به ، ولا يلفتك عنه الرجال ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ، فانظر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاقض بها ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ، ولم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانظر ما اجتمع عليه الناس ، فخذ به ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ، ولم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يتكلم فيه أحد قبلك ، فاختر أي الأمرين شئت إن شئت أن تجتهد برأيك ، ثم تقدم ، فتقدم ، وإن شئت أن تتأخر ، فتأخر ولا أرى التأخر إلا خيرا لك ، وعن عبد الله بن مسعود قال : أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك ، وإن الله قد قدر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون ، فمن عرض له قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب الله عز وجل ، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقضى بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ، ولم يقض به رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون ولا يقل إني أخاف وأني أرى ' فإن الحرام بين ، والحلال بين ، وبين ذلك أمور مشتبهة ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك ' وكان ابن عباس إذا سئل عن الأمر فإن كان في القرآن أخبر به ، وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر به
____________________
(1/315)
وإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر ، فإن لم يكن قال فيه برأيه . عن ابن عباس أما تخافون أن تعذبوا ، أو يخسف بكم أن تقولوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فلان عن قتادة ، قال : حدث ابن سرين رجلا بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل : قال فلان : كذا وكذا فقال ابن سرين أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقول قال فلان كذا وكذا . عن الأوزاعي قال : كتب عمر ابن عبد العزيز أنه لا رأى لأحد في كتاب الله وإنما رأى الأئمة فيما لم ينزل فيه كتاب ، ولم تمض فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا رأى لأحد في سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم . عن الأعمش قال : كان إبراهيم يقول : يقوم عن يساره ، فحدثته عن سميع الزيات عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامه عن يمينه فأخذ به عن الشعبي ، جاءه رجل يسأله عن شيء فقال : كان ابن مسعود يقول فيه كذا وكذا قال : أخبرني أنت برأيك ، فقال ألا تعجبون من هذا أخبرته عن ابن مسعود ، ويسألني عن رأيي ، وديني عندي أثر من ذلك ، والله لأن أتغنى بأغنية أحب إلي من أن أخبرك برأيي ، أخرج هذه الآثار كلها الدارمي . وأخرج الترمذي عن أبي السائب قال : كنا عند وكيع ، فقال لرجل ممن ينظر في الرأي : أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول أبو حنيفة : هو مثله ؟ قال الرجل ، فإنه قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال : الإشعار مثله قال : رأيت وكيعا غضب غضبا شديدا وقال : أقول لك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقول : قال إبراهيم ، ما أحقك بأن تحبس ، ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا ، وعن عبد الله بن عباس وعطاء ومجاهد ومالك بن أنس رضي الله عنهم أنهم كانوا يقولون : ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
____________________
(1/316)
وبالجملة فلما مهدوا الفقه على هذه القواعد ، فلم تكن مسألة من المسائل التي تكلم فيها من قبلهم والتي وقعت في زمانهم إلا وجدوا فيها حديثا مرفوعا متصلا أو مرسلا أو موقوفا صحيحا أو حسنا أو صالحا للاعتبار ، أو وجدوا أثرا من آثار الشيخين أو سائر الخلفاء وقضاة الأمصار وفقهاء البلدان ، أو استنباطا من عموم أو إماء أو اقتضاء ، فيسر الله لهم العمل بالسنة على هذا الوجه ، وكان أعظمهم شأنا وأوسعهم رواية وأعرفهم للحديث مرتبة واعمقهم فقها أحمد بن محمد حنبل ، ثم إسحاق بن رهوية ، وكان ترتيب الفقه على هذا الوجه يتوقف على جمع شيء كثير من الأحاديث والآثار حتى سئل أحمد يكفي الرجل مائة ألف حديث حتى يفنى ؟ قال : لا حتى قيل خمسمائة ألف حديث قال : أرجو كذا في غاية المنتهى ومراده الافتاء على هذا الأصل . ثم أنشأ الله تعالى قرنا آخر ، فراوا أصحابهم قد كفوا مؤنة جمع الأحاديث وتمهيد الفقه على أصلهم ، فتفرغوا للفنون أخرى كتمييز الحديث الصحيح والمجمع عليه بين كبراء أهل الحديث كزيد بن هرون ويحيى بن سعيد القطان وأحمد وإسحق وأضرابهم ، وكجمع أحاديث الفقه التي بنى عليها فقهاء الأمصار وعلماء البلدان مذاهبهم ، وكالحكم على كل حديث بما يستحقه ، وكالشاذة والفاذة من الأحاديث التي لم يروها ، أو طرقها التي لم يخرجوا من جهتها الأوائل مما فيه اتصال أو علوا سند أو رواية فقيه عن فقيه أو حافظ عن حافظ ، ونحو ذلك من المطالب العلمية ، وهؤلاء هم البخاري ومسلم وأبو داود وعبد بن حميد والدارمي وابن ماجه وأبو يعلى والترمذي والنسائي والدارقطني والحاكم والبيهقي والخطيب والديلمي وابن عبد البر وأمثالهم ، وكان أوسعهم علما عندي وأنفعهم تصنيفا وأشهرهم ذكرا رجال أربعة متقاربون في العصر .
____________________
(1/317)
أولهم أبو عبد الله البخاري وكان غرضه تجريد الأحاديث الصحاح المستفيضة المتصلة من غيرها ، واستنباط الفقه والسيرة والتفسير منها ، فصنف جامعه الصحيح ، ووفى بما شرط ، وبلغنا أن رجل من الصالحين رأى رسول صلى الله عليه وسلم في منامه وهو يقول : مالك اشتغلت بفقه محمد بن إدريس وتركت كتابي ، قال : يا رسول الله وما كتابك ؟ قال : صحيح البخاري ولعمري أنه نال من الشهرة والقبول درجة لا يرام فوقها . و ثانيهم مسلم النيسابوري ، توخى تجريد الصحاح المجمع عليها بين المحدثين المتصلة المرفوعة مما يستنبط منه السنة ، وأراد تقريبها إلى الأذهان وتسهيل الاستنباط منها ، فرتب ترتيبا جيدا ، وجمع طرق كل حديث في موضع واحد ، ليتضح اختلاف المتون ، وتشعب الاسانيد أصرح ما يكون وجمع بين المختلفات فلم يدع لمن له معرفة لسان العرب عذرا في الأعراض عن السنة إلى غيرها . وثالثهم أبو داود السجستاني ، وكان همته جمع الأحاديث التي استدل بها الفقهاء ، ودارت فيهم ، وبنى عليها الأحكام علماء الأمصار ، فصنف سننه ، وجمع فيها الصحاح والحسن واللين والصالح للعمل ، قال أبو داود : ما ذكرت في كتابي حديثا أجمع الناس على تركه ، وما كان منها ضعيفا صرح بضعفه ، وما كان فيه علة بينها بوجه يعرفه الخائض في هذا الشأن ، وترجم على كل حدث بما قد استنبط منه عالم ، وذهب إليه ذاهب ، ولذلك صرح الغزالي وغيره بأن كتابه كاف للمجتهد . ورابعهم أبو عيسى الترمذي ، وكأنه استحسن طريقة الشيخين حيث بينا وما أبهما ، وطريقة أبي داود حيث جمع كل ما ذهب إليه ذاهب ، مجمع كلتا الطريقتين وزاد عليها بيان مذاهب الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار
____________________
(1/318)
فجمع كتابا جامعا واختصر طرق الحديث اختصارا لطيفا ، فذكر واحد ، وأومأ إلى ما عداه ، وبين أمر كل حديث من أنه صحيح أو حسن أو ضعيف ، أو منكر ، وبين وجه الضعف ، ليكون الطالب على بصير من أمره ، فيعرف ما يصلح للاعتبار عما دونه ، وذكر أنه مستفيض أو غريب ، وذكر مذاهب الصحابة وفقهاء الأمصار ، وسمى من يحتاج إلى التسمية وكنى من يحتاج إلى الكنية ، ولم يدع خفاء لمن هو من رجال العلم ، ولذلك يقال : إنه كاف للمجتهد مغن للمقلد . وكان بإزاء هؤلاء في عصر مالك وسفيان ، وبعدهم قوم لا يكرهون المسائل ، ولا يهابون الفتيا ويقولون : على الفقه بناء الدين ، فلا بد من إشاعته ، ويهابون رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والرفع إليه حتى قال الشعبي : على من دون النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلينا ، فإن كان فيه زيادة أو نقصان كان على من دون النبي صلى الله عليه وسلم . وقال إبراهيم أقول : قال عبد الله ، وقال علقمة : أحب إلينا ، وكان ابن مسعود إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تربد وجهه ، وقال : هكذا أو نحو هكذا ونحوه وقال عمر حين بعث رهطا من الأنصار إلى الكوفة : إنكم تأتون الكوفة ، فتأتون قوما لهم أزيز بالقرآن فيأتونكم فيقولون : قدم أصحاب محمد قدم أصحاب محمد ، فيأتونكم فيسألونكم عن الحديث فأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن عون : كان الشعبي إذا جاءه شيء اتقى ، وكان إبراهيم يقول ويقول : أخرج هذه الآثار الدرامي . فوقع تدوين الحديث والفقه والمسائل من حاجتهم بموقع من وجه آخر وذلك أنه لم يكن عندهم من الأحاديث والآثار ما يقدرون به على استنباط الفقه على الأصول التي اختارها أهل الحديث ، ولم تنشرح صدورهم للنظر في أقوال علماء البلدان وجمعها والبحث عنها ، واتهموا أنفسهم في ذلك
____________________
(1/319)
وكانوا اعتقدوا في أئمتهم أنهم في الدرجة العليا من التحقيق ، وكان قلوبهم أميل شيء إلى أصاحبهم كما قال علقمة : هل أحد منهم أثبت من عبد الله ؟ وقال أبو حنيفة : إبراهيم أفقه من سالم ، ولولا فضل الصحبة لقلت : علقمه أفقه من ابن عمر ، وكان عندهم من الفطانة والحدس وسرعة انتقال الذهن من شيء إلى شيء ما يقدرون به على تخريج جواب المسائل على أقوال أصحابهم ' وكل ميسر لما خلق له ' . ( كل حزب بما يهم فرحون ) . فهمدوا الفقه على قاعدة التخريج ، وذلك أن يحفظ كل أحد كتاب من هو لسان أصحابه وأعرفهم بأقوال القول وأصحهم نظراً في الترجيح ، فيتأمل في كل مسألة وجه الحكم ، فكلما سئل عن شيء ، أو احتاج إلى شيء رأى فيما يحفظه من تصريحات أصحابه ، فإن وجد الجواب فيها ، وإلا نظر إلى عموم كلامهم ، فأجراه على هذه الصورة ، أو إشارة ضمنية لكلام ، فاستنبط منها . . . ، وربما كان لبعض الكلام إيماء أو اقتضاء يفهم المقصود ، وربما كان للمسألة المصرح بها نظير يحمل عليها ، وربما نظروا في علة الحكم المصرح به بالتخريج أو باليسر الحذف ، فأداروا حكمه على غير المصرح به ، وربما كان له كلامان لو اجتمعا على هيئة القياس الاقتراني أو الشرطي أنتجيا جواب المسألة ، وربما كان في كلامهم ما هو معلوم بالمثال والقسمة غير معلومة بالحد الجامع المانع ، فيرجعون إلى أهل اللسان ، ويتكلفون ، في تحصيل ذاتياته ، وترتيب حد جامع مانع له ، وضبط مبهمه وتمييز مشكلة ، وربما كان كلامهم محتملا بوجهين فينظرون في ترجيح أحد المحتملين ، وربما يكون تقريب الدلائل خفيا ، فيبينون ذلك ، وربما استدل بعض المخرجين من فعل أئمتهم وسكوتهم ونحو ذلك ، فهذا هو التخريج
____________________
(1/320)
ويقال له القول المخرج لفلان كذا ، ويقال على مذهب فلان ، أو على أصل فلان ، أو على قول فلان جواب المسألة كذا وكذا ، ويقال لهؤلاء : المجتهدون في المذهب ، وعنى هذا الاحتهاد على هذا الأصل من قال من حفظ المبسوط كان مجتهدا ، أي وإن لم يكن له علم برواية أصلا ، ولا بحديث واحد فوقع التخريج في كل مذهب ، وكثر ، فأي مذهب كان أصحابه مشهورين وسد إليهم القضاء والافتاء ، واشتهر تصانيفهم في الناس ، ودرسوا درسا ظاهرا انتشر في أقطار الأرض ، ولم يزل ينتشر كل حين ، واي مذهب كان أصحابه خاملين ، ولم يولوا القضاء والافتاء ولم يرغب فيهم الناس اندرس بعد حين . ( باب حكاية حال الناس قبل المائة الرابعة وبعدها ) اعلم أن الناس كانوا قبل المائة الرابعة غير مجمعين على التقليد الخالص لمذهب واحد بعينه ، قال أبو طالب المكي في قوت القلوب : إن الكتب والمجموعات محدثة ، والقول بمقالات الناس ، والفتيا بمذهب الواحد من الناس ، واتخاذ قوله ، والحكاية له من كل شيء ، والتفقه على مذهبه - لم يكن الناس قديما على ذلك في القرنين الأول والثاني انتهى . أقول وبعد القرنين حدث فيهم شيء من التخريج غير أن أهل المائة الرابعة لم يكونوا مجتمعين على التقليد الخالص على مذهب واحد والتفقه له والحكاية لقوله كما يظهر من التتبع ، بل كان فيهم العلماء والعامة ، وكان من خير العامة أنهم كانوا في المسائل الاجماعية التي لا اختلاف فيها بين المسلمين أو جمهور المجتهدين لا يقلدون إلا صاحب الشرع ، وكانوا يتعلمون صفة الوضوء والغسل والصلاة والزكاة ونحو ذلك من آبائهم أو معلمي بلدانهم ، فيمشون حسب ذلك ، وإذا وقعت لهم واقعة استفتوا فيها أي مفت وجدوا من غير تعيين مذهب ، وكان من خبر الخاصة أنه كان من أهل الحديث منهم يشتغلون بالحديث ، فيخلص إليهم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة ما لا يحتاجون معه شيء آخر في المسألة من حديث مستفيض أو صحيح
____________________
(1/321)
قد عمل به بعض الفقهاء ، ولا عذر لتارك العمل به ، أو أقوال متظاهرة لجمهور الصحابة والتابعين مما لا يحسن مخالفتها فان لم يجد في المسألة ما يطمئن به قلبه لتعارض النقل وعدم وضوح الترجيح ونحو ذلك - رجع إلى كلام بعض من مضى من الفقهاء ، فإن وجد قولين اختار أوثقهما سواء كان من أهل المدينة أو من أهل الكوفة ، وكان أهل التخريج منهم يخرجون فيما لا يجدونه مصرحا ، ويجتهدون في المذهب ، وكان هؤلاء ينسبون إلى مذهب أحدهم فيقال : فلان شافعي ، وفلان حنفي ، وكان صاحب الحديث أيضا قد ينسب إلى أحد المذاهب لكثرة موافقته له ، كالنسائي والبيهقي ينسبان إلى الشافعي ، فكان لا يتولى القضاء ولا الإفتاء إلا مجتهدا ، ولا يسمى الفقيه إلا مجتهدا . ثم بعد هذه القرون كان ناس آخرون ذهبوا يمينا وشمالا ، وحدث فيهم أمور منها الجدل والخلاف في علم الفقه ، وتفصيله - على ما ذكره الغزالي - أنه لما انقرض عهد الخلفاء الراشدين المهديين أفضت الخلافة إلى قوم تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام ، فاضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم ، وقد كان بقي من العلماء من هو مستمر على الطراز الأول وملازم صفو الدين ، فكانوا إذا طلبوا هربوا ، وأعرضوا فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء وإقبال الأئمة عليهم مع إعراضهم ، فاشر أبو بطلب العلم توصلا إلى نيل العز ودرك الجاه ، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين ، وبعد أن كانوا أعزة الأعراض عن السلاطين أذلة بالاقبال عليهم ، إلا من وفقه الله . وقد كان من قبلهم قد صنف ناس في علم الكلام وأكثروا القال والقيل والإيراد والجواب وتمهيد طريق الجدل ، فوقع ذلك منهم بموقع من قبل أن كان من الصدور والملوك من مالت نفسه إلى المناظرة في الفقه وبيان
____________________
(1/322)
الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة رحمه الله ، فترك الناس الكلام وفنون العلم ، وأقبلوا على المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة رحمه الله على الخصوص ، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد بن حنبل وغيرهم ، وزعموا أن غرضهم استنباط دقائق الشرع وتقدير علل المذهب وتمهيد أصول الفتاوى ، وأكثروا فيها التصانيف والاستنباطات ، ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات وهم مستمرون عليه إلى الآن لسنا ندري ما الذي قدر الله تعالى فيما بعدها من الأعصار انتهى حاصله . ومنها أنهم اطمأنوا بالتقليد ، ودب التقليد في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون ، وكان سبب ذلك تزاحم الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم فانهم لما وقعت فيهم المزاحمة في الفتوى كان كل من أفتى بشيء نوقض في فتواه ، ورد عليه ، فلم ينقطع الكلام إلا بميسر إلى تصريح رجل من المتقدمين في المسألة . وأيضا جور القضاة فان القضاة لما جار أكثرهم ، ولم يكونوا أمناء لم يقبل منهم إلا ما يريب العامة فيه ، ويكون شيئا قد قيل من قبل . وأيضا جهل رءوس الناس واستفتاء الناس من لا علم له بالحديث ، ولا بطريق التخريج كما ترى ذلك ظاهرا في أكثر المتأخرين ، وقد نبه عليه ابن الهمام وغيره ، وفي ذلك الوقت يسمى غير المجتهد فقيها . ومنها أن أقبل أكثرهم على التعمقات في كل فن ، فمنهم من زعم أنه يؤسس علم أسماء الرجال ومعرفة مراتب الجرح والتعديل ، ثم خرج من ذلك إلى التاريخ قديمه وحديثه . . ، ومنهم من تفحص عن نوادر الأخبار وغرائبها وإن دخلت في حد الموضوع . . . ، ومنهم من كثر القيل والقال في أصول الفقه ، واستنبط كل لأصحابة قواعد جدلية ، فأورد ، فاستقصى ، وأجاب ، وتفصى ، وعرف ، وقسم ، فحور طول الكلام تارة وتارة أخرى اختصر . ،
____________________
(1/323)
ومنهم من ذهب إلى هذا بفرض الصور المستبعدة التي من حقها ألا يتعرض لها عاقل وبفحص العمومات والايماآت من كلام المخرجين فمن دونهم مما لا يرتضى استماعه عالم ولا جاهل . وفتنة هذا الجدل والخلاف والتعمق قريبة من الفتنة الأولى حين تشاجروا في الملك ، وانتصر كل رجل لصاحبه ، فكما أعقبت تلك ملكا عضوضا ووقائع صماء عمياء ، فكذلك أعقبت هذه جهلا واختلاطا وشكوكا ووهما ما لها من أرجاء ، فنشأت بعدهم قرون على التقليد الصرف لا يميزون الحق من الباطل ولا الجدل عن الاستنباط . . ، فالفقيه يومئذ هو الثرثار المتشدق الذي حفظ أقوال الفقهاء قويها وضعيفها من غير تمييز وسردها بشقشقة شدقية . . . ، والمحدث من عد الأحاديث صحيحها وسقيمها وهذها كهذ الأسمار بقوة لحيية ، ولا أقول ذلك كليا مطردا فإن لله طائفة من عباده لا يضرهم من خذلهم ، وهم حجة الله في أرضه ، وإن قلوا ، ولم يأت قرن بعد ذلك إلا وهو أكثر فتنة وأوفر تقليدا وأشد انتزاعا للامانة من صدور الرجال حتى اطمأنوا بترك الخوض في أمر الدين وبأن - يقولوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم متقدون - وإلى الله المشتكى وهو المستعان وبه الثقة وعليه التكلان . ( فصل ) ومما يناسب هذا المقام التنبيه على مسائل ضلت في بواديها الافهام وزلت الأقدام ، وطغت الأقلام .
____________________
(1/324)
منها أن هذه المذاهب الأربعة المدونة المحررة قد اجتمعت الأمة - أو من يعتد به منها - على جواز تقليدها إلى يومنا هذا ، وفي ذلك من المصالح ما لا يخفى لا سيما في هذه الأيام التي قصرت فيها الهمم جدا ، وأشربت النفوس الهوى وأعجب كل ذي رأي برأيه ، فما ذهب إليه ابن حزم حيث قال : التقليد حرام لا يحل لأحد أن يأخذ قول أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا برهان لقوله تعالى : ( واتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ) . وقوله تعالى : ! ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ) ! . وقال مادحا لمن لم يقلد : ( فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ) . وقال تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله وباليوم الآخر ) .
____________________
(1/325)
فلم يبح الله تعالى الرد عند التنازع إلى أحددون القرآن والسنة ، وحرم بذلك الرد عند التنازع إلى قول قائل لأنه غير القرآن والسنة ، وقد صح إجماع الصحابة كلهم أولهم عن آخرهم وإجماع التابعين أولهم عن آخرهم على الامتناع والمنع من أن يقصد منهم أحد إلى قول إنسان منهم أو ممن قبلهم ، فيأخذه كلهم ، فليعلم من أخذ بجميع أقوال أبي حنيفة ، أو جميع أقوال مالك ، أو جميع أقوال الشافعي ، أو جميع أقوال أحمد رضي الله عنهم ، ولم يترك قول من اتبع منهم أو من غيرهم إلى قول غيره ، ولم يعتمد على ما جاء في القرآن والسنة غير صارف ذلك إلى قول إنسان بعينه - أنه قد خالف إجماع الأمة كلها أولها عن آخرها بيقين لا إشكال فيه وأنه لا يجد لنفسه سلفا ، ولا إنسانا في جميع الأعصار المحمودة الثلاثة ، فقد اتبع غير سبيل المؤمنين نعوذ بالله من هذه المنزلة . وأيضا فإن هؤلاء الفقهاء كلهم قد نهوا عن تقليد غيرهم ، فقد خالفهم من قلدهم ، وأيضا فما الذي جعل رجلا من هؤلاء أو من غيرهم أولى أن يقلد من عمر بن الخطاب أو علي بن أبي طالب أو ابن مسعود أو ابن عمر أو ابن عباس أو عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهم ، فلو ساغ التقليد لكان كل واحد من هؤلاء أحق بأن يتبع من غيره انتهى ، إنما يتم فيمن له ضرب من الاجتهاد ولو في مسألة واحدة ، وفيمن ظهر عليه ظهورا بيننا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكذا ، ونهى عن كذا ، وأنه ليس بمنسوخ إما بأن يتتبع الأحاديث وأقوال المخالف والموافق في المسألة ، فلا يجد لها نسخا ، أو بأن يرى جمعا غفيرا من المتبحرين في العلم يذهبون إليه ، ويرى المخالف له لا يحتج إلا بقياس أو استنباط أو نحو ذلك ، فحينئذ لا سبب لمخالفة حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفاق خفي ، أو حمق جلي . وهذا هو الذي أشار إليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام حيث قال :
____________________
(1/326)
ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعا ، وهو مع ذلك يقلده فيه ، ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم جمودا على تقليد إمامه ، بل يتخيل لدفع ظاهر الكتاب والسنة ، ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلده . وقال : لم يزال الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقييد لمذهب ولا إنكار على أحد من السائلين إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلدين ، فإن أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة مقلدا له فيما قال كأنه نبيا أرسل ، وهذا نأي عن الحق ، وبعد عن الصواب لا يرضى به أحد من أولى الألباب . وقال الإمام أبو شامة : ينبغي لمن اشتغل بالفقه ألا يقتصر على مذهب إمام ، ويعتقد في كل مسألة صحة ما كان أقرب إلى دلالة الكتاب والسنة المحكمة ، وذلك سهل عليه إذا كان أتقن معظم العلوم المتقدمة ، وليجتنب التعصب والنظر في طرائق الخلاف المتأخرة ، فإنها مضيعة للزمان ولصفوة مكدرة ، فقد صح عن الشافعي أنه نهى عن تقليده وتقليد غيره . قال صاحبه المزني في أول مختصره : اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله : لأقرب به على من أراد مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره ، لينظر فيه لدينه ، ويحتاط لنفسه : أي مع إعلامي من أراد علم الشافعي نهى الشافعي عن تقليده وتقليد غيره انتهى . وفيمن يكون عامياً ، ويقلد رجلاً من الفقهاء بعينه يرى أنه يمتنع من مثله الخطأ ، وأن ما قاله هو الصواب ألبتة ، وأضمر في قلبه ألا يترك تقليده
____________________
(1/327)
وإن ظهر الدليل على خلافه ، وذلك ما رواه الترمذي عن عدي بن حاتم أنه قال : سمعته - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم _ يقرأ . ! ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ! . قال : ' إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرموه عليهم شيئا محرما ' . . . ، وفيمن لا يجوز أن يستفتي الحنفي مثلا فقيها شافعيا وبالعكس ، ولا يجوز أن يقتدي الحنفي بإمام شافعي مثلا ، فإن هذا قد إجمال القرون الأولى ، وناقض الصحابة والتابعين وليس محلة فيمن لا يدين إلا بقول النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يعتقد حلالا إلا ما أحله الله ورسوله ، ولا حراما إلا ما حرمه الله ورسوله ، لكن لما لم يكن له علم بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ولا بطريق الجمع بين المختلفات من كلامه ، ولا بطريق الاستنباط من كلامه اتبع عالما راشدا على أنه مصيب فيما يقول ، ويفتي ظاهرا متبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خالف ما يظنه أقلع من ساعته من غير جدال ولا إصرار ، فهذا كيف ينكره أحد مع أن الاستفتاء والافتاء لم يزل بين المسلمين من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ولا فرق بين أن يستفتي هذا دائما ، أو يستفتى هذا حينا وذلك حينا بعد أن يكون مجمعا على ما ذكرناه ، كيف لا ولم نؤمن بفقيه أيا كان أنه أوحى الله إليه الفقه ، وفرض علينا طاعته ، وأنه معصومة ، فإن اقتدينا بواحد منهم فذلك لعلمنا بأنه عالم بكتاب الله وسنة رسوله ، فلا يخلوا قوله إما أن يكون من صريح الكتاب والسنة ، أو مستنبطا عنهما بنحو من الاستنباط ، أو عرف بالقرائن أن الحكم في صورة ما منوطة بعلة كذا ، واطمأن قلبه بتلك المعرفة ، فقاس غير المنصوص على المنصوص ، فكأنه يقول : ظننت
____________________
(1/328)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : - كلما وجدت هذه العلة فالحكم ثمة هكذا - والمقيس مندرج في هذا العموم ، فهذا أيضا معزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن في طريقه ظنون ، ولولا ذلك لما قلد مؤمن بمجتهد ، فإن بلغنا حديث عن الرسول المعصوم الذي فرض الله علينا طاعته بسند صالح يدل على خلاف مذهبه ، وتركنا حديثه ، واتبعنا ذلك التخمين فمن أظلم منا ، وما عذرنا يوم يقوم الناس لرب العالمين . ومنها أن التخريج على كلام الفقهاء وتتبع لفظ الحديث لكل منهما أصل أصيل في الدين ، ولم يزل المحققون من العلماء في كل عصر يأخذون بهما ، فمنهم من يقل من ذا ويكثر ومن ذاك . . ، ومنهم من يكثر من ذا ويقل من ذاك ، فلا ينبغي أن يهمل أمر وأحد منهما بالمرة كما يفعله عامة الفريقين ، وإنما الحق البحت أن يطابق أحدهما بالآخر ، وأن يجبر خلل كل بالآخر ، وذلك قول الحسن البصري : سنتكم والله الذي لا إله إلا هو ، بينهما ، بين الغالي والجافي ، فمن كان من أهل الحديث ينبغي أن يعرض ما اختاره ، وذهب إليه على رأي المجتهدين من التابعين ، ومن كان من أهل التخريج ينبغي له أن يجعل من السنن ما يحترز به من مخالفة الصريح الصحيح ومن القول برأيه فيما فيه حديث أو أثر بقدر الطاقة . ولا ينبغي لمحدث أن يتعمق بالقواعد التي أحكمها أصحابه ، وليست مما نص عليه الشارع ، فيرد به حديثا أو قياسا صحيحا كرد ما فيه أدنى شائبة . الإرسال والانقطاع كما فعله ابن حزم ، رد حديث تحريم المعازف لشائبة الانقطاع في رواية البخاري ، على أنه في نفسه متصل صحيح ، فإن مثله إنما يصار إليه عند التعارض ، وكقولهم : فلان أحفظ لحديث فلان من غيره ، فيرجحون حديثه على حديث غيره لذلك ، وإن كان في الآخر ألف وجه من الرجحان .
____________________
(1/329)
وكان اهتمام جمهور الرواة عند الرواية بالمعنى برءوس المعاني دون الاعتبارات التي يعرفها المتعمقون من أهل العربية ، فاستدلالهم بنحو الفاء والواو وتقديم كلمة وتأخيرها ونحو ذلك من التعمق ، وكثيرا ما يعبر الراوي الآخر عن تلك القصة ، فيأتي مكان ذلك الحرف بحرف آخر ، والحق أن كل ما يأتي به الراوي فظاهره أنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن ظهر حديث آخر أو دليل آخر وجب المصير إليه . ولا ينبغي لمخرج أن يخرج قولا لا يفيده نفس كلام أصاحب ، ولا يفهمه منه أهل العرف والعلماء باللغة ، ويكون بناء على تخريج مناط أو حمل نظير المسألة عليها مما يختلف فيه أهل الوجوه وتتعارض الآراء ، ولو أن أصحابه سئلوا عن تلك المسألة وربما يحملون النظير على النظير كمانع ، وربما ذكروا علة غير ما خرجه هو إنما جاز التخريج لأنه في الحقيقة من تقليد المجتهد ، ولا يتم إلا فيما يفهم من كلامه ، ولا ينبغي أن يرد حديثا أو أثرا تطابق عليه القوم لقاعدة أستخرجها هو أو أصحابه كرد حديث المصراة وكأسقاط سهم ذوي القربى ، فإن رعاية الحديث أوجب من رعاية تلك القاعدة المخرجة وإلى هذا المعنى أشار الشافعي حيث قال : مهما قلت من قول أصلت من أصل فبلغ عن الرسول صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت فالقول ما قاله صلى الله عليه وسلم . ومنها أن تتبع الكتاب والآثار لمعرفة الأحكام الشرعية على مراتب . أعلاها أن يحصل له من معرفة الأحكام بالفعل أو بالقوة القريبة من الفعل ما يتمكن به من جواب المستفتين في الوقائع غالبا بحيث يكون جوابه أكثر مما يتوقف فيه ، وتخص باسم الاجتهاد ، وهذا الاستعداد يحصل تارة
____________________
(1/330)
بالإمعان في جميع الروايات وتتبع الشاذة والفاذة منها كما أشار إليه أحمد بن حنبل مع ما لا ينفك من العاقل العارف باللغة من معرفة مواقع الكلام ، وصاحب العلم بآثار السلف من طريق الجمع بين المختلفات وترتيب الاستدلالات ونحو ذلك ، وتارة بإحكام طرق التخريج على مذهب شيخ من مشايخ الفقه مع معرفة جملة صالحة من السنن والآثار بحيث يعلم أن قوله لا يخالف الاجماع ، وهذه طريقة أصحاب التخريج وأوسطها من كلتا الطريقتين أن يحصل له من معرفة القرآن والسنن ما يتمكن به من معرفة رءوس مسائل الفقه المجمع عليها بأدلتها التفصيلية ، ويحصل له غاية العلم ببعض المسائل الاجتهادية من أدلتها وترجيح بعض الأقوال على بعض ونقد التخريجات ومعرفة الجيد والزيف ، وإن لم يتكامل له الأدوات كما يتكامل للمجتهد المطلق ، فيجوز لمثله أن يلفق من المذهبين إذا عرف دليلهما ، وعلم أن قوله ليس مما لا ينفذ فيه اجتهاد المجتهد ، ولا يقبل فيه قضاء القاضي ، ولا يجري فيه فتوى المفتين ، وأن يترك بعض التخريجات التي سبق الناس إليها إذا عرف عدم صحتها ، ولهذا لم يزل العلماء ممن لا يدعي الاجتهاد المطلق يصنفون ، ويرتبون ، ويخرجون ، ويرجحون ، وإذا كان الاجتهاد يتجزأ عند الجمهور والتخريج يتجزأ ، وإنما المقصود تحصيل الظن ، وعليه مدار التكليف فما الذي يستبعد من ذلك ، وأما دون ذلك من الناس فمذهبه فيما يرد عليه كثيرا ما أخذه عن أصحابه وآبائه وأهل بلده من المذاهب المتبعة ، وفي الوقائع النادرة فتاوى مفتيه ، وفي القضايا ما يحكم القاضي ، وعلى هذا وجدنا محققي العلماء من كل مذهب قديما وحديثا ، وهو الذي وصى به أئمة المذاهب أصاحبهم . - وفي اليواقيت والجواهر - أنه روى عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كان يقول : لا ينبغي لمن لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي ، وكان رضي الله عنه إذا أفتى يقول هذا رأي النعمان بن ثابت يعني نفسه وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاء بأحسن منه فهو أولى بالصواب ، وكان الإمام مالك
____________________
(1/331)
رضي الله عنه يقول : ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردودا عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروى الحاكم والبيهقي عن الشافعي رضي الله عنه أنه كان يقول : إذا صح الحديث فهو مذهبي ، وفي رواية إذا رأيتم كلامي يخالف الحديث فاعملوا بالحديث ، وأضربوا بكلامي الحائط ، وقال يوما للمزني : يا إبراهيم لا تقلدني في كل ما أقول ، وانظر في ذلك لنفسك فإنه دين ، وكان رضي الله عنه يقول : لا حجة في قول أحددون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كثروا ، ولا في قياس ولا في شيء ، وما ثم إلا طاعة الله ورسوله بالتسليم ، وكان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول : ليس لأحد مع الله ورسوله كلام ، وقال أيضا لرجل : لا تقلدني ولا تقلدن مالكا ، ولا الأوزعي ، ولا النخعي ، ولا غيرهم ، وخذ الأحكام من حيث أخذوا من الكتاب والسنة لا ينبغي لأحد أن يفتي إلا أن يعرف أقاويل العلماء في الفتاوى الشرعية ويعرف مذاهبهم فإن سئل عن مسألة يعلم أن العلماء الذين يتخذ مذهبهم قد اتفقوا عليه ، فلا بأس بأن يقول هذا جائز وهذا لا يجوز ويكون قوله على سبيل الحكاية وإن كانت مسألة قد اختلفوا فيها فلا بأس بأن يقول هذا جائز في قول فلان ، وفي قول فلان لا يجوز ، وليس له أن يختار فيجيب بقول بعضهم ، ما لم يعرف حجته ، وعن أبي يوسف وزفر وغيرهما رحمهم الله أنهم قالوا : لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا ، قيل لعصام بن يوسف رحمه الله : إنك تكثر الخلاف لأبي حنيفة رحمه الله قال : لأن أبا حنيفة أوتي من الفهم ما لم نؤت ، فأدرك بفهمه ما لم ندركه ، ولا يسعنا أن نفتي بقوله ما لم نفهم . عن محمد بن الحسن أنه سئل متى يحل للرجل أن يفتي ؟ قال محمد : إذا كان صوابه أكثر من خطئه ؛ عن أبي بكر الإسكاف البخلى أنه سئل عن عالم في بلده ليس هناك أعلم منه هل يسعه ألا يفتي ؟ قال : إن كان من أهل الاجتهاد ، فلا يسعه
____________________
(1/332)
قيل : كيف يكون من أهل الاجتهاد ؟ قال : أن يعرف وجوه المسائل ، ويناظر أقرانه إذا خالفوه قيل : أدنى الشروط للاجتهاد حفظ المبسوط انتهى . وفي البحر الرائق عن أبي الليث قال : سئل أبو نصر عن مسألة وردت عليه ما تقول رحمك الله وقعت عندك كتب أربعة ، كتاب إبراهيم بن رستم ، وأدب القاضي من الخصاف ، وكتاب المجرد ، وكتاب النوادر من جهة هشام هل يجوز لنا أن نفتي منها أولا ، وهذه الكتب محمودة عندك ؟ فقال ما صح عن أصحابنا فذلك علم محبوب مرغوب به مرضي عنه ، وأما الفتيا فإني لا أرى لأحد أن يفتي بشيء لا يفهمه ، ولا يحمل أثقال الناس ، فإن كانت مسائل قد اشتهرت ، وظهرت ، وانجلت عن أصحابنا رجوت أن يسع لي الاعتماد عليها ، وفيه أيضا لو احتجتم أو أغتاب فظن أنه يفطره ، ثم أكل إن لم يستفت فقيها ولا بلغة الخبر ، فعليه الكفارة لأنه مجرد جهل ، وأنه ليس بعذر في دار الإسلام ، وإن استفتى فقيها ، فأفتاه لا كفارة عليه لأن العامي يجب عليه تقليد العالم إذا كان يعتمد على فتواه ، فكان معذورا فيما صنع ، وإن كان المفتي مخطئا فيما أفتى ، وإن لم يستفت ولكن بلغه الخبر وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' أفطر الحاجم والمحجوم ' وقوله عليه السلام : ' الغيبة تفطر الصائم ' ولم يعرف النسخ ، ولا تأويله لا كفارة عليه عندهما لأن ظاهر الحديث واجب العمل به خلافا لأبي يوسف لأنه ليس للعامي العمل بالحديث لعدم علمه بالناسخ والمنسوخ ، ولو لمس امرأة أو قبلها بشهوة أو أكتحل ' فظن أن ذلك يفطر ، ثم أفطر فعليه الكفارة إلا إذا أستفتى فقيها ، فأفتاه بالفطر ، أو بلغه خبر فيه ، ولو نوى الصوم قبل الزوال ، ثم أفطر لم يلزمه الكفارة عند أبي حنيفة رضي الله عنه خلافا
____________________
(1/333)
لهما كذا في المحيط . وقد علم من هذا أن مذهب العامي فتوى مفتية ، وفيه أيضا في باب قضاء الفوائت إن كان عاميا ليس له مذهب معين فمذهبه فتوى مفتية كما صرحوا به ، فإن أفتاه حنفي أعاد العصر والمغرب ، وإن أفتاه شافعي ، فلا يعيدهما ولا عبرة برأيه وإن لم يستفت أحدا ، أو صادف الصحة على مذهب مجتهد أجزأه ولا إعادة عليه ، قال ابن الصلاح : من وجد من الشافعية حديثا يخالف مذهبه نظر أن كملت له آلة الاجتهاد مطلقا ، أو في ذلك الباب ، أو المسألة ، كان له الاستقلال بالعمل به ، وإن لم يكمل وشق مخالفة الحديث بعد أن يبحث ، فلم يجد للمخالفة جوابا شافعيا عنه - فله العمل به إن كان عمل به إمام مستقل غير الشافعي ، ويكون هذا عذرا له في ترك مذهب أمامه ههنا ، وحسنه النووي وقرره . ومنها أن أكثر صور الاختلاف بين الفقهاء لا سيما في المسائل التي ظهر فيها أقوال الصحابة في الجانبين كتكبيرات التشريق ، وتكبيرات العيدين ، ونكاح المحرم ، وتشهد ابن عباس وابن مسعود ، والاخفاء بالبسملة وبآمين والاشفاع والايتار في الاقامة ونحو ذلك إنما هو في ترجيح أحد القولين . وكان السلف لا يختلفون في أصل المشروعية ، وإنما كان خلافهم في أولى الأمرين ونظره اختلاف القراء في وجوه القراءة . وقد عللوا كثيرا من هذا الباب بأن الصحابة مختلفون وأنهم جميعا على الهدى ، ولذلك لم يزل العلماء يجوزون فتاوى المفتين في المسائل الاجتهادية ، ويسلمون قضاء القضاة ، ويعملون في بعض الأحيان بخلاف مذهبهم ، ولا ترى أئمة المذاهب في هذه المواضع إلا وهم يضجعون القول ، ويبينون الخلاف ، يقول أحدهم ، هذا أحوط ، وهذا هو المختار ، وهذا أحب إلي ، ويقول : ما بلغنا إلا ذلك ، وهذا كثير في المبسوط . وآثار محمد رحمه الله وكلام الشافعي رحمه الله . ثم خلف من بعدهم قوم اختصروا كلام القوم ، فقووا الخلاف ، وثبتوا على مختار أئمتهم ، والذي يروي من السلف من تأكيد الأخذ
____________________
(1/334)
بمذهب أصحابهم ، وألا يخرج منها بحال ، فإن ذلك إما لأمر جبلي ، فإن كل إنسان يحب ما هو مختار أصحابه وقومه حتى في الزي والمطاعم ، أو لصولة ناشئة من ملاحظة الدليل ، أو لنحو ذلك من الأسباب ، فظن البعض تعصبا دينيا حاشاهم من ذلك ، وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ البسملة ، ومنهم من لا يقرؤها ، ومنهم من يجهر بها ، ومنهم من لا يجهر بها وكان منهم من يقنت في الفجر ، ومنهم من لا يقنت في الفجر ، ومنهم من يتوضأ من الحجامة والرعاف والقيء ، ومنهم من لا يتوضأ من من ذلك ، ومنهم من يتوضأ من مس الذكر ومس النساء بشهوة ، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك ، ومنهم من يتوضأ مما مسته النار ، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك ، ومنهم من يتوضأ من أكل لحوم الأبل ، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك . ومع هذا فكان بعضهم يصلي خلف بعض مثل ما كان أبو حنيفة أو أصحابه والشافعي وغيرهم رضي الله عنهم يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وغيرهم وإن كانوا لا يقرءون البسملة لا سرا ولا جهرا ، وصلى الرشيد إماما وقد احتجم ، فصلى الأمام أبو يوسف خلفه ولم يعد ، وكان الإمام أحمد ين حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة فقيل له : فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ، ولم يتوضأ هل تصلي خلفه ؟ فقال : كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب . وروى أن أبا يوسف ومحمدا كانا يكبران في العيدين تكبير ابن عباس لأن هارون الرشيد كان يحب تكبير جده . وصلى الشافعي رحمه الله الصبح قريبا من مقبرة أبي حنيفة رحمه الله ، فلم يقنت تأدبا معه ، وقال أيضا : ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق . وقال مالك رحمه الله للمنصور وهارون الرشيد ما ذكرنا عنه سابقا ، وفي البزازية وعن الإمام الثاني - وهو أبو يوسف رحمه الله - أنه صلى يوم الجمعة مغتسلا من الحمام ، وصلى بالناس وتفرقوا ، ثم أخبر
____________________
(1/335)
بوجود فارة ميتة في بئر الحمام فقال : إذا نأخذ بقول أخوانا من أهل المدينة إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا ، انتهى . وسئل الإمام الخجندى رحمه الله عن رجل شافعي المذهب ترك صلاة سنة أو سنتين ، ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة رحمه الله ، كيف يجب عليه القضاء ، أيقضيها على مذهب الشافعي أو على مذهب أبي حنيفة ؟ فقال : على أي المذهبين قضى بعد أن يعتقد جوازها جاز ، انتهى . وفي جامع الفتاوى أنه أن قال حنفي إن تزوجت فلانه فهي طالق ثلاثا ، ثم استفتى شافعيا ، فأجاب أنها لا تطلق ويمينه باطل ، فلا بأس باقتدائه بالشافعي في هذه المسألة ، لأن كثيراً من الصحابة في جانبه . قال محمد رحمة في أماليه : لو أن فقيها قال لامرأته : أنت طالق ألبتة ، وهو ممن يراها ثلاثا ، ثم قضى عليه قاض بأنها رجعية ، وسعه المقام معها ، وكذا كل فصل مما يختلف فيه الفقهاء من تحريم أو تحليل أو إعتاق أو أخذ مال أو غيره ، ينبغي للفقيه المقضي عليه الأخذ بقضاء القاضي ويدع رأيه ، ويلزم نفسه ما ألزم القاضي ، ويأخذ ما أعطاه ، قال محمد رحمه الله : وكذلك رجل لا علم له ، ابتلي ببلية ، فسأل عنها الفقهاء ، فأفتوه فيها بحلال أو بحرام ، وقضى عليه قاضي المسلمين بخلاف ذلك ، وهي مما يختلف فيه الفقهاء ، فينبغي له أن يأخذ بقضاء القاضي ، ويدع ما أفتاه الفقهاء . انتهى . ومنها أني وجدت بعضهم يزعم أن جميع ما يوجد في هذه الشروح الطويلة وكتب الفتاوى الضخمة وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه ، ولا يفرق بين القول المخرج ، وبين ما هو قول الحقيقة ، ولا يحصل معنى قولهم على تخريج الكرخي كذا ، وعلى تخريج الطحاوي كذا ، ولا يميز بين قولهم : قال أبو حنيفة : كذا ، وبين قولهم جواب المسألة على مذهب أبي حنيفة أو على أصل أبي حنيفة كذا ، ولا يصغي إلى ما قاله المحققون من الحنفيين كابن الهمام وابن النجيم في مسألة العشر في العشر ، ومثله مسألة اشتراط البعد من
____________________
(1/336)
الماء ميلا في التيمم ، وأمثالهما - أن ذلك من تخريجات الأصحاب وليس مذهبا من الحقيقة ، وبعضهم يزعم أن بناء المذهب على هذه المحاورات الجدلية المذكورة في مبسوط السرخسي والهداية والتبيين ونحو ذلك ، ولا يعلم أن أول من أظهر ذلك فيهم المعتزلة ، وليس عليه بناء مذهبهم ، ثم استطاب ذلك المتأخرون توسعا وتشحيذا لأذهان الطالبين ولو لغير ذلك والله أعلم ، وهذه الشبهات والشكوك يحل كثير منها مما مهدناه في هذا الباب . ومنها أني وجدت بعضهم يزعم أن بناء الخلاف بن أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله على هذه الأصول المذكورة في كتاب البزدوي ونحوه ، وإنما الحق أن أكثرها أصول مخرجة على قولهم : وعندي أن المسألة القائلة بأن الخاص مبين ، ولا يلحقه بيان ، وأن الزيادة نسخ ، وأن العام قطعي كالخاص ، وأن لا ترجيح بكثرة الرواية ، وأنه لا يجب العمل بحديث غير الفقيه إذا انسد باب الرأي ، وأن لا عبرة بمفهوم الشرط والوصف أصلا وأن موجب الأمر هو الوجوب ألبتة : وأمثال ذلك أصول مخرجة على كلام الأئمة ، وأنه لا تصح بها رواية عن أبي حنيفة وصاحبيه ، وأنه ليست المحافظة عليها والتكلف في جواب ما يرد عليه من صنائع المتقدمين في استنباطاتهم كما يفعله البزدوى وغيره أحق من المحافظة على خلافها والجواب عما يرد عليه . مثاله أنهم أصلوا أن الخاص مبين فلا يلحقه البيان ، وخرجوه من صنيع الأوائل في قوله تعالى : ! ( اركعوا واسجدوا ) ! . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود ' حيث لم يقولوا بفريضية الاطمئنان ، ولم يجعلوا الحديث بيانا للآية ، فورد عليهم صنيعهم في قوله تعالى :
____________________
(1/337)
( وامسحوا برءوسكم ) . ومسحه صلى الله عليه وسلم على ناصيته حيث جعلوه بيانا ، وقوله تعالى : ! ( الزانية والزاني فاجلدوا ) ! . وقوله تعالى : ! ( السارق والسارقة فاقطعوا ) ! الآية . وقوله تعالى : ! ( حتى تنكح زوجا غيره ) ! . وما لحقه من البيان بعد ذلك ، فتكلفوا للجواب كما هو مذكور في كتبهم ، وأنهم أصلوا أن العام قطعي كالخاص ، وخرجوه من صنيع الأوائل في قوله تعالى : ( فاقرءوا ما تيسر من القرآن ) . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' لا صلاة إلا بفاتحة القرآن ' ، حيث لم يجعلوه مخصصا ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ' فيما سقت العيون العشر ' الحديث ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ' ليس فيما دون خمسة أواق صدقة ' ، حيث لم يخصوه به ونحو ذلك من المواد ، ثم ورد عليهم قوله تعالى :
____________________
(1/338)
! ( فما استيسر من الهدي ) ! . وإنما هو الشاة فما فوقه ببيان النبي صلى الله عليه وسلم ، فتكلفوا في الجواب ، وكذلك أصلوا أن لا عبرة بمفهوم الشرط والوصف وخرجوه من صنيعهم في قوله تعالى : ! ( ومن لم يستطع منكم طولا ) ! الآية . ثم ورد عليهم كثير من صنائعهم كقوله صلى الله عليه وسلم ' في الإبل السائمة زكاة ' فتكلفوا في الجواب ، وأصلوا أنه لا يجب العمل بحديث غير الفقه إذا انسد به باب الرأي وخرجوه من صنيعهم في ترك حديث المصراة ثم ورد عليهم حديث القهقهة وحديث عدم فساد الصوم بالأكل ناسيا ، فتكلفوا في الجواب ، وأمثاله ما ذكرنا كثيرة لا تخفى على المتتبع ، ومن لم يتتبع لا تكفيه الإطالة فضلا عن الاشارة ، ويكفيك دليلا على هذا قول المحققين في مسألة لا يجب العمل بحديث من اشتهر بالضبط والعدالة دون الفقه إذا انسد باب الرأي كحديث المصراة أن هذا مذهب عيسى بن إبان ، واختاره كثير من المتأخرين ، وذهب الكرخي وتبعه الكثير من العلماء إلى عدم اشتراط فقه الراوي لتقدم الخبر على القياس ، قالوا : لم ينقل هذا القول عن أصحابنا ، بل المنقول عنهم أن خبر الواحد مقدم على القياس ، ألا ترى أنهم عملوا بخبر أبي هريرة في الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا ، وإن كان مخالفا للقياس حتى قال أبو حنيفة رحمه الله : لولا الرواية لقلت
____________________
(1/339)
بالقياس . ويرشدك أيضا اختلافهم في كثير من التخريجات أخذا من صنائعهم ورد بعضهم على بعض . ومنها أني وجدت أن بعضهم يزعم أن هنالك فرقتين لا ثالث لهما ، أهل الظاهر ، وأهل الرأي ، وأن كل من قاس ، واستنبط فهو من أهل الرأي - كلا والله - بل ليس المراد بالرأي نفس الفهم والعقل ، فإن ذلك لا ينفك من أحد من العلماء ، ولا الرأي الذي لا يعتمد على سنة أصلا ، فانه لا ينتحله مسلم ألبتة ، ولا القدرة على الاستنباط والقياس ، فان أحمد وإسحق بل الشافعي أيضا ليسوا من أهل الرأي بالاتفاق ، وهم يستنبطون ويقيسون ، بل المراد من أهل الرأي قوم توجهوا بعد المسائل المجمع عليها بين المسلمين ، أو بين جمهورهم إلى التخريج على أصل رجل من المتقدمين ، فكان أكثر أمرهم حمل النظير على النظير ، والرد إلى أصل من الأصول دون تتبع الأحاديث والآثار ، والظاهري من لا يقول بالقياس ، ولا بآثار الصاحبة والتابعين كدواد وابن حزم ، وبينهما المحققون من أهل السنة كأحمد وإسحاق ، ولقد أطنبنا الكلام في هذا المقام غاية الاطناب حتى خرجنا من الفن الذي وضعنا فيه هذا الكتاب ، وليس ذلك لي بخلق وديدن ، وإنما كان ذلك بوجهين : أحدهما أن الله تعالى جعل في قلبي وقتا من الأوقات ميزانا أعرف به سبب كل اختلاف وقع في الملة المحمدية على صاحبها الصلاة والسلام ، وما هو الحق عند الله وعند رسوله ، ومكنني من أن أثبت ذلك بالدلائل العقلية والنقلية بحيث لا يبقى فيه شبهة ولا إشكال ، فعزمت على تأليف كتاب أسميه ب ( غاية الانصاف في بيان أسباب الاختلاف ) وأبين فيه هذه المطالب بيانا شافيا ، وأكثر فيه من ذكر الشواهد والأمثال والتفريعات مع المحافظة على الاقتصاد بين الإفراط والتفريط في كل مقام والإحاطة بجوانب الكلام وأصول المقصود والمراد ، ثم لم أتفرغ له إلى هذا الحين .
____________________
(1/340)
فلما انجر الكلام إلى مأخذ الاختلاف ، حملني ما أجد على أن أبين بعض ما تيسر من ذلك . والثاني شغب أهل الزمان واختلافهم وعمههم في بعض ما ذكرنا حتى كادوا يسطون بالذين يتلون عليهم آيات الله ، ! ( وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون ) ! . وليكن هذا آخر ما أردنا إيراده في القسم الأول من كتاب ( حجة الله البالغة . في علم أسرار الحديث ) والحمد لله أولا وآخرا ، وظاهرا وباطنا . ويتلوه إن شاء الله تعالى ( القسم الثاني . في بيان معاني ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم تفصيلا ) . ( القسم الثاني ) ( في بيان أسرار ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم تفصيلا ) والمقصود ههنا ذكر جملة صالحة من الأحاديث المعروفة عند أهلها ، السائرة بين حملة العلم ، المروية في صحيحي البخاري ومسلم وكتابي أبي داود والترمذي ، وقلما أوردت عن غيرها إلا استطرادا ، ولذلك لم أتعرض لنسبة كل حديث لمخرجه ، وربما ذكرت حاصل المعنى أو طائفة من الحديث ، فإن هذه الكتب تتيسر مراجعتها وتتبعها على الطالب . ( من أبواب الإيمان ) أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان مبعوثا إلى الخلق بعثا عاما ، ليغلب دينه على الأديان كلها بعز عزيز ، أو ذل ذليل - حصل في دينه أنواع من الناس ، فوجب التمييز بين الذين يدينون بدين الإسلام ، وبين غيرهم ، ثم بين الذين اهتدوا بالهداية التي بعث بها ، وبين غيرهم ممن لم تدخل بشاشة الإيمان قلوبهم ، فجعل الإيمان على ضربين :
____________________
(1/341)
أحدهما الإيمان الذي يدور عليه أحكام الدنيا من عصمة الدماء والأموال وضبطه بأمور ظاهرة في الانقياد وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' من صلى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا ، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله ، فلا تحفروا الله في ذمته ' وقوله صلى الله عليه وسلم : قلت من أصل الإيمان الكف عمن قال لا إله إلا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل ' الحديث . وثانيهما الإيمان الذي يدور عليه أحكام الآخرة من النجاة والفوز بالدرجات ، وهو متناول لكل اعتقاد حق ، وعمل مرضي ، وملكة فاضلة ، وهو يزيد وينقص ، وسنة الشارع أن يسمى كل شيء منها إيمانا ليكون تنبيها بليغا على جزئيته ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ' الحديث ، وله شعب كثيرة ، ومثله كمثل الشجرة يقال للدوحة والأغصان والأوراق والثمار والأزهار جميعا : إنها شجرة ، فإذا قطع أغصانها ، وخبط أوراقها ، وخرف ثمارها قيل : شجرة ناقصة ، فإذا قلعت الدوحة بطل الأصل وهو قوله تعالى : ! ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) ! الآية .
____________________
(1/342)
ولما لم يكن جميع تلك الأشياء على حد واحد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم على مرتبتين . منها الأركان التي هي عمدة أجزائها وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان ' . ومنها سائر الشعب وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان ' . ويسمى مقابل الإيمان الأول بالكفر ، وأما مقابل الإيمان الثاني فإن كان تفويتا للتصديق ، وإنما يكون الانقياد بغلبة السيف - فهو النفاق الأصلي ، والمنافق بهذا المعنى لا فرق بينه وبين الكافر في الآخرة بل المنافقون - في الدرك الأسفل من النار . . ، وإن كان مصدقا مفوتا لوظيفة الجوارح سمي فاسقا . . ، أو مفوتا لوظيفة الجنان ، فهو المنافق بنفاق آخر ، وقد سماه بعض السلف نفاق العمل ، وذلك أن يغلب عليه حجاب الطبع أو الرسم أو سوء المعرفة ، فيكون ممعنا في محبة الدنيا والعشائر والأولاد ، فيدب في قلبه استبعاد المجازاة والاجتراء على المعاصي من حيث لا يدري وإن كان معترفا بالنظر البرهاني بما ينبغي الاعتراف به ، أو رأى الشدائد في الإسلام ، فكرهه ، أو أحب الكفار بأعيانهم ، فصد ذلك من إعلاء كلمة الله . وللإيمان معنيان آخران : أحدهما تصديق الجنان بما لا بد من تصديقه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في جواب جبريل : ' الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ' الحديث ،
____________________
(1/343)
والثاني السكينة والهيئة الوجدانية التي تحصل للمقربين ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' الطهور شطر الإيمان ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا زنى العبد خرج منه الإيمان ، فكان فوق رأسه كالظلة ، فإذا خرج من ذلك العمل رجع إليه الإيمان ' وقول معاذ رضي الله عنه : ' تعال نؤمن ساعة ' . فللإيمان أربعة معان مستعملة في الشرع إن حملت كل حديث من الأحاديث المتعارضة في الباب على محمله اندفعت عنك الشكوك والشبهات ، والإسلام أوضح من الإيمان في المعنى الأول ولذلك قال الله تعالى : ! ( قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) ! . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد : ' أو مسلما ' ، والإحسان أوضح منه في المعنى الرابع . ولما كان نفاق العمل وما يقابله من الإخلاص أمرا خفيا وجب بيان علامات كل واحد منهما ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ، إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في
____________________
(1/344)
النار ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا رأيتم العبد يلازم المسجد فاشهدوا له بالإيمان ' وكذا قوله عليه السلام : ' حب على آية الإيمان ، وبغض على آية النفاق ' والفقه فيه أنه رضي الله عنه كان شديدا في أمر الله ، فلا يحتمل شدته إلا من ركدت طبيعته ، وغلب عقله على هواه ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ' حب الأنصار آية الإيمان ' والفقه فيه أن العرب المعدية واليمينة ما زالوا يتنازعون بينهم حتى جمعهم الإيمان ، فمن كان جامع الهمة على إعلاء الكلمة زال عنه الحقد ، ومن لم يكن جامعا بقي فيه النزاع ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ' بني الإسلام على خمس ' وحديث ضمام ابن ثعلبة ، وحديث أعرابي قال - دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة - إن هذه الأشياء الخمسة أركان الإسلام ، وأن من فعلها ولم يفعل غيرها من الطاعات قد خلص رقبته من العذاب ، واستوجب الجنة ، كما بين أن أدنى الصلاة ماذا ، وأدنى الوضوء ماذا - وإنما خص الخمسة بالركنية لأنها أشهر عبادات البشر ، وليست ملة من الملل إلا قد أخذت بها ، والتزمتها كاليهود والنصارى والمجوس وبقية العرب على اختلافهم في أوضاع أدائها ، ولأن فيها ما يكفي عن غيرها ، وليس في غيرها ما يكفي عنها ، وذلك لأن أصل أصول البر التوحيد وتصديق النبي والتسليم للشرائع الإلهية ، ولما كانت البعثة عامة ، وكان الناس يدخلون في دين الله أفواجا لم يكن بد من علامة ظاهرة بها يميز بين الموافق والمخالف ، وعليها يدار حكم الإسلام ، وبها يؤاخذ الناس ، ولولا ذلك لم يفرق بينهما طول الممارسة إلا تفريقا ظنيا معتمدا على قرائن ولا ختلف الناس في الحكم بالإسلام ، وفي ذلك اختلال كثير من الأحكام كما لا يخفى ، وليس شيء كالإقرار طوعا ورغبة كاشفا عن حقيقة ما في القلب من الاعتقاد والتصديق . ولما ذكرنا من قبل من أن مدار السعادة النوعية ، وملاك النجاة الأخروية هي الأخلاق الأربعة ، فجعلت الصلاة المقرونة بالطهارة سبحا ومظنة لخلقي
____________________
(1/345)
الاخبات ، والنظافة ، وجعلت الزكاة المقرونة بشروطها المصروفة إلى مصارفها مظنة للسماحة والعدالة . ولما ذكرنا أنه لا بد من طاعة قاهرة على النفس ، ليدفع بها الحجب الطبيعية ، ولا شيء في ذلك كالصوم . ولما ذكرنا أيضا من أن أصل أصول الشرائع هو تعظيم شعائر الله وهي أربعة ، منها الكعبة ، وتعظيمها الحج - وقد ذكرنا فيما سبق من فوائد هذه الطاعات ما يعلم به أنها تكفي عن غيرها وأن غيرها لا يكفي عنها . والآثام باعتبار الملة على قسمين صغائر وكبائر والكبائر مالا يصدر إلا بغاشية عظيمة من البهيمة أو السبعية أو الشيطنة وفيه انسداد سبيل الحق ، وهتك حرمة شعائر الله أو مخالفة الارتفاقات الضرورية ، والضرر العظيم بالناس ، ويكون مع ذلك منابذا للشرع لأن الشرع نهى عنه أشد نهي ، وغلظ التهديد على فاعله ، وجعله كأنه خروج من الملة . والصغائر ما كان دون ذلك من دواعي الشر ومفضيات إليه ، وقد ظهر نهي الشرع عنه حتما ، ولكن لم يغلظ فيه ذلك التغليظ . والحق أن الكبائر ليست محصورة في عدد ، وأنها تعرف بإيعاد النار في الكتاب والسنة الصحيحة وشرع الحد عليه ، وتسميته كبيرة ، وجعله خروجا عن الدين ، وكون الشيء أكثر مفسدة مما نص النبي صلى الله عليه وسلم على كونه كبيرة أو مثلها في المفسدة . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ' الحديث معناه أن هذه الأفعال لا تصدر إلا بغاشية عظيمة من البهيمية أو السبعية ، فتصير حينئذ الملكية كأن لم تكن والإيمان كأنه زائل - دل بذلك على كونها كبائر .
____________________
(1/346)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ' والذي نفس محمد بيده لا يسمع به أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ' . أقول : يعني من بلغته الدعوة ، ثم أصر على الكفر حتى مات دخل النار ، لأنه ناقض تدبير الله تعالى لعباده ، ومكن من نفسه لعنة الله والملائكة المقربين ، وأخطأ الطريق الكاسب للنجاة . وقال صلى الله عليه وسلم : ' لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ' وقال : ' حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ' . أقول : كمال الإيمان أن يغلب العقل على الطبع بحيث يكون مقتضى الطبع بادي الأمر - وكذلك الحال في حب الرسول - ولعمري هذا مشهود في الكاملين . قيل يا رسول الله : قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك - وفي رواية - غيرك ، قال : ' قل آمنت بالله ثم استقم ' أقول : معناه أن يحضر الإنسان بين عينيه حالة الانقياد والإسلام ثم يعمل ما يناسبه ، ويترك ما يخالفه ، وهذا قول كلي يصير به الإنسان على بصيرة من الشرائع ' وإن لم يكن نفضيلا ، فلا يخلو من علم إجمالي يجعل الإنسان سابقا . وقال صلى الله عليه وسلم : ' ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' وإن زنى وإن سرق ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' على ما كان من عمل ' أقول معناه حرمه الله على النار الشديدة المؤبدة التي أعدها للكافرين وإن عمل الكبائر .
____________________
(1/347)
والنكتة في سوق الكلام هذا السياق ، أن مراتب الأثم بينها تفاوت بين ، وإن كان يجمعها كلها اسم الأثم ، فالكبائر إذا قيست بالكفر لم يكن لها قدر محسوس ، ولا تأثير يعتد به ، ولا سببية لدخول النار تسمى سببية وكذلك الصغائر بالنسبة إلى الكبائر ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم الفرق بينها على آكد وجه بمنزلة الصحة والسقم ، فإن الأعراض البادية كالزكام والنصب إذا قيست إلى سوء المزاج المتمكن كالجذام والسل والاستسقاء يحكم عليها بأنها صحة وأن صاحبها ليس بمريض وأن ليس به قلبة - ورب داهية تنسي داهية - كمن أصابه شوكة ثم وتر أهله وماله ، قال : لم يكن بي مصيبة قبل أصلا . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' إن إبليس يضع عرشه على الماء ، ثم يبعث سراياه يفتنون الناس ' الحديث اعلم أن الله تعالى خلق الشياطين وجبلهم على الاغواء بمنزلة الدود التي تفعل أفعالا بمقتضى مزاجها - كالجعل يده هده الحرأة - وأن لهم رئيسا يضع عرشه على الماء ، ويدعوهم لتكميل ما هم قبله قد استوجب أتم الشقاوة وأوفر الضلال ، وهذه سنة الله في كل نوع وفي كل صنف وليس في هذا مجاز ، وقد تحققت من ذلك ما يكون بمنزلة الرؤية بالعين . قوله صلى الله عليه وسلم : ' الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة '
____________________
(1/348)
وقوله صلى الله عليه وسلم : ' إن الشيطان قد أيس من أن يعبده المسلمون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم ' . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' ذاك صريح الإيمان ' . اعلم أن تأثير وسوسة الشياطين يكون مختلفا بحسب استعداد الموسوس إليه ، فأعظم تأثيره الكفر والخروج من الملة ، فإذا عصم الله من ذلك بقوة اليقين انقلب تأثيره في صورة أخرى ، وهي المقاتلات وفساد تدبير المنزل والتحريش بين أهل البيت وأهل المدينة ، ثم إذا عصم الله من ذلك أيضا صار خاطرا يجيء ، ويذهب ، ولا يبعث النفس إلى عمل لضعف أثره - وهذا لا يضر ، بل إذا اقترن باعتقاد قبح ذلك كان دليلا على صراحة الإيمان ، نعم أصحاب النفوس القدسية لا يجدون شيئا من ذلك ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير ' وإنما مثل هذه التأثيرات مثل شعاع الشمس يؤثر في الحديد والأجسام الصقيلة ما لا يؤثر في غيرها ، ثم وثم . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' إن للشيطان لمة وللملك لمة ' الحديث الحاصل أن صورة تأثير الملائكة في نشأة الخواطر الأنس والرغبة في الخير وتأثير الشياطين فيها الوحشة وقلق الخاطر والرغبة في الشر . قوله صلى الله عليه وسلم : ' من وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت
____________________
(1/349)
بالله ورسوله ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ' فليستعذ بالله وليتفل عن يساره ' سره أن الالتجاء إلى الله وتذكره وتقبيح حال الشياطين وإهانة أمرهم يصرف وجه النفس عنهم ، ويصد عن قبول أثرهم ، وهو قوله تعالى : ! ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) ! . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' احتج آدم وموسى عند ربهما ' . أقول معنى قوله : عند ربهما ' أن روح موسى عليه السلام انجذبت إلى حظيرة القدس ، فوافت هنالك آدم . وبطن هذه الواقعة وسرها أن الله فتح على موسى علما على لسان آدم عليهما السلام شبه ما يرى النائم في منامه ملكا أو رجلا من الصالحين يسأله ، ويراجعه الكلام حتى يفيء عنه بعلم لم يكن عنده . وههنا علم دقيق كان قد خفي على موسى عليه السلام حتى كشفه الله عليه في هذه الواقعة . وهو أنه اجتمع في قصة آدم عليه السلام وجهان . أحدهما مما يلي خويصة نفس آدم عليه السلام ، وهو أنه كان ما لم يأكل الشجرة لا يظمأ ولا يضحى ، ولا يجوع ولا يعرى - وكان بمنزلة الملائكة فلما أكل غلبت البهيمية ، وكمنت الملكية ، فلا جرم أن أكل الشجرة إثم يجب الاستغفار عنه . وثانيهما مما يلي التدبير الكلي الذي قصده الله تعالى في خلق العالم
____________________
(1/350)
وأوحاه إلى الملائكة قبل أن يخلق آدم وهو أن الله تعالى أراد بخلقه أن يكون نوع الإنسان خليفة في الأرض يذنب ، ويستغفر ، فيغفر له ، ويتحقق فيهم التكليف وبعث الرسل والثواب والعذاب ومراتب الكمال والضلال ، وهذه نشأة عظيمة على حدتها ، وكان أكل الشجرة حسب مراد الحق ووفق حكمته ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم آخرين يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم ' وكان آدم أول ما غلبت عليه بهيميته استتر عليه العلم الثاني ، وأحاط به الوجه الأول ، وعوتب عتابا شديدا في نفسه ، ثم سرى عنه ، ولمع عليه بارق من العلم الثاني ، ثم لما انتقل إلى حظيرة القدس علم الحال أصرح ما يكون ، وكان موسى عليه السلام يظن ما كان يظن آدم عليه السلام حتى فتح الله عليه العلم الثاني ، وقد ذكرنا أن الوقائع الخارجية يكون لها تعبير كتعبير المنام وأن الأمر والنهي لا يكونان جزافا ، بل لهما استعداد يوجبهما . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' كل مولود يولد على الفطرة ، ثم أبواه يهودانه ، و ينصرانه ، ويمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ' . أقول اعلم أن الله تعالى أجرى سنته بأن يخلق كل نوع من الحيوانات والنباتات وغيرهما على شكل خاص به ، فخص الإنسان مثلا بكونه بادي البشرة مستوي القامة عريض الأظفار ناطقا ضاحكا ، وبتلك الخواص يعرف أنه إنسان اللهم إلا أن تخرق العادة فرد نادر كما ترى أن بعض المولودات يكون له خرطوم أو حافر فكذلك أجرى سنته أن يخلق في كل نوع قسطا من العلم والإدراك محدودا بحد مخصوصا به لا يوجد في غيره مطردا في أفراده ، فخص النحل بإدراك
____________________
(1/351)
الأشجار المناسبة لها ، ثم اتخاذ الأكنان وجمع العسل فيها ، فلن ترى فردا من أفراد النحل إلا وهو يدرك ذلك ، وخص الحمام بأنه كيف يهدر وكيف يعشش وكيف يزق فراخه ، وكذلك خص الله تعالى الإنسان بإدراك زائد وعقل مستوفي ، ودس فيه معرفة بارئه والعبادة له وأنواع ما يرتفقون به في معاشهم وهو الفطرة ، فلو أنهم لم يمنعهم مانع لكبروا عليها ، لكنه قد تعترض العوارض كاضلال الأبوين ، فينقلب العلم جهلا كمثل الرهبان يتمسكون بأنواع الحيل ، فيقطعون شهوة النساء والجوع مع أنهما مدسوسان في فطرة الإنسان . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم - وقوله صلى الله عليه وسلم - هم من آبائهم ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' الله أعلم بما كانوا عاملين ' وقوله صلى الله عليه وسلم في منامه الطويل : ' نسم ذرية بني آدم تكون عند إبراهيم عليه السلام ' . * اعلم أن الأكثر أن يولد الولد على الفطرة كما مر ، لكن قد يخلق بحيث يستوجب اللعن بلا عمل كالذي قتله الخضر طبع كافرا ، وأما من آبائهم فمحمول على أحكام الدنيا ، وليس أن التوقف في النواميس إنما يكون لعدم العلم ، بل قد يكون لعدم انضباط الأحكام بمظنة ظاهرة أو لعدم الحاجة إلى بيانه أو غموض فيه بحيث لا يفهمه المخاطبون . قوله صلى الله عليه وسلم : ' بيده الميزان أن يخفض ويرفع ' أقول : هذا إشارة إلى التدبير ، فإن مبناه على اختيار الأوفق بالمصلحة ، فما من حادثة يجتمع فيها أسباب متنازعة إلا ويقضي الله في ذلك ما هو عدل ، وهو قوله تعالى ! ( كل يوم هو في شأن ) ! . قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من
____________________
(1/352)
من أصابع الرحمن ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' مثل القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهرا لبطن ' أقول : أفعال العباد اختيارية ، لكن لا اختيار لهم في ذلك الاختيار ، وإنما مثله كمثل رجل أراد أن يرمي حجرا ، فلو أنه كان قادرا حكيما خلق في الحجر اختيار الحركة أيضا ، ولا يرد عليه أن الأفعال إذا كانت مخلوقة لله تعالى ، وكذلك الاختيار ففيم الجزاء ، لأن معنى الجزاء يرجع إلى ترتب بعض أفعال الله تعالى على البعض ، بمعنى أن الله تعالى خلق هذه الحالة في العبد فاقتضى ذلك في حكمته أن يخلق فيه حالة أخرى من النعمة أو الألم كما أنه يخلق في الماء حرارة ، فيقتضي ذلك أن يكسوه صورة الهواء ، وإنما يشترط وجود الاختيار وكسب العبد في الجزاء بالعرض لا بالذات ، وذلك لأن النفس الناطقة لا تقبل لون الأعمال التي لا تستند إليها ، بل إلى غيرها من جهة الكسب ، ولا الأعمال التي لا تستند إلى اختيارها وقصدها ، وليس في حكمة الله أن يجازى العبد بما لم تقبل نفسه الناطقة لونه ، فإذا كان الأمر على ذلك كفى هذا الاختيار غير المستقل في الشرطية إذا كان مصححا لقبول لون العمل ، وهذا الكسب غير المستقل إذا كان مصححا لتخصيص هذا العبد بخلق الحالة المتأخرة فيه دون غيره ، وهذا تحقيق شريف مفهوم من كلام الصحابة والتابعين فاحفظه . قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل ' فلذلك أقول : جف القلم على علم الله ، معناه أنه قدرهم قبل أن يخلقوا ، فكانوا هنالك عراة عن الكمال في حد أنفسهم ، فاستوجبوا أن يبعث إليهم ، وينزل عليهم ، فاهتدى بعض منهم ، وضل آخرون وقدر جميع ذلك مرة واحدة ، لكن كان لما من أنفسهم تقدم على ما لهم يبعث الرسل ، كقوله صلى الله عليه وسلم رواية عن الله تعالى : ' كلكم جائع إلا من أطعمته ، وكلكم ضال إلا من هديته ' أو نقول : هذا إشارة إلى واقعة مثل واقعة إخراج ذرية آدم عليه السلام .
____________________
(1/353)
قوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة ' أقول : فيه إشارة إلى أن بعض الحوادث توجد لئلا ينخرم نظام الأسباب ، فإن لم يكن استهل من إلهام أو بعث تقريب لا بد أن يظهر ذلك قال صلى الله عليه وسلم : ' كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء ' أقول : خلق الله تعالى العرش والماء أول ما خلق ، ثم خلق جميع ما أراد أن يوجد في قوة من قوى العرش يشبه الخيال من قوانا ، وهو المعبر عنه بالذكر على ما بينه الإمام الغزالي - ولا تظنن ذلك مخالفا للسنة - فإنه لم يصح عند أهل المعرفة بالحديث من بيان صورة القلم واللوح على ما يلهج به العامة شيء يعتد به ، والذي يروونه هو من الاسرائيليات وليس من الأحاديث المحمدية ، وذهاب المتأخرين من أهل الحديث إلى مثله نوع من التعمق وليس للمتقدمين في ذلك كلام . وبالجملة فتحققت هنالك صورة هذه السلسلة بتمامها عبر عنه بالكتابة أخذا من إطلاق الكتابة في السياسة المدنية على التعيين والإيجاب ، ومنه قوله تعالى : ! ( كتب عليكم الصيام ) ! . وقوله تعالى : ! ( كتب عليكم إذا حضر ) ! . الآية وقوله صلى الله عليه وسلم : ' إن الله كتب على عبده حظه من
____________________
(1/354)
من الزنا ' الحديث ، وقول الصحابي : كتبت في غزوة كذا ولم يكن هناك ديوان كما ذكره كعب بن مالك ، ونظير ذلك في أشعار العرب كثير جدا ، وذكر - خمسين ألف سنة - يحتمل أن يكون تعيينا ويحتمل أن يكون بيانا لطول المدة . قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن الله خلق آدم ، ثم مسح ظهره بيمينه ' الحديث أقول لما خلق الله آدم ليكون أبا للبشر . التف في وجوده حقائق بنيه ، فأعطاه الله تعالى وقتا من أوقاته ، علم ما تضمنه وجوده بحسب القصد الألهي ، فأراه إياهم رأى عين بصورة مثالية ، ومثل سعادتهم وشقاوتهم بالنور والظلمة ، ومثل ما جبلهم عليه من استعداد التكليف بالسؤال والجواب والالتزام على أنفسهم ، فهم يؤاخذون بأصل استعدادهم ، وتنسب المؤاخذة إلى شبحه في الظاهر . قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه ' الحديث أقول : هذا الانتقال تدريجي غير دفعي ، وكل حد يباين السابق واللاحق ، ويسمى ما لم يتغير من صورة الدم تغيرا فاحشا - نطفة - وما فيه انجماد ضعيف - علقة وما فيه انجماد أشد من ذلك - مضغة وإن كان فيه عظم رخو ، وكما أن النواة إذا ألقيت في الأرض وذلك في وقت معلوم ، وأحاط بها تدبير معلوم علم المطلع على خاصية نوع النخل وخاصية تلك الأرض وذلك الماء وذلك الوقت أنه يحسن نباتها ويتحقق من شأنه على بعض الأمر ، فكذلك يجلي الله على بعض الملائكة حال المولود بحسب الجبلة التي جبل عليها .
____________________
(1/355)
وقوله صلى الله عليه وسلم : ' ما منكم من أحد إلا وقد كتب له مقعده من النار ومقعده من الجنة ' أقول : كل صنف من أصناف النفس له كمال ونقصان ، عذاب وثواب ، ويحتمل أن يكون المعنى إما من الجنة وإما من النار ، وقوله تعالى : ( وإذا أخذ ربك من بني آدم ) . الآية لا يخالف حديث ' ثم مسح ظهره بيمينه واستخرج منه ذريته ' لأن آدم أخذت عنه ذريته ومن ذريته ذريتهم إلى يوم القيامة على الترتيب الذي يوجدون عليه ، فذكر في القرآن بعض القصة وبين الحديث تتمتها ، قوله تعالى : ! ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ) ! . أي من كان متصفا بهذه الصفات في علمنا وقدرنا ( فسنسيره ) لتلك الأعمال في الخارج ، وبهذا التوجيه ينطبق عليه الحديث . قوله تعالى : ! ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ) ! . أقول المراد بالإلهام هنا خلق صورة الفجور في النفس كما سبق في حديث ابن مسعود ، فالإلهام في الأصل خلق الصورة العلمية التي يصير بها عالما ، ثم نقل إلى صورة إجمالية هي مبدأ آثار ، وإن لم يصر بها عالما تجوزا ، والله أعلم .
____________________
(1/356)
( من أبواب الاعتصام بالكتاب والسنة ) قد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم مداخل التحريف بأقسامها . وغلظ النهي عنها ، وأخذ العهود من أمته فيها ، فمن أعظم أسباب التهاون ترك الأخذ بالسنة ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ، ويقتدون بأمره ، ثم إنها تختلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه ' ورغب في الأخذ بالسنة جدا لا سيما عند اختلاف الناس . وفي التشدد قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا تشددوا على أنفسكم ، فيشدد الله عليكم ' ورده على عبد الله بن عمرو والرهط الذين تقالوا عبادة النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا شاق الطاعات . وفي التعمق قوله صلى الله عليه وسلم : ' ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم خشية له ' وقوله صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/357)
: ' ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' أنتم أعلم بأمور دنياكم ' . وفي الخلط قوله صلى الله عليه وسلم لمن أراد الخوض في علم اليهود ' أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصار ؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي ' ، وجعله صلى الله عليه وسلم من أبغض الناس من هو مبتغ في الإسلام سنة الجاهلية . وفي الاستحسان قوله صلى الله عليه وسلم : ' من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ' وضرب الملائكة له صلى الله عليه وسلم مثل رجل بنى دارا ، وجعل فيها مأدبة ، وبعث داعيا أقول هذا إشارة إلى تكليف الناس به وجعله كالأمر المحسوس إكمالا للتعليم . قوله صلى الله عليه وسلم : ' مثلي كمثل رجل استوقد نارا ، الحديث وقوله صلى الله عليه وسلم : ' إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما فقال يا قوم إني رأيت الجيش بعيني ' الحديث
____________________
(1/358)
دليل ظاهر على أن هنالك أعمالا تستوجب في أنفسها عذابا قبل البعثة ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ' مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا الحديث فيه بيان قبول أهل العلم هدايته صلى الله عليه وسلم بأحد وجهين ، الرواية صريحا ، والرواية دلالة بأن استنبطوا ، وأخبروا بالمستنبطات ، أو عملوا بالشرع ، فاهتدى الناس بهديهم ، وعدم قبول أهل الجهل رأسا . قوله صلى الله عليه وسلم في الموعظة البليغة : ' فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ' . أقول انتظام الدين يتوقف على اتباع سنن النبي ، وانتظام السياسة الكبرى يتوقف على الانقياد للخلفاء فيما يأمرونهم بالاجتهاد في باب الارتفاقات وإقامة الجهاد ، وأمثال ذلك ما لم يكن إبداعا لشريعة أو مخالفا لنص . ' خط رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم خطا ثم قال : هذا سبيل الله ، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال : هذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه وقرأ . ! ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ! . أقول الفرقة الناجية هم الآخذون في العقيدة والعمل جميعا بما ظهر من الكتاب والسنة ، وجرى عليه جمهور الصحابة والتابعين وإن اختلفوا فيما
____________________
(1/359)
بينهم فيما لم يشتهر فيه نص ، ولا ظهر من الصحابة اتفاق عليه استدلالا منهم ببعض ما هنالك أو تفسيرا لمجمله . وغير الناجية كل فرقة انتحلت عقيدة خلاف عقيدة السلف أو عملا دون أعمالهم . قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا تجتمع هذه الأمة على الضلالة ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' يبعث الله لهذه الأمة على راس كل أمة سنة من يجدد لها دينها ' وتفسيره في حديث آخر : يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ' . اعلم أن الناس لما اختلفوا في الدين ، وأفسدوا في الأرض قرع ذلك باب جود الحق فبعث محمد صلى الله عليه وسلم وأراد بذلك إقامة الملة العوجاء ، ثم لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم صارت تلك العناية بعينها متوجهة إلى حفظ علمه ورشده فيما بينهم ، فأورثت فيهم إلهامات وتقريبات ، ففي حظيرة القدس داعية لإقامة الهداية فيهم ما لم تقم الساعة ، فوجب لذلك أن يكون فيهم لا محالة أمة قائمة بأمر الله ، وأن لا يجتمعوا على الضلالة بأسرهم ، وأن يحفظ القرآن فيهم ، وأوجب اختلاف استعدادهم أن يلحق بما عندهم مع ذلك شيء من التغير ، فانتظرت العناية لناس مستعدين قضى لهم بالتنويه ، فأورث في قلوبهم الرغبة في العلم ، ونفى تحريف الغالين وهو إشارة إلى التشدد والتعمق ، وانتحال المبطلين وهو إشارة إلى الاستحسان وخلط ملة بملة ، وتأويل الجاهلين وهو إشارة إلى التهاون ، وترك المأمور به بتأويل ضعيف قوله صلى الله عليه وسلم : ' من يرد الله به خير يفقهه في الدين ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' أن العلماء ورثة الأنبياء ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ' وأمثال ذلك ، اعلم أن العناية الإلهية إذا حلت بشخص ، وصيره الله مظنة لتدبير إلهي لا بد أن يصير مرحوما وأن تؤمر الملائكة بمحبته وتعظيمه لحديث محبة جبرائيل
____________________
(1/360)
ووضع القبول في الأرض ، ولما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت العناية الخاصة به بحسب حفظ ملته إلى حملة العلم ورواته ومشيعيه ، فانتج فيهم فوائد لا تحصى قوله صلى الله عليه وسلم : ' نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها كما سمعها ' أقول : سبب هذا الفضل أنه مظنة لحمل الهداية النبوية إلى الخلق . قوله صلى الله عليه وسلم : ' من كذب علي متعمدا ، فليتبوأ مقعده من النار ' قوله صلى الله عليه وسلم : ' يكون في آخر الزمان دجالون كذابون ' . أقول لما كان طريق بلوغ الدين إلى الأعصار المتأخرة إنما هي الرواية ، وإذا دخل الفساد من وجهه الرواية لم يكن له علاج البتة كان الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم كبيرة ، ووجب الاحتياط في الرواية لئلا يروى كذبا . قوله صلى الله عليه وسلم : ' حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ' وقوله صلى الله عليه وسلم ' لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ' أقول : الرواية عن أهل الكتاب تجوز فيما سبيله سبيل الاعتبار ، وحيث يكون الآمن عن الاختلاط في شرائع الدين ، ولا تجوز فيما سوى ذلك ، ، ومما ينبغي أن يعلم أن غالب الإسرائيليات المدسوسة في كتب التفسير ، والأخبار منقولة عن أخبار أهل الكتاب لا ينبغي أن يبنى عليها حكم واعتقاد فتدبر . قوله صلى الله عليه وسلم : ' من تعلم علما مما ينبغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يحد عرف الجنة يوم القيامة ' يعني ريحها أقول يحرم طلب العلم الديني لأجل الدنيا ويحرم تعليم من يرى فيه الغرض الفاسد لوجوه : منها أن مثله لا يخلو غالبا من تحريف الدين لأغراض الدنيا بتأويل ضعيف ، فوجب سد الذريعة ومنها ترك حرمة القرآن والسنن وعدم الاكتراث بها .
____________________
(1/361)
قوله صلى الله عليه وسلم : ' من سئل عن علم علمه ، ثم كتمه ، ألجم يوم القيامة بلجام من نار ' أقول يحرم كتم العلم عند الحاجة إليه لأنه أصل التهاون وسبب نسيان الشرائع ، وأجزية المعاد تبنى على المناسبات فلما كان الإثم كف لسانه عن النطق جوزي بشبح الكف وهو اللجام من نار . قوله صلى الله عليه وسلم : ' العلم ثلاثة آية محكمة ، أو سنة قائمة ، أو فريضة عادلة ، وما كان سوى ذلك فهو فضل ' أقول هذا ضبط وتحديد لما يجب عليهم بالكفاية ، فيجب معرفة القرآن لفظا ، ومعرفة محكمة بالبحث عن شرح غريبه وأسباب نزوله وتوجيه معضله وناسخه ومنسوخه أما المتشابهة فحكمة التوقف أو الإرجاع إلى المحكم والسنة القائمة ما ثبت في العبادات والارتفاقات من الشرائع والسنن مما يشتمل عليه علم الفقه ، والقائمة ما لم ينسخ ، ولم يهجر ، ولم يشذ راويه ، وجرى عليه جمهور الصحابة والتابعين . أعلاها ما اتفق فقهاء المدينة والكوفة عليه ، وآيته أن يتفق على ذلك المذاهب الأربعة ، ثم ما كان فيه قولان لجمهور الصحابة أو ثلاثة ، ذلك كل قد عمل به طائفة من أهل العلم ، وآية ذلك أن تظهر في مثل الموطأ وجامع عبد الرزاق ورواياتهم وما سوى ذلك فإنما هو استنباط بعض الفقهاء دون بعض تفسيرا وتخريجا واستدلالا واستنباطا ، وليس من القائمة والفريضة العادلة الأنصباء للورثة ، ويلحق به أبواب القضاء مما سبيله قطع المنازعة بين المسلمين بالعدل فهذه الثلاثة يحرم خلو البلد عن غالبها لتوقف الدين عليه ، وما سوى ذلك من باب الفضل والزيادة . ونهى صلى الله عليه وسلم عن الأغلوطات ، وهي المسائل التي يقع المسئول عنها في الغلط ويمتحن بها أذهان الناس ، وإنما نهى عنها لوجوه . منها أن فيها إيذاء وإذلالا للمسئول عنه وعجبا وبطرا لنفسه
____________________
(1/362)
ومنها أنها تفتح باب التعمق وإنما الصواب ما كان عند الصحابة والتابعين أن يوقف على ظاهر السنة ، وما هو بمنزلة الظاهر من الإيماء والاقتضاء والفحوى ، وألا يمعن جدا ألا يقتحم في الاجتهاد حتى يضطر إليه ، وتقع الحادثة فإن الله يفتح عند ذلك العلم عناية منه بالناس ، وأما تهيئته من قبل فمظنة الغلظ . قوله صلى الله عليه وسلم : ' من قال في القرآن برأيه ، فليتبوأ مقعده في النار ' - أقول : يحرم الخوض في التفسير لمن لا يعرف اللسان الذي نزل القرآن به والمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين من شرح غريب وسبب نزول وناسخ ومنسوخ . قوله صلى الله عليه وسلم : ' المراء في القرآن كفر ' أقول : يحرم الجدال في القرآن وهو أن يرد الحكم المنصوص بشبهة يجدها في نفسه : قوله صلى الله عليه وسلم : ' إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ' أقول : يحرم التدارؤ بالقرآن ، وهو أن يستدل واحد بآية ، فيرده آخر بآية أخرى طلبا لإثبات مذهب نفسه ، وهدم وضع صاحبه ، أو ذهابا إلى نصرة مذهب بعض الأئمة على مذهب بعض ، ولا يكون جامع الهمة على ظهور الصواب والتدارؤ بالسنة مثل ذلك . قوله صلى الله عليه وسلم : ' لكل آية منها ظهر وبطن ولكل حد مطلع ' أقول أكثر ما في القرآن بيان صفات الله تعالى وآياته ، والأحكام والقصص والاحتجاج على الكفار والموعظة بالجنة والنار - فالظهر - الإحاطة بنفس ما سيق الكلام له والبطن في آيات الصفاء التفكر في آلاء الله والمراقبة ، وفي آيات الأحكام الاستنباط بالإيماء والإشارة والفحوى والاقتضاء كاستنباط علي رضي الله عنه من قوله تعالى : ! ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) ! .
____________________
(1/363)
إن هذه مدة الحمل قد تكون ستة أشهر لقوله : ! ( حولين كاملين ) ! وفي القصص معرفة مناط الثواب والمدح أو العذاب أو الذم ، وفي العظة رقة القلب وظهور الخوف والرجاء وأمثال ذلك ومطلع كل حد الاستعداد الذي به يحصل كمعرفة اللسان والآثار وكلطف الذهن واستقامة الفهم . قوله تعالى : ! ( منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) ! أقول الظاهر أن المحكم ما لم يحتمل إلا وجها واحدا مثل : ! ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم ) ! والمتشابه ما احتمل وجوها ، وإنما المراد بعضها كقوله تعالى : ! ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ) ! حملها الزائغون على إباحة الخمر ما لم يكن بغي أو إفساد في الأرض ، والصحيح حملها على شاربيها قبل التحريم . قوله صلى الله عليه وسلم ' إنما الأعمال بالنيات ' أقول : النية القصد والعزيمة ، والمراد ههنا العلة الغائبة التي يتصورها الإنسان فيبعثه على العمل مثل طلب ثواب من الله أو طلب رضا الله ، والمعنى ليس للأعمال أثر في تهذيب النفس وإصلاح عوجها إلا إذا كانت صادرة من تصور مقصد مما يرجع إلى التهذيب دون العادة وموافقة الناس أو الرياء والسمعة أو قضاء
____________________
(1/364)
جبلة ، كالقتال من الشجاع الذي لا يستطيع الصبر عن القتال ، فلولا مجاهدة الكفار لصرف هذا الخلق في قتال المسلمين ، وهو ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم ' الرجل ويقاتل رياء يقاتل شجاعة فأيها في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ' والفقه في ذلك أن عزيمة القلب روح الأعمال أشباح لها . قوله صلى الله عليه وسلم : ' الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما مشتبهات ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ' أقول قد تتعارض الوجوه في المسألة ، فتكون السنة حينئذ الاستبراء والاحتياط ، فمن التعارض أن تختلف الرواية تصريحا كمس الذكر ، هل ينقض الوضوء ، أثبته البعض ، ونفاه الآخرون ، ولكل واحد حديث يشهد له ، كالنكاح للمحرم سوغه طائفة ، ونفاه آخرون ، واختلفت الرواية . ومنه أن يكون اللفظ المستعمل في هذا الباب غير منضبط المعنى يكون معلوما بالقسمة والمثال ، ولا يكون معلوما بالحد الجامع المانع ، فيخرج ثلاث مواد ، مادة يطلق عليه اللفظ يقينا ، ومادة لا يطلق عليها يقينا ، ومادة لا يدري هل يصح الإطلاق عليها أم لا . ومنه أن يكون الحكم منوطا يقينا بعلة هي مظنة لمقصد يقينا ، ويكون نوع لا يوجد فيه المقصد ، ويوجد فيه العلة كالأمة المشتراة ممن لا يجامع مثله ، هل يجب استبراؤها ؟ فهذه وأمثالها يتأكد الاحتياط فيها . قوله صلى الله عليه وسلم : نزل القرآن على خمسة وجوه ، حلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال . أقول : هذه الوجوه أقسام للكتاب ولو بتقسيمات شتى ، فلا جرك ليس فيه تمانع حقيقي ، فالحكم يكون تارة حلالا وأخرى حراما ، وفي أصول الدين ترك الخوض بالعقل في المتشابهات من
____________________
(1/365)
الآيات والأحاديث ، ومن ذلك أمور كثيرة لا يدري أأريد حقيقة الكلام أم أقرب مجاز إليها ؟ وذلك فيما لم تجمع عليه الأمة ، ولم ترتفع فيه الشبهة والله أعلم . ( من أبواب الطهارة ) اعلم أن الطهارة على ثلاثة أقسام : طهارة من الحدث ، وطهارة من النجاسة المتعلقة بالبدن أو الثوب أو المكان ، وطهارة من الأوساخ النابتة من البدن كشعر العانة والأظافر والدرن . أما الطهارة من الأحداث فمأخوذة من أصول البر ، والعمدة في معرفة الحدث ، وروح الطهارة وجدان أصحاب النفوس التي ظهرت فيها أنوار ملكية ، فأحسست بمنافرتها للحالة التي تسمى حدثا ، وسرورها وانشراحها في الحالة التي تسمى طهارة ، وفي تعيين هيئات الطهارة وموجباتها ما اشتهر في الملل السابقة من اليهود والنصارى والمجوس وبقايا الملل الإسماعيلية ، فكانوا يجعلون الحدث على قسمين ، والطهارة على ضربين - كما ذكرنا من قبل - وكان الغسل من الجنابة سنة سائره في العرب فوزع النبي صلى الله عليه وسلم قسمي الطهارة على نوعي الحدث ، فجعل الطهارة الكبرى بأزاء الحديث الأكبر لأنه أقل وقوعا وأكثر لوثا وأحوج إلى تنبيه النفس بعمل شاق ، قلما يفعل ، مثله ، والطهارة الصغرى بأزاء الحدث الأصغر لأنه أكثر وقوعا وأقل لوثا ويكفيه التنبيه في الجملة ، والأمور التي فيها معنى الحديث كثيرة جدا يعرفها أهل الاذواق السليمة . . . لكن الذي يصلح أن يخاطب به الناس كافة ما هو منضبط بأمور محسوسة ظاهرة الأثر في النفس لتمكن المؤاخذة به جهرة ، فلذلك تعين ألا يدار الحكم على اشتغال النفس بما يختلج في المعدة ، ولكن يدار على خروج شيء من السبيلين فإن الأول غير مضبوط المقدار وإذا تمكن لا يعرفه الوضوء من خارج ، والثاني معلوم بالحس ، وأيضا فلمعنى انقباض النفس فيه شبح محسوس وخليقه ظاهرة وهي التلطخ بالنجاسة ،
____________________
(1/366)
وأيضا إنما يؤثر الوضوء عند زوال اشتغال النفس وذلك بالخروج ، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ' لا يصل أحدكم وهو يدافع الأخبثين . ' أن نفس الاشتغال فيه معنى من معاني الحدث . والأمور التي فيها معنى الطهارة كثيرة كالتطيب والأذكار المذكرة لهذه الخلة كقوله صلى الله عليه وسلم : ' اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ' وقوله : ' اللهم نقني من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس ' والحلول بالمواضع المتبركة ونحو ذلك ، لكن الذي يصلح أن يخاطب به جماهير الناس ما يكون منضبطا متيسرا لهم كل حين وكل مكان . والذي يحس أثره بادي الرأي ، والذي جرى عليه طوائف الأمم . وأصل الوضوء غسل الأطراف ، فضبط الوجه واليدين - إلى المرفقين - لأن دون ذلك لا يحس أثره ، والرجلين - إلى الكعبين - لأن دون ذلك ليس بعضو تام ، وجعل وظيفه الرأس المسح لأن غسله نوع من الحرج . وأصل الغسل نعميم البدن بالغسل . وأصل موجب الوضوء الخارج من السبيلين وما سوى ذلك محمول عليه وأصل موجب الغسل الجماع والحيض ، وكأن هذين الأمرين كانا مسلمين في العرب قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما القسمان الآخران من الطهارة فمأخوذان من الارتفاقات فإنهما من مقتضى أصل طبيعة الإنسان لا ينفك عنهما قوم ولا ملة ، والشارع اعتمد في ذلك على ما عند العرب القح من الرفاهية المتوسطة كما اعتمد عليه في سائر ما ضبط من الارتفاقات فلم يزد النبي صلى الله عليه وسلم على تعيين الآداب وتمييز المشكل وتقدير المبهم .
____________________
(1/367)
( فصل في الوضوء ) قال النبي صلى الله عليه وسلم : ' الطهور شطر الإيمان ' . أقول : المراد بالإيمان ههنا هيأة نفسانية مركبة من نور الطهارة والإخبات ، والإحسان أوضح منه في هذا المعنى ، ولا شك أن الطهور شطره . قوله صلى الله عليه وسلم : ' من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من أظفاره ' أقول : النظافة المؤثرة في جذر النفس ، تقدس النفس ، وتلحقها بالملائكة ، وتنسى كثيرا من الحالات الدنسية فجعلت خاصيتها خاصية للوضوء الذي هو شبحها ومظنتها وعنوانها . قوله صلى الله عليه وسلم . ' إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء ، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء ' أقول لما كان شبح الطهارة ما يتعلق بالأعضاء الخمسة تمثل تنعم النفس بها حلية لتلك الأعضاء وغرة وتحجلا كما يتمثل الجبن وبرا والشجاعة أسدا . قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ' أقول : لما كانت المحافظة عليه شاقة لا تتأتى إلا ممن كان على بصيرة من أمر الطهارة موقنا بنفعها الجسيم جعلت علامة الإيمان
____________________
(1/368)
( صفة الوضوء ) صفة الوضوء على ما ذكره عثمان وعلي وعبد الله بن زيد وغيرهم رضى الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بل تواتر عنه صلى الله عليه وسلم وتطابق عليه الأمة أن يغسل يديه قبل إدخالهما الإناء ، ويتمضمض ، ويستنثر ، ويستنشق ، فيغسل وجهه فذراعيه إلى المرفقين ، فيمسح برأسه ، فيغسل رجليه إلى الكعبين ، ولا عبرة بقوم تجارت بهم الأهواء ، فانكروا غسل الرجلين متمسكين بظاهر الآية ، فانه لا فرق عندي بين من قال بهذا القول وبين من انكر غزوة بدر أو أحد مما هو كالشمس في رابعة النهار ، نعم من قال بأن الاحتياط الجمع بين الغسل والمسح أو أن أدنى الفرض المسح ، وإن كان الغسل مما يلام أشد الملامة على تركه فذلك أمر يمكن أن يتوقف فيه العلماء حتى تنكشف فيه جلية الحال ، ولم أجد في رواية صحيحة تصريحا بأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بغير مضمضة واستنشاق وترتيب ، فهى متأكدة في الوضوء غاية الوكادة ، وهما طهارتان مستقلتان من خصال الفطرة ضمتا مع الوضوء ليكون ذلك توقيتا لهما ، ولإنهما من باب تعهد المغابن ، والوصل بينهما أصح من الفصل . واداب الوضوء ترجع إلى معان ( منها ) : تعهد المغابن التى لا يصل إليها الماء إلا بعناية كالمضمضة والاستنشاق وتخليل أصابع اليدين والرجلين واللحية وتحريك الخاتم . ومنها إكمال التنظيف كتثليث الغسل وكالاسباغ - وهو إطالة الغرة - والتحجيل والإنقاء - وهو الدلك - ومسح الأذنين مع الرأس والوضوء على الوضوء .
____________________
(1/369)
ومنها موافقة عاداتهم في الأمور المهمة كالبداءة بالإيمان ، فإن اليمين أقوى وأولى ، فكان أحق بالبداءة فيما كان بهما ، واختصاصه بالطيبات ، والمحاسن دون أضدادها فيما كان بأحداهما ومنها ضبط فعل القلب بألفاظ صريحة في المراد ، وضم الذكر اللساني مع القلب . قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا وضوء لمن لم يذكر الله ' . أقول . هذا الحديث لم يجمع أهل المعرفة بالحديث على تصحيحه وعلى تقدير صحته ، فهو من المواضع التي اختلف فيها طريق التلقي من النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد استمر المسلمون يحكون وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ، ويعلمون الناس ، ولا يذكرون التسمية حتى ظهر زمان أهل الحديث ، وهو نص على أن التسمية ركن أو شرط ، ويمكن أن يجمع بين الوجهين بأن المراد هو التذكر بالقلب ، فإن العبادات لا تقبل إلا بالنية ، وحينئذ يكون صيغة لا وضوء على ظاهرها ، نعم التسمية أدب كسائر الآداب لقوله صلى الله عليه وسلم : ' كل أمر ذي بال لم يبدأ باسم الله فهو أبتر ، وقياسا على مواضع كثيرة ، ويحتمل أن يكون المعنى لا يكمل الوضوء لكن لا أرتضي مثل التأويل ، فإنه من التأويل البعيد الذي يعود بالمخالفة على اللفظ . قوله صلى الله عليه وسلم : ' فإنه لا يدري أين باتت يده ' . أقول : معناه أن بعد العهد بالتطهر والغفلة عنهما مليا مظنة لوصول النجاسة والأوساخ إليهما ، مما يكون إدخال الماء معه تنجيسا له أو تكديرا وشناعة ، وهو علة النهي عن النفخ في الشراب . قوله صلى الله عليه وسلم : ' فان الشيطان يبيت على خيشومه ' أقول : معناه أن اجتماع المخاط والمواد الغليظة في الخيشوم سبب لتبلد الذهن وفساد الفكر ، فيكون أمكن لتأثير الشيطان بالوسوسة وصده عن تدبر الاذكار :
____________________
(1/370)
قوله صلى الله عليه وسلم : ' ما منكم من أحد يتوضأ ، فيبلغ الوضوء ، ثم يقول : أشهد الخ - وفي رواية - اللهم اجعلني من التوابين ، واجعلني من المتطهرين فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها يشاء ' . أقول : روح الطهارة لا يتم إلا بتوجه النفس إلى عالم الغيب واستفراغ الجهد في طلبها ، فضبط لذلك ذكرا ورتب عليه ما هو فائدة الطهارة الداخلة في جذر النفس . قوله صلى الله عليه وسلم : ' لمن لم يستوعب : ' ويل للأعقاب من النار ' أقول : السر فيه أن الله تعالى لما أوجب غسل هذه الأعضاء ، اقتضى ذلك أن يحقق معناه ، فإذا غسل بعض العضو ، ولم يستوعب كله لا يصح أن يقال : غسل العضو ، وأيضا فيه سد باب التهاون وإنما تخللت النار في الأعقاب لأن تراكم الحدث والإصرار على عدم إزالته خصلة موجبة للنار ، والطهارة موجبه للنجاة منها وتكفير الخطايا ، فإذا لم يحقق معنى الطهارة في عضو ، وخالف حكم الله فيه كان ذلك سبب أن يظهر تألم النفس بالخصلة الموجبة لفساد النفس من قبل هذا العضو ، والله أعلم . ( موجبات الوضوء ) قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ : وقوله صلى الله عليه وسلم : ' لا تقبل صلاة بغير طهور ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' مفتاح الصلاة الطهور ' ، أقول : كل ذلك تصريح باشتراط الطهارة ، والطهارة طاعة مستقلة وقتت بالصلاة لتوقف فائدة كل واحدة منهما على الأخرى ، وفيه تعظيم أمر الصلاة التي هي من شعائر الله . وموجبات الوضوء في شريعتنا على ثلاث درجات : ( إحداها ) . ما اجتمع عليه جمهور الصحابة ، وتطابق فيه الرواية ، والعمل الشائع وهو البول الغائط والريح والمذي والنوم الثقيل وما في معناها .
____________________
(1/371)
قوله صلى الله عليه وسلم : ' وكاء السه العينان ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' فانه إذا اضطجع استرخت مفاصله . أقول : معناه أن النوم الثقيل مظنة لاسترخاء الأعضاء وخروج الحدث ، وأرى أن مع ذلك له سبب آخر ، هو أن النوم يبلد النفس ، ويفعل فعل الأحداث . قوله صلى الله عليه وسلم في المذي : ' يغسل ذكره ، ويتوضأ ' . أقول . لا شك أن المذي الحاصل من الملاعبة قضاء شهوة دون شهوة الجماع ، فكان من حقه أن يستوجب طهارة دون الطهارة الكبرى . قوله صلى الله عليه وسلم في الشاك : ' لا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ' . أقول : معناه حتى يستيقن لما أدير الحكم على الخارج من السبيلين كان ذلك مقتضيا أن يميز بين ما هو في الحقيقة وبين ما هو مشتبه به وليس هو ، والمقصود نفي التعمق . والثانية ما اختلف فيه السلف من فقهاء الصحابة والتابعين وتعارض فيه الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم كمس الذكر لقوله صلى الله عليه وسلم ' من مس ذكره فليتوضأ ' قال به ابن عمر وسالم وعروة وغيرهم ، ورده علي وابن مسعود وفقهاء الكوفة ولهم قوله صلى الله عليه وسلم ' هل هو إلا بضعة منه ' ، ولم يجئ الثلج بكون أحدهما منسوخا . ولمس المرأة قال به عمر وابن عمر وابن مسعود وإبراهيم لقوله تعالى ( أو لا مستم النساء ) .
____________________
(1/372)
ولا يشهد له حديث بل يشهد حديث عائشة بخلافه لكن فيه نظر لأن في إسناده انقطاعا ، وعندي أن مثل هذه العلة إنما تعتبر في مثل ترجيح أحد الحديثين على الآخر ، ولا تعتبر في ترك حديث من غير تعارض والله أعلم . وكان عمر وابن مسعود لا يريان التيمم عن الجنابة فتعين حمل الآية عندهما على اللمس لكن صح التيمم عنها عن عمران وعمار وعمرو بن العاص ، وانعقد عليه الإجماع ، وكان ابن عمر يذهب إلى الاحتياط ، وكان إبراهيم يقلد ابن مسعود حتى وضع على أبي حنيفة حال الدليل الذي تمسك به ابن مسعود ، فترك قوله مع شدة اتباعه مذهب إبراهيم ، وبالجملة فجاء الفقهاء من بعدهم في هذين على ثلاث طبقات آخذ به على ظاهره ، وتارك له رأسا ، وفارق بين الشهوة وغيرها . وقال إبراهيم بالوضوء من الدم السائل والقيء الكثير ، والحسن بالوضوء من القهقهة في الصلاة ، ولم يقل بذلك آخرون ، وفي كل ذلك حديث لم يجمع أهل المعرفة بالحديث على تصحيحه ، والأصح في هذه أن من احتاط فقد - استبرأ لدينه وعرضه - ومن لا فلا سبيل عليه في صراح الشريعة . ولا شبهة أن لمس المرأة مهيج للشهوة مظنة لقضاء شهوة دون شهوة الجماع وأن مس الذكر فعل شنيع ، ولذلك جاء النهي عن مس الذكر بيمينه في الاستنجاء ، فإذا كان قبضا عليه كان من أفعال الشياطين لا محالة ، والدم السائل والقيء الكثير ملوثا للبدن ومبلدان للنفس ، والقهقهة في الصلاة
____________________
(1/373)
خطيئة تحتاج إلى كفارة ، فلا عجب أن يأمر الشارع بالوضوء من هذه ، ولا عجب ألا يأمر ، ولا عجب أن يرغب فيه من غير عزيمة . والثالثة ما وجد فيه شبهة من لفظ الحديث وقد أجمع الفقهاء من الصحابة والتابعين على تركه كالوضوء مما مسته النار فإنه ظهر عمل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء وابن عباس وأبي طلحة وغيرهم بخلافه ، وبين جابر أنه منسوخ ، وكان السبب في الوضوء منه أنه ارتفاق كامل لا يفعل مثله الملائكة ، فيكون سببا لانقطاع مشابهتهم ، وأيضا فان ما يطبخ بالنار يذكر نار جهنم ، ولذلك نهى عن الكي إلا لضرورة فلذلك لا ينبغي للإنسان أن يشغل قلبه به . أما لحم الإبل - فالأمر فيه أشد - لم يقل به أحد من فقهاء الصحابة والتابعين ولا سبيل إلى الحكم بنسخه ، فلذلك لم يقل به من يغلب عليه التخريج ، وقال به أحمد واسحق ، وعندي أنه ينبغي أن يحتاط فيه الإنسان والله أعلم . والسر في إيجاب الوضوء من لحوم الإبل على قول من قال به أنها كانت محرمة في التوراة ، واتفق جمهور أنبياء بني إسرائيل على تحريمها ، فلما أباحها الله لنا شرع الوضوء منها لمعنيين ، أحدهما أن يكون الوضوء شكرا لما أنعم الله علينا من إباحتها بعد تحريمها على من قبلنا ، وثانيها أن يكون الوضوء علاجا لما عسى أن يختلج في بعض الصدور من إباحتها بعد ما حرمها الأنبياء من بني إسرائيل ، فإن النقل من التحريم إلا كونه مباحا يجب منه الوضوء أقرب لاطمئنان نفوسهم ، وعندي أنه كان في أول الإسلام ثم نسخ .
____________________
(1/374)
( المسح على الخفين ) لما كان مبنى الوضوء على غسل الأعضاء الظاهرة التي تسرع إليها الأوساخ ، وكانت الرجلان تدخلان عند لبس الخفين في الأعضاء الباطنة ، وكان لبسهما عادة متعارفة عندهم ، ولا يخلو الأمر بخلعهما عند كل صلاة من حرج سقط غسلهما عند لبسهما في الجملة ، ولما كان من باب التيسير الاحتيال بما لا يسترسل معه النفس بترك المطلوب استعمله الشارع ههنا من رجوع ثلاثة . أحدها التوقيت بيوم وليلة للمقيم ، وثلاثة أيام ولياليها للمسافر لأن اليوم بليلة مقدار صالح للتعهد يستعمله الناس في كثير مما يريدون تعهده ، وكذلك ثلاثة أيام بلياليها فوزع المقداران على المقيم والمسافر لمكانهما من الحرج . والثاني اشتراط أن يكون لبسهما على طهارة ليتمثل بين عيني المكلف أنهما كالباقي على الطهارة قياسا على قلة وصول الأوساخ إلى الأعضاء المستورة ، وأمثال هذه القياسات مؤثرة فيما يرجع إلى تنبيه النفس . والثالث أن يمسح على ظاهرهما عوض الغسل إبقاء لمذكر ونموذج . وقال علي رضي الله عنه : لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه . أقول : لما كان المسح إبقاء لنموذج الغسل لا يراد منه إلا ذلك ، وكان الأسفل مظنة لتلويث الخفين عند المشي في الأرض كان المسح على ظاهرهما دون باطنهما معقولا وموافقا بالرأي ، وكان رضي الله عنه من أعلم الناس بعلم معاني الشرائع كما يظهر من كلامه وخطبه ، لكن أراد أن يسد مدخل الرأي لئلا يفسد العامة على أنفسهم دينهم
____________________
(1/375)
( صفة الغسل ) على ما روته عائشة وميمونة ، وتطابق عليه الأمة أن يغسل يديه قبل إدخالهما الإناء ، ثم يغسل ما وجد من نجاسة على بدنه وفرجه ، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ، ويتعهد رأسه بالتخليل ، ثم يصب الماء على جسده ، واختلفوا في حرف واحد يؤخر غسل القدمين أولا ؟ وقيل بالفرق بين ما إذا كان في مستنقع من الأرض وما إذا لم يكن كذلك . أما غسل اليدين فلما مر الوضوء . وأما غسل الفرج فلئلا تتكثر النجاسة بإسالة الماء عليها ، فيعسر غسلها ويحتاج إلى ماء كثير ، وأيضا لا يصفو الغسل لطهارة الحدث . وأما الوضوء فلأن من حق الطهارة الكبرى أن تشتمل على الطهارة الصغرى وزيادة ليتضاعف تنبه النفس لخلة الطهارة ، وأيضا فالوضوء في الغسل من باب تعهد المغابن فإنه إذا أفاض على رأسه الماء لا يستوعب الأطراف إلا بتعهد واعتناء . وأما تأخير غسل القدمين فلئلا يتكرر غسلهما بلا فائدة اللهم إلا المحافظة على صورة الوضوء ، ثم كمل الغسل بالندب إلى التثليث والدلك وتعهد المغابن وتأكيد الستر . قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن الله حيي ستير ' تفسيره قوله : ' يحب الحياء والستر ' والستر من أعين الناس واجب ، وكونه بحيث لو هجم إنسان بالوجه المعتاد لم ير عورته مستحب .
____________________
(1/376)
قوله صلى الله عليه وسلم : ' خذي فرصة من مسك فتطهري بها ' يعني تتبعي بها أثر الدم أقول إنما أمر الحائض بالفرصة الممسكة لمعان منها زيادة الطهارة إذ الطيب يفعل فعل الطهارة ، وإنما لم يسن في سائر الأوقات احترازاً عن الحرج . ومنها إزالة الرائحة الكريهة التي لا يخلو عنها الحيض . ومنها انقضاء الحيض والشروع في الطهر وقت ابتغاء الولد والطيب يهيج تلك القوة . واختار الصاع إلى خمسة أمداد للغسل ، والمد للوضوء لأن ذلك مقدار صالح في الأجسام المتوسطة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ' تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وانقوا البشرة : وقوله صلى الله عليه وسلم : ' من ترك موضع شعرة من الجنابة لم يغسلها فعل بها كذا وكذا ' : سر ذلك مثل ما ذكرناه في استيعاب الوضوء من أنه تحقيق لمعنى الغسل ، وأن البقاء على الجنابة والاصرار على ذلك موجبة للنار ، وأنه يظهر تألم النفس من قبل العضو الذي جاء منه الخلل . ( موجبات الغسل ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ' إذا جلس بين شعبها الأربع ، ثم وجهدها فقد وجب الغسل وإن لم ينزل ' وأقول اختلفت الرواية هل يحمل الاكسال أي الجماع من غير إنزال على الجماع الكامل في معنى قضاء الشهوة أعني ما يكون معه الإنزال ، والذي صح رواية وعليه جمهور الفقهاء هو أن من جهدها فقد وجب عليها الغسل وإن لم ينزل ، واختلفوا في كيفية الجمع
____________________
(1/377)
بين هذا الحديث وحديث إنما الماء من الماء ' فقال ابن عباس : إنما الماء من الماء للاحتلام وفيه ما فيه ، وقال أبي . إنما كان الماء من الماء رخصة أول الإسلام ، ثم نهى ، وقد روي عن عثمان وعلي وطلحة والزبير وأبي بن كعب وأبي أيوب رضي الله عنهم فيمن جامع امرأته ولم يمن قالوا : يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ، ويغسل ذكره ، ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يبعد عندي أن يحمل ذلك على المباشرة الفاحشة ، فانه قد يطلق الجماع عليها . و سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر الاحتلام قال ' يغتسل ' وعن الرجل الذي يرى أنه قد احتلم ولا يجد بللا قال . ' لا غسل عليه ' أقول إنما أدار الحكم على البلل دون الرؤيا لأن الرؤيا تكون تارة حديث نفس ، ولا تأثير له ، وتارة تكون قضاء شهوة ، ولا تكون بغير بلل ، فلا يصلح لإدارة الحكم إلا البلل ، وأيضا فان البلل شيء ظاهر يصلح للانضباط ، وأما الرؤيا فإنها كثيرا ما تنسى . ولا شك أن طول مدة الطهر والحيض وقصرها يختلفان باختلاف المزاج والغذاء ونحوهما ، ولا يكاد أن يضبطان بشيء مطرد ، فلا جرم أن الأصح هو الرجوع إلى عادتهن ، فإذا رأين أنه حيض فهو حيض ، وإذا رأين أنه استحاضة فهو استحاضة . واختلاف الصحابة والتابعين في ذلك منشؤه الاستقراء والتقريب .
____________________
(1/378)
واستفتت حمنة في الاستحاضة فأمرها بالكرسف والتلجم وخيرها بين أمرين الخ . أقول الأصل في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى أن الاستحاضة ليست من الأمور الصحية وترك الصلاة فيها يؤدي إلى إهمالها مدة مديدة أراد أن يحملها على الأمر المعروف عندهم فبدا وجهان . أحدهما أنها عرق أي داء خفي المأخذ - وليست حيضة بمنزلة الرعاف فردها إلى ما كان في الصحة من حيضها وطهرها في كل شهر ، ولا بد حينئذ من تميز الحيضة عن غيرها ، إما باللون فالأقوى كالأسود للحيض أو بأيامها المعروفة عندها . والثاني أنها حيضة فاسدة ؛ فلكونها حيضة ينبغي أن تؤمر بالغسل عند كل صلاة ، وإن تعذر فعند كل صلاتين ، ولكونها فاسدة لم تمنع الصلاة - والحكمة في الكرسف والتلجم - أن يلحق الدم بما استقر في مكانه ولا يعدوه ، ولئلا يصيب بدنها وثيابها ، وأفتى جمهور الفقهاء بالأول إلا عند تعذره ( ما يباح للجنب والمحدث وما لا يباح لهما ) لما كان تعظيم شعائر الله واجبا - ومن الشعائر الله الصلاة والكعبة والقرآن - وكان أعظم التعظيم ألا يقرب منه الإنسان إلا بطهارة كاملة ، وتنبه النفس بفعل مستأنف وجب ألا يقربها إلا متطهر ، ولم يشترط
____________________
(1/379)
الوضوء لقراءة القرآن لأن التزام الوضوء عند كل قراءة يخل في حفظ القرآن وتلقيه ، ولا بد من فتح هذا الباب والترغيب فيه والتخفيف على من أراد حفظه ، ووجب أن يؤكد الأمر في الحدث الأكبر ، فلا يجوز نفس القراءة أيضا - ولا أن يدخل المسجد جنب أو حائض - لأن المسجد مهيأ للصلاة والذكر ، وهو من شعائر الإسلام ونموذج الكعبة . ولم يشترط الطهارة في مجالس النبي صلى الله عليه وسلم لأن كل شيء له تعظيم يناسبه وكان بشرا يعروه من الأحداث والجنابة ما يعرو البشر ، فكان اشتراط الطهارة في ذلك قلبا للموضوع . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ' لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب ' . أقول المراد أن هذه تنفر منها الملائكة ، وأنها أضداد ما فيه الملائكة من الطهارة والتنفر من عبدة الأصنام . وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تصيبه الجنابة من الليل : ' توضأ ، واغسل ذكرك ، ثم نم ' أقول لما كانت الجنابة منافية لهيئات الملائكة كان المرضى في حق المؤمن ألا يسترسل في حوائجه من النوم والأكل مع الجنابة إذا تعذرت الطهارة الكبرى لا ينبغي أن يدع الطهارة الصغرى لأن أمرهما واحد غير أن الشارع وزعهما على الحدثين . ( التيمم ) لما كان من سنة الله في شرائعه أن يسهل عليهم كل ما لا يستطيعونه ، وكان أحق أنواع التيسير أن يسقط ما فيه حرج إلى بدل لتطمئن نفوسهم ، ولا تختلف الخواطر عليهم بإهمال ما التزموه غاية الالتزام مرة واحدة ،
____________________
(1/380)
ولا يألفوا ترك الطهارات - أسقط الوضوء والغسل في المرض والسفر إلى التيمم ، ولما كان ذلك كذلك نزل القضاء في الملأ الأعلى بإقامة التيمم مقام الوضوء والغسل ، وحصل له وجود تشبيهي أنه طهارة من الطهارات ، وهذا القضاء أحد الأمور العظام التي تميزت بها الملة المصطفوية من سائر الملل ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' جعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء ' أقول : إنما خص الأرض لأنها لا تكاد تفقد ، فهي أحق ما يرفع به الحرج ، ولأنها طهور في بعض الأشياء كالخف والسيف بدلا عن الغسل بالماء ، ولأن فيه تذللا بمنزلة تعفير الوجه في التراب ، وهو يناسب طلب العفو ، وإنما لم يفرق بين بدل الغسل والوضوء - ولم يشرع التمرغ - لأن من حق ما لا يعقل معناه بادئ الرأي أن يجعل كالمؤثر بالخاصية دون المقدار ، فانه هو الذي اطمأنت نفوسهم به في هذا الباب ، ولأن التمرغ فيه بعض الحرج ، فلا يصلح رافعا للحرج بالكلية . وفي معنى المرض البرد الضار - لحديث عمرو بن العاص - والسفر ليس بقيد ، إنما هو صورة لعدم وجدان الماء يتبادر إلى الذهن ، وإنما لم يؤمر بمسح الرجل بالتراب - لأن الرجل محل الأوساخ - وإنما يؤمر بما ليس حاصلا ليحصل به التنبه . أما صفة التيمم فهو أحد ما اختلف فيه طريق التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن أكثر الفقهاء من التابعين وغيرهم قبل أن تمهد طريقة المحدثين على أن التيمم ضربتان ، وضربه للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين . وأما الأحاديث فأصحها حديث عمار ' إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ، ثم تنفخ فيهما ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك ' وروي من حديث ابن عمر ' التيمم ضربتان ، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين ' وقد روى عمل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة على الوجهين ، ووجه الجمع
____________________
(1/381)
ظاهر يرشد إليه لفظ ' إنما يكفيك ' فالأول أدنى التيمم والثاني هو السنة وعلى ذلك يمكن أن يحمل اختلافهم في التيمم ، ولا يبعد أن يكون تأويل فعله صلى الله عليه وسلم أنه علم عمارا أن المشروع في التيمم إيصال ما لصق باليدين بسبب الضربة - دون التمرغ ، ولم يرد بيان قد رالمسموح من أعضاء التيمم ولا عدد الضربة ، ولا يبعد أن يكون قوله لعمار أيضاً محمولاً على هذا المعنى ، وإنما معناه الحصر بالنسبة إلى التمرغ ، وفي مثل هذه المسألة لا ينبغي أن يأخذ الإنسان إلا بما يخرج به من العهد يقينا ، وكان عمر وابن مسعود رضي الله عنهما لا يريان التيمم على الجنابة ، وحملا الآية على اللمس وأنه ينقض الوضوء ، لكن حديث عمران وعمار يشهد بخلاف ذلك ، ولم أجد في حديث صحيح تصريحا بأنه يجب أن يتيمم لكل فريضة ، أو لا يجوز التيمم للآبق ونحوه ، وإنما ذلك من التخريجات . قوله صلى الله عليه وسلم في الرجل المشجوج : ' إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة ، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده ' : فيه أن التيمم هو البدل عن العضو كتمام البدن لأنه كالشيء المؤثر بالخاصية ، وفيه الأمر بالمسح لما ذكرنا في المسح على الخفين . قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ' أقول المقصود منه سد باب التعمق ، فان مثله يتعمق فيه المتعمقون ويخالفون حكم الله في الترخيص . ( آداب الخلاء ) هي ترجع إلى معان : تعظيم القبلة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ، ولا تستدبروها .
____________________
(1/382)
وفيه حكمه أخرى ، وهي أنه لما كان توجه القلب إلى تعظيم الله أمرا خفيا لم يكن بد من إقامة مظنة ظاهرة مقامة ؛ وكان الشرائع المتقدمة تجعل تلك المظنة الحلول بالصوامع المبنية لله تعالى التي صارت من شعائر الله ودينه ، وجعلت شريعتنا المظنة استقبال القبلة والتكبير ، فلما جعل الله تعالى استقبال القبلة قائما مقام توجه القلب إلى تعظيم الله وجمع الخاطر في ذكر الله وكان سبب إقامته أن هذه الهيئة تذكر الله - استنبط النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الحكم أنه يجب أن يجعل هيئة الاستقبال مختصة بالتعظيم وذلك بألا يستعمل في الهيأة المباينة للصلاة كل المباينة - ورؤي استقباله واستدباره - فجمع بتنزيل التحريم على الصحراء والاباحة على البنيان ، وجمع بحمل النهي على الكراهية وهو الأضهر . ومنها تحقيق معنى التنظيف ، فورد النهي عن الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار - أي ثلاث مسحات - لأنها لا تنقي غالبا واستحباب الجمع بين الحجر والماء . ومنها الاحتراز عما يضر الناس كالتحلي في ظل الناس وطريقهم ومتحدثهم والماء الدائم والاستنجاء بالعظم لأنه طعام الجن ، وكذا سائر ما ينتفع به ، وأفهم قوله صلى الله عليه وسلم : ' اتقوا اللاعنين ' أن الحكمة الاحتراز عن لعنهم وتأذيهم ، أو ما يضر بنفسه كالبول في الجحر ، فإنه قد يكون مأوى حية أو مثلها فيخرج ويؤذي . ومنها اختيار محاسن العادات ، فلا يتمسح بيمينه ، ولا يأخذ ذكره بيمينه ، ولا يستنجي برجيع ، ويوتر في الاستجمار . ومنها رعاية الستر فينبغي أن يبعد لئلا يسمع منه صوت ، أو يشم منه ريح ، أو يرى منه عورة ، ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض ،
____________________
(1/383)
ويستر بمثل حائش نخل مما يواري أسافل بدنه ، فمن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل ، فليستدبره فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم ، وذلك لأن الشيطان جبل على أفكار فاسدة وأعمال شنيعة . ومنها الاحتراز من أن يصيب بدنه أو ثوبه نجاسة وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله ' ومنها إزالة الوسواس وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' فلا يبولن أحدكم في مستحمة فإن عامة الوسواس منه ' ، وقوله صلى الله عليه وسلم ' لا تبل قائما ' . أقول : إنما أكره البول قائما لأنه يصيبه الرشاش ، ولأنه ينافي الوقار ومحاسن العبادات وهو مظنة انكشاف العورة . قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن الحشوش محتضرة فإذا أتى أحدكم الخلاء ، فليقل أعوذ بالله من الخبث والخبائث وإذا خرج من الخلاء قال غفرانك ' أقول : يستحب أن يقول عند الدخول اللهم أني أعوذ بك من الخبث والخبائث لأن الحشوش محتضرة يحضرها الشياطين لأنهم يحبون النجاسة وعند الخروج غفرانك لأنه وقت ترك ذكر الله ومخالطة الشياطين . قوله صلى الله عليه وسلم : ' أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول '
____________________
(1/384)
الحديث أقول فيه إن الاستبراء واجب وهو أن يمكث ، وينثر حتى يظن أنه لم يبق في قصبة الذكر شيء من البول ، وفيه أن مخالطة النجاسة والعمل الذي يؤدي إلى فساد ذات البين يوجب عذاب القبر ، أما شق الجريدة والغرز في كل قبر فسره الشفاعة المقيدة إذ لم تمكن المطلقة لكفرهما . ( خصال الفطرة ومأ يتصل بها ) قال النبي صلى الله عليه وسلم : ' عشر من الفطرة : قص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والسواك ، والاسنتشاق بالماء ، وقص الأظافر ، وغسل البراجم ، ونتف الأبط ، وحلق العانة ، وانتقاص الماء - يعني الاستنجاء قال الراوي : ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة ' . أقول هذه الطهارة منقولة عن إبراهيم عليه السلام متداولة في طوائف الأمم الحنيفية أشربت في قلوبهم ، ودخلت في صميم اعتقادهم ، عليها محياهم ، وعليها مماتهم عصرا بعد عصر ، ولذلك سميت بالفطرة وهذه شعائر الملة الحنيفية ، ولا بد لكل ملة من شعائر يعرفون بها ، ويؤاخذون عليها ، ليكون طاعتها وعصيانها أمرا محسوسا ، وإنما ينبغي أن يجعل من الشعائر ما كثر وجوده ، وتكرر وقوعه ، وكان ظاهرا ، وفيه فوائد جمة تقبله أذهان الناس أشد القبول . والجملة في ذلك أن بعض الشعور النابتة من جسد الإنسان يفعل فعل الأحداث في قبض الخاطر ، وكذا شعث الرأس واللحية وليرجع الإنسان في ذلك إلى ما ذكره الأطباء في الشرى والحكة وغيرهما من الأمراض الجلدية أنها تحزن القلب وتذهب النشاط .
____________________
(1/385)
واللحية هي الفارقة الصغير والكبير وهي جمال الفحول وتمام هيأتهم فلا بد من إعفائها ، وقصها سنة المجوس ، وفيه تغيير خلق الله ، ولحوق أهل السؤدد والكبرياء بالرعاع ، ومن طالت شواربه تعلق الطعام والشراب بها ، واجتمع فيها الأوساخ وهو من سنه المجوس ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' خالفوا المشركين قصوا الشوارب واعفوا اللحى ' . وفي المضمضة والاستنشاق والسواك إزالة المخاط والبخر ، والغرلة عضو زائد يجتمع فيها الوسخ ويمنع الاستبراء من البول وينقض لذة الجماع ، وفي التوراة - إن الختان ميسم الله على إبراهيم وذريته - معناه أن الملوك جرت عادتهم بأن يسموا ما يخصهم من الدواب لتتميز من غيرها والعبيد الذين لا يريدون إعتاقهم ، فكذلك جعل الختان ميسما عليهم ، وسائر الشعائر يمكن أن يدخلها تغيير وتدليس ، والختان لا يتطرق إليه تغيير إلا بجهد ، وانتقاص الماء كناية عن الاستنجاء به . قوله صلى الله عليه وسلم : ' أربعة من سنن المرسلين الحياء - ويروى الختان - والتعطر والسواك والنكاح ' أقول : أرى أن هذه كلها من الطهارة فالحياء ترك الوقاحة والبذاء والفواحش ، وهي تلوث النفس ، وتكدرها . والتعطر يهيج سرور النفس وانشراحها وينبه على الطهارة تنبيها قويا ، والنكاح يطهر الباطن من التوقان إلى النساء ودوران أحاديث تميل إلى قضاء هذه الشهوة . قوله صلى الله عليه وسلم : ' لولا أن اشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ' أقول : معناه لولا خوف الحرج لجعلت السواك شرطا
____________________
(1/386)
للصلاة كالوضوء ، وقد ورد بهذا الأسلوب أحاديث كثيرة جدا وهي دلائل واضحة على أن لاجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم مدخلا في الحدود الشرعية ، وأنها منوطة بالمقاصد ، وأن رفع الحرج من الأصول التي بنى عليها الشرائع . قول الراوي في صفة تسوكه صلى الله عليه وسلم يقول : أع أع - كأنه يتهوع أقول : ينبغي للإنسان أن يبلغ بالسواك أقاصى الفم ، فيخرج بلاغم الحلق والصدر ، والاستقصاء في السواك يذهب بالقلاع ، ويصفى الصوت ، ويطيب النكهة . قوله صلى الله عليه وسلم : ' حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما ، يغسل فيه جسده ورأسه ' أقول : هذا يدل على أن الاغتسال في كل سبعة أيام سنة مستقلة شرعت لدفع الأوساخ والأدران وتنبيه النفس لصفة الطهارة ، وإنما وقت لصلاة الجمعة لأن كل واحد فمنهما يكمل بالآخر ، وفيه تعظم صلاة الجمعة . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل من أربع من الجنابة ويوم الجمعة ومن الحجامة ومن غسل الميت . أقول : أما الحجامة فلأن الدم كثيرا ما ينتشر على الجسد ، ويتعسر غسل كل نقطة على حدتها ولأن المص بالملازم جاذب للدم من كل جانب ، فلا يفيد نقص الدم من العضو ، والغسل يزيل السيلان ، ويمنع انجذابه . وأما غسل الميت فلأن الرشاش ينتشر في البدن ، وجلست عند محتضر ، فرأيت أن الملائكة الموكلة بقبض الأرواح لها نكاية عجيبة في أرواح الحاضرين ففهمت أنه لا بد من تغيير الحالة لتتنبه النفس لمخالفها .
____________________
(1/387)
أمر صلى الله عليه وسلم من أسلم بأن يغتسل بماء وسدر ؛ وقال لآخر : ' ألق عنك شعر الكفر ' . أقول سره أن يتمثل عنده الخروج من شيء من أصرح ما يكون ، والله أعلم . ( أحكام المياه ) قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه ' . أقول : معناه النهي عن كل واحد من البول في الماء والغسل فيه مثل حديث : ' لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك ' ويبين ذلك رواية النهي عن البول في الماء فقط ورواية أخرى النهي عن الاغتسال فقط والحكمة أن كل واحد منهما لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يغير الماء بالفعل ، أو يفضي إلى التغيير بأن يراه الناس بفعل ، فيتتابعوا ، وهو بمنزلة اللاعنين اللهم إلا أن يكون الماء مستبحرا أو جاريا والعفاف أفضل كل حال . وأما الماء المستعمل فما كان أحد من طوائف الناس يستعمله في الطهارة ، وكان كالمهجور المطرود فأبقاه النبي صلى الله عليه وسلم على ما كان عندهم ، ولا شك أنه طاهر . قوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا بلغ الماء ملتين لم يحمل خبثا ' . أقول معناه لم يحمل خبثا معنويا إنما يحكم به الشرع دون العرف والعادة ، فإذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة ، وفحشت النجاسة كما أو كيفا
____________________
(1/388)
فليس مما ذكر ، وإنما جعل القلتين حدا فاصلا بين الكثير والقليل لأمر ضروري لا بد منه ، وليس تحكما ولا جزافا - وكذا سائر المقادير الشرعية - وذلك أن للماء محلين معدن واوان ، أما المعدن فالآبار والعيون ، ويلحق بها الأودية ، أما الأواني فالقرب والقلال والجفان والمخاضب والأداوة ، وكان المعدن يتضررون بتنجسه ، ويقاسون الحرج في نزحه ، وأما الأواني فتملأ في كل يوم ولا حرج في إراقتها ، والمعادن ليس لها غطاء ، ولا يمكن سترها من روث الدواب وولغ السباع ، وأما الأواني فليس في تغطيتها وحفظها كثير حرج اللهم إلا من الطوافين والطوافات ، والمعدن كثير غرير لا يؤثر فيه كثير من النجاسات بخلاف الأواني ، فوجب أن يكون حكم المعدن غير حكم الأواني ، وأن يرخص في المعدن ما لا يرخص في الأواني ، ولا يصلح فارقا بين حد المعدن وحد الأواني إلا القلتان لأن ماء البئر والعين لا يكون أقل من القلتين ألبتة وكل ما دون القلتين من الأودية لا يسمى حوضا ولا جوبة ، وإنما يقال له حفيرة وإذا كان قدر قلتين في مستو من الأرض يكون غالبا سبعة أشبار ، وذلك أدنى الحوض ، وكان أعلى الأواني القلة ولا يعرف أعلى منها عندهم آنية ، وليست القلال سوداء : فقلة عندهم تكون قلة ونصفا ، وقلة وربعا ، وقلة وثلثا ، ولا تعرف قلة تكون كقلتين فهذا حد لا تبلغه الأواني ، ولا ينزل منه المعدن ، فضرب حدا فاصلا بين الكثير والقليل ، ومن يقل بالقلتين اضطر إلى مثلهما في ضبط الماء الكثير - كالمالكية - والرخصة في آبار الفلوات من نحو أبعار الإبل فمن هنا ينبغي أن يعرف الإنسان أمر الحدود الشرعية فإنها نازلة على وجه ضروري لا يجدون منه بدا ، ولا يجوز العقل غيرها . قوله صلى الله عليه وسلم : ' الماء طهور لا ينجسه شيء ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' الماء لا يجنب ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' المؤمن لا ينجس ' ومثله ما في الأخبار من أن البدن لا ينجس والأرض لا تنجس .
____________________
(1/389)
أقول : معنى ذلك كله يرجع إلى نفي نجاسة خاصة تدل عليه القرائن الحالية والقالية فقوله : ' الماء لا ينجس ' معناه المعادن لا تنجس بملاقاة النجاسة إذا أخرجت ، ورميت ، ولم يتغير أحد أوصافه ، ولم تفحش ، والبدن يغسل ، فيطهر ، والأرض يصيبها المطر والشمس ، وتدلكها الأرجل فتطهر ، وهل يمكن أن يظن ببئر بضاعة أنها كانت تستقر فيها النجاسات ؟ ! كيف وقد جرت عادة بني آدم بالاجتناب عما هذا شأنه ، فكيف يستقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ بل كانت تقع فيها النجاسات من غير أن يقصد إلقاؤها كما تشاهد من آبار زماننا ، ثم تخرج تلك النجاسات ، فلما جاء الإسلام سألوا عن الطهارة الشرعية الزائدة على ما عندهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' الماء طهور لا ينجسه شيء ' يعني لا ينجس نجاسة غير ما عندكم ، وليس هذا تأويلا ولا صرفا عن الظاهر بل هو كلام العرب فقوله تعالى : ! ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم ) ! الآية . معناه مما اختلفتم فيه ، وإذا سئل الطبيب عن شيء فقال لا يجوز استعماله عرف أن المراد نفي الجواز باعتبار صحة البدن ، وإذا سئل فقيه عن شيء فقال لا يجوز عرف أنه يريد نفي الجواز الشرعي ، قوله تعالى : ! ( حرمت عليكم أمهاتكم ) ! . وقوله تعالى : ! ( حرمت عليكم الميتة ) ! . فالأول في النكاح والثاني في الأكل قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا نكاح
____________________
(1/390)
إلا بولي ' نفي للجواز الشرعي لا الوجود الخارجي وأمثال هذا كثيرة وليس من التأويل . وأما الوضوء من الماء المقيد الذي لا ينطلق عليه اسم الماء بلا قيد فأمر تدفعه الملة بادئ الرأي ، نعم وإزالة الخبث به محتمل بل هو الراجح ، وقد أطال القوم من فروع موت الحيوان في البئر ، والعشر في العشر ، والماء الجاري وليس في كل ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ألبته ، وأما الآثار المنقولة عن الصحابة والتابعين كأثر ابن الزبير في الزنجي ، وعلي رضي الله عنه في الفأرة ، والنخعي . والشعبي في نحو السنور فليست مما يشهد له المحدثون بالصحة ولا مما اتفق عليه جمهور أهل القرون الأولى ، ، وعلى تقدير صحتها يمكن أن يكون ذلك تطبيبا للقلوب وتنظيفا للماء لا من جهة الوجوب الشرعي كما ذكر في كتب المالكية ، ودون نفي هذا الاحتمال خرط القتاد . وبالجملة فليس في هذا الباب شيء يعتد به ، ويجب العمل عليه ، وحديث القلتين أثبت في ذلك كله بغير شبهة ، ومن المحال أن يكون الله تعالى شرع في هذه المسائل لعبادة شيئا زيادة على ما لا ينفكون عنه من الارتفاقات وهي مما يكثر وقوعه ، وتعم به البلوى ، ثم لا ينص عليه النبي صلى الله عليه وسلم نصا جليا ، ولا يستفيض في الصحابة ومن بعدهم ولا حديث واحد فيه ، والله أعلم . ( تطهير النجاسات ) النجاسة كل شيء يستقذره أهل الطبائع السليمة ، ويتحفظون عنه ويغسلون الثياب إذا أصابها كالعذرة والبول والدم . وأما تطهير النجاسات فهو مأخوذ عنهم ومستنبط مما اشتهر فيهم والروث
____________________
(1/391)
ركس لحديث ابن مسعود وبول ما يؤكل لحمه لا شبهة في كونه خبثا تستقذره الطبائع السليمة ، وإنما يرخص في شربه لضرورة الاستشفاء ، وإنما يحكم بطهارته أو بخفة نجاسته لدفع الحرج ، وألحق الشارع بها الخمر وهو قوله تعالى : ! ( رجس من عمل الشيطان ) ! لأنه حرمها وأكد تحريمها ، فاقتضت الحكمة أن يجعلها بمنزلة البول والعذرة ليتمثل قبحها عندهم ، ويكون ذلك أكبح لنفوسهم عنها . قال النبي صلى الله عليه وسلم ' إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات ' وفي رواية ' أولاهن بالتراب ' أقول ألحق النبي صلى الله عليه وسلم سؤر الكلب بالنجاسات ، وجعله من أشدها لأن الكلب حيوان ملعون تنفر منه الملائكة ، وينقص - اقتناؤه والمخالطة معه بلا عذر - من الأجر كل يوم قيراطا ، والسر في ذلك أنه يشبه الشيطان بجبلته لأن ديدته لعب وغضب واطراح في النجاسات وإيذاء للناس ، ويقبل الإلهام من الشياطين ، فرأى منهم صدودا وتهاونا ، ولم يكن سبيل إلى النهي عنه بالكلية لضرورة الزرع والماشية والحراسة والصيد ، فعالج ذلك باشتراط أتم الطهارات وأوكدها وما فيها بعض الحرج ليكون بمنزلة الكفارة في الردع والمنع ، واستشعر بعض حملة الملة بأن ذلك ليس بتشريع بل نوع تأكيد ، واختار بعضهم رعاية ظاهر الحديث والاحتياط أفضل . قوله صلى الله عليه وسلم : ' هريقوا على بوله سجلا من ماء '
____________________
(1/392)
أقول البول على الأرض يطهره مكاثرة الماء عليه ، وهو مأخوذ مما تقرر عند الناس قاطبة أن المطر الكثير يطهر الأرض ، وأن المكاثرة تذهب بالرائحة المنتنة وتجعل البول متلاشيا كأن لم يكن . قوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة ، فلتقرصه ، ثم لتنضحه بماء ثم لتصلى فيه ' أقول : تحصل الطهارة بزوال عين النجاسة وأثرها وسائر الخصوصيات بيان لصورة صالحة لزوالهما وتنبيه على ذلك لا شرط . وأما المنى فالأظهر أنه نجس لوجود ما ذكرنا في حد النجاسة ، وأن الفرك يطهر يابسة إذا كان له حجم . قوله صلى الله عليه وسلم : ' يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام ' أقول : هذا أمر كان قد تقرر في الجاهلية ، وأبقاه النبي صلى الله عليه وسلم ، والحامل على هذا الفرق أمور : منها أن بول الغلام ينتشر فيعسر إزالته ، فيناسبه التخفيف ، وبول الجارية يجتمع ، فيسهل إزالته : ومنها أن بول الأنثى أغلظ وأنتن من بول الذكر . ومنها أن الذكر ترغب فيه النفوس والأنثى تعافها ، وقد أخذ بالحديث أهل المدينة وإبراهيم النخعي ، وأضجع فيه القول محمد فلا تغتر بالمشهور بين الناس . قوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا أدبغ الأهاب ، فقد طهر ' أقول :
____________________
(1/393)
استعمال جلود الحيوانات المدبوغة أمر شائع مسلم عند طوائف الناس ، والسر فيه أن الدباغ يزيل النتن والرائحة الكريهة . قوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور ' أقول النعل والخف يطهر من النجاسة التي لها جرم بالدلك لأنه جسم صلب لا يتخلل فيه النجاسة والظاهر أنه عام في الرطبة واليابسة . قوله صلى الله عليه وسلم في الهرة ' إنها من الطوافين والطوافات ' . أقول : معناه على قول أن الهرة وأن كانت تلغ في النجاسات ، وتقتل الفأرة فهنالك ضرورة في الحكم بتطهير سؤرها ، ودفع الحرج أصل من أصول الشرع ، وعلى قول آخر حث على الإحسان على كل ذات كبد رطبة وشبهها بالسائلين والسائلات ، والله أعلم . ( من أبواب الصلاة ) اعلم أن الصلاة أعظم العبادات شأنا وأوضحها برهانا وأشهرها في الناس وأنفعها في النفس ، ولذلك اعتنى الشارع ببيان فضلها وتعيين أوقاتها وشروطها وأركانها وآدابها ورخصها ونوافلها اعتناء عظيم لم يفعل في سائر أنواع الطاعات ، وجعلها من أعظم شعائر الدين ، وكانت مسلمة في اليهود والنصارى والمجوس وبقايا الملة الإسماعيلية ، فوجب ألا يذهب في توقيتها وسائر ما يتعلق بها إلا إلى ما كان عندهم من الأمور التي اتفقوا عليها ، واتفق عليها جمهورهم وأما ما كان من تحريفهم ، ككراهية اليهود الصلاة في الخفاف والنعال ونحو ذلك ، فمن حقه أن يسجل على تركه ، وأن يجعل سنة المسلمين غير سنة هؤلاء ، وكذلك كان المجوس حرفوا دينهم ، وعبدوا الشمس ، ؛ فوجب أن تميز ملة الإسلام من ملتهم غاية التمييز ، فنهي المسلمون عن الصلاة في أوقات صلواتهم أيضا . ولاتساع أحكام الصلاة وكثرة أصولها التي تبنى عليها لم تذكر الأصول
____________________
(1/394)
في فاتحة كتاب الصلاة كما ذكرنا في سائر الكتب ، بل ذكرنا أصل كل فصل في ذلك الفصل . قوله صلى الله عليه وسلم : ' مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين ، وفرقوا بينهم في المضاجع ' أقول : بلوغ الصبي على وجهين : بلوغ في صلاحية السقم والصحة النفسانيتين ، ويتحقق بالعقل فقط ، وأمارة ظهور العقل سبع ، فابن السبع ينتقل فيها لا محالة من حالة إلى حالة انتقالا ظاهرا ، وأمارة تمامه العشر فابن العشر عند سلامة المزاج يكون عاقلا يعرف نفعه من ضرره ويحذق في التجارة وما يشبهها . وبلوغ في صلاحية الجهاد والحدود والمؤاخذة عليه ، وأن يصير به من الرجال الذين يعانون المكايد ، ويعتبر حالهم في السياسات المدنية والملية ، ويجبرون قسرا على الصراط المستقيم ، ويعتمد على تمام العقل وتمام الجثة وذلك بخمس عشر سنة في الأكثر ، ومن علامات هذا البلوغ الاحتلام وإنبات العانة . والصلاة لها اعتباران : فباعتبار كونها وسيلة فيما بينه وبين مولاه منقذه عن التردي في أسفل السافلين أمر بها عند البلوغ الأول . وباعتبار كونه من شعائر الإسلام يؤاخذون بها ، ويجبرون عليها أشاؤا أم أبوا حكمها حكم سائر الأمور . ولما كان سن العشر برزخا بين الحدين جامعا بين الجهتين جعل له نصيبا منهما . وإنما أمر بتفريق المضاجع لأن الأيام أيام مراهقة فلا يبعد أن تفضي المضاجعة إلى شهوة المجامعة ، فلا بد من سد سبيل الفساد قبل وقوعه .
____________________
(1/395)
( فضل الصلاة ) قوله تعالى : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) وقوله صلى الله عليه وسلم لمن صلى في الجماعة بعد الذنب : ' فإن الله قد غفر لك ذنبك ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا هل يبقى من درنه شيء ؟ قالوا : لا ، قال : فذلك مثل الصلوات الخمس يمحوا الله بها الخطايا ' . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر ' . أقول : الصلاة جامعة للتنظيف والاخبات ، مقدسة للنفس إلى عالم الملكوت ، ومن خاصية النفس إنها إذا اتصفت بصفة رفضت ضدها ، وتباعدت عنه ، وصار ذلك منها كأن لم يكن شيئا مذكورا ، فمن أدى الصلوات على وجهها ، وأحسن وضوءهن ، وصلاهن لوقتهن ، وأتم ركوعهن وخشوعهن وأذكارهن وهيآتهن ، وقصد بالأشباح أرواحها ، وبالصور معانيها ، لا بد أنه يخوض في لجة عظيمة من الرحمة ، ويمحو الله عنه الخطايا . قوله صلى الله عليه وسلم : ' بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة ' . أقول . الصلاة من أعظم شعائر الإسلام وعلامته التي إذا فقدت ينبغي أن يحكم بفقده لقوة الملابسة بينها وبينه ، وأيضا الصلاة هي المحققة لمعنى إسلام الوجه لله ، ومن لم يكن له حظ منها فإنه لم يبؤ من الإسلام إلا بما لا يعبأ به .
____________________
(1/396)
( أوقات الصلاة ) لما كانت فائدة الصلاة وهي الخوض في لجة الشهود ، والانسلاك في سلك الملائكة لا تحصل إلا بمداومة عليها وملازمة بها وإكثار منها حتى تطرح عنهم أثقالهم ، ولا يمكن أن يؤمروا بما يفضي إلى ترك الارتفاقات الضرورية والانسلاخ عن أحكام الطبيعة بالليلة - أوجبت الحكمة الإلهية أن يؤمروا بالمحافظة عليها والتعهد لها بعد كل برهة من الزمان ، ليكون انتظارهم للصلاة وتهيؤهم لها قبل أن يفعلوها وبقية لونها وصبابه نورها بعد أن يفعلوها في حكم الصلاة ، وتكون أوقات الغفلة مضمونة بطمح بصر إلى ذكر الله وتعلق خاطر بطاعة الله ، فيكون حال المسلم كحال حصان مربوط بآخية يستن شرفا أو شرفين ثم يرجع إلى أخيته ويكون ظلمة الخطايا والغفلة لا تدخل في جذر القلب ، وهذا هو الدوام المتيسر عندما امتنع الدوام الحقيقي . ثم لما آل الأمر إلى تعيين أوقات الصلاة لم يكن وقت أحق بها من الساعات الأربع التي تنتشر فيها الروحانية ، وتنزل فيها الملائكة ، ويعرض فيها على الله أعمالهم ، ويستجاب دعاؤهم ، وهي كالأمر المسلم عند جمهور أهل التلقي من الملأ الأعلى ، لكن وقت نصف الليل لا يمكن تكليف الجمهور به - كما لا يخفى - فكانت أوقات الصلاة في الأصل ثلاثة : الفجر والعشى وغسق الليل ، وهو قوله تبارك وتعالى : ! ( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ) !
____________________
(1/397)
وإنما قال : ( إلى غسق الليل ) لأن صلاة العشى ممتدة إليه حكما - لعدم وجود الفصل - ولذلك جاز عند الضرورة الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء - فهذا أصل . ولا يجوز أن يكون الفصل بين كل صلاتين كثيرا جدا ، فيفوت معنى المحافظة ، وينسى ما كسبه أول مرة - ولا قليلا جدا - فلا يتفرغون لابتغاء معاشهم ، ولا يجوز أن يضرب في ذلك إلا حدا ظاهرا محسوسا يتبينه الخاصة والعامة ، وهو كثرة ما للجزء المستعمل عند العرب والعجم - في باب تقدير الأوقات ، وليست بالكثرة المفرطة - ولا يصلح لهذا إلا ربع النهار فإنه ثلاث ساعات ، وتجزئه الليل والنهار إلى اثنتي عشرة ساعة أمرأ جمع عليه أهل الأقاليم الصالحة ، وكان أهل الزراعة والتجارة والصناعة وغيرهم يعتادون غالبا أن يتفرغوا لأشغالهم من البكرة إلى الهاجرة ، فإنه وقت ابتغاء الرزق وهو قوله تعالى : ! ( وجعلنا النهار معاشا ) ! وقوله تعالى : ! ( لتبتغوا من فضله ) ! واتصاف كثير من الأشغال ينجر إلى مدة طويلة ، ويكون التهيؤ للصلاة والتفرغ لها من الناس أجمعهم في أثناء ذلك حرجا عظيما ، فلذلك أسقط الشارع الضحى ، ورغب فيها ترغيبا عظيما من غير إيجاب ، فوجب أن تشتق صلاة العشى إلى صلاتين بينهما نحو ربع النهار وهما الظهر والعصر ، وغسق الليل إلى صلاتين بينهما نحو من ذلك وهما المغرب والعشاء ، ووجب ألا يرخص في الجمع بين كل من شقي الوقتين إلا عند ضرورة لا يجد منها بدا ، وإلا لبطلت المصلحة المعتبرة في تعيين الأوقات - وهذا أصل آخر
____________________
(1/398)
وكان جمهور أهل الأقاليم الصالحة والأمزجة المعتدلة الذين هم المقصودون بالذات في الشرائع لا يزالون متيقظين مترددين في حوائجهم من وقت الأسفار إلى غسق الليل ، وكان أحق ما يؤدى فيه الصلاة وقت خلو النفس عن ألوان الأشغال المعاشية المنسية ذكر الله ، ليصادف قلبا فارغا ، فتمكن منه ويكون أشد تأثيرا فيه ، وهو قوله تعالى : ! ( وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ) ! ووقت الشروع في النوم ليكون كفارة لما مضى وتصقيلا للصدأ ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف الليل الأول ، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليله ' ووقت اشتغالهم كالضحى ليكون مهونا للانهماك في الدنيا وترياقا له ، غير أن هذا لا يجوز أن يخاطب به الناس جميعا لأنهم حينئذ بين أمرين : إما أن يتركوا هذا أو ذاك - وهذا أصل آخر . وأيضا لا أحق في باب تعيين الأوقات من أن يذهب إلى المأثور من سنن الأنبياء المقربين من قبل ، فإنه كالمنبه للنفس على أداء الطاعة تنبيها عظيما والمهيج لها على منافسة القوم ، والباعث على أن يكون للصالحين فيهم ذكر جميل ، وهو قول جبريل عليه السلام : ' هذا وقت الأنبياء من قبلك ' . لا يقال ورد في حديث معاذ في العشاء ' ولم يصلها أحد قبلكم ' لأن الحديث رواه جماعة ، فقال بعضهم : أن الناس صلوا ورقدوا ، وقال بعضهم ولا يصليها أحد إلا بالمدينة ونحو ذلك ، فالظاهر أنه من قبل الرواية بالمعنى وهذا أصل آخر . وبالجملة ففي تعيين الأوقات سر عميق من وجوه كثيرة ، فتمثل جبريل عليه السلام وصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم وعلمه الأوقات ، ولما ذكرنا طهر وجه مشروعية الجمع بين الصلاتين في الجملة ، وسبب وجود التهجد والضحى على النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء على ما ذكروا وكونها نافلة للناس وسبب تأكيد أداء الصلوات على أوقاتها ، والله أعلم .
____________________
(1/399)
ولما كان في التكليف بأن يصلي جميع الناس في ساعة واحدة بعينها لا يتقدمون ، ولا يتأخرون غاية الحرج - وسع في الأوقات توسعه ما . ولما كان لا يصلح للتشريع إلا المظنات الظاهرة عند العرب غير الخفيفة على الأداني والأقاصي - جعل لأوائل الأوقات وأواخرها حدودا مضبوطة محسوسة . ولتزاحم هذه الأسباب حصل للصلوات أربعة أوقات : وقت الاختيار وهو الوقت الذي يجوز أن يصلي فيه من غير كراهيه ، والعمدة فيه حديثان حديث جبريل فإنه صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم يومين ، وحديث بريدة ففيه أنه صلى الله عليه وسلم أجاب السائل عنها بأن صلى يومين ، والمفسر منهما قاض على المبهم ، وما اختلف يتبع في حديث بريدة لأنه مدني متأخر ، والأول مكي متقدم ، وإنما يتبع الآخر فالآخر وذلك أن آخر وقت المغرب هو ما قبل أن يغيب الشفق ، ولا يبعد أن يكون جبر يل أخر المغرب في اليوم الثاني قليلا جدا لقصر وقته فقال الراوي : صلى المغرب في يومين في وقت واحد إما لخطأ في اجتهاده أو بيانا لغاية القلة والله أعلم . وكثير من الأحاديث يدل على أن آخر وقت العصر أن تتغير الشمس ، وهو الذي أطبق عليه الفقهاء ، فلعل المثلين بيان لآخر الوقت المختار ، والذي يستحب فيه ، أو نقول : لعل الشرع نظر أولا إلى أن المقصود من اشتقاق العصر أن يكون الفصل بين كل صلاتين نحوا من ربع النهار ، فجعل الأمد الآخر بلوغ الظل إلى المثلين ، ثم ظهر من حوائجهم وأشغالهم ما يوجب الحكم بزيادة الأمد ، وأيضا معرفة ذلك الحد تحتاج إلى ضرب من التأمل وحفظ للفيء الأصلي ورصد ، وإنما ينبغي أن يخاطب الناس في مثل ذلك بما هو محسوس ظاهر ، فنفث الله في روعه صلى الله عليه وسلم أن يجعل الأمد تغير قرص الشمس أو ضوئها ، والله أعلم .
____________________
(1/400)
ووقت الاستحباب الذي يستحب أن يصلي فيه وهو أوائل الأوقات إلا العشاء فالمستحب الأصلي تأخيرها لما ذكرنا من الوضع الطبيعي ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء ' ولأنه أنفع في تصفية الباطن من الأشغال المنسية ذكر الله وأقطع لمادة السمر بعد العشاء لكن التأخير ربما يفضي إلى تقليل الجماعة وتنفير القوم . وفيه قلب الموضوع . فلهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كثر الناس عجل ، وإذا قلوا أخر - والأظهر الصيف - وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا اشتد الحر فأبردوا بالظهر فان شدة الحر من فيح جهنم ' أقول : معناه معدن الجنة والنار هو معدن ما يفاض في هذا العالم من الكيفيات المناسبة والمنافرة وهو تأويل ما ورد في الأخبار في الهندبا وغيره . قوله صلى الله عليه وسلم ' أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر ' أقول : هذا الخطاب لقوم خشوا تقليل الجماعة جدا أن ينتظروا إلى الأسفار أو لأهل المساجد الكبيرة التي تجمع الضعفاء والصبيان وغيرهم كقوله صلى الله عليه وسلم : ' أيكم صلى بالناس فليخفف فإنه فيهم الضعيف ' الحديث أو معناه طولوا الصلاة حتى يقع آخرها في وقت الأسفار لحديث أبي برزة كان ينفتل في صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه ، ويقرأ بالستين إلى المائة فلا منافاة بينه وبين حديث الغلس . ووقت الضرورة وهو ما لا يجوز التأخير إليه إلا بعذر . وهو قوله
____________________
(1/401)
صلى الله عليه وسلم : ' من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ' وقوله صلى الله عليه وسلم . ' تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا اصغرت ' الحديث وهو حديث ابن عباس في الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء والعذر مثل السفر والمرض والمطر وفي العشاء إلى طلوع الفجر ، والله أعلم ووقت القضاء إذا ذكر ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها ' . أقول : والجملة في ذلك ألا تسترسل النفس بتركها ، وأن يدرك ما فاته من فائدة تلك الصلاة ، وألحق القوم التفويت بالفوت نظرا إلى أنه أحق بالكفارة . ووصى صلى الله عليه وسلم أبا ذر إذا كان عليه أمراء يميتون الصلاة ' صل الصلاة لوقتها ، فإن أدركتها معهم فصلها فإنها لك نافلة ' . أقول : راعي في الصلاة اعتبارين اعتبار كونها وسيلة بينه وبين الله ، وكونها من شعائر الله يلام على تركها . قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم أقول : هذا إشارة إلى أن التهاون في الحدود الشرعية سبب تحريف الملة . قال الله تعالى : ! ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) ! والمراد بها العصر .
____________________
(1/402)
قوله صلى الله عليه وسلم : ' من صلى البردين دخل الجنة ' . قوله صلى الله عليه وسلم : ' من ترك صلاة العصر حبط عمله ' . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ' قوله صلى الله عليه وسلم : ' ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ' أقول : إنما خص هذه الصلوات الثلاث بزيادة الاهتمام ترغيبا وترهيبا لأنها مظنة التهاون والتكاسل لأن الفجر والعشاء وقت النوم لا ينتهض لله من بين فراشه ووطائه عند لذيذ نومه ووسنه إلا مؤمن تقي ، وأما وقت العصر فكان وقت قيام أسواقهم واشغالهم بالبيوع وأهل الزراعة أتعب حالهم هذه قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب ' وفي حديث آخر : ' على اسم صلاة العشاء ' أقول : يكره تسمية ما ورد في الكتاب والسنة مسمى شيء اسما آخر بحيث يكون ذريعة لهجر الاسم الأول لأن ذلك دليل يلبس على الناس دينهم ويعجم عليهم كتابهم ( الأذان ) لما علمت الصحابة أن الجماعة مطلوبة مؤكدة ، ولا يتيسر الاجتماع في زمان واحد ومكان واحد بدون إعلام وتنبيه ، تكلموا فيما يحصل به الأعلام ، فذكروا النار فردها صلى الله عليه وسلم لمشابهة المجوس ، - وذكروا القرن - ، فرده لمشابهة اليهود - وذكروا الناقوس ، - فرده لمشابهة النصارى ، فرجعوا من غير تعيين ، فأرى عبد الله بن زيد - الأذان والإقامة في منامه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال :
____________________
(1/403)
' رؤيا حق ' . . ، وهذه القصة دليل واضح على أن الأحكام إنما شرعت لأجل المصالح ، وأن للاجتهاد فيها مدخلا ، وأن التيسير أصل أصيل ، وأن مخالفة أقوام تمادوا في ضلالتهم فيما يكون من شعائر الدين مطلوب ، وأن غير النبي صلى الله عليه وسلم قد يطلع بالمنام أو النفث في الروع على مراد الحق ، لكن لا يكلف الناس به ولا تنقطع الشبهة حتى يقرره النبي صلى الله عليه وسلم ، واقتضت الحكمة الإلهية إلا يكون الأذان صرف إعلام وتنبيه ، بل يضم مع ذلك من شعائر الدين بحيث يكون النداء به على رءوس الخامل والنبيه تنويها بالدين ، ويكون قبوله من القوم آية انقيادهم لدين الله ، فوجب أن يكون مركبا من ذكر الله ومن الشهادتين والدعوة إلى الصلاة ليكون مصرحا بما أريد به . وللأذان طرق : أصحها طريقه بلال رضي الله عنه ، فكان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين والإقامة مرة مرة غير أنه كان يقول : قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة . ثم طريقة أبي مجذوره علمه النبي صلى الله عليه وسلم الأذان تسع عشره كلمة والإقامة سبع عشر كلمة ، وعندي أنها كأحرف القرآن ، كلها شاف كاف . قوله صلى الله عليه وسلم : ' فإن كان صلاة الصبح قلت : الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم . أقول لما كان الوقت وقت نوم وغفلة ، وكانت الحاجة إلى التنبيه القوي شديدة استحب زيادة هذا اللفظة . قوله صلى الله عليه وسلم : ' من أذن فهو يقيم ' أقول : سره أنه لما شرع في الأذان وجب على إخوانه ألا يزاحموه فيما أراد من المنافع المباحة
____________________
(1/404)
بمنزلة قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ' . وفضائل الأذان ترجع إلى أنه من شعائر الإسلام ، وبه تصير الدار دار الإسلام ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إن سمع الأذن أمسك ، وإلا أغار ، وأنه شعبة من شعب النبوة لأنه حث على أعظم الأركان وأم القربات ، ولا يرضى الله ولا يغضب الشيطان مثل ما يكون في الخير المتعدى ، وإعلاء كلمة الحق ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا نودى للصلاة أدبر الشيطان له ضراط ' . قوله صلى الله عليه وسلم : ' المؤذنون أطول الناس أعناقا ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' المؤذن يغفر له مدى صوته ، ويشهد له الجن والإنس ' أقول . أمر المجازاة مبني على مناسبة المعاني بالصور وعلاقة الأرواح وبالأشباح ، فوجب أن يظهر نباهة شأن المؤذن من جهة عنقه وصوته ، وتتسع رحمة الله عليه أتساع دعوته إلى الحق . قوله صلى الله عليه وسلم : ' من أذن سبع سنين محتسبا كتبت له براءة من النار وذلك لأنه مبين صحة تصديقه لا تتصور المواظبة عليه لله إلا ممن أسلم وجهه لله ، ولأنه أمكن من نفسه غاشية عظيمة من الرحمة الإلهية . قول الله في راعى غنم في رأس شظية ' انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ، ويقيم الصلاة يخاف مني ، قد غفرت له وأدخلته الجنة ' قوله : ' يخاف مني ' دليل على أن الأعمال تعتبر بدواعيها المنبعثة هي منها ، وأن الأعمال أشباح ، وتلك الدواعي أرواح لها ، فكان خوفه من الله وإخلاصه له سبب مغفرته . ولما كان الأذان من شعائر الدين جعل ليعرف به قبول القوم للهداية
____________________
(1/405)
الإلهية أمر بالإجابة لتكون مصرحة بما أريد منهم ، فيجيب الذكر والشهادتين بهما ، ويجيب الدعوة بما فيه توحيد في الحول والقوة دفعا لما عسى أن يتوهم عند إقدامه على الطاعة من العجب من فعل ذلك خالصا من قلبه دخل الجنة لأنه شبح الانقياد وإسلام الوجه لله ، وأمر بالدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم تكميلا لمعنى قبول دينه واختيار حبه . قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة ' أقول : ذلك لشمول الرحمة الإلهية ووجود الإنقياد من الداعي . قوله صلى الله عليه وسلم : ' وإن بلالا ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم ' أقول : يستحب للإمام إذا رأى الحاجة أن يتخذ مؤذنين يعرفون أصواتهما ، ويبين للناس أن فلانا ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتى ينادي فلان ، ليكون الأول منهما للقائم والمتسحر أن يرجعا ، وللنائم أن يقوم إلى صلاته ، ويتدارك ما فاته من سحوره . قوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ، وأتوها تمشون ' أقول : هذا إشارة إلى رد التعمق في التنسك . ( المساجد ) فضل بناء المسجد وملازمته وانتظار الصلاة فيه ترجع إلى أنه من شعائر الإسلام ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا رأيتم مسجدا ، أو سمعتم مؤذنا ، فلا تقتلوا أحدا ' ، وأنه محل الصلاة معتكف العابدين ومطرح الرحمة ويشبه الكعبة من وجه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم ، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر ' وقوله
____________________
(1/406)
صلى الله عليه وسلم : ' إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قيل : وما رياض الجنة ؟ قال : المساجد ' . وإن التوجه إليه في أوقات الصلاة من بين شغله وأهله لا يقصد إلا الصلاة - معرف لإخلاصه في دينه وانقياده لربه من جذر قلبه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم ؛ ' إذا توضأ فأحسن الوضوء ، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة ، وحط عنه بها خطيئة ، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلى عليه ما دام في مصلاه ، اللهم صل عليه اللهم أرحمه ، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة ' وإن بناءه إعانة لا علاء كلمة الحق . قوله صلى الله عليه وسلم : ' من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلة من الجنة كلما غدا أو راح ' أقول : هذا إشارة إلى غدوة وروحة تمكن من انقياد البهيمية للملكية . قوله صلى الله عليه وسلم : ' من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة ' أقول سره أن المجازاة تكون بصوره العمل ، وإنما انقضى ثواب الانتظار بالحدث ؛ لأنه لا يبقى متهيئا للصلاة وإنما فضل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الحرام بمضاعفة الأجر لمعان : منها أن هنالك ملائكة موكلة بتلك المواضع يحفون بأهلها ، ويدعون لمن حلها ومنها أن عمارة تلك المواضع في تعظيم شعائر الله وإعلاء كلمة الله . ومنها أن الحلول بها مذكر لحال أثمة الملة .
____________________
(1/407)
قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا ' أقول : كان أهل الجاهلية يقصدون مواضع معظمة بزعمهم يزورونها ، ويتبركون بها ، وفيه من التحريف والفساد ما لا يخفى ، فسد النبي صلى الله عليه وسلم الفساد لئلا يلتحق غير الشعائر بالشعائر ، ولئلا يصير ذريعة لعبادة غير الله ، والحق عندي أن القبر ومحل عبادة ولي من أولياء الله والطور كل ذلك سواء في النهي والله أعلم وآداب المسجد ترجع إلى معان . منها تعظيم المسجد ومؤاخذة نفسه أن يجمع الخاطر ولا يسترسل عند دخوله ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس ' . ومنها تنظيفه مما يتقذر ويتنفر منه - وهو قول الراوي - أمر يعنى النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد ، وأن ينظف ويطيب ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ' عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد ' ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ' البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها ' . ومنها الاحتراز عن تشويش العباد وهيشات الأسواق وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' أمسك بنصالها ' . قوله صلى الله عليه وسلم : ' من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله إليك فان المساجد لم تبن لهذا ' قوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا رأيتم من
____________________
(1/408)
يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك ' ونهى عن تناشد الأشعار في المسجد ، وأن يستقاد في المسجد ، وأن تقام فيه الحدود . أقول أما نشد الضالة أي رفع الصوت بطلبها فلأنه صخب ولغط يشوش على المصلين والمعتكفين ، ويستحب أن ينكر عليه بالدعاء بخلاف ما يطلبه إرغاما له ، وعلله النبي صلى الله عليه وسلم بأن المساجد لم تبن لهذا أي إنما بنيت للذكر والصلاة ، وأما الشراء والبيع فلئلا يصير المسجد سوقا يتعامل فيه الناس ، فتذهب حرمته ويحصل التشويش على المصلين والمعتكفين ، وأما تناشد الأشعار - فلما ذكرنا - ولأن فيه إعراضا عن الذكر وحثا على الأعراض عنه ، وأما القود والحدود فلأنها مظنة للألواث والجزع والبكاء والصخب والتشويش على أهل المسجد ، ويخص من الأشعار ما كان فيه الذكر ومدح النبي صلى الله عليه وسلم وغيظ الكفار لأنه غرض شرعي ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم لحسان : ' اللهم أيده بروح القدس ' . قوله صلى الله عليه وسلم : ' إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ' . أقول السبب في ذلك تعظيم المسجد فإن أعظم التعظيم ألا يقربه إنسان إلا بطهارة ، وكان في منع دخول المحدث حرج عظيم ، ولا حرج في الجنب والحائض ، ولانهما أبعد الناس عن الصلاة ، والمسجد إنما بنى لها . قوله صلى الله عليه وسلم : ' من أكل هذه الشجرة المنتنة ، فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الأنس ' . أقول هي البصل أو الثوم ، وفي معناه كل منتن ، ومعنى تتأذى تكره وتتنفر لأنها تحب محاسن الأخلاق والطيبات ، وتكره أضدادها .
____________________
(1/409)
قوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، فإذا خرج فليقل اللهم إني أسألك من فضلك ' . أقول الحكمة في تخصيص الداخل بالرحمة والخارج بالفضل أن الرحمة في كتاب الله أريد بها النعم النفسانية والاخروية كالولاية والنبوة قال تعالى : ! ( ورحمة ربك خير مما يجمعون ) ! . والفضل على النعم الدنيوية قال تعالى : ! ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) ! وقال تعالى : ! ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ) ! . ومن دخل المسجد إنما يطلب القرب من الله ، والخروج وقت ابتغاء الرزق . قوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس ' . أقول إنما شرع ذلك لأن ترك الصلاة إذا دخل بالمكان المعد لها ترة وحسرة ، وفيه ضبط الرغبة في الصلاة بأمر محسوس ، وفيه تعظيم المسجد . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ' الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ' .
____________________
(1/410)
ونهى أن يصلي في سبعة مواطن في المزبلة والمقبرة ، والمجزرة ، وقارعة الطريق ، وفي الحمام وفي معاطن الإبل ، وفوق ظهر بيت الله ، ونهى عن الصلاة في أرض بابل فانها ملعونة . وأقول الحكمة في النهي عن المزبلة والمجزرة أنهما موضعا النجاسة ، والمناسب للصلاة هو التطهر والتنظيف ، وفي المقبرة الاحتراز عن أن تتخذ قبور الأحبار والرهبان مساجد بأن يسجد لها كالأوثان ، وهو الشرك الجلي ، أو يتقرب إلى الله بالصلاة في تلك المقابر ، وهو الشرك وهذا مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم : ' لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ' ونظيره نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت الطلوع والاستواء والغروب لأن الكفار يسجدون للشمس حينئذ ، وفي الحمام أنه محل انكشاف العورات ومظنة الازدحام ، فيشغله ذلك عن المناجاة بحضور القلب ، وفي معاطن الإبل أن الإبل لعظم جثتها وشدة بطشها وكثرة جراءتها كادت تؤذي الإنسان ، فيشغله ذلك عن الحضور بخلاف الغنم ، وفي قارعة الطريق ، اشتغال القلب بالمارين وتضييق الطريق عليهم ، ولأنها ممر السباع كما ورد صريحا في النهي عن النزول فيها ، وفوق بيت الله أن الترقي على سطح البيت من غير حاجة ضرورية مكروه هاتك لحرمته ، وللشك في الاستقبال حالتئذ ، وفي الأرض الملعونة بنحو خسف أو مطر الحجارة إهانتها والبعد عن مظان الغضب هيبة منه وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' ولا تدخلوه إلا باكين ' . ( ثياب المصلي ) اعلم أن لبس الثياب مما امتاز به الإنسان عن سائر البهائم ، وهو أحسن حالات الإنسان ، وفيه شعبة من معنى الطهارة ، وفيه تعظيم الصلاة وتحقيق
____________________
(1/411)
أدب المناجاة بين يدي رب العالمين ، وهو واجب أصلي جعل شرطا في الصلاة لتكميله معناها ، وجعله الشارع على حدين . حد لا بد منه وهو شرط صحة الصلاة ، وحد هو مندوب إليه فالأول منه السوأتان وهو آكدهما ، وألحق بهما الفخذان ، وفي المرأة سائر بدنها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ' لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار ' يعني البالغة لأن الفخذ محل الشهوة ، وكذا بدن المرأة فكان حكمها حكم السوأتين . والثاني قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء ، وقال : ' إذا كان واسعا فخالف بين طرفيه ' والسر فيه أن العرب والعجم وسائر أهل الأمزجة المعتدلة إنما تمام هيئتهم وكمال زيهم على اختلاف أوضاعهم في لباس القباء والقميص والحلة وغيرها أن يستر العاتقان والظهر ، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في ثوب واحد فقال أو لكلهم ثوبان ، ثم سئل عمر رضي الله عنه فقال إذا وسع الله فوسعوا جمع رجل الخ . أقول : الظاهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الحد الأول وقول عمر رضي الله عنه بيان للحد الثاني ويحتمل أن يكون السؤال في الثاني الذي هو مندوب ، فلم يأمر بثوبين لأن جريان التشريع ولو بالحد الثاني باشتراط الثوبين حرج ، ولعل من لا يجد ثوبين يجد في نفسه ، فلا تكمل صلاته لما يجد في نفسه من التقصير ، وعرف عمر رضي الله عنه أن وقت التشريع انقضى ، ومضى ، وكان قد عرف استحباب إكمال الزي في الصلاة ، فحكم على حسب ذلك ، والله أعلم . وقال صلى الله عليه وسلم في الذي يصلي ورأسه معقوص من ورائه : ' إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف ' .
____________________
(1/412)
أقول : نبه على أن سبب الكراهية الإخلال بالتجمل وتمام الهيئة وزي الأدب . قوله صلى الله عليه وسلم في خميصة لها أعلام : إنها ألهتنى آنفا عن صلاتي ' وفي قرام عائشة أميطي عنا قرامك هذا فإنه لا يزال تصاويره تعرض في صلاتي ، وفي فروج الحرير لا ينبغي هذا للمتقين . أقول : ينبغي للمصلي أن يدفع عن نفسه كلما يلهيه عن الصلاة لحسن هيئته أو لعجب النفس به تكميلا لما قصد له الصلاة . وكان اليهود يكرهون الصلاة في نعالهم وخفافهم لما فيه من ترك التعظيم فإن الناس يخلعون النعال بحضرة الكبراء ، وهو قوله تعالى : ( فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى ) وكان هنا وجه آخر وهو أن الخف والنعل تمام زي الرجل ، فترك النبي صلى الله عليه وسلم القياس الأول ، وأيد الثاني مخالفة لليهود ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم وخفافهم ' فالصحيح أن الصلاة متنعلا و حافيا سواء . ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السدل في الصلاة ، فقيل : هو أن يلتحف بثوبه ، ويدخل يديه فيه ، وسيجئ أن اشتمال الصماء أقبح لبسة
____________________
(1/413)
لأنه مخالفة لما هو أصل طبيعة الإنسان وعادته من إبقاء اليدين مستر سلتين ، ولأنه على شرف انكماش العورة فإنه كثيرا ما يحتاج إلى إخراج اليدين للبطش ، فتنكشف ، وقيل : إرسال الثوب من غير أن يضم جانبيه وهو إخلال بالتجمل وتمام الهيئة ، وإنما نعني بتمام الهيئة ما يحكم العرف والعادة أنه غير فاقد ما ينبغي أن يكون له وأوضاع لباسهم مختلفة ولكن في كل لبسة تمام هيئة يعرف بالسير ، وقد بنى النبي صلى الله عليه وسلم الأمر على عرف العرب يومئذ .
____________________
(1/414)
( القبلة ) لما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة أو سبعة عشر شهرا ، ثم أمر أن يستقبل الكعبة ، فاستقر الأمر على ذلك . أقول : السر في ذلك أنه لما كان تعظيم شعائر الله وبيوته واجبا - لا سيما فيما هو أصل أركان الإسلام . وأم القربات . وأشهر شعائر الدين ، وكان التوجه في الصلاة إلى ما هو مختص بالله بطلب رضا الله بالتقرب منه أجمع للخاطر ، وأحث على صفة الخشوع ، وأقرب لحضور القلب ، لأنه يشبه مواجهة الملك في مناجاته - اقتضت الحكمة الالهية أن يجعل استقبال قبلة ما شرطا في الصلاة في جميع الشرائع . وكان إبراهيم . وإسمعيل عليهما السلام . ومن تدين بدينهما يستقبلون الكعبة . وكان إسرائيل عليه السلام وبنوه يستقبلون بيت المقدس . هذا هو الأصل المسلم في الشرائع . فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، وتوجهت العناية إلى تأليف الأوس ، والخزرج ، وحلفائهم من اليهود ، وصاروا هم القائمين بنصرته ، والأمة التي أخرجت للناس ، وصارت مضر وما والاها أعدى أعاديه وأبعد الناس عنه - اجتهد ، وحكم باستقبال بيت المقدس ؛ إذ الأصل أن يراعي في أوضاع القربات حال الأمة التي بعث الرسول فيها ، وقامت بنصرته وصارت شهداء على الناس - وهو الأوس . والخرزج - يومئذ ، وكانوا أخضع شيء لعلوم اليهود بينه ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى : ! ( فأتوا حرثكم أنى شئتم ) !
____________________
(1/415)
حيث قال : ' إنما كان هذا الحي من الأنصار ، وهم أهل وثن ، مع هذا الحي من اليهود ، وهم أهل الكتاب ، فكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم ، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم ' الحديث ، وأيضا الأصل أن تكون الشرائع موافقة لما عليه الملل الحقة ما لم تكن من تحريفات القوم وتعمقاتهم ، ليكون أتم لإقامة الحجة عليهم ، وأشد لطمأنينة قلوبهم ، واليهود هم القائمون برواية الكتاب السماوي والعمل بما فيه ، ثم أحكم الله آياته وأطلع نبيه على ما هو أوفق بالمصلحة من هذا وأقعد بقوانين التشريع بالنفث في روعه أولا ، فكان يتمنى أن يأمر باستقبال الكعبة ، وكان يقلب وجهه في السماء طمعا أن يكون جبرائيل نزل بذلك ، وبما أنزل في القرآن العظيم . ثانيا ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في الأميين الآخذين بالملة الإسماعيلية ، وقدر الله في سابق علمه أنهم هم القائمون بنصرة دينه ، وهم شهداء الله على الناس من بعده ، وهم خلفاؤه في أمته ، وأن اليهود لا يؤمن منهم إلا شرذمة قليلة ، والكعبة من شعائر الله عند العرب أذعن لها أقاصيهم وأدانيهم ، وجرت السنة عندهم باستقبالها شائعا ذائعا ، فلا معنى للعدول عن ذلك . ولما كان استقبال القبلة شرطا - إنما أريد به تكميل الصلاة ، وليس شرطا - لا يتأتى أصل فائدة الصلاة إلا به تلا - رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن تحرى في ليلة مظلمة وصلى لغير القبلة قوله تعالى : ! ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ! . يومى إلى أن صلاتهم جائزة للضرورة .
____________________
(1/416)
( السترة ) قوله صلى الله عليه وسلم : ' لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه ' أقول : السر في ذلك أن الصلاة من شعائر الله يجب تعظيمها ، ولما كان المنظور في الصلاة التشبه بقيام العبيد بخدمة مواليهم ومثولهم بين أيديهم كان من تعظيمها ألا يمر المار بين يدي المصلي ، فإن المرور بين السيد وعبيده القائمين إليه سوء أدب ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن أحدكم إذا قام في الصلاة فإنما يناجي ربه وإن ربه بينه وبين القبلة ' الحديث . وضم مع ذلك أن مروره ربما يؤدي إلى تشويش قلب المصلي ، ولذلك كان له حق في درته ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' فليقاتله فإنه شيطان ' . قوله صلى الله عليه وسلم : ' تقطع الصلاة المرأة والحمار . والكلب الأسود ' اقول : مفهوم هذا الحديث أن من شروط صحة الصلاة خلوص ساحتها عن المرأة . والحمار والكلب ، والسر فيه أن المقصود من الصلاة هو المناجاة والمواجهة مع رب العالمين ، واختلاط النساء والتقرب منهن والصحبة معهن مظنة الالتفات إلى ما هو ضد هذه الحالة ، والكلب شيطان لما ذكرنا لا سيما الأسود فإنه أقرب إلى فساد المزاج وداء الكلب ، والحمار أيضاً بمنزلة
____________________
(1/417)
الشيطان لأنه كثيرا ما يسافد بين ظهرانى بني آدم ، وينتشر ذكره فتكون رؤية ذلك مخلة بما هو بصدده لكن لم يعمل به حفاظ الصحابة ، وفقهاؤهم . منهم علي . وعائشة . وابن عباس . وأبو سعيد . وغيرهم رضي الله عنهم - ورواه منسوخا - وإن كان في استدلاهم على النسخ كلام ، وهذا أحد المواضع التي اختلف فيها طريقا التلقي من النبي صلى الله عليه وسلم : وقوله صلى الله عليه وسلم . ' إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل ، ولا يبال بمن وراء ذلك ' أقول : لما كان في ترك المرور حرج ظاهر أمر بنصب السترة لتتميز ساحة الصلاة بادي الرأي ، فيلحق بالمرور من بعد .
____________________
(1/418)
( الأمور التي لا بد منها في الصلاة ) اعلم أن أصل الصلاة ثلاثة أشياء : أن يخضع لله تعالى بقلبه ، ويذكر الله بلسانه ، ويعظمه غاية التعظيم بجسده ، فهذه الثلاثة أجمع الأمم على أنها من الصلاة ، وإن اختلفوا فيما سوى ذلك ، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم عند الأعذار في غير هذه الثلاثة ، ولم يرخص فيها ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الوتر : ' إن لم تستطع فأوم إيماء ' . وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرع لهم في الصلاة حدين حدا لا يخرج من العهدة بأقل منه . وحدا هو الاتم الأكمل المستوفي لفائدة الصلاة ، والحد الأول يشتمل على ما يجب إعادة الصلاة بتركه ، وما يحصل فيها نقص بتركه ، ولا يجب الإعادة ، وما يلام على تركه أشد الملامة من غير جزم بالنقص ، والفرق بين هذه المراتب الثلاث صعب جدا ، وليس فيه نص صريح ، ولا إجماع إلا في شيء يسير ، ولذلك قوي الخلاف بين الفقهاء في ذلك ، والأصل فيه حديث الرجل المسيء في صلاته حيث قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' ارجع فصل فإنك لم تصل - مرتين . أو ثلاثا ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم - إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء ، ثم استقبل القبلة فكبر ، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن ، ثم أركع حتى تطمئن راكعا ، ثم أرفع رأسك حتى تستوي قائما ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم أرفع حتى تطمئن جالسا ، ثم أفعل ذلك في صلاتك كلها ' وفي رواية الترمذي ' فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك وإن انتقصت منها انتقصت من صلاتك ' قال : كان هذا أهون عليهم من الأولى أنه من انتقص
____________________
(1/419)
من ذلك شيئاً انتقص من صلاته ، ولم تذهب كلها ، وما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الركنية كقوله صلى الله عليه وسلم : ' لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' لا تجزى صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود ' وما سمى الشارع الصلاة به فإنه تنبيه بليغ على كونه ركنا في الصلاة كقوله صلى الله عليه وسلم : ' من قام رمضان ' ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ' فليركع ركعتين ' ، وقوله تعالى : ! ( واركعوا مع الراكعين ) ! ، وقوله تعالى : ! ( وأدبار السجود ) ! ، وقوله تعالى : ! ( وقرآن الفجر ) ! ، وقوله تعالى : ! ( وقوموا لله قانتين ) ! وما ذكره بما يشعر بأنه لا بد منه كقوله صلى الله عليه وسلم : ' تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' في كل ركعتين التحية ' ، وقوله صلى الله عليه وسلم في التشهد : ' إذا فعلت ذلك تمت
____________________
(1/420)
صلاتك ' ونحو ذلك ، وما لم يختلف فيه المسلمون أنه لا بد منه في الصلاة ، وتوارثوه فيما بينهم ، وتلاوموا على تركه . وبالجملة فالصلاة على ما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم وتوارثه الأمة أن يتطهر ، ويستر عورته ، ويقوم ، ويستقبل القبلة بوجهه ، ويتوجه إلى الله بقلبه ، ويخلص له العمل ويقول . الله أكبر بلسانه ، ويقرأ فاتحة الكتاب ، ويضم معها إلا في ثالثة الفرض ورابعته - سورة من القرآن ، ثم يركع ، وينحني بحيث يقدر على أن يمسح ركبتيه برءوس أصابعه حتى يطمئن راكعا ، ثم يرفع رأسه حتى يطمئن قائما ، ثم يسجد على الآراب ، السبعة اليدين . والرجلين . والركبتين . والوجه ، ثم يرفع رأسه حتى يستوي جالسا ، ثم يسجد ثانيا كذلك ، فهذه ركعة ثم يقعد على رأس كل ركعتين ، ويتشهد فإن كان أخر صلاته صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، ودعا أحب الدعاء إليه ، وسلم على من يليه من الملائكة والمسلمين ، فهذه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت أنه ترك شيئاً من ذلك قط عمدا من غير عذر في فريضة ، وصلاة الصحابة . والتابعين . ومن بعدهم من أئمة المسلمين ، وهي التي توارثوا أنها مسمى الصلاة ، وهي من ضروريات الملة ، نعم اختلف الفقهاء في أحرف منها هل هي أركان الصلاة لا يعتد بها بدونها . أو واجباتها التي تنقص بتركها ، أو أبعاض يلام على تركها وتجبر بسجدة السهو . والأصل في ذلك أن خضوع القلب لله وتوجهه إليه تعظيما ورغبة ورهبة - أمر خفي لا بد له من ضبط ، فضبطه النبي صلى الله عليه وسلم بشيئين : أن يستقبل القبلة بوجهه وبدنه . وأن يقول بلسانه : الله أكبر ، وذلك لأن من جبلة الإنسان أنه إذا استقر في قلبه شيء جرى حسب ذلك الأركان واللسان ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن في جسد
____________________
(1/421)
ابن آدم مضغة ' الحديث ففعل اللسان والأركان أقرب مظنة وخليفة لفعل القلب ، ولا يصلح للضبط إلا ما يكون كذلك . ولما كان الحق متعاليا عن الجهة - نصب التوجه إلى بيته ، وأعظم شعائره مقام التوجه إليه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' مقبلا إلى الله بوجهه وقلبه ' . ولما كان التكبير أفصح عبارة عن انقياد القلب للتعظيم لم يكن لفظ أحق أن ينصب مقام توجه القلب منه . وفيها وجوه أخرى : منها أن استقبال القبلة واجب من جهة تعظيم بيت الله وقت الصلاة ، ليكمل كل واحد بالآخر . ومنها أنه أشهر علامات الملة الحنفية التي يتميز بها الناس عن غيرها ، فلا بد من أن ينصب مثله علامة للدخول في الاسلام ، فوقت بأعظم الطاعات وأشهرها ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' من صلى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله ' . ومنها أن القيام لا يكون تعظيما إلا إذا كان مع استقبال . ومنها أنه لا بد لكل حال تباين سائر الحالات في الأحكام من أبتداء وانتهاء ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ' تحريمهما التكبير وتحليلها التسليم ' أما التعظيم بجسده فالأصل فيه ثلاث حالات : القيام بين يديه ، والركوع ، والسجود ، وأحسن التعظيم ما جمع بين الثلاث ، وكان التدريج من الأدنى إلى الأعلى أنفع في تنبيه النفس للخضوع من غيره ، وكان السجود
____________________
(1/422)
أعظم التعظيم يظن أنه مقصود بالذات ، وأن الباقي طريق إليه ، فوجب أن يؤدي حق هذا الشبه وذلك بتكراره . وأما ذكر الله فلا بد من توقيته أيضا ، فإن التوقيت أجمع لشملهم . أُطوع لقلوبهم . وأبعد من أن يذهب كل أحد إلى ما يقتضيه رأيه حسنا كان أو قبيحا ، وإنما تفوض إليهم الأدعية النافلة التي يخاطب بمثلها السابقون على أنهم أيضا لم يتركها النبي صلى الله عليه وسلم بغير توقيت ولو استجبابا وإذا تعين التوقيت فلا أحق من الفاتحة لأنها دعاء جامع أنزله الله تعالى على ألسنة عباده ، يعلمهم كيف يحمدون الله ، ويثنون عليه ، ويقرون له بتوحيد العبادة والاستعانة ، وكيف يسألونه الطريقة الجامعة لأنواع الخير ، ويتعوذون به من طريقة المغضوب عليهم والضالين ، وأحسن الدعاء أجمعه . ولما كان تعظيم القران و تلاوته واجبا في الملة ، ولا شيء من التعظيم مثل أن ينوه به في أعظم أركا 00 ن الإسلام وأم القربات وأشهر شعائر الدين ، وكانت تلاوته قربة كاملة تكمل الصلاة وتتمها - شرع لهم قراءة سورة من القرآن لأن السورة كلام تام تحدى به النبي صلى الله عليه وسلم ببلاغته المنكرين للنبوة ، ولانها منفرزة بمبدئها ومنتهاها ، ولكل واحد منها أسلوب أنيق وإذا قد ورد من الشارع قراءة بعض السورة في بعض الأحيان جعلوا في معناها ثلاث آيات قصار أو آية طويلة . ولما كان القيام لا تستوي أفراده ، فمنهم من يقوم مطرقا ، ومنهم من يقوم منحنيا ، ويعد جميع ذلك من القيام - مست الحاجة إلى تمييز الانحناء المقصود مما يسمى قياما ، فضبط بالركوع ، وهو الانحناء المفرط الذي تصل به رءوس الأصابع إلى الركبتين .
____________________
(1/423)
ولما لم يكن الركوع ، ولا السجود تعظيما إلا بأن يلبث على تلك الهيئة زمانا ، ويخضع لرب العالمين ، ويستشعر التعظيم قلبه في تلك الحالة - جعل ذلك ركنا لازما . ولما كان السجود والاستلقاء على البطن وسائر الهيآت القريبة منه - مشتركة في وضع الرأس على الأرض والأول تعظيم دون الباقي مست الحاجة إلى أن يضبط الفارق بينهما ، فقال : ' أمرت أن اسجد على سبعة أراب ' الحديث ولما كان كل من يهوي إلى السجود لا بد له من الانحناء حتى يصل إليه . وليس ذلك ركوعا بل هو طريق إلى السجدة - مست الحاجة إلى التفريق بين الركوع والسجود بفعل أجنبي يتميز به كل من الآخر ، ليكون كل واحد طاعة مستقلة يقصدها مستأنفا ، فتنبه النفس لثمرة كل واحد بانفرادها - وهو القومة - . ولما كانت السجدتان لا تصيران اثنين إلا بتخلل فعل أجنبي شرعت الجلسة بينهما . ولما كانت القومة والسجدة بدون الطمأنينة طيشا ولعبا منافيا للطاعة أمر بطمأنينة فيهما . ولما كان الخروج من الصلاة ينقض صلطهارة أو غير ذلك من موانع الصلاة ومفسداتها - قبيحا مستنكرا منافيا للتعظيم ، ولا بد من فعل ننتهي به الصلاة ويباح به ما حرم في الصلاة ولو لم يضبط لذهب كل واحد إلى هواه - وجب أن لا يكون الخروج إلا بكلام وهو أحسن كلام الناس أعني السلام ، وأن يوجب ذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' تحليلها التسليم ' .
____________________
(1/424)
وكان الصحابة استحبوا أن يقدموا على السلام قولهم : السلام على الله قبل عباده ، السلام على جبرائيل والسلام على فلان ، فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بالتحيات ، وبين سبب التغيير حيث قال : ' لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام ' يعني إنما الدعاء بالسلامة إن يناسب من لا تكون السلامة من العدم ولواحقه ذاتيا له ، ثم اختار بعده السلام على النبي تنويها بذكره وإثباتا اللإقرار برسالته أداء لبعض حقوقه ، ثم عمم بقوله : السلام علينا وعلى عياد الله الصالحين ، قال : فإذا قال ذلك أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض ' ثم أمر بالتشهد لأنه أعظم الأذكار قال : ' ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه ' وذلك لأن وقت الفراغ من الصلاة وقت الدعاء لأنه تغشى بغاشية عظيمة من الرحمة وحينئذ يستجاب الدعاء . ومن آداب الدعاء تقديم الثناء على الله والتوسل بنبي الله ، ليستجاب الدعاء ، ثم تقرر الأمر على ذلك ، وجعل التشهد ركنا لأن لولا هذه الأمور لكان الفراغ من الصلاة مثل فراغ المعرض أو النادم ، وهنالك وجوه كثيرة بعضها خفي المأخذ وبعضها ظاهر لم نذكرها اكتفاء بما ذكرنا . وبالجملة من تأمل فيما ذكرنا وفي القواعد التي أسلفناها علم قطعا أن الصلاة بهذه الكيفية هي التي ينبغي أن تكون ، وأنما لا تتصور العقل أحسن منها ولا أكمل ، وأنها هي الغنيمة الكبرى للمغتنم . ولما كان القليل من الصلاة لا يفيد فائدة معتدا بها ، والكثير جدا يعسر إقامته اقتضت حكمة الله ألا يشرع لهم أقل من ركعتين ، فالركعتان أقل الصلاة ، ولذلك قال : ' في كل ركعتين التحية ' . وههنا سر دقيق ، وهو أن سنة الله تعالى في خلق الأفراد والأشخاص
____________________
(1/425)
من الحيوان والنبات أن يكون هنالك شقان يضم كل واحد بالآخر ، ويجعلان شيئا واحدا ، وهو قوله تعالى : ! ( والشفع والوتر ) ! أما الحيوان فشقاه معلومان ، وربما تعرض الآفة شقا دون شق كالفالج ، أما النبات فالنواة والحبة فيهما شقان ، وإذا نبتت الخامة وإنما تنبت ورقتان كل ورقة ميراث أحد شقي النواة والحبة ، ثم يتحقق النمو على ذلك النمط ، فانتقلت هذه السنة من باب الخلق إلى باب التشريع في حظيرة القدس ، لأن التدبير فرع الخلق ، وانعكس من هناك في قلب النبي صلى الله عليه وسلم . فأصل الصلاة هو ركعة واحدة ، ولم يشرع أقل من ركعتين في عامة الصلاة ، وضمت كل واحدة بالأخرى وصارتا شيئا واحدا ، قالت عائشة رضي الله عنها : ' فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر ، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر ' وفي رواية - إلا المغرب فإنها كانت ثلاثا - . أقول الأصل في عدد الركعات أن الواجب الذي لا يسقط بحال إنما هو أحدى عشر ركعة ، وذلك لأنه اقتضت حكمة الله ألا يشرع في اليوم والليلة إلا عددا مباركا متوسطا لا يكون كثيرا جدا ، فيعسر إقامته على المكلفين جميعا ، ولا قليلا جدا ، فلا يفيد لهم ما أريد من الصلاة ، وقد علمت فيما سبق أن الأحد عشر من بين الأعداد أشبهها بالوتر الحقيقي ، ثم لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم واستقر الإسلام ، وكثر أهله ، وتوفرت الرغبات في الطاعة زيدت ست ركعات ، وأبقيت صلاة السفر على النمط الأول ، وذلك لأن الزيادة لا ينبغي أن تصل إلى مثل الشيء أو أكثره ،
____________________
(1/426)
وكان المناسب أن يجعل نصف الأصل لكن ليس لأحد عشر نصف بغير كسر ، فبدا عددان خمسة وستة ، وبالخمسة يصير عدد الركعات شفعا غير وتر ، فتعينت الستة ، وأما توزيع الركعات على الأعداد فمبني على آثار الأنبياء السابقين على ما يذكر في الأخبار ، وأيضا فالمغرب آخر الصلاة من وجه لأن العرب يعدون الليالي قبل الأيام ، فناسب أن يكون الواحد الوتر للركعات فيها ووقتها ضيق فلا تناسب زيادة ما زيد فيها آخرا ، ووقت الفجر وقت نوم وكسل فلم يزيد في عدد الركعات ، وزاد فيها استحباب طول القراءة لمن أطاقه ، وهو قوله تعالى : ! ( وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ) ! والله أعلم .
____________________
(1/427)
( أذكار الصلاة وهيأتها المندوب إليها ) اعلم أن الحد الأكمل الذي يستوفي فائدة الصلاة كاملة زائدة على الحد الذي لا بد منه بوجهين : بالكيف والكم . أما الكيف فأعني به الأذكار ، والهيآت ، ومؤاخذة الإنسان نفسه بأن يصلي لله كأنه يراه ، ولا يحدث فيها نفسه ، وأن يحترز من هيآت مكروهة ونحو ذلك . وأما الكم فصلوات يتنفلون بها ، وسيأتيك ذكر النوافل من بعد إن شاء الله تعالى . والأصل في الأذكار حديث علي رضي الله عنه في الجملة . وأبي هريرة . وعائشة . وجبير بن مطعم . وابن عمر . وعيرهم رضي الله عنهم في الاستفتاح ، وحديث عائشة . وابن مسعود . وأبي هريرة . وثوبان . وكعب بن عجرة رضي الله عنهم في سائر المواضع وغير هؤلاء ما نذكره تفصيلا . والأصل في الهيآت حديث أبي حميد الساعدي الذي حدثه في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فسلموا له ، وحديث عائشة . ووائل بن حجر رضي الله عنهما في الجملة ، وحديث ابن عمر رضي الله عنه في رفع اليدين ، وغير هؤلاء مما سنذكره ، والهيآت المندوبة ترجع إلى معان : منها تحقيق الخضوع ، وضم الأطراف ، والتنبيه للنفس على مثل الحال التي تعتري السوقة عند مناجاة الملوك من الهيبة والدهش ، كصف القدمين . ووضع اليمنى على اليسرى . وقصر النظر . وترك الالتفات . ومنها محاكاة ذكر الله وإيثاره على من سواه بأصابعه ويده حذو
____________________
(1/428)
ما يعلقه بجنانه ، ويقوله بلسانه ، كرفع اليدين ، والإشارة بالمسبحة ، ليكون بعض الأمر معاضدا لبعض . ومنها اختيار هيآت الوقار ومحاسن العادات ، والاحتراز عن الطيش والهيآت التي يذمها أهل الرأي ، وينسبونها إلى غير ذوي العقول ، كنقر الديك ، وإقعاء الكلب ، واحتفاز الثعلب ، وبروك البعير ، وافتراش السبع ، والتي تكون للمتخيرين وأهل البلاء كالاختصار . ومنها أن تكون الطاعة بطمأنينة وسكون ، وعلى رسل كجلسة الاستراحة ، ونصب اليمنى وافتراش اليسرى في القعدة الأولى لأنه أيسر لقيامه والقعود على الورك في الثانية لأنه أكثر راحة . وأما الأذكار فترجع إلى معان : منها إيقاظ النفس لتنبه للخضوع الذي وضع له الفعل كأذكار الركوع والسجود . ومنها الجهر بذكر الله ، ليكون تنبيها للقوم بانتقال الامام من ركن إلى ركن كالتكبيرات عند كل خفض ورفع . ومنها ألا تخلوا حالة في الصلاة من ذكر كالتكبيرات وكأذكار القومة والجلسة ، فإذا كبر رفع يديه إيذانا بأنه أعرض عما سوى الله تعالى ، ودخل في حيز المناجاة ، ويرفع إلى أذنيه أو منكبيه ، وكل ذلك سنة ، ووضع يده اليمنى على اليسرى وصف القدمين وقصر النظر على محل السجدة تعظيما وجمعا لأطراف البدن حذو جمع الخاطر ، ودعا دعاه الاستفتاح تمهيدا لحضور القلب وإزعاجا للخاطر إلى المناجاة .
____________________
(1/429)
وقد صح في ذلك صيغ ، منها اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ، اللهم نقي من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد . أقول الغسل بالثلج والبرد كناية عن تكفير الخطايا مع إيجاد الطمأنينة وسكون القلب ، والعرب تقول : برد قلبه أي سكن وإطمأن ، وأتاه الثلج أي اليقين . ومنها ! ( وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ) ! . ! ( إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) ! . وفي رواية - وأنا من المسلمين . ومنها سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك الله أكبر كبيرا ثلاثا . وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا ، ثم يتعوذ لقوله تعالى : ! ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) ! أقول : السر في ذلك أن من أعظم ضرر الشيطان أن يوسوس له في تأويل كتاب الله ما ليس بمرضي ، أو يصده عن التدبير . وفي التعوذ صيغ : منها أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . ومنها استعيذ بالله من الشيطان الرجيم .
____________________
(1/430)
ومنها أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه . ثم يبسمل سرا لما شرع الله لنا من تقديم التبرك باسم الله على القراءة ولأن فيه احتياطا إذ قد اختلفت الرواية هل هي آية من الفاتحة أم لا ؟ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفتتح الصلاة أي القراءة بالحمد لله رب العالمين ، ولا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم . أقول : ولا يبعد ان يكون جهر بها في بعض الأحيان ليعلمهم الصلاة والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يخص يتعلم هذه الأذكار الخواص من أصحابه ، ولا يجعلها بحيث يوأخذ بها العامة ويلادمون على تركها ، وهذا تأويل ما قاله مالك - رحمه الله - عندي ، وهو مفهوم قول أبي هريرة رضي الله عنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم يسكت بين التكبير و بين القراءة إسكاتة ، فقلت : بأبي وأمي إسكاتك بين التكبير والقراءة ، ما تقول فيه ؟ ثم يرتل سورة الفاتحة وسورة من القرآن ترتيلا يمد الحروف ويقف على رؤوس الآي يخافت في الظهر والعصر ويجهر الإمام في الفجر . وأولي المغرب والعشاء ، وإن كان مأموما وجب عليه الانصات والاستماع فإن جهر الإمام لم يقرأ إلا عند الإسكاته ، وإن خافت فله الخيره ، فإن قرأ فليقرأ الفاتحة قراءة لا يشوش على الإمام ، وهذا أولى الأقوال عندي ، وبه يجمع بين أحاديث الباب ، والسر فيه ما نص عليه من أن القراءة مع الإمام تشوش عليه وتفوت التدبر وتخالف تعظيم القرآن ، ولم يعزم عليهم أن يقرءوا سرا لأن العامة متى أردوا أن يصححوا الحروف بأجمعهم كانت لهم لجنة مشوشة ، فسجل في النهي عن التشويش ، ولم يعزم عليهم ما يؤدي إلى المنهي ، وأبقى خيره لمن استطاع ، وذلك غاية الرحمة في بالأمة .
____________________
(1/431)
والسر في مخالفته الظهر والعصر أن النهار مظنة الصخب واللغط في الأسواق والدور ، وأما غيرهما فوقت هدوء الأصوات والجهر أقرب إلى تذكر القوم واتعاظهم . قوله صلى الله عليه وسلم . إذا أمن الإمام ، فأمنوا ، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ' . أقول : الملائكة يحضرون الذكر رغبة منهم فيه ، ويؤمنون على أدعيتهم لأجل ما يترشح عليهم من الملأ الأعلى ، وفيه إظهار التأسي بالإمام وإقامة لسنة الأقتداء . ورويت إسكاتتان : إسكاتة بين التكبير والقراءة ليتحرم القوم بأجمعهم فيما بين ذلك ، فيقبلوا على استماع القراءة بعزيمة ، وإسكاتة بين قراءة الفاتحة والسورة ، قيل : ليتيسر لهم القراءة من غير تشويش وترك إنصات . أقول : الحديث الذي رواه أصحاب السنن ليس بصريح في الإسكاتة التي يفعلها الإمام لقراءة المأمومين ، فإن الظاهر أنها للتلفظ بآمين عند من يسر بها ، أو سكتة لطيفة تميز بين الفاتحة وآمين لئلا يشتبه غير القرآن بالقرآن ، عند من يجهر بها أو سكتة لطيفة ليرد إلى القارئ نفسه وعلى التنزل فاستغراب القرن الأول إياها يدل على أنها ليست سنة مستقرة ولا مما عمل به الجمهور والله أعلم . ويقرأ في الفجر ستين آية إلى مائة تداركا لقلة ركعاته بطول قراءته ، ولأن رين الأشغال المعاشية لم يستحكم بعد ، فيغتنم الفرصة لتدبر القرآن . وفي العشاء : ! ( سبح اسم ربك الأعلى ) !
____________________
(1/432)
! ( والليل إذا يغشى ) ! ومثلها ، وقصة معاذ - وما كره النبي صلى الله عليه وسلم من تنقير القوم - مشهورة . وحمل الظهر على الفجر ، والعصر على العشاء في بعض الروايات ، والظهر على العشاء والعصر على المغرب في بعضها . وفي المغرب بقصار المفصل لضيق الوقت ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطول ، ويخفف على ما يرى من المصلحة الخاصة بالوقت ، وإنما أمر الناس بالتخفيف فإن فيهم الضعيف . وفيهم السقيم . وفيهم ذا الحاجة وقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض السور في بعض الصلوات لفوائد من غير حتم ، ولا طلب مؤكد ؛ فمن اتبع فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج . كما اختار في الأضحى . والفطر ( ق ) و ( أقتربت ) لبديع أسلوبهما وجمعهما لعامه مقاصد القرآن في اختصار ، وإلى ذلك حاجة عند اجتماع الناس ، أو ( سبح اسم ) و ( هل أتاك ) للتخفيف وأسلوبهما البديع . وفي الجمعة ، سورة - الجمعة والمنافقين - للمناسبة والتحذير ، فإن الجمعة تجمع من المنافقين وأشباههم من لا يجمعه غير الجمعة وفي الفجر يوم الجمعة ( ألم تنزيل ) و ( هل أتى ) تذكيرا للساعة وما فيها والجمعة تكون البهائم فيها مسيخة أن تكون الساعة فكذلك ينبغي لبني آدم أن يكونوا فزعين بها . وإذا مر القارئ على ( سبح اسم ربك الأعلى ) قال : سبحان ربي الأعلى ومن قرأ ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ، ومن قرأ ( أليس ذلك بقادر على أن يحي الموتى ) فليقل بلى ، ومن قرأ ( فبأي حديث بعده يؤمنون ) فليقل : آمنا بالله ، ولا يخفى ما فيه من الأدب
____________________
(1/433)
والمسارعة إلي الخير ، فإذا أراد أن يركع رفع يديه حذو منكبيه أو أذنيه ، وكذلك إذا رفع رأسه من الركوع ولا يفعل ذلك في السجود . أقول : السر في ذلك أن رفع اليدين فعل تعظيمي ينبه النفس على ترك الاشغال المنافية للصلاة والدخول في حيز المناجاة ، فشرع ابتداء كل فعل من التعظيمات الثلاث به ، لتتنبه النفس لثمرة ذلك الفعل مستأنفا ، وهو من الهيآت فعله النبي صلى الله عليه وسلم مرة ، وتركه مرة ، والكل سنة ، وأخذ بكل واحد جماعة من الصحابة والتابعين . ومن بعدهم ، وهذا أحد المواضع التي اختلف فيها الفريقان أهل المدينة والكوفة ، ولكل واحد أصل أصيل ، والحق عندي في مثل ذلك أن الكل سنة ونظيره الوتر بركعة واحدة أو بثلاث والذي يرفع أحب إلي ممن لا يرفع ، فإن أحاديث الرفع أكثر وأثبت غير أن لا ينبغي لإنسان في مثل هذه الصور أن يثير على نفسه فتنة عوام بلده ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم ' لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة ' ولا يبعد أن يكون ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ظن أن السبة المتقررة آخرا هو تركه ، لما تلقن من أن مبنى الصلاة على سكون الأطراف ولم يظهر له أن الرفع فعل تعظيمي ، ولذلك ابتدأ به في الصلاة ، أو لما تلقن من أنه فعل ينبئ على الترك ، فلا يناسب كونه في أثناء الصلاة ، ولم يظهر له أن تجديد التنبه لترك ما سوى الله عند كل فعل أصل من الصلاة مطلوب والله أعلم . قوله ' لا يفعل ذلك في السجود ' أقول . القومة شرعت فارقة بين الركوع والسجود ، فالرفع معها رفع للسجود فلا معنى للتكرار ، ويكبر في كل خفض ورفع للتنبيه المذكور وليسمع الجماعة فيتنبهوا للانتقال . ومن هيآت الركوع أن يضع راحتيه على ركبتيه ، ويجعل أصابعه أسفل
____________________
(1/434)
من ذلك كالقابض ، ويجافي بمرفقيه ، ويعتدل ، فلا يصبى رأسه ، ولا يقنع ومن أذكاره : ' سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ' ، وفيه العمل بقوله تعالى : ! ( فسبح بحمد ربك واستغفره ) ! ومنها ' سبوح قدوس ربنا ورب الملائكة والروح ' ومنها ' سبحان ربي العظيم ' ثلاثا ، ومنها ' اللهم لك ركعت ، وبك آمنت ولك أسلمت ، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي ' . ومن هيآت القومة أن يستوي قائما حتى يعود كل فقار مكانه ، وأن يرفع يديه . ومن أذكارها : ' سمع الله لمن حمده ' ومنها ' اللهم ربنا لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ' وجاءت زيادة ' ملء السموات والأرض وملء ما شئت من شيء بعد ' وزاد في رواية : أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد ، وكلنا لك عبد ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ' ومنها ' اللهم طهرني بالثلج والبرد ، والماء البارد ، اللهم طهرني من الذنوب و الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ' . واختلفت الأحاديث . ومذاهب الصحابة . والتابعين في قنوت الصبح ، وعندي أن القنوت وتركه سيان ، ومن لم يقنت إلا عند حادثة عظيمة ، أو كلمات يسيرة إخفاءة قبل الركوع أحب إلي ، لأن الأحاديث شاهدة على أن الدعاء على رعل وذكوان كان أولا ثم ترك ، وهذا وإن لم يدل على
____________________
(1/435)
نسخ مطلق القنوت ، لكنها تؤمي إلى أن القنوت ليس سنة مستقرة ، أو نقول : ليس وظيفة راتبة ، وهو قول الصحابي : أن بنى محدث يعني المواظبة عليه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه إذا نابهم أمر دعوا للمسلمين وعلى الكافرين بعد الركوع أو قبله ، ولم يتركوه بمعنى عدم القول عند النائبة . ومن هيآت السجود أن يضع ركبتيه قبل يديه ، ولا يبسط ذراعيه انبساط الكلب ، ويجافي يديه حتى يبدو بياض إبطيه ، ويستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة . ومن أذكاره : ' سبحان ربي الأعلى ثلاثا ' ومنها ' سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ' ومنها : ' اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت ، سجد وجهي للذي خلقه ، وصوره ، وشق سمعه وبصره ، فتبارك الله أحسن الخالقين ' ومنها : ' سبوح قدوس ربنا و الملائكة والروح ' ومنها : اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره ومنها : اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك ' . وإنما قال صلى الله عليه وسلم ' فأعني على نفسك بكثرة السجود ' لأن السجود غاية التعظيم ، فهو معراج المؤمن ، ووقت خلوص ملكيته من أسر البهيمية ، ومن مكن من نفسه للغاشية الالهية فقد أعان مفيض الخير . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' أمتي يوم القيامة غر من السجود محجلون من الوضوء ' .
____________________
(1/436)
أقول : عالم المثال مبناه على مناسبة الأرواح بالأشباح كما ظهر منع الصائمين عن الأكل والجماع بالختم على الأفواه والفروج . ومن هيآت ما بين السجدتين أن يجلس على رجله اليسرى ، وينصب اليمنى ، ويضع راحتيه على ركبتيه . ومن أذكاره : ' اللهم اغفر لي ، وارحمني ، واهدني ، وعافني ، وارزقني ' . ومن هيآت القعدة أن يجلس على رجله اليسرى ، وينصب اليمنى ، وروي في الأخيرة قدم رجله ، اليسرى ونصب الأخرى ، وقعد على مقعدته ، وأن يضع يديه على ركبتيه ، وورد يلقم كفه اليسرى ركبته ، وأن يعقد ثلاثا وخمسين وأشار بالسبابة ، وروي قبض ثنتين ، وحلق حلقة ، والسر في رفع الأصبع الإشارة إلى التوحيد ، ليتعاضد القول والفعل ، ويصير المعنى متمثلا متصورا ، ومن قال : أن مذهب أبي حنيفة رحمه الله ترك الإشارة بالمسبحة فقد أخطأ ، ولا يعضده رواية ولا دراية قاله ابن الهمام ، نعم لم يذكره محمد رحمه الله في الأصل ، وذكره في الموطأ ، ووجدت بعضهم لا يميز بين قولنا ليست الإشارة في ظاهر المذهب ، وقولنا ظاهر المذهب أنها ليست ، ومفاسد الجهل والتعصب أكثر من أن تحصى . وجاء في التشهد صيغ : أصحها تشهد ابن مسعود رضي الله عنه ، ثم تشهد ابن عباس . وعمر رضي الله عنهما ؛ وهي كأحرف القرآن كلها شاف كاف ، وأصح صيغ الصلاة ' اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد
____________________
(1/437)
واللهم صلي على محمد وأزواجه وذريته ، كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد وأزواجه وذريته ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ' . وقد ورد في صيغ الدعاء في التشهد : ' اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ، وأعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من شر المسيح الدجال ، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ' وورد ' اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا : ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني أنك أنت الغفور الرحيم ' وورد ' اللهم اغفر لي ما قدمت ، وما أخرت ، وما أسررت ، وما أعلنت ، وما أسرفت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم ، وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت . ومن أذكار ما بعد الصلاة استغفر الله ثلاثا ، واللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، وله النعمة ، وله الفضل ، وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، اللهم إني أعوذ بك من الجبن ، وأعوذ بك من البخل ، وأعوذ بك من أرذل العمر ، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر وثلاث وثلاثون تسبيحة ، وثلاث وثلاثون تحميدة . وأربع وثلاثون تكبيرة . وروى من كل ثلاث وثلاثون وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له الخ ، وروي من كل خمس وعشرون ، والرابع لا إله إلا الله ، ويروى يسبحون في دبر كل صلاة عشرا ، ويحمدون عشرا ، ويكبرون عشرا ؛ وروي من كل مائة ، والأدعية كلها بمنزلة أحرف القرآن ، من من قرأ منها شيئا فاز بالثواب الموعود . والأولى أن يأتي بهذه الأذكار قبل الرواتب فإنه جاء في بعض الأذكار
____________________
(1/438)
ما يدل على ذلك نصا كقوله : من قال - قبل أن ينصرف ، ويثني رجليه من صلاة المغرب والصبح لا إله إلا الله الخ ، وكقول الراوي كان إذا سلم من صلاته يقول بصوته الأعلى : لا إله إلا الله الخ ، قال ابن عباس : كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير ، وفي بعضها ما يدل ظاهرا كقوله ' دبر كل صلاة ' ، وأما قول عائشة : كان إذا سلم لا يقعد إلا مقدار ما يقول : اللهم أنت السلام فيتحمل وجوها ، منها أنه كان لا يقعد بهيئة الصلاة إلا هذا القدر ، ولكنه كان يتيامن ، أو يتياسر ، أو يقبل على القوم بوجهه ، فيأتي بالأذكار ؛ لئلا يظن الظان أن الأذكار من الصلاة ، ومنها أنه كان حينا بعد حين يترك الأذكار غير هذه الكلمات يعلمهم أنها ليست فريضة ، وإنما مقتضى كان وجود هذا الفعل كثير لا مرة ولا مرتين ولا المواظبة . والأصل في الرواتب أن يأتي بها في بيته ، والسر في ذلك كله أن يطع الفصل بين الفرض والنوافل بما ليس من جنسهما ، وأن يكون فصلا معتدا به يدرك ببادئ الرأي ، وهو قول عمر رضي الله عنه لمن أراد أن يشفع بعد المكتوبة : ' اجلس فإنه لم يهلك أهل الكتاب إلا أنه لم يكن بين صلواتهم فصل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أصاب الله بك يا ابن الخطاب ' ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ' اجعلوها في بيوتكم ' والله أعلم .
____________________
(1/439)
( ما لا يجوز في الصلاة وسجود السهو والتلاوة ) ( ما لا يجوز في الصلاة ) واعلم أن مبنى الصلاة على خشوع الأطراف ، وحضور القلب ، وكف اللسان إلا عن ذكر الله ، وقراءة القرآن . . . ، فكل هيئة باينت الخشوع ، وكل كلمة ليست بذكر الله ، فإن ذلك ينافي الصلاة ، لا تتم الصلاة إلا بتركه والكف عنه ، لكن هذه الأشياء متفاوتة ، وما كل نقصان يبطل الصلاة بالكلية ، والتمييز بين ما يبطلها بالكلية ، وبين ما ينقصها في الجملة - تشريع موكول إلى نص الشارع ، وللفقهاء في ذلك كلام كثير ، وتطبيق الأحاديث الصحيحة عليه عسير ، وأوفق المذاهب بالحديث في هذا الباب أوسعها . ولا شك أن الفعل الكثير الذي يتبدل به المجلس ، والقول الكثير الذي يستكثر جدا - ناقص . فمن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ' وتعليله صلى الله عليه وسلم التراب في الرجل يسوي الترتب حيث يسجد ، : ' إن كنت فاعلا فواحدة ' ، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن الخصر وهو وضع اليد على الخاصرة ' فإنه راحة أهل النار ' يعني هيئة أهل البلاء المتحيين المدهوشين ، وعن الالتفات ' فإنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ' يعني ينقص الصلاة وينافي كماله .
____________________
(1/440)
وقوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع فإن الشيطان يدخل في فيه ' أقول : يريد أن التثاؤب مظنة لدخول ذباب أو نحوه مما يشوش خاطره ، ويصده عما هو بسبيله . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى ، فإن الرحمة تواجهه ' وقوله صلى الله عليه وسلم : ' لا يزال الله تعالى مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت ، فإذا ألتفت أعرض عنه ' وكذا ما ورد من إجابة الله للعبد في الصلاته ، أقول : هذا إشارة إلى أن جود الحق عام فائض ، وأنه إنما تتفاوت النفوس فيما بينها باستعدادها الجبلي أوالكسبي ، فإذا توجه إلى الله فتح له باب من جوده ، وإذا أعرض حرمه ، بل استحق العقوبة بأعراضة . قوله صلى الله عليه وسلم : ' العطاس والنعاس والتثاؤب في الصلاة والحيض والقيء والرعاف من الشيطان ' أقول : يريد أنها منافية لمعنى الصلاة ومبناها وأما الأول فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل أشياء في الصلاة بيانا للشرع ، وقرر على أشياء ، فذلك ما دونه لا يبطل الصلاة . والحاصل من الاستقراء أن القول اليسير - مثل ألعنك بلعنة الله ثلاثا ، ويرحمك الله ، ويا ثكل أماه ، وما شأنكم تنظرون إلي ، والبطش اليسير مثل وضع صبيته من العاتق ورفعها ، وغمز الرجل ، ومثل فتح الباب ، والمشي اليسير كالنزول من درج المنبر إلى مكان ، ليتأتى منه السجود في أصل المنبر ، والتأخر من موضع الإمام إلى الصف ، والتقدم إلى الباب المقابل ؛ ليفتح ، والبكاء خوفا من الله ، والإشارة المفهمة ، وقتل الحية والعقرب ، واللحظ يمينا وشمالا من غير لي العنق - لا يفسد ، وإن تعلق القذر بجسده أو ثوبه إذا لم يكن بفعله أو كان لا يعلمه ، لا يفسد هذا والله أعلم بحقيقة الحال .
____________________
(1/441)
( سجود السهو ) وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما إذا قصر الإنسان في صلاته أن يسجد سجدتين تداركا لما فرط ، ففيه شبه القضاء وشبه الكفارة . والمواضع التي ظهر فيها النص أربعة : الأول قوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا شك أحدكم في صلاته ، ولم يدر كم صلى ثلاثا أو أربعا ، فليطرح الشك ، وليبن على ما استيقن ، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم ، فإن كان صلى خمسا شفعها بهاتين السجدتين ، وإن كان صلى تماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان ' أي زيادة في الخير ، وفي معناه الشك في الركوع والسجود . الثاني أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا فسجد سجدتين بعد ما سلم وفي معنى زيادة الركعة زيادة الركن . الثالث أنه صلى الله عليه وسلم سلم في ركعتين ، فقيل له في ذلك ، فصلى ما ترك ثم سجد سجدتين ، وأيضا روى أنه سلم وقد بقي عليه ركعة بمثله ، وفي معناه أن يفعل سهوا ما يبطل عمده . الرابع أنه صلى الله عليه وسلم قام في الركعتين لم يجلس حتى إذا قضى الصلاة سجد سجدتين قبل أن يسلم ، وفي معناه ترك التشهد في القعود . قوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا قام الإمام في الركعتين فإن ذكر قبل أن يستوي قائما فليجلس ، وإن استوى قائما ، فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو ، أقول : وذلك أنه إذا قام فات موضعه ، فإن رجع لا أحكم ببطلان صلاته ، وفي الحديث دليل على أن من كان قريب الاستواء ولما يستو فإنه يجلس خلافا لما عليه العامة
____________________
(1/442)
( سجود التلاوة ) وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قرأ آية فيها أمر بالسجود ، أو بيان ثواب من سجد ، وعقاب من أبى عنه أن يسجد تعظيما لكلام ربه ومسارعة إلى الخير ، وليس منها مواضع سجود الملائكة لآدم عليه السلام لأن الكلام في السجود لله تعالى . والآيات التي ظهر فيها النص أربع عشرة آية أو خمس عشرة ، وبين عمر رضي الله عنه أنها مستحبة ، وليست بواجبة على رأس المنبر ، فلم ينكر السامعون ، وسلموا له ، وتاويل حديث - سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم ، وسجد معه المسلمون ، والمشركون . والجن . والأنس - عندي أن في ذلك الوقت ظهر الحق ظهورا بينا ، فلم يكن لأحد إلا الخضوع والاستسلام ، فلما رجعوا إلى طبيعتهم كفر من كفر ، وأسلم من أسلم ، ولم يقبل شيخ من قريش تلك الغاشية الإلهية لقوة الختم على قلبه إلا بأن رفع التراب إلى الجبهة ، فعجل تعذيبه بأن قتل ببدر ، ومن أذكار سجدة التلاوة : سجد وجهي للذي خلقه ، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته ، ومنها اللهم اكتب لي بها عندك أجرا ، وضع بها عني وزرا ، واجعلها لي عندك ذخرا ، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود .
____________________
(1/443)
( النوافل ) لما كان من الرحمة المرعية في الشرائع - أن يبين لهم ما لا بد منه ، وما يحصل به فائدة الطاعة كاملة ، ليأخذ كل إنسان حظه ، ويتمسك المشغول والمقبل على الارتفاقات بما لا بد منه ، ويؤدي الفارغ المقبل على تهذيب نفسه وإصلاح آخرته الكامل - توجهت العناية التشريعية إلى بيان صلوات يتنفلون بها ، وتوقيتها بأسباب وأوقات تليق بها ، وأن يحث عليها ، ويرغب فيها ، ويفصح عن فوائدها ، وإلى ترغيبهم في الصلاة النافلة غير المؤقتة إجمالا إلا عند مانع كالأوقات المنهية . فمنها رواتب الفرائض ، والأصل فيها أن الأشغال الدنيوية لما كانت منسية ذكر الله صادة عن تدبر الأذكار وتحصيل ثمرة الطاعات فإنها تورث إخلادا إلى الهيئة البهيمية وقسوة ودهشا للملكية - وجب أن يشرع لهم مصقلة يستعملونها قبل الفرائض ؛ ليكون الدخول فيها على حين صفاء القلب وجمع الهمة ، وكثيرا ما لا يصلي الإنسان بحيث يستوفي فائدة الصلاة ، وهو المشار إليه في قوله صلى الله عليه وسلم ' كم من مصل ليس له من صلاته إلا نصفها ثلثها ربعها ' فوجب أن يسن بعدها صلاة تكملة للمقصود وآكدها عشر ركعات ، أو اثنتا عشرة ركعة متوزعة على الأوقات وذلك أنه أراد أن يزيد بعدد الركعات الأصلية ، وهي إحدى عشرة لكنها أشفاع ، فاختار أحد العددين . قوله صلى الله عليه وسلم : ' بنى له بيت في الجنة ' أقول هذا إشارة إلى أنه مكن من نفسه لحظ عظيم من الرحمة
____________________
(1/444)
قوله صلى الله عليه وسلم : ' ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها ' أقول : إنما كانتا خيرا منها لأن الدنيا فانية ، ونعيمها لا يخلو عن كدر النصب والتعب ، وثوابها باق غير كدر وقوله صلى الله عليه وسلم : ' من صلى الفجر في جماعة ، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة ' أقول : هذا هو الاعتكاف الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم ، وقد مر فوائد الاعتكاف وقوله صلى الله عليه وسلم في أربع قبل الظهر : ' تفتح لهن أبواب اسماء ' وقوله صلى الله عليه وسلم ' إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء ، فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح ' وقوله صلى الله عليه وسلم ' ما مشيء إلا يسبح في تلك الساعة ' أقول : قد ذكرنا من قبل أن المتعالي عن الوقت له تجليات في الأوقات ، وأن الروحانية تنتشر في بعض الأوقات ، فراجع هذا الفصل وإنما سن أربع بعد الجمعة لمن صلاها في المسجد ، وركعتان بعدها لمن صلاها في بيته لئلا يحصل مثل الصلاة في وقتها ومكانها في اجتماع عظيم من الناس ، فإن ذلك يفتح على العوام ظن الإعراض من الجماعة ونحو ذلك من الأوهام ، وهو أمره صلى الله عليه وسلم ألا يوصل صلاة بصلاة حتى يتكلم ، أو يخرج ، وروى أربع قبل العصر وست بعد المغرب ولم يسن بعد الفجر لأن السنة فيه الجلوس في موضع الصلاة إلى صلاة الإشراق ، فحصل المقصود ، ولأن الصلاة بعده تفتح باب المشابهة بالمجوس ، ولا بعد العصر للمشابهة المذكورة ومنها صلاة الليل اعلم أنه لما كان آخر الليل - وقت صفاء الخاطر عن الاشغال المشوشة وجمع القلب . وهدء الصوت ونوم الناس . وابعد من
____________________
(1/445)
الرياء والسمعة - وأفضل أوقات الطاعة ما كان فيه الفراغ وإقبال الخاطر ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم ' وصلوا بالليل والناس نياما ' وقوله تعالى : ( إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوام قيلا إن لك في النهار سحبا طويلا ) وأيضا فذلك الوقت وقت نزول الرحمة الإلهية ، وأقرب ما يكون الرب إلى العبد فيه ، وقد ذكرناه من قبل ، وأيضا فللسهر خاصية عجيبة في إضعاف البهيمية ، وهو بمنزلة الترياق ، ولذلك جرت عادة طوائف الناس أنهم إذا أرادوا تسخير السباع وتعليمها الصيد لم يستطيعوه إلا من قبل السهر والجوع ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن هذا السهر جهد وثقل ' الحديث - كانت العناية بصلاة التهجد أكثر فبين النبي صلى الله عليه وسلم فضائلها ، وضبط آدابها وأذكارها قوله صلى الله عليه وسلم ' يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد ' الحديث أقول : الشيطان يلذذ إليه النوم ، ويوسوس إليه أن الليل طويل ، ووسوسته تلك أكيدة شديدة لا تنقشع إلا بتدبير بالغ يندفع به النوم ، وينفتح به من التوجه إلى الله ، فلذلك
____________________
(1/446)
سن أن يذكر الله إذا هب وهو يمسح النوم عن وجهه ، ثم يتوضأ ويتسوك ، ثم يصلي ركعتين خفيفتين ، ثم يطول بالآداب والأذكار ما شاء ، وإني جربت تلك العقد الثلاث ، وشاهدت ضربها وتأثيرها مع علمي حينئذ بأنه من الشيطان ، وذكري هذا الحديث . قوله صلى الله عليه وسلم ' رب كاسية في الدنيا - أي بأصناف اللباس - عارية في الآخرة ' أي جزاء وفاقا لخلو نفسها عن الفضائل النفسانية . قوله صلى الله عليه وسلم ' ماذا أنزل ' الحديث . أقول : هذا دليل واضح على تمثل المعاني ونزولها إلى الأرض قبل وجودها المحسوس . قوله صلى الله عليه وسلم ' ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا ' الحديث قالوا هذه كناية عن تهيؤ النفوس لاستنزال رحمة الله من وجهه هدء الأصوات الشاغلة عن الحضور ، وصفاء القلب عن الأشغال المشوشة ، والبعد من الرياء ، وعندي أنه مع ذلك كناية عن شيء متجدد يستحق أن يعبر عنه بالنزول ، وقد أشرنا إلى شيء من هذا ، ولهذين السرين قال النبي صلى الله عليه وسلم ' أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر ' وقال : ' أن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه ' وقال : عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وهو قربة لكم إلى ربكم ، مكفرة للسيئات ، منهاة عن الإثم ، قد ذكرنا أسرار التكبير والنهي عن الإثم وغيرهما مراجع .
____________________
(1/447)
قوله صلى الله عليه وسلم : ' من أوى إلى فراشه طاهراً يذكر الله حتى يدركه النعاس لم ينقلب ساعة من الليل يسأل الله شيئا من خير الدنيا والآخرة إلا أعطاه ' . أقول معناه من نام على حالة الإحسان الجامع بين التشبه بالملكوت . والتطلع إلى الجبروت لم يزل طول ليلته على تلك الحالة ، وكانت نفسه راجعة إلى الله في عبادة المقربين . ومن سنن التهجد أن يذكر الله إذا قام من النوم قبل أن يتوضأ ، وقد ذكر فيه صيغ منها ' اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت الحق وعدك الحق ، ولقاؤك حق ، وقولك حق ، والجنة حق ، والنار حق والنبيون حق ، ومحمد حق ، والساعة حق ، اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت ، وما أخرت ، وما أسررت ، وما أعلنت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم ، وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت ، ولا إله غيرك ' . ومنها : أن كبر الله عشرا ، وحمد الله عشرا ، وقال : سبحان الله وبحمده عشرا ، وقال : سبحان الملك القدوس عشرا ، واستغفر الله عشرا وهلل عشرا ، ثم قال : اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا ، وضيق يوم القيامة عشرا . ومنعها : ' لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك ، أستغفرك لذنبي ،
____________________
(1/448)
وأسألك رحمتك ، اللهم زدني علما ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب . ومنها تلاوة : ! ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) ! إلى آخر السورة ، ثم يستوك ، ويتوضأ ، ويصلي إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشر ركعة منها الوتر . ومن آداب صلاة الليل أن يواظب على الأذكار التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أركان الصلاة ، وأن يسلم على كل ركعتين ، ثم يرفع يديه يقول : يا رب يا رب يبتهل في الدعاء ، وكان في دعائه صلى الله عليه وسلم اللهم اجعل في قلبي نورا ، وفي بصري نورا ، وفي سمعي نورا ، وعن يميني نورا ، وعن يساري نورا ، وفوقي نورا ، وتحتي نورا ، وأمامي نورا ، وخلفي نورا ، واجعل لي نورا ' . وقد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم على وجوه ، والكل سنة ، والأصل أن صلاة الليل هو الوتر ، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم ' إن الله أمدكم بصلاة هي الوتر ، فصلوها ما بين العشاء والفجر ' وإنما شرعها النبي صلى الله عليه وسلم وترا لأن الوتر عدد مبارك ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم ' إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن ' لكن لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن القيام لصلاة الليل جهد لا يطيقه إلا من وفق له
____________________
(1/449)
لم يشرعه تشريعا عاما ، ورخص في تقديم الوتر أول الليل ، ورغب في تأخيره ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم ' من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله ، ومن طمع أن يوتر آخره فليوتر آخره ، فإن صلاة الليل مشهودة ، وذلك أفضل ' ، والحق أن الوتر سنة هو أوكد السنن بينه علي وابن عمر . وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم . قوله صلى الله عليه وسلم ' أن الله أمدكم بصلاة هي خيرا لكم من حمر النعم ' . أقول : هذا إشارة إلى أن الله تعالى لم يفرض عليهم إلا مقدارا يتأتى منهم ، ففرض عليهم أولا إحدى عشرة ركعة ، ثم أكملها بباقي الركعات في الحضر ، ثم أمدها بالوتر للمحسنين لعلمه صلى الله عليه وسلم أن المستعدين للإحسان يحتاجون إلى مقدار زائد ، فجعل الزيادة بقدر الأصل إحدى عشرة ركعة ، وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه للأعرابي : ليس لك ولأصحابك . ومن أذكار الوتر كلمات علمها النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما ، فكان يقولها في قنوت الوتر : اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، فإنك تقضي ، ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت . ومنها أن يقول في آخره : اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك .
____________________
(1/450)
ومنها أن يقول إذا سلم : سبحان الملك القدوس ثلاث مرات يرفع صوته في الثالثة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلاها ثلاثا يقرأ في الأولى : ! ( سبح اسم ربك الأعلى ) ! وفي الثانية : ! ( قل يا أيها الكافرون ) ! وفي الثالثة : ! ( قل هو الله أحد ) ! والمعوذتين . ومنها قيام شهر رمضان ، والسر في مشروعيته أن المقصود من رمضان أن يلحق المسلمون بالملائكة ، ويتشبهون بهم ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على درجتين : درجة العوام - وهي صوم رمضان والاكتفاء على الفرائض - ودرجة المحسنين - وهي صوم رمضان وقيام لياليه . وتنزيه اللسان مع الاعتكاف وشد المئزر في العشر الأواخر - وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن جميع الأمة لا يستطيعون الأخذ بالدرجة العليا ، ولا بد من أن يفعل كل واحد مجهوده . قوله صلى الله عليه وسلم ' ما زال بكم الذي رأيت من ضيعكم حتى خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به ' .
____________________
(1/451)
اعلم أن العبادات لا تؤقت عليهم إلا بما إطمأنت به نفوسهم ، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتاد ذلك أوائل الأمة ، فتطمئن به نفوسهم ، وسجدوا في نفوسهم عند التقصير فيها التفريط في جنب الله ، أو يصير من شعائر الدين ، فيفرض عليهم ، وينزل القرآن ، فيثقل على أواخرهم ، وما خشي ذلك حتى تفرس أن الرحمة التشريعية تريد أن تكلفهم بالتشبه بالملكوت ، وأن ليس ببعيد أن ينزل القرآن لأدنى تشهير فيهم واطمئنانهم به وعضهم عليه بالنواجذ ولقد صدق الله عز وجل فراسته ، فنفث في قلوب المؤمنين من بعده أن يعضوا عليها بنواجذهم . قوله صلى الله عليه وسلم ' من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ' وذلك لأنه بالأخذ بهذه الدرجة أمكن من نفسه لنفحات ربه المقتضية لظهور الملكية وتكفير السيئات . وزادت الصحابة ومن بعدهم في قيام رمضان ثلاثة أشياء : الاجتماع له في مساجدهم ، وذلك لأنه يفيد التيسير على خاصتهم وعامتهم ، وأداؤه في أول الليل مع القول بأن صلاة أخر الليل مشهودة ، وهي أفضل كما نبه عمر رضي عنه لهذا التيسير الذي أشرنا إليه ، وعدده عشرون ركعة ، وذلك لأنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم شرع للمحسنين إحدى عشرة ركعة في جميع السنة ، فحكموا أنه لا ينبغي أن يكون حظ المسلم في رمضان عند قصده الاقتحام في لجة التشبه بالملكوت أقل من ضعفها . ومنها الضحى وسرها أن الحكمة الإلهية اقتضت ألا يخلو كل ربع من أرباع النهار من صلاة تذكر له ما ذهل عنه من ذكر الله لأن الربع ثلاث ساعات ، وهي أول كثرة للمقدار المستعمل عندهم في أجزاء النهار عربهم وعجمهم ، ولذلك كان الضحى سنة الصالحين قبل النبي صلى الله عليه وسلم . وأيضا فأول النهار وقت ابتغاء الرزق والسعي في المعيشة ، فسن في
____________________
(1/452)
ذلك الوقت صلاة ليكون ترياقا لسم الغفلة الطارئة فيه بمنزلة ما سن النبي صلى الله عليه وسلم لداخل في السوق من ذكر لا إله إلا الله وحده لا شريك له الخ . . . وللضحى ثلاث درجات أقلها ركعتان ، وفيها أنها تجزئ عن الصدقات الواجبة ' على كل سلامى ابن آدم ' وذلك أن إبقاء كل مفصل على صحته المناسبة له نعمة عظيمة تستوجب الحد بأداء الحسنات لله والصلاة أعظم الحسنات تتأتي بجميع الأعضاء الظاهرة والقوى الباطنة . وثانيها أربع ركعات ، وفيها عن الله تعالى ' يا ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك أخره ' أقول : معناه أنه نصاب صالح من تهذيب النفس وإن لم يعمل عملا مثله إلى آخر النهار . وثالثها ما زاد عليها كثماني ركعات وثنتي عشرة . وأكمل أوقاته حين يترحل النهار وترمض الفصال . ومنها صلاة الاستخارة ، وكان أهل الجاهلية إذا عنت لهم حاجة من سفر أو نكاح أو بيع استقسموا بالأزلام ، فنهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه غير معتمد على أصل ، وإنما هو محض اتفاق ، ولأنه افتراء على الله بقولهم : أمرني ربي ، ونهاني ربي ، فوضهم من ذلك الاستخارة ؛ فإن الإنسان إذا استمطر العلم من ربه ، وطلب منه كشف مرضاة الله في ذلك الأمر ، ولج في قلبه بالوقوف على بابه - لم يتراخ من ذلك فيضان سر إلهي ، وأيضا فمن أعظم فوائدها أن يغنى الإنسان عن
____________________
(1/453)
مراد نفسه ، ونتقاد بهيميته لملكيته ، ويسلم وجهه لله ، فإذا فعل ذلك صار بمنزلة الملائكة في انتظارهم لإلهام الله ، فإذا ألهموا سعوا في الأمر بداعية إلهية لا داعية نفسانية . وعندي أن إكثار الاستخارة في الأمور ترياق مجرب لتحصيل شبه الملائكة . وضبط النبي صلى الله عليه وسلم آدابها ودعاءها ، فشرع ركعتين ، وعلم ' اللهم إني استخيرك بعلمك ، واستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ، ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال : في عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ، ويسره لي ، ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال : في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني ، واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم أرضني به ، قال . ويسمي حاجته . ومنها صلاة الحاحة ، والأصل فيها أن الابتغاء من الناس وطلب الحاجة منهم مظنة أن يرى إعانة ما من غير الله تعالى ، فيخل بتوحيد الاستعانة ، فشرع لهم صلاة ودعاء ليدفع عنهم هذا الشر ، ويصير وقوع الحاجة مؤيدا له فيما هو بسبيله من الإحسان ، فسن لهم أن يركعوا ركعتين ، ثم يثنوا على الله ، ويصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يقولوا ' لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم ، والحمد لله رب العالمين ، أسألك موجبات رحمتك ، وعزائم مغفرتك ، والغنيمة من كل بر ، والسلامة من كل أثم ، لا تدع لي ذنبا إلا غفرته ، ولا هما إلا فرجته ، ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين ' .
____________________
(1/454)
ومنها صلاة التوبة ، والأصل فيها أنا الرجوع إلى الله لا سيما عقيب الذنب قبل أن يرتسخ في قلبه رين الذنب - مكفر مزيل عنه السوء . ومنها صلاة الوضوء ، وفيها قوله صلى الله عليه وسلم لبلال رضي الله عنه : ' إني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة ' أقول وسرها أن المواظبة على الطهارة والصلاة عقبيها نصاب صالح من الإحسان لا يتأتى إلا من ذي حظ عظيم . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' بم سبقتني إلى الجنة ' ( أقول ) معناه أن السبق في هذه الواقعة شبح التقدم في الإحسان ، والسر في تقدم بلال على إمام المحسنين أن للكمل بإزاء كل كمال من شعب الإحسان تدليا هو مكشاف حاله ، ومنه يفيض على قلبه معرفة ذلك الكمال ذوقا ووجدانا نظير ذلك من المألوف أن زيدا الشاعر المحاسب ربما يحضر في ذهنه كونه شاعرا ، وأنه من أي منزلة من الشعر ، فيذهل عن الحساب ، وربما يحضر في ذهنه كونه محاسبا ، فيستغرق في بهجتها ، ويذهل عن الشعر ، والأنبياء عليهم السلام أعرف الناس بتدلي الإيمان العامى لأن الله تعالى أراد أن يتبينوا حقيقته بالذوق ، فيسنوا للناس سنتهم فيما ينوبهم في تلك المرتبة ، وهذا سر ظهور الأنبياء عليهم السلام من استيفاء اللذات الحسية وغيرها في صورة عامة المؤمنين ، فرأى رسول صلى الله عليه وسلم تدليه الإيماني بتقدمة بلال ، فعرف رسوخ قدمه في الإحسان . ومنها صلاة التسبيح سرها أنها صلاة ذات حظ جسيم من الذكر بمنزلة الصلاة التامة الكاملة التي سنها رسول صلى الله عليه وسلم بأذكارها
____________________
(1/455)
للمحسنين فتلك تكفي عنها لمن لم يحط بها ، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم عشر خصال في فضلها . ومنها صلاة الآيات - كالكسوف . والخسوف والظلمة - والأصل فيها أن الآيات إذا ظهرت انقادت لها النفوس والتجأت إلى الله ، وانفكت عن الدنيا نوع انفكاك ، فتلك الحالة غنيمة المؤمن ينبغي أن يبتهل في الدعاء والصلاة وسائر أعمال البر ، وأيضا فإنها وقت قضاء الله الحوادث في عالم المثال ، ولذلك يستشعر فيها العارفون الفزع ، وفزع الرسول الله صلى الله عليه وسلم عندها لأجل ذلك ، وهي أوقات سريان الروحانية في الأرض ، فالمناسب إلى للمحسن أن يتقرب إلى الله في تلك الأوقات ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في الكسوف في حديث نعمان بن بشير : ' فإذا تجلى الله لشيء من خلقه خشع له ' ، وأيضا فالكفار يسجدون للشمس والقمر ، فكان من حق المؤمن إذا رأى آية عدم استحقاقها العبادة أن يتضرع إلى الله ، ويسجد له ، وهو قوله تعالى : ! ( لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن ) ! ليكون شعاراً للدين وجواباً مسكتا لمنكر به وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام قيامين ، وركع ركوعين حملا لهم على السجدة في موضع الابتهال ، فإنه خضوع مثلها ، فينبغي تكرارها ، وأنه صلاها جماعة ، وأمر إن ينادى بها أن الصلاة جامعة ، وجهر بالقراءة ، فمن اتبع فقد أحسن ، ومن صلى صلاة معتدا بها في الشرع
____________________
(1/456)
فقد عمل بقوله عليه السلام : فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا ، وصلوا ، وتصدقوا ' . ومنها صلاة الاستسقاء ، وقد استسقى النبي صلى الله عليه وسلم لأمته مرات على أنحاء كثيرة ، لكن الوجه الذي سنه لأمته أن خرج بالناس إلى المصلى مبتذلا متواضعا متضرعا ، فصلى بهم ركعتين جهر فيهما بالقراءة ، ثم خطب ، واستقبل فيها القبلة يدعو ، ويرفع يديه ، وحول رداءه ، وذلك لأن لاجتماع المسلمين في مكان واحد راغبين في شيء واحد بأقصى همهم واستغفارهم وفعلهم الخيرات أثرا عظيما في استجابة الدعاء ، والصلاة أقرب أحوال العبد من الله ، ورفع اليدين حكاية عن التضرع التام والابتهال العظيم ، تنبه النفس على التخشع ، وتحويل ردائه حكاية عن تقلب أحوالهم كما يفعل المستغيث بحضرة الملوك . وكان من دعائه عليه السلام إذا استسقى ' اللهم اسق عبادك وبهيمتك ، وانشر رحمتك ، وأحي بلدك الميت ' ومنه أيضا ' اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا نافعا غير ضار عاجلا غير آجل ' . ومنها صلاة العيدين ، وسيأتيك بيانهما . ومما يناسبها سجود الشكر عند مجيء أمر يسره أو اندفاع نقمة ، أو عند علمه بأحد الأمرين ، لأن الشكر فعل القلب ، ولا بد له من شبح في الظاهر ، ليعتضد به ، ولأن للنعم بطرا ، فيعالج بالتذلل للمنعم . فهذه هي الصلوات التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لستمدي
____________________
(1/457)
الإحسان والسبق من أمته زيادة على الواجب المحتوم على خاصتهم وعامتهم . ثم الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر منها فليفعل غير أنه نهى عن خمسة أوقات : ثلاثة منها أوكد نهيا عن الباقيين ، و حتى الساعات الثلاث إذا طلعت الشمس بازغة حتى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل ، وحين تتضيف للغروب حتى تغرب ، لأنها أوقات صلاة المجوس ، وهم قوم حرفوا الدين جعلوا يعبدون الشمس من دون الله ، واستحوذ عليهم الشيطان ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ' فإنها تطلع حين تطلع بين قرني الشيطان ' وحينئذ يسجد لها الكفار ، فوجب أن يميز ملة الإسلام وملة الكفر في أعظم الطاعات من جهة الوقت أيضا . وأما الآخران فقوله صلى الله عليه وسلم : ' لا صلاة بعد الصبح حتى تبزغ الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب ' . أقول : إنما نهى عنهما لأن الصلاة فيهما تفتح باب الصلاة في الساعات الثلاث ، ولذلك صلى فيهما النبي صلى الله عليه وسلم تارة أنه مأمون أن يهجم عليه المكروه ، وروى استثناء نصف النهار يوم الجمعة ، واستنبط جوازها في الأوقات الثلاث في المسجد الحرام من حديث ' يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمر الناس شيئا فلا يمنعن أحدا طاف بهذا البيت ، وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار ' وعلى هذا فالسر في ذلك أنهما وقت ظهور شعائر الدين ومكانه فعارضا المانع في الصلاة .
____________________
(1/458)
( الاقتصاد في العمل ) اعلم أن أدوأ الداء في الطاعات ملال النفس ، فإنها إذا ملت لم تنتبه لصفة الخشوع ، وكانت تلك المشاق خالية عن معنى العبادة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن لكل شيء شرة وإن لكل شرة فترة ' ولهذا السر كان أجر الحسنة عند اندراس الرسم بعملها وظهور التهاون فيها مضاعفا أضعافا كثيرة ، لأنها والحالة هذه لا تنبجس إلا من تنبه شديد وعزم مؤكد ، ولهذا جعل الشارع للطاعات قدرا كمقدار الدواء في حق المريض لا يزاد ، ولا ينقص . وأيضا فالمقصود هو تحصيل صفة الإحسان على وجه لا يفضي إلى إهمال الارتفاقات اللازمة ، ولا إلى غمط حق من الحقوق ، وهو قول سلمان رضي الله عنه : إن لعينيك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا ، فصدقه النبي صلى الله عليه وسلم : ' أنا أصوم وأفطر ، وأقوم وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ' . وأيضا فالمقصود من الطاعات هو استقامة النفس ودفع اعوجاجها ، لا الإحصاء ، فإنه كالمتعذر في حق الجمهور ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' استقيموا ، ولن تحصوا ، وأتوا من الأعمال ما تطيقون ' والاستقامة تحصل بمقدار معين ينبه النفس لالتذاذها بلذات الملكية وتألمها من خسائس البهيمية ، ويفطنها بكيفية انقياد البهيمية للملكية ، فلو أنه أكثر منها اعتادتها النفس ، واستحلتها فلم تتنبه لثمرتها
____________________
(1/459)
وأيضا فمن المقاصد الجليلة في التشريع أن يسد باب التعمق في الدين لئلا يعضوا عليها بنواجذهم ، فيأتي من بعدهم قوم ، فيظنوا أنها من الطاعات السماوية المفروضة عليهم ، ثم تأتي طبقة أخرى ، فيصير الظن عندهم يقينا ، والمحتمل مطمأنا به ، فيظل الدين محرفا ، وهو قوله تعالى : ! ( رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ) ! وأيضا فمن ظن من نفسه - وإن أقر بخلاف ذلك من لسانه - أن الله لا يرضى إلا بتلك الطاعات الشاقة ، وأنه لو قصر في حقها فقد وقع بينه وبين تهذيب نفسه حجاب عظيم ، وأنه فرط في جنب الله ، فإنه يؤاخذ بما ظن ، ويطالب في بالخروج عن التفريط في جنب الله حسب اعتقاده ، فإذا قصر انقلبت علومه عليه ضارة مظلمة ، فلم تقبل طاعاته لهنة في نفسه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ' فلهذه المعاني عزم النبي صلى الله عليه وسلم على أمته أن يقتصدوا في العمل ، ألا يجاوزوا إلى حد يفضي إلى ملال واشتباه في الدين أو إهمال الارتفاقات ، وبين تلك المعاني تصريحا أو تلويحا . قوله صلى الله عليه وسلم : ' أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ' أقول : وذلك لأن إدامتها والمواظبة عليها آية كونه راغبا فيها ، وأيضا فالنفس لا تقبل أثر الطاعة ، ولا تتشرب فائدتها إلا بعد مدة ومواظبة واطمئنان بها ووجدان أوقات تصادف من النفس فراغا بمنزلة الفراغ الذي يكون سببا لانطباع العلوم من الملأ الأعلى في رؤياه ، وذلك غير معلوم القدر ، فلا سبيل إلى تحصيل ذلك إلا الإدامة والإكثار ،
____________________
(1/460)
وهو قول لقمان عليه السلام : وعود نفسك كثرة الاستغفار ، فإن الله ساعة لا يرد فيها سائلا . قوله صلى الله عليه وسلم : ' خذوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا ' أي لا يترك الإثابة إلا عند ملالهم ، فأطلق الملال مشاكلة . قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر ، فيسب نفسه ' . أقول : يريد أنه لا يميز بين الطاعة وغيرها من شدة الملال ، فكيف يتنبه بحقيقة الطاعة . قوله صلى الله عليه وسلم : ' فسددوا ' يعني خذوا طريقة السداد ، وهي التوسط الذي يمكن مراعاته والمواظبة عليه ' وقاربوا ' يعني لا تظنوا أنكم بعداء لا تصلون إلا بالأعمال الشاقة ' وأبشروا ' يعني حصلوا الرجاء والنشاط ' واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ' هذه الأوقات أوقات نزول الرحمة وصفاء لوح القلب من أحاديث النفس ، وقد ذكرنا من ذلك فصلا . قوله صلى الله عليه وسلم : ' من نام عن حزبه ، أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كإنما قرأه من الليل ' . أقول : السبب الأصلي في القضاء شيئان : أحدهما ألا تسترسل النفس بترك الطاعة ، فيعتاده ، ويحسر عليه إلتزامها من بعد ، والثاني أن يخرج عن العهدة ، ولا يضمر أنه فرط في جنب الله ، فيؤاخذ عليه من حيث يعلم أو لا يعلم .
____________________
(1/461)
( باب صلاة المعذورين ) لما كان من تمام التشريع - أن يبين لهم الرخص عند الأعذار ، ليأتي المكلفون من الطاعة بما يستطيعون ، ويكون قدر ذلك مفوضا إلى الشارع ، ليراعي فيه التوسط ، لا إليهم ، فيفرطوا ، أو يفرطوا - اعتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بضبط الرخص والأعذار . ومن أصول الرخص أن ينظر إلى اصل الطاعة حسبما تأمر به حكمة البر ، فيعض عليها في بالنواجد على كل حال ، وينظر إلى حدود وضوابط شرعها الشارع ، ليتيسر لهم الأخذ بالبر ، فيصرف فيها إسقاطا وإبدالا حسبما تؤدي إليه الضرورة . فمن الأعذار السفر ، وفيه من الحرج ما لا يحتاج إلى بيان ، فشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم له رخصا . منها القصر ، فأبقى أصل أعداد الركعات - وهي إحدى عشرة ركعة ، وأسقط ما زيد بشرط الطمأنينة والحضر ، ولما كان هذا العدد فيه شائبة العزيمة لم يكن من حقه أن يقدر بقدر الضرورة ، ويضيق في ترخيصه كل التضييق ، فلذلك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن شرط الخوف في الآية لبيان الفائدة ، ولا مفهوم له ، فقال : ' صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقة ' والصدقة لا يضيق فيها أهل المروءات ، ولذلك أيضا واظب رسول الله صلى الله عليه وسلم على القصر ، وإن جوز الاتمام ، في الجملة فهو سنة مؤكدة ، ولا اختلاف بيم ما روى من جواز الإتمام ،
____________________
(1/462)
وأن الركعتين في السفر تمام غير قصر لأنه يمكن أن يكون الواجب الأصلي هو ركعتين ، ومع ذلك يكون الاتمام مجزئا بالأولى - كالمريض . والعبد - يصليان الجمعة فيسقط عنهم الظهر ، أو كالذي وجب عليه بنت مخاض فتصدق بالكل ، ولذلك كان من حقه أنه إذا صح على المكلف إطلاق اسم المسافر جاز له القصر إلى أن يزول عنه هذا الاسم بالكلية ، لا ينظر في ذلك إلى وجود الحرج ، ولا إلى عدم القدرة على الاتمام لأنه وظيفة من هذا شأنه ابتداء وهو قول ابن عمر رضي الله عنه : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة السفر ركعتين ، وهما تمام غير قصر . واعلم أن السفر والإقامة والزنا والسرقة ، وسائر ما أدار الشارع عليه الحكم أمور يستعملها أهل العرف في مظانها ، ويعرفون معانيها ، ولا ينال حده الجامع المانع إلا بضرب من الاجتهاد والتأمل ، ومن المهم معرفة طريق الاجتهاد ، فنحن نعلم نموذجا منها في السفر ، فنقول : هو معلوم بالقسمة . والمثال : يعلم جميع أهل اللسان أن الخروج من مكة إلى المدينة ، ومن المدينة إلى خيبر سفر لا محالة ، وقد ظهر من فعل الصحابة وكلامهم ، أن الخروج من مكة إلى جدة . وإلى الطائف . وإلى عسفان وسائر ما يكون المقصد فيه على أربعة برد سفر ، ويعلمون أيضا أن الخروج من الوطن على أقسام : تردد إلى الزارع والبساتين وهيمان بدون تعيين مقصد سفر ، ويعلمون أن اسم احد هذه لا يطلق على الآخر ، وسبيل الاجتهاد أن يستقرئ الأمثلة التي يطلق عليها الاسم عرفا وشرعا ، وأن يسبر الأوصاف التي بها يفارق أحدها قسيمة ، فيجعل أعمها في موضع
____________________
(1/463)
الجنس ، واخصها في موضع الفصل ، فعلمنا أن الانتقال من الوطن جزء نفسي ، إذ من كان ثاويا في محل إقامته لا يقال له : مسافر ، وأن الانتقال إلى موضع معين جزء نفسي ، وإلا كان هيمانا لا سفرا ، وأن كون ذلك الموضع بحيث لا يمكن له الرجوع منه إلى محل إقامته في يومه وأوائل ليلته جزء نفسي ، وإلا كان مثل التردد إلى البساتين والمزارع ، ومن لازمه أن يكون مسيرة يوم تام - وبه قال سالم - لكن مسير أربعة برد متيقن ، وما دونه مشكوك وصحة هذا الاسم يكون بالخروج من سور البلد أو حلة القرية أو بيوتها بقصد موضع هو على أربعة برد ، وزوال هذا الاسم إنما يكون بنية الإقامة مدة صالحة يعتد بها في بلده أو قربه . ومنها الجمع بين الظهر . والعصر . والمغرب . والعشاء ، والأصل فيه ما أشرنا أن الأوقات الأصلية ثلاثة : الفجر . والظهر . والمغرب ، وإنما اشتق العصر من الظهر ، والعشاء من المغرب لئلا تكون المدة الطويلة صلة بين الذكرين ، ولئلا يكون النوم على صفة الغفلة ، فشرع ، لهم جمع التقديم والتأخير لكنه لم يواظب عليه ولم يعزم عليه مثل ما فعل في القصر . ومنها ترك السنن فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأبو بكر . وعمر . وعثمان رضي الله عنهم لا يسبحون إلا سنة الفجر والوتر . ومنها الصلاة على الراحلة حيث توجهت به يومئ إيماء وذلك في النوافل وسنة الفجر . والوتر لا الفرائض . ومن الأعذار الخوف ، وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف على أنحاء كثيرة .
____________________
(1/464)
منها أن رتب القوم صفين ، فصلى بهم ، فلما سجد سجد معه صف سجدتيه ، وحرس صف ، فلما قاموا سجد من حرس ، ولحقوه ، وسجد معه في الثاني من حرس أولا ، وحرس الآخرون ، فلما جلس سجد من حرس ، وتشهد بالصفين ، وسلم والحالة التي تقتضي هذا النوع أن يكون العدو في جهة القبلة . ومنها أن صلى مرتين كل مرة بفرقة ، والحالة التي تقتضي هذا النوع أن يكون العدو في غيرها ، وأن يكون توزيع الركعتين عليهم مشوشا لهم ، ولا يحيطوا بأجمعهم بكيفية الصلاة . ومنها أن وقفت فرقة في وجهة ، وصلى بفرقة ركعة ، فلما قام للثانية فارقته ، وأتمت ، وذهبت وجاه العدو ، وجاء الواقفون ، فاقتدوا به ، فصلى بهم الثانية ، فلما جلس للتشهد قاموا ، فأتموا ثانيتهم ، ولحقوه ، وسلم بهم . . . ، والحالة المقتضية لهذا النوع أن يكون العدو في بغير القبلة ، ولا يكون توزيع الركعتين عليهم مشوشا لهم . ومنها أنه صلى بطائفة منهم ، وأقبلت طائفة من العدو ، فركع بهم ركعة ، ثم انصرفوا بمكان الطائفة التي لم تصل ، وجاء أولئك ، فركع بهم ركعة ، ثم أتم هؤلاء وهؤلاء . ومنها أن يصلي كل واحد كيفما أمكن راكبا أو ماشيا لقبلة أو غيرها رواه ابن عمر رضي الله عنهما . . . ، والحالة المقتضية لهذا النوع أن يشتد الخوف ، أو يلتحم القتال .
____________________
(1/465)
وبالجملة فكل نحو روى عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو جائز ، و يفعل الإنسان ما هو أخف عليه وأوفق بالمصلحة حالتئذ . ومن الأعذار المرض و فيه قوله صلى الله عليه وسلم ' صل قائما فإن لم تستطع ، فقاعداً ، فإن لم تستطع ، فعلى جنب ' . وقال صلى الله عليه وسلم في : النافلة من صلى قائما فهو أفضل ، ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم ' أقول لما كان من حق الصلاة أن يكثر منها - وأصل الصلاة يتأتى قائما وقاعدا كما بينا ، وإنما وجب القيام عند التشريع ، ما لا يدرك كله لا يترك كله - واقتضت الرحمة أن يسوغ لهم الصلاة النافلة قاعدا ، وبين لهم ما بين الدرجتين . وقد وردت صلاة الطالب ، وصلاة المطر ، وصلاة الوحل : ولم يترخص أحد من الصحابة في الضوابط والحدود من ضرورة لا يجد منها بدا من غير شائبة الإنكار والتهاون إلا وسلمه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله صلى الله عليه وسلم ' فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ' كلمة جامعة ، والله أعلم .
____________________
(1/466)
( الجماعة ) اعلم أنه لا شيء أنفع من غائلة الرسوم من أن يجعل شيء من الطاعات رسما فاشيا يؤدي على رءوس الخامل والنبيه ، ويستوي فيه الحاضر والباد ، ويجرى فيه التفاخر والتباهي ، حتى تدخل في الارتفاقات الضرورية التي لا يمكن لهم أن يتركوها ، ولا أن يهملوها لتصير مؤيدا لعبادة الله ، والسنة تدعو إلى الحق ، ويكون الذي يخاف منه الضرر هو الذي يجلبهم إلى الحق . ولا شيء من الطاعات أتم شأنا ولا أعظم برهانا من الصلاة ، فوجب إشاعتها فيما بينهم والاجتماع لها ، وموافقة الناس فيها . وأيضا فالملة تجمع ناسا علماء يقتدى بهم ، وناسا يحتاجون في تحصل إحسانهم إلى دعوة حثيثة ، وناسا ضعفاء البنية ولو لم يكلفوا أن يؤدوا على أعين الناس تهاونوا فيها . فلا أنفع ولا أوفق بالمصلحة في حق هؤلاء جميعا أن يكلفوا أن يطيعوا الله على أعين الناس ليتميز فاعلها من تاركها ، وراغبها من الزاهد فيها ، ويقتدي بعالمها ، ويعلم جاهلها ، وتكون طاعة الله فيهم كسبيكة تعرض على طائف الناس ، ينكر منها المنكر ، ويعرف منها المعروف ، ويرى غشها وخالصها . وأيضا فلاجتماع المسلمين راغبين في الله ، راجين راهبين منه ، مسلمين وجوههم إليه - خاصية عجيبة في نزول البركات وتدلي الرحمة كما بينا في الاستسقاء . والحج . وأيضا فمراد الله من نصب هذه الأمة أن تكون كلمة الله هي العليا ، وألا يكون في الأرض دين أعلى من الإسلام ، ولا يتصور ذلك إلا بأن يكون سنتهم أن يجتمع خاصتهم وعامتهم ، وحاضرهم وباديهم ، وصغيرهم وكبيرهم ، لما هو أعظم شعائره وأشهر طاعاته . فلهذه المعاني انصرفت العناية التشريعية إلى شرع الجمعة والجماعات ، والترغيب فيها وتغليظ النهي عن تركها .
____________________
(1/467)
والإشاعة إشاعتان : إشاعة في الحي ، وإشاعة في المدينة ، والإشاعة في الحي تتيسر في كل وقت صلاة والإشاعة في المدينة لا تتيسر إلا غب طائفة من الزمان كالأسبوع ، أما الأولى فهي الجماعة ، وفيها قوله صلى الله عليه وسلم : صلاة الجماعة تفصل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ' وفي رواية ' بخمس وعشرين درجة ' وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم ، أو لوح أن من المرجحات أنه إذا توضأ ، فأحسن وضوءه ، ثم توجه إلى المسجد ، لا ينهضه إلا الصلاة كان مشيه في حكم الصلاة ، وخطواته مكفرات لذنوبه ، وأن دعوة المسلمين تحيط بهم من ورائهم ، وأن في انتظار الصلوات معنى الرباط والاعتكاف إلى غير ذلك ، ثم ما نوه بأحد العددين المذكورين إلا لنكتة بليغة تمثلت عنده صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكرناها من قبل فراجع ، وليس في الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه جزاف بوجه من الوجوه . وفيها قوله صلى الله عليه وسلم ' ما من ثلاثة في قرية أو بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان ' أقول هو إشارة إلى أن تركها يفتح باب التهاون . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ' الحديث أقول الجماعة سنة مؤكدة تقام اللأئمة على تركها لأنها من شعائر الدين ، لكنه صلى الله عليه وسلم رأى من بعض من هنالك تأخرا واستبطاء ، وعرف أن سببه ضعف النية في الإسلام ، فشدد النكير عليهم ، وأخاف قلوبهم .
____________________
(1/468)
ثم لما كان في شهود الجماعة حرج للضعيف ، والسقيم ، وذي الحاجة اقتضت الحكمة أن يرخص في تركها عند ذلك ، ليتحقق العدل بين الإفراط والتفريط : فمن أنواع الحرج ليلة ذات برد ومطر ، ويستحب عند ذلك قول المؤذن : ألا صلوا في الرحال . ومنها حاجة يعسر التربص بها كالعشاء إذا حضر ، فإنه ربما تتشوف نفس إليه ، وربما يضيع الطعام ، وكمدافعة الاخبثين ، فإنه بمعزل عن فائدة الصلاة مع ما به من اشتغال النفس ، ولا اختلاف بين حديث لا صلاة بحضرة الطعام ' وحديث ' لا تؤخروا الصلاة لطعام ولا غيره ' إذ يمكن تنزيل كل واحد على صورة أو معنى إذ المراد نفي وجوب الحضور سدا لباب التعمق ، وعدم التأخير هو الوظيفة لمن أمن شر التعمق ، وذلك كتنزيل فطر الصائم وعدمه على الحالين ، أو التأخير إذا كان تشوف إلى الطعام ، أو خوف ضياع وعدمه إذا لم يكن ، وذلك مأخوذ من حالة العلة . ومنها ما إذا كان خوف فتنة كامرأة أصابت بخورا ، ولا اختلاف بين قوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها ' وبين ما حكم به جمهور الصحابة من منعهن إذ المنهي الغيرة التي تنبعث من الأنفة دون خوف الفتنة ، والجائز ما فيه خوف الفتنة ، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم الغيرة غيرتان ' الحديث ، وحديث عائشة ' إن النساء أحدثن ' الحديث . ومنها الخوف والمرض ، والأمر فيهما الظاهر ، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/469)
للأعمى أتسمع النداء بالصلاة ؟ قال : نعم ، قال : فأجب أن سؤاله كان في العزيمة فلم يرخص له . ثم وقعت الحاجة إلى بيان الأحق بالإمامة ، وكيفية الاجتماع ، ووصية الإمام أن يخفف بالقوم ، والمأمومين أن يحافظوا على اتباعه ، وقصة معاذ رضي الله عنه في الإطالة مشهورة ، فبين هذه المعاني بأوكد وجه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم يؤم القوم أقرؤهم للكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ، ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ' . وسبب تقديم الأقرأ أنه صلى الله عليه وسلم حد للعلم حدا معلوما كما بينا ، وكان أول ما هنالك معرفة كتاب الله لأنه أصل العلم ، وأيضا فإنه من شعائر الله ، فوجب أن يقدم صاحبه ، وينوه بشأنه ؛ ليكون ذلك داعيا إلى التنافس فيه ، وليس كما يظن أن السبب احتياج المصلي إلى القراءة فقط ، ولكن الأصل حملهم على المنافسة فيها ، وإنما تدرك الفضائل بالمنافسة ، وسبب خصوص الصلاة باعتبار المنافسة احتياجها إلى القراءة فليتدبر . ثم من بعدها معرفة السنة لأنه تلو الكتاب ، وبها قيام الملة ، وهي ميراث النبي صلى الله عليه وسلم في قومه . ثم بعده اعتبرت الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى الله عليه وسلم عظم أمر الهجرة ، ورغب فيها ، ونوه بشأنها ، وهذا من تمام الترغيب والتنويه . ثم زيادة السن إذ السنة الفاشية في الملل جميعها توقير الكبير ، ولأنه أكثر تجربة ، وأعظم حلما .
____________________
(1/470)
وإنما نهى عن التقدم على ذي سلطان في سلطانه لأنه يشق عليه ، ويقدح في سلطانه ، فشرع ذلك إبقاء عليه . وقوله صلى الله عليه وسلم إذا صلى أحدكم للناس فليخفف ، فإن فيهم السقيم والضعيف والكبير ، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء ' أقول : الدعوة إلى الحق لا تتم مائدتها إلا بالتيسير ، والتنفير يخالف الموضوع ، والشيء الذي يكلف به جمهور الناس من حقه التخفيف كما صرح النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال إن منكم منفرين ' . قوله صلى الله عليه وسلم إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه ، فإذا ركع ، فاركعوا ، وإذا قال سمع الله لمن حمده ، فقالوا اللهم ربنا لك الحمد ، وإذا سجد ، فاسجدوا ، وإذا صلى جالسا ، فصلوا جلوسا أجمعين ' وفي رواية ' وإذا قال : ( ولا الضالين ) فقولوا : أمين ' أقول بدء الجماعة ما اجتهده عليه معاذ رضي الله عنه برأيه ، فقرره النبي صلى الله عليه وسلم واستصوبه ، وإنما اجتهد لأنه به تصير صلاتهم واحدة ، ودون ذلك إنما هو اتفاق في المكان دون الصلاة . وقوله صلى الله عليه وسلم إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا ' منسوخ بدليل إمامة النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عمره جالسا والناس قيام ، والسر في هذا النسخ أن جلوس الإمام وقيام القوم يشبه فعل الأعاجم في إفراط تعظيم ملوكهم كما صرح به في بعض روايات الحديث ، فلما استقرت الأصول الإسلامية ، وظهرت المخالفة مع الأعاجم في كثير من الشرائع رجح قياس آخر ، وهو أن القيام ركن الصلاة ، فلا يترك من غير عذر ولا عذر للمقتدي . قوله صلى الله عليه وسلم ليلنى منكم أو لو الأحلام والنهي ، ثم الذين
____________________
(1/471)
يلونهم ثلاثا وإياكم وهيشات الأسواق ' أقول : ذلك ليتقرر عندهم توقير الكبير ، أو ليتنافسوا في عادة أهل السؤدد ، ولئلا يشق على أولى الأحلام تقديم من دونهم عليهم ، ونهى عن الهيشات تأدبا ، وليتمكنوا من تدبر القرآن ، وليتشبهوا بقوم ناجوا الملك . قوله صلى الله عليه وسلم ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها ' أقول لكل ملك مقام معلوم ، وإنما وجدوا على مقتضى الترتيب العقلي في الاستعدادات ، فلا يمكن أن يكون هنالك فرجة ، قوله صلى الله عليه وسلم إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف ' . أقول : قد جربنا أن التراص في حلق الذكر سبب جمع الخاطر ووجدان الحلاوة في الذكر وسد الخطرات ، وتركه ينقص من هذه المعاني ، والشيطان يدخل كلما انتقص شيء من هذه المعاني ، فرأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم متمثلا بهذه الصورة ، وإنما رأى في هذه الصورة لأن دخول الحذف أقرب ما يرى في العادة من هجوم شيء في المضايق مع السواد المشعر بقبح السريرة . فتمثل الشيطان بتلك الصورة . قوله صلى الله عليه وسلم لتسون صفوفكم ، أو ليخالفن الله بين وجوهكم ' وقوله صلى الله عليه وسلم أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه إلى رأس حمار ' أقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتسوية والاتباع ، ففرطوا ، وسجل عليهم ، فلم ينزجروا ، فغلظ التهديد ، وأخافهم إن أصروا على المخالفة أن يلعنهم الحق ؛ إذ منابذة التدليات الإلهية جالبة للعن ، واللعن إذا أحاط بأحد يورث المسخ ،
____________________
(1/472)
أو وقوع الخلاف بينهم ، والنكتة في خصوص الحمار أنه بهيمة يضرب به المثل في الحمق والإهانة ، كذلك هذا العاصي غلب عليه البهيمية والحمق ، وفي خصوص مخالفة الوجوه أنهم أساءوا الأدب في إسلام الوجه لله ، فجوزوا في العضو الذي أساءوا به ، كما في كي الوجوه ، أو اختلفوا صورة بالتقدم والتأخر ، فجوزوا بالاختلاف معنى و المناقشة . قوله صلى الله عليه وسلم إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ، ولا تعدوه شيئا ، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة ' أقول : ذلك لأن الركوع أقرب شبها بالقيام ، فمن أدرك الركوع فكأنه أدركه ، وأيضا فالسجدة أصل أصول الصلاة والقيام والركوع تمهيدا له وتوطئة . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا صليتما في رحالكما ، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم ، فإنها لكما نافلة ' أقول : ذلك لئلا يعتذر وتارك الصلاة بأنه صلى في بيته ، فيمتنع بالإنكار عليه ، ولئلا تفترق كلمة المسلمين ولو بادئ الرأي .
____________________
(1/473)
( الجمعة ) الأصل فيها أنه لما كانت إشاعة الصلاة في البلد - بأن يجتمع لها أهلها - متعذره كل يوم وجب أن يعين لها حد لا يسرع دورانه جدا ، فيتعسر عليهم ، ولا ييطؤ جدا ، فيفوتهم المقصود وكان الأسبوع مستعملا في العرب والعجم . وأكثر الملل ، وكان صالحا لهذا الحد ، فوجب أن يجعل ميقاتها ذلك ، ثم اختلف أهل الملل في اليوم الذي يوقت به ، فاختار اليهود السبت ، والنصارى الأحد لمرجحات ظهرت لهم ، وخص الله تعالى هذه الأمة بعلم عظيم نفثه أولا في صدور أصحابه صلى الله عليه وسلم حتى أقاموا الجمعة في المدينة قبل مقدمه صلى الله عليه وسلم وكشفه عليه ثانيا بأن أتاه جبرائيل بمرآة فيها نقطة سوداء ، فعرفه ما أريد بهذا المثال ، فعرف . وحاصل هذا العلم أن أحق الأوقات بأداء الطاعات هو الوقت الذي يتقرب فيه الله إلى عباده ، ويستجاب فيه أدعيتهم ، لأنه أدنى أن تقبل طاعتهم ، وتؤثر في صميم النفس ، وتنتفع نفع عدد كبير من الطاعات ، وأن لله وقتا دائرا بدوران الأسبوع يتقرب فيه إلى عباده ، وهو الذي يتجلى فيه لعبادة في جنة الكثيب ، وأن أقرب مظنة لهذا الوقت هو يوم الجمعة ، فإنه وقع فيه أمور عظام ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة ، والبهائم تكون فيه مسيخة ' يعني فزعة مرعوبة كالذي ماله صوت شديد ، وذلك لما يترشح على نفوسهم في الملأ السافل ، ويترشح عليهم من الملأ الأعلى حين تفزع أولا لنزول القضاء ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم كسلسلة على صفوان حتى إذا فزع عن قلوبهم '
____________________
(1/474)
الحديث ، وقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم بهذه النعمة كما أمره ربه فقال : ' نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ' يعنى في دخول الجنة أو العرض للحساب ' بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ' يعني غير هذه الخصلة فإن اليهود . والنصارى تقدموا فيها ' ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم ' يعني الفرد المنتشر الصادق بالجمعة في حقنا وبالسبت . والأحد في حقهم ' فاختلفوا فيه مهدانا الله له ' أي لهذا اليوم كما هو عند الله ، وبالجملة فتلك فضيلة خص الله بها هذه الأمة ، واليهود . والنصارى لم يفتهم أصل ما ينبغي من التشريع ، وكذلك الشرائع السماوية لا تخطئ قوانين التشريع وإن امتاز بعضها بفضلية زائدة . ونوه صلى الله عليه وسلم بهذه الساعة ، وعظم شأنها فقال ' لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه ' . ثم اختلفت الرواية في تعيينها فقيل : هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة لأنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء ، ويكون المؤمنون فيها راغبين إلى الله ، فقد أجتمع فيها بركات السماء والأرض . وقيل بعد العصر ألى غيبوبة الشمس لأنها وقت نزول القضاء ، وفي بعض الكتب الإلهية إن فيها خلق آدم ، وعندي أن الكل بيان أقرب مظنة ، وليس بتعيين . ثم مست الحاجة إلى بيان وجوبها والتأكيد فيه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ' لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات ، أو ليختمن الله على قلوبهم ،
____________________
(1/475)
ثم ليكونن من الغافلين ' . أقول هذا إشارة إلى أن تركها يفتح باب التهاون ، وبه يستحوذ الشيطان . وقال صلى الله عليه وسلم : ' تجب الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبي أو مملوك ' وقال صلى الله عليه وسلم : ' الجمعة على من سمع النداء ' أقول : هذا رعاية للعدل بين الإفراط والتفريط ، وتخفيف لذوي الاعذار ، والذين يشق عليهم الوصول إليها ، أو يكون في حضورهم فتنة . وإلى استحباب التنظيف وبالغسل والسواك والتطيب ولبس الثياب لأنها من مكملات الطهارة ، فيتضاعف التنبيه لخلة النظافة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' لولا أن اشق على أمتي لأمرتهم بالسواك ' ولأنه لا بد لهم من يوم يغتسلون فيه ، ويتطيبون لأن ذلك من محاسن ارتفاقات بني آدم ، ولما لم يتيسر كل يوم أمر بذلك يوم الجمعة لأن التوقيت يحض عليه ، ويكمل الصلاة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل فيه رأسه وجسده ' ولأنهم كانوا عملة أنفسهم ، وكان لهم إذا اجتمعوا ريح كريح الضأن ، فأمروا في بالغسل ليكون رافعا لسبب التنفير ، وأدعى للاجتماع ، بينه ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما . وإلى الأمر بالإنصات والدنو من الإمام ، وترك اللغو والتبكير ليكون أدنى إلى استماع الموعظة والتدبر فيها . وبالمشي وترك الركوب لأنه أقرب إلى التواضع والتذلل لربه ، ولأن الجمعة تجمع المملق والمثري ، فلعل من لا يجد المركوب يستحي ، فاستحب سد هذا الباب . وإلى استحباب الصلاة قبل الخطبة لما بينا في سنن الرواتب ، فإذا جاءو الإمام يخطب فليركع ركعتين ، وليتجوز فيهما رعاية لسنة الراتبة وأدب الخطبة
____________________
(1/476)
جميعا بقدر الإمكان ، ولا تغتر في هذه المسألة بما يلهج به أهل بلدك فإن الحديث صحيح واجب اتباعه . وإلى النهي عن التخطي أو التفريق بين اثنين وإقامة أحد ليخالف إلى مقعده لأنها مما يفعله الجهال كثيرا ، ويحصل بها فساد ذات البين وهي بذر الحقد . ثم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثواب من أدى الجمعة كاملة موفرة بآدابها أنه يغفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ، وذلك لأنه مقدار صالح للحلول في لجة النور ودعوة المؤمنين وبركات صحبتهم وبركة الموعظة والذكر وغير ذلك . وبين درجات التكبير ما يترتب عليها من الأجر بما ضرب من مثل - البدنة . والبقرة . والكبش . والدجاجة - وتلك الساعات أزمنة خفيفة من وقت وجوب الجمعة إلى قيام الخطبة . واعلم أن كل صلاة تجمع الأقاصي والأدانى فإنها شفع واحد لئلا تثقل عليهم وأن فيهم الضعيف والسقيم وذا الحاجة . ويجهر فيها بالقراءة ، وليكون أمكن لتدبرهم في القرآن وأنوه بكتاب الله ، ويكون فيها خطبة ، ليعلم الجاهل ، ويذكر الناسي ، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجمعة خطبتين يجلس بينهما ، ليتوفر المقصد مع استراحة الخطيب وتطرية نشاطه ونشاطهم . وسنة الخطبة أن يحمد الله ، ويصلى على نبيه ، ويتشهد ، ويأتي بكلمة الفصل وهي - أما بعد - ويذكر ، ويأمر بالتقوى ، ويحذر عذاب الله في الدنيا والآخرة ، ويقرأ شيئا من القرآن ويدعو للمسلمين
____________________
(1/477)
وسبب ذلك أنه ضم مع التذكير التنويه بذكر الله ونبيه وبكتاب الله لأن الخطبة من شعائر الدين ، فلا ينبغي أن يخلوا منها كالأذان . وفي الحديث ' كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء ' وقد تلقت الأمة تلقيا معنويا من غير تلقي لفظ أنه يشترط في الجمعة الجماعة ونوع من التمدن ، وكان النبى صلى الله عليه وسلم . وخلفاؤه رضي الله عنهم . والأئمة المجتهدون رحمهم الله تعالى يجمعون في البلدان ، ولا يؤاخذون أهل البدو ، بل ولا يقام في عهدهم في البدو ، ففهموا من ذلك قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر أنه يشترط لها الجماعة والتمدن أقول وذلك لأنه لما كان حقيقة الجمعة إشاعة الدين في البلد وجب أن ينظر إلى تمدن وجماعة ، والأصح عندي أنه يكفي اقل ما يقال فيه قرية ، لما روي من طرق شتى يقوي بعضها بعضا ' خمسة لا جمعة عليهم ' وعد منهم أهل البادية قال صلى الله عليه وسلم الجمعة على الخمسين رجلا ' أقول الخمسون يتقرى بهم قرية ، وقال الجمعة واجبة على كل قرية ' وأقل ما يقال فيه : جماعة لحديث الانفضاض ، والظاهر أنهم لم يرجعوا والله أعلم ، فإذا حصل ذلك وجبت الجمعة ومن تخلف عنها فهو الآثم ، ولا يشترط أربعون ، وأن الأمراء أحق بإقامة الصلاة وهو قول علي كرم الله وجهه : أربع إلى الإمام الخ ، وليس وجود الإمام شرطا ، والله أعلم بالصواب .
____________________
(1/478)
( العيدان ) الأصل فيهما أن كل قوم لهم يوم يتجملون فيه ، ويخرجون من بلادهم بزينتهم ، وتلك عادة لا ينفك عنها أحد من طوائف العرب . والعجم ، وقدم صلى الله عليه وسلم المدينة ، ولهم يومان يلعبون فيهما ، فقال : ' ما هذان اليومان ؟ قالوا : كنا نلعب فيها في الجاهلية ، فقال : قد أبدلكم الله بهما خيرا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر ' قيل : هما النيروز . والمهرجان ، وإنما بدلا لأنه ما من عيد في الناس إلا وسبب وجوده تنويه بشعائر دين ، أو موافقة أئمة مذهب ، أو شيء مما يضاهي ذلك ، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم إن تركهم وعادتهم أن يكون هنالك تنويه بشعائر الجاهلية ، أو ترويج لسنة أسلافها ، فأبدلهما بيومين فيهما تنويه بشعائر الملة الحنيفية وضم مع التجميل فيهما ذكر الله وأبوابا من الطاعة ، لئلا يكون اجتماع المسلمين بمحض اللعب ، ولئلا يخلوا اجتماع منهم من إعلاء كلمة الله . أحدهما يوم فطر صيامهم وأداء نوع من زكاتهم ، فاجتمع الفرح الطبيعي من قبل تفرغهم عما يشق عليهم وأخذ الفقير الصدقات ، والعقلي من قبل الابتهاج مما أنعم الله عليهم من توفيق أداء ما افترض عليهم ، وأسبل عليهم من إبقاء رءوس الأهل والولد إلى سنة أخرى . والثاني يوم ذبح إبراهيم ولده إسماعيل عليهما السلام وإنعام الله عليهما بأن فداه بذبح عظيم ، إذ فيه تذكر حال أئمة الملة الحنيفية والاعتبار بهم في بذل المهج والأموال في طاعة الله وقوة الصبر ، وفيه تشبه بالحاج وتنويه بهم وشوق لما هم فيه ، ولذلك سن التكبير وهو قوله تعالى :
____________________
(1/479)
! ( ولتكبروا الله على ما هداكم ) ! . يعني شكرا لما وفقكم للصيام ، ولذلك سن الأضحية والجهر في بالتكبير أيام منى ، واستحب ترك الحلق لمن قصد التضحية ، وسن الصلاة والخطبة لئلا يكون شيء من اجتماعهم بغير ذكر الله وتنويه شعائر الدين . وضم معه مقصوا آخر من مقاصد الشريعة ، وهو أن كل ملة لا بد لها من عرضة يجتمع فيها أهلها ؛ لتظهر شوكتهم ، وتعلم كثرتهم ، ولذلك استحب خروج الجميع حتى الصبيان والنساء وذوات الخدور والحيض ويعتزلن المصلى ، ويشهدن دعوة المسلمين - ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يخالف في الطريق ذهابا وإيابا ؛ ليطلع أهل كلتا الطريقين على شوكة المسلمين . ولما كان أصل العيد الزينة استحب حسن اللباس والتقليس ومخالفة الطريق والخروج إلى المصلى . وسنة صلاة العيدين أن يبدأ بالصلاة من غير أذان ولا إقامة يجهر فيها بالقراءة يقرأ عند إرادة التخفيف - بسبح اسم ربك الأعلى ، وهل أتاك وعند الإتمام ( ق ، واقتربت الساعة ) يكبر في الأولى سبعا قبل القراءة ، والثانية خمسا قبل القراءة ، وعمل الكوفيين أن يكبر اربعا كتكبير الجنائز في الأولى قبل القراءة وفي الثانية بعدها ، وهما سنتان ، وعمل الحرمين أرجح . ثم يخطب يأمر بتقوى الله ، ويعظ ، ويذكر . وفي الفطر خاصة ألا يغدو حتى يأكل تمرات ، ويأكلهن وترا ، وحتى يؤدي زكاة الفطر إغناء للفقراء في مثل هذا اليوم ؛ ليشهدوا الصلاة فارغي القلب ، وليتحقق مخالفة عادة الصوم عند إرادة التنويه بانقضاء شهر الصيام
____________________
(1/480)
وفي الأضحى خاصة ألا يأكل حتى يرجع ، فيأكل من أضحيته اعتناء بالأضحية ورغبة فيها وتبركا بها ، ولا يضحي إلا بعد الصلاة ؛ لأن الذبح لا يكون قربة إلا بتشبه الحاج ، وذلك بالاجتماع للصلاة . والأضحية مسنة من معز ، أو جذع من ضأن في كل أهل بيت وقاسوها على الهدى ، فأقاموا البقر عن سبعة ، والجزور عن سبعة مقامها . ولما كانت الأضحية من باب بذل المال لله تعالى ، وهو قوله تعالى : ! ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) ! . كان تسميتها واختيار الجيد منها مستحبا لدلالته على صحة رغبته في الله ، فلذلك يتقي من الضحايا أربعا : العرجاء البين ظلعها . والعوراء البين عورها . والمريضة البين مرضها . والعجفاء التي لا تنقى ، وينهي عن أعضب القرن والأذن ، وسن استشراف العين والأذن ، وألا يضحي بمقابلة . ولا مدابرة . ولا شرقاء ولا خرقاء ، وسن الفحل الأقرن الذي ينظر في سواد ، ويبرك في سواد ؛ ويطأ في سواد لأن ذلك تمام شباب العز ، ومن أذكار التضحية . ! ( إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ) ! . الخ اللهم منك وإليك ولك من الله ، والله أكبر .
____________________
(1/481)
( الجنائز ) اعلم أن عيادات المريض وتمسكه بالرقى المباركة . والرفق بالمحتضر . وتكفين الميت ودفنه ، والاحسان إليه والبكا عليه وتعزية أهله . وزيارة القبور أمور تتداولها طوائف العرب ، وتتوارد عليها أو على نظائرها أصناف العجم ، وتلك عادة لا ينفك عنها أهل الأمزجة السليمة ، ولا ينبغي لهم أن ينفكوا ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم نظر فيما عندهم من العادات فأصلحها ، وصحح السقيم منها . والمصلحة المرعية إما راجعة إلى نفس المبتلى من حيث الدنيا ، أو من حيث الآخرة ، أو إلى أهله من إحدى الحيثيتين ، أو في الملة ، والمريض يحتاج إلى حياته الدنيا إلى تنفيس كربته بالتسلية والرفق ، وإلى أن يتعرض الناس لمعاونته فيما يعجز عنه ، ولا يتحقق إلا أن تكون العيادة سنة لازمة في إخوانه وأهل مدينته ، وفي آخرته يحتاج إلى الصبر ، وأن يتمثل الشدائد عنده بمنزلة الدواء المر يعاف طعمها ، ويرجو نفعها لئلا يكون سببا لغوصه في الحياة الدنيا واحتجابه والتنحي عن ربه ، بل مؤيدة في حط ذنوبه مع تحلل أجزاء نسمته ، ولا يتحقق إلا بأن ينبه على فوائد الصبر ومنافع الآلام والمحتضر في آخر يوم من أيام الدنيا ، وأول يوم من أيام الآخرة ، فوجب أن يحث على الذكر والتوجه إلى الله لتفارق نفسه - وهي في غاشية من الإيمان - فيجد ثمرتها في معاده ، والإنسان عند سلامة مزاجه كما جبل على حب المال والأهل كذلك جبل على حب أن يذكره الناس بخير في حياته وبعد مماته ، وألا تظهر سوأته لهم حتى إن أسد الناس رأيا من كل طائفة يجب أن يبذل أموالا خطيرة في بناء شامخ يبقى به ذكره ، ويهجم على المهالك ؛
____________________
(1/482)
ليقال له من بعده : أنه جرئ ، ويوصي أن يجعل قبره شامخا ليقول الناس : هو ذو حظ عظيم في حياته وبعد موته ، وحتى قال حكماؤهم : إن من كان ذكره حيا في الناس ، فليس بميت ، ولما كان ذلك أمرا يخلقون عليه ويموتون معه كان تصديق ظنهم وإيفاء وعدهم نوعا من الإحسان إليهم بعد موتهم . وأيضا إن الروح إذا فارقت الجسد بقيت حساسة مدركة بالحس المشترك وغيره ، وبقيت على علومها وظنونها التي كانت معها في الحياة الدنيا ، ويترشح عليها من فوقها علوم يعذب بها أو ينعم ، وهمم الصالحين من عباد الله ترتقي إلى حظيرة القدس فإذا ألحوا في الدعاء لميت ، أو عانوا صدقة عظيمة لأجله وقع ذلك بتدبير الله نافعا للميت ، وصادف الفيض النازل عليه من هذه الحظيرة ، فأعد لرفاهية حاله . وأهل الميت قد أصابهم حزن شديد ، فمصلحتهم من حيث الدنيا أن يعزوا ؛ ليخفف ذلك عنهم بعض ما يجدونه . وأن يعاونوا على دفن ميتهم ، وأن يهيأ لهم ما يشبعهم في يومهم وليلتهم ، ومن حيث الآخرة أن يرغبوا في الأجر الجزيل ليكون سدا لغوصهم في القلق ، وفتحا لباب التوجه إلى الله ، وأن ينهوا عن النياحة وشق الجيوب وسائر ما يذكره الأسف والموجدة ، ويتضاعف به الحزن والقلق ؛ لأنه حينئذ بمنزلة المريض يحتاج أن يداوى مرضه لا ينبغي أن يمد فيه ، وكان أهل الجاهلية ابتدعوا أمورا تقضى إلى الشرك بالله ، فمصلحة الملة أن يسد ذلك الباب ، إذا علمت هذا حان أن شرع في شرح الأحاديث الواردة في الباب ، قوله صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يصيبه أذى من مرض ، فما سواه إلا حط الله تعالى به سيأته كما تحط الشجرة ورقها ' .
____________________
(1/483)
أقول قد ذكرنا المعاني الموجبة لتكفير الخطايا ، منها كسر حجاب النفس ، وتحلل النسمة البهيمية الحاملة للملكات السيئة ، وأن صاحبها يعرض عن الاطمئنان بالحياة الدنيا نوع إعراض . قوله صلى الله عليه وسلم ' مثل المؤمن كمثل الخامة ومثل المنافق كمثل الازره ' الحديث أقول : السر في ذلك أن لنفس الإنسان قوتين : قوة بهيمية ، وقوة ملكية ، وأن من خاصيته أنه قد تكمن بهيميته ، وتبرز ملكيته ، فيصير في أعداد الملائكة . . . ، وقد تكمن ملكيته ، وتبرز بهيميته ، فيصير كأنه من البهائم لا يعبأ به ، وله عند الخروج من سورة البهيمية إلى سلطنة الملكية أحوال تتعالجان فيها ، تنال هذه منها وتلك من هذه . . . ، وتلك مواطن المجازاة في الدنيا ، وقد ذكرنا لمية المجازاة من قبل ، فراجع . قوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا مرض العبد ، أو سافر كتب له بمثل ما كان يعمل صحيحا مقيما ' أقول : الإنسان إذا كان جامع الهمة على الفعل ، ولم يمنع عنه إلا مانع خارجي ، فقد أتى بوظيفة القلب ، وإنما التقوى في القلب ، وإنما الأعمال شروح ومؤكدات ، يعض عليها عند الاستطاعة ، ويمهل عند العجز . قوله صلى الله عليه وسلم : ' الشهداء خمسة ، أو سبعة ' الحديث أقول : المصيبة الشديدة التي ليست بصنعة العبد تعمل عمل الشهادة في تكفير الذنوب ، وكونه مرحوما .
____________________
(1/484)
قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع ' أقول : تآلف أهل المدينة فيما بينهم لا يمكن إلا بمعاونة ذوي الحاجات ، والله تعالى يحب ما فيه صلاح مدينتهم ، والعيادة سبب صالح لإقامة التألف . قول الله تعالى يوم القيامة : ' يا ابن آدم مرضت فلم تعدني ' الخ أقول : هذا التجلي مثله بالنسبة إلى الروح الأعظم المذكور في قوله تعالى : ! ( الملائكة والروح ) ! . مثل الصورة الظاهرة في رؤيا الإنسان بالنسبة إلى ذلك الإنسان ، فكما أن اعتقاد الإنسان في ربه أو حكمه ورضاه في حق هذا الشخص يتمثل في رؤياه بربه تعالى ، ولذلك كان من حق المؤمن الكامل أن يراه في أحسن صورة كما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان تعبير من يراه يلطمه في دهليز بابه أنه فرط في جنب الله في ذلك الدهليز ، فكذلك يتمثل حق الله وحكمه ورضاه وتدبيره أو قيوميته لأفراد الإنسان ، أو كونه مبدأ تحققهم ومبلغ اعتقاد أفراد الإنسان في ربهم عند صحة مزاجهم واستقامة نفوسهم حسبما تعطيه الصورة النوعية في أفراد الإنسان في المعاد بصور كثيرة كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا التجلي إنما هو للروح الأعظم الذي هو جامع أفراد الإنسان ، ومتلقى كثرتهم ، ومبلغ رقيهم في الدنيا والآخرة ، أعني بذلك أن هنا لك لله تعالى شأنا كليا بحسب قيومته له وحكمه فيه ، وهو الذي يراه الناس في المعاد عيانا دائما بقلوبهم وأحيانا إذا تمثل بصورة مناسبة بأبصارهم وبالجملة فلذلك كان هذا التجلي مكشافا بحكم الله وحقه
____________________
(1/485)
في أفراد الإنسان من حيث تعطيها الصورة النوعية مثل تألفهم فيما بينهم وتحصيلهم للكمال الإنساني المختص بالنوع وإقامة المصلحة المرضية فيهم ، فوجب أن ينسب ما للقوم إلى نفسه لهذه العلاقة . وأمر النبي صلى الله عليه وسلم برقى تامة كاملة فيها ذكر الله والاستعانة به يريد أن تغشاهم غاشية من رحمة الله ، فندفع بلاياهم ، وأن يكبحهم عما كانوا يفعلون في الجاهلية من الاستعانة بطواغيتهم ، ويعوضهم عن ذلك بأحسن عوض ، منها قول الراقي وهو يمسحه بيمينه : ' أذهب الباس رب الناس ، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما ' وقوله : ' بسم الله ارقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد ، الله يشفيك باسم الله أرقيك ' وقوله ' أعيذك بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ' وقوله سبع مرات : ' أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ' ومنها النفث بالمعوذات ، والمسح ، وأن يضع يده على الذي يألم من جسده ويقول . ' باسم الله ثلاثا وسبع مرات أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر ' ، وأقول : ' باسم الله الكبير أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار ومن شر حر النار ' وقوله : ' ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك ، أمرك في السماء والأرض ، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض ، اغفر لنا حوبنا وخطايانا ، أنت رب الطيبين ، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع . قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا يتمنين أحدكم الموت ' الحديث . أقول : من أدب الإنسان في جنب ربه ألا يجترئ على طلب سلب نعمة ، والحياة
____________________
(1/486)
نعمة كبيرة لأنها وسيلة إلى كسب الإحسان ، فإنه إذا مات انقطع أكثر عمله ، ولا يترقى إلا ترقيا طبيعيا ، وأيضا فذلك تهور وتضجر وهما من أقبح الأخلاق . قوله صلى الله عليه وسلم : ' من أحب لقاءه الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقائه ' . أقول : معنى لقاء الله أن ينتقل من الإيمان بالغيب إلى الإيمان عيانا وشهادة ، وذلك أن تنقشع عنه الحجب الغليظة البهيمية فيظهر نور الملكية ، فيترتشح عليه اليقين من حظيرة القدس ، فيصير ما وعد على ألسنة التراجمة بمرأى منه ومسمع ، والعبد المؤمن الذي لم يزل يسعى في ردع بهيميته وتقوية ملكيته يشتاق إلى هذه الحالة اشتياق كل عنصر إلى حيزه وكل ذي حس إلى ما هو لذة ذلك الحس ، وإن كان بحسب نظام جسده يتألم ، ويتنفر من الموت وأسبابه . والعبد الفاجر الذي لم يزل يسعى في تغليظ البهيمية يشتاق إلى الحياة الدنيا ، ويميل إليها كذلك ، وحب الله وكراهيته وردا على المشاكلة ، والمراد إعداد ما ينفعه أو يؤذيه وتهيئته وكونه بمرصاد من ذلك . ولما اشتبه على عائشة رضي الله عنها أحد الشيئين بالآخر نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المعنى المراد بذكر أصرح حالات الحب المترشح من فوقه الذي لا يشتبه بالآخر وهي حالة ظهور الملائكة . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن ظنه بربه ' اعلم أنه ليس عمل صالح أنفع للإنسان بعد أدنى ما تستقيم به النفس ، ويندفع به اعوجاجها ، أعني أداء الفرائض والاجتناب من الكبائر من أن يرجو من الله خيرا ، فإن التملي من الرجاء بمنزلة الدعاء الحثيث والهمة القوية في كونه معدا لنزول رحمة الله ، وإنما الخوف سيف يقاتل به أعداء الله من
____________________
(1/487)
الحجب الغليظة الشهوية والسبعية ووساوس الشيطان ، وكما أن الرجل الذي ليس بحاذق في القتال قد يسطو بسيفه ، فيصيب نفسه كذلك الذي ليس بحاذق في تهذيب النفس وربما يستعمل الخوف في غير محله ، فيتهم جميع أعماله الحسنة بالعجب والرياء وسائر الآفات حتى لا يحتسب لشيء منها أجرا عند الله ، ويرى جميع صغائره وزلاته واقعة به لا محالة ، فإذا مات تمثلت سيئاته عاضة عليه في ظنه ، فكان ذلك سببا لفيضان قوة مثالية في تلك المثل الخيالية ، فيعذب نوعا من العذاب ، ولم ينتفع بحسناته من أجل تلك الشكوك والظنون انتفاعا معتدا به ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم عن الله تبارك وتعالى أنا عند ظن عبدي بي ' ولما كان الإنسان في مرضه وضعفه كثيرا ما لا يتمكن من استعمال سيف الخوف في محله أو يشتبه عليه كانت السنة في حقه أن يكون رجاؤه أكثر من خوفه . قوله صلى الله عليه وسلم : ' أكثروا ذكر هادم اللذات ' أقول : لا شيء أنفع في كسر حجاب النفس وردع الطبيعة عن خوضها في لذة الحياة الدنيا من ذكر الموت ، فإنه يمثل بين عينيه صورة الانفكاك عن الدنيا وهيئة لقاء الله ، ولهذا التمثل أثر عجيب ، وقد ذكرنا شيئا من ذلك فراجع . وقوله صلى الله عليه وسلم ' من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ' أقول : ذلك لأن مؤاخذته نفسه - وقد أحيط بنفسه - بذكر الله تعالى دليل صحة إيمانه ودخول بشاشته القلب ، وأيضا فذكره ذلك مظنة انصباغ نفسه بصبغ الإحسان ، فمن مات وهذ ، حالته وجبت له الجنة . قوله صلى الله عليه وسلم : لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ' وقوله صلى الله عليه وسلم أقرءوا على موتاكم ( يس ) أقول : هذا غاية الإحسان بالمختصر
____________________
(1/488)
بحسب صلاح معاده ، وإنما خص ' لا إله إلا الله ' لأنه أفضل الذكر مشتمل على التوحيد ونفي الإشراك ، وأنوه أذكار الإسلام ، و ( يس ) لأنه قلب القرآن ، وسيأتيك ، لأنه مقدار صالح للعظة . قوله صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم تصيبه مصيبة ، فيقول ما أمر الله : ! ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) ! . اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها ' أقول : ذلك ليتذكر المصاب ما عند الله من الأجر ، وما الله قادر عليه من أن يخلف عليه خيرا لتتخفف موجدته . قوله صلى الله عليه وسلم ' إذا حضرتم الميت ، فقولوا خيرا ' كقوله صلى الله عليه وسلم : ' اللهم اغفر لأبي سلمة ورفع درجته ' الحديث أقول : كان من عادة الناس في الجاهلية أن يدعوا على أنفسهم ، وعسى أن ، يتفق ساعة الإجابة ، فيستجاب ، فبدل ذلك بما هو أنفع له ولهم ، وأيضا فهذه هي الصدمة الأولى ، فيسن هذا الدعاء ليكون وسيلة إلى التوجه تلقاء الله . قال النبي صلى الله عليه وسلم في ابنته : اغسلنها وترا ، ثلاثا أو خمسا . أو سبعا بماء وسدر ، واجعلن في الآخرة كافورا ، وقال : ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها أقول : الأصل في غسل الموتى أن يحمل على غسل الأحياء لأنه هو الذي كان يستعمله في حياته وهو الذي يستعمله الغاسلون
____________________
(1/489)
في أنفسهم فلا شيء في تكريم الميت مثله ، وإنما أمر بالسدر وزيادة الغسلات لأن المرض مظنة الأوساخ والرياح المنتنة ، وإنما أمر بالكافور في الآخرة لأن من خاصيته ألا يسرع التغير فيما استعمل ، ويقال : من فوائده أنه لا يقرب منه حيوان مؤذ ، وإنما بدئ بالميامن ليكون غسل الموتى بمنزلة غسل الأحياء ، وليحصل إكرام هذه الأعضاء ، وإنما جرت السنة في الشهيد ألا يغسل ، ويدفن في ثيابه ودمائه تنويها بما فعل ، وليتمثل صورة بقاء عمله بادى الرأي ، ولأن النفوس البشرية إذا فارقت أجسادها بقيت حساسة عالمة بأنفسها ويكون بعضها مدركا لما يفعل بها فإذا أبقي أثر عمل مثل هذه كان إعانة في تذكر العمل وتمثله عندها ، وهذا قوله صلى الله عليه وسلم ' جروحهم تدمي اللون لون دم والريح ريح مسك ' وصح في المحرم أيضا ' كفنوه في ثوبيه ، ولا تمسوه بطيب ، ولا تخمروا رأسه ، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا ' فوجب المصير إليه . وإلى هذه النكتة أشار النبي صلى الله عليه وسلم : لقوله ' الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها ' والأصل في التكفين الشبه بحال النائم المسجي بثوبه ، أكمله في الرجل إزار وقميص وملحفة أو حلة ، وفي المرأة هذه مع زيادة لأنه يناسبها زيادة الستر قوله صلى الله عليه وسلم ' لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلبا سريعا ' أراد العدل بين الإفراط والتفريط وألا ينتحلوا عادة الجاهلية في المغالاة . قوله صلى الله عليه وسلم ' أسرعوا في بالجنازة فإنها إن تك صالحة ' أقول السبب في ذلك أن الإبطاء مظنة فساد جثة الميت وقلق الأولياء فإنهم متى ما رأوا الميت اشتدت موجدتهم ، وإذا غاب عنهم اشتغلوا عنه ، وقد
____________________
(1/490)
أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى كلا السببين في كلمة واحدة حيث قال ' لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحسس بين ظهراني أهله ' . قوله صلى الله عليه وسلم ' فإن كانت صالحة ' الخ أقول : هذا عندنا محمول على حقيقته ، وبعض النفوس إذا فارقت أجسادها تحس بما يفعل بجسدها ، وتتكلم بكلام روحاني إنما يفهم من الترشح على النفوس دون المالوف عند الناس من الاستماع بالأذن ، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم : إلا الإنسان ' . قوة له صلى الله عليه وسلم : ' من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا ' الخ أقول : السر في شرع الاتباع إكرام الميت وجبر قلوب الأولياء ليكون طريقا إلى اجتماع أمة صالحة من المؤمنين للدعاء له تعرضا لمعاونة الأولياء في الدفن ؛ ولذلك رغب في الوقوف لها إلى أن يفرغ من الدفن ، ونهى عن القعود حتى توضع . قوله صلى الله عليه وسلم ' إن الموت فزع فإذا رأيتم الجنازة فقوموا ' أقول لما كان ذكر هاذم اللذات والاتعاظ من انقراض حياة الاخوان مطلوبا وكان أمرا خفيا لا يدري العامل به من التارك له ضبط بالقيام لها ، ولكنه النبي صلى الله عليه وسلم لم يعزم عليه ولم يكن سنة قائمة ، وقيل : منسوخ ، وعلى هذا فالسر في النسخ أنه كان أهل الجاهلية يفعلون أفعالا مشابهة بالقيام ، فخشي أن يحمل ذلك على غير محمله ، فيفتح باب الممنوعات ، والله أعلم . وإنما شرعت الصلاة على الميت لأن اجتماع أمة من المؤمنين شافعين للميت له تأثير بليغ في نزول الرحمة عليه .
____________________
(1/491)
وصفة الصلاة عليه أن يقول الإمام بحيث يكون الميت بينه وبين القبلة ويصطف الناس خلفه ويكبر أربع تكبيرات يدعو فيها للميت ثم يسلم ، وهذا ما تقرر في زمان عمر رضي الله عنه ، واتفق عليه جماهير الصحابة . ومن بعدهم وإن كانت الأحاديث متخالفة في الباب . ومن السنة قراءة فاتحة الكتاب لأنها خير الأدعية وأجمعها ، علمها الله تعالى عباده في محكم كتابه ، ومما حفظ من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على الميت ' اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا ، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ، ومن توفيته منا فقوفه على الإيمان ، اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تفتنا بعده ' و ' اللهم إن فلان ابن فلان في ذمتك وحبل جوارك فقه من فتنة القبر وعذاب النار ، وأنت أهل الوفاء والحق ، اللهم اغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم ' و ' اللهم اغفر له ، وارحمه ، وعافه ، واعف عنه ، وأكرم نزله ، ووسع مدخله ، واغسله بالماء والثلج والبرد ، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله دارا خير من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه ، وأدخله الجنة ، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار ' وفي رواية ' وقه فتنة القبر وعذاب النار ' قوله صلى الله عليه وسلم ' إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها ، وإن الله ينورها لهم بصلاتي ' وقوله صلى الله عليه وسلم ' ما من مسلم يموت ، فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه ' ، وفي رواية ' يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة ' أقول : لما كان المؤثر هو الدعاء - ممن له بال عند الله ليخرق دعاؤه الحجب ، ويعد لنزوله الرحمة بمنزلة الاستسقاء - وجب أن يرغب في أحد الأمرين أن يكون من نفس عالية تعد أمة من الناس ، أو جماعة عظيمة . قوله صلى الله عليه وسلم ' هذا أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة '
____________________
(1/492)
الحديث أقول : أنا الله تعالى إذا أحب عبدا أحبه الملأ الأعلى ، ثم ينزل القبول في الملأ السافل ، ثم إلى الصالحين من الناس ، وإذا أبغض عبدا نزل البغض كذلك ، فمن شهد له جماعة من الصالحي المسلمين بالخير من صميم قلوبهم من غير رياء ولا موافقة عادة فإنه آية كونه ناجيا ، وإذا أثنوا عليه شرا فإنه آية كونه هالكا ، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : ' أنتم شهداء الله في الأرض ' إنهم مورد الإلهام وتراجمة الغيب . قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا ' أقول : لما كان سبب الأموت سبب غيظ الأحياء وتأذيهم ولا فائدة فيه ، وإن كثيراً من الناس لا يعلم حالهم إلا الله نهى عنه ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا السبب في قصة سب جاهلي وغضب العباس لاجله . وهل يمشي أمام الجنازة أو خلفها ، وهل يحملها أربعة أو اثنان ، وهل يسل من قبل رجليه أو من القبلة ؟ المختار أن الكل واسع ، وأنه قد صح في الكل حديث أو أثر . قوله صلى الله عليه وسلم : ' اللحد لنا والشق لغيرنا ' أقول ذلك لأن اللحد أقرب من إكرام الميت وإهالة التراب على وجهه من غير ضرورة سوء أدب .
____________________
(1/493)
وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه ألا يدع تمثالا إلا طمثه ، ولا قبرا مشرفا إلا سواه ، ونهى أن يجصص القبر ، وأن يبنى عليه ، وأن يقعد عليه ، وقال : ' لا تصلوا إليها لأن ذلك ذريعة أن يتخذها الناس معبودا ، وأن يفرطوا في تعظيمها بما ليس بحق ، فيحرفوا دينهم كما فعل أهل الكتاب ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ومعنى أن يقعد عليه ، قيل : أن يلازمه المزورون ، وقيل : أن يطأوا القبور ، وعلى هذا فالمعنى إكرام الميت ، فالحق التوسط بين التعظيم الذي يقارب الشرك ، وبين الإهانة وترك الموالاة به . ولما كان البكا على الميت والحزن عليه طبيعة لا يستطيعون أن ينفكوا عنها لم يجز أن يكلفوا بتركه كيف وهو ناشيء من رقة الجنسية وهي محمودة لتوقف تألف أهل المدينة فيما بينهم عليها ، ولأنها مقتضى سلامة مزاج الإنسان ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' إنما يرحم الله من عباده الرحماء ' . قوله صلى الله عليه وسلم : ' أنا الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ، ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم ' ، قوله صلى الله عليه وسلم : ' ليس منا من ضرب الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية ' السر فيه أن ذلك سبب تهيج الغم ، وإنما المصاب بالثكل بمنزلة المريض يعالج ليخفف مرضه ، ولا ينبغي أن يسعى في تضاعف وجعه ، وكذلك المصاب يشغل عما يجده ، ولا ينبغي أن يغوص بقصده ، وأيضا فلعل هيجان القلق يكون سببا لعدم الرضا بالقضاء ، وأيضا فكان أهل الجاهلية يراءون الناس بإظهار التفجع وتلك عادة خبيثة ضارة ، فنهوا عنها . وقوله صلى الله عليه وسلم في النائحة : ' تقام يوم القيامة وعليها سربال
____________________
(1/494)
من قطران ودرع من جرب ' أقول : إنما كان كذلك لأنها أحاطت بها الخطيئة ، فجوزيت بتمثل الخطيئة نتنا محيطا بجسدها ، وإنما تقام تشهيرا أو لأنها كانت قائمة عند النوحة . قوله صلى الله عليه وسلم : ' أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن ' الحديث أقول إنما تفطن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يتركون لأن ذلك مقتضى إفراط الطبيعة البشرية بمنزلة الشبق ، فإن النفوس لها تيه يظهر في الأنساب وألفة بالأموات تستدعي النياحة ، ورصد يؤدي إلى الاستسقاء بالنجوم ، ولذلك لن ترى أمة من البشر من عربهم وعجمهم إلا وهذه سنة فيهم . وقوله صلى الله عليه وسلم في النساء يتبعن الجنازة : ' ارجعن مأزورات غير مأجورات : أقول إنما نهين عن ذلك لأن حضورهن مظنة الصخب والنياحة وعدم الصبر وانكشاف العورات . قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد ، فيلج النار ' أقول : ذلك لجاهد نفسه بالاحتساب ولمعان ذكرناها فراجع . قوله صلى الله عليه وسلم : ' من عزى مصابا فله مثل أجره ' أقول : ذلك لسببين : أحدهما أن الحاضر يرق رقة المصاب ، وثانيهما أن عالم المثال مبناه على ظهور المعاني التضايفية ، ففي تعزية الثكلى صورة الثكل ، فجوزي شبه جزائه . قوله صلى الله عليه وسلم : ' اصنعوا لآل جعفر طعاما ، فقد أتاهم ما يشغلهم ' . أقول : هذا نهاية الشفقة بأهل المصيبة وحفظهم من أن يتضرروا بالجوع .
____________________
(1/495)
قوله صلى الله عليه وسلم : ' نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ' أقول : كان نهى عنها لأنها تفتح باب العبادة لها ، فلما استقرت الأصول الإسلامية ، وإطمأنت نفوسهم على تحريم العبادة لغير الله أذن فيها ، وعلل التجويز بأن فائدته عظيمة ، وهي أنها تذكر الموت ، وأنها سبب صالح للاعتبار بتقلب الدنيا . ومن دعاء الزائر لأهل القبور : السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية - وفي رواية - السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم وأنتم سلفنا ونحن بالأثر ، والله أعلم .
____________________
(1/496)
( من أبواب الزكاة ) اعلم أن عمدة ما روعي في الزكاة مصلحتان : مصلحة ترجع إلى تهذيب النفس ، وهي أنها أحضرت الشح ، والشح أقبح الأخلاق ضار بها في المعاد ، ومن كان شحيحا فإنه إذا مات بقى قلبه متعلقا بالمال ، وعذب بذلك ، ومن تمرن بالزكاة ، وأزال الشح من نفسه كان ذلك نافعا له ، أنفع الأخلاق في المعاد بعد الإخبات لله تعالى هو سخاوة النفس ، فكما أن الإخبات يعد للنفس هيئة التطلع إلى الجبروت ، فكذلك السخاوة تعد لها البراءة عن الهيآت الخسيسة الدنيوية ، وذلك لأن أصل السخاوة قهر الملكية البهيمية ، وأن تكون الملكية هي الغالبة وتكون البهيمية منصبغة بصبغها آخذة حكمها ، ومن المنبهات عليها بذل المال مع الحاجة إليه والعفو عمن ظلم والصبر على الشدائد في الكريهات بأن يهون عليه ألم الدنيا لا يقانه بالآخرة ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكل ذلك ، وضبط أعظمها وهو بذل المال بحدود ، وقرنت بالصلاة والإيمان في مواضع كثيرة من القرآن وقال تعالى عن أهل النار : ! ( لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين ) ! . وأيضا فإنه إذا عنت للمسكين حاجة شديدة ، واقتضى تدبير الله أن يسد خلته بأن يلهم الإنفاق عليه في قلب رجل ، فكان هو بذلك انبسط قلبه اللألهام ، وتحقق له بذلك انشراح روحاني ، وصار معدا لرحمة الله تعالى
____________________
(1/497)
نافعا جدا في تهذيب نفسه ، والإلهام الجملى المتوجه إلى الناس في الشرائع تلو الإلهام التفصيلي في فوائده ، وأيضا فالمزاج السليم مجبول على رقة الجنسية ، وهذه خصلة عليها يتوقف أكثر الأخلاق الراجعة إلى حسن المعاملة مع الناس ، فمن فقدها ففيه ثلمة يجب عليه سدها ، وأيضا فإن الصدقات تكفر الخطيئات ، وتزيد في البركات على ما بينا فيما سبق . ومصلحة ترجع إلى المدينة وهي أنها تجمع لا محالة الضعفاء وذوي الحاجة وتلك الحوادث تغدو على قوم وتروح على آخرين ، فلو لم تكن السنة بينهم مواساة الفقراء وأهل الحاجات لهلكوا ، وماتوا جوعا ، وأيضا فنظام المدينة يتوقف على مال يكون به قوام معيشة الحفظة الذابين عنها والمدبرين السائسين لها ، ولما كانوا عاملين للمدينة عملاً نافعا - مشغولين به عن اكتساب كفافهم - وجب أن تكون قوام معيشتهم عليها والانفاقات المشتركة لا تسهل على البعض أو لا يقدر عليها البعض ، فوجب أن تكون جباية الأموال من الرعية سنة . ولما لم يكن أسهل ولا أوفق بالمصلحة من أن تجعل إحدى المصلحتين مضمومة بالأخرى أدخل الشرع إحداهما في الأخرى . ثم مست الحاجة إلى تعيين مقادير الزكاة ، إذا لولا التقدير لفرط المفرط ، ولاعتدى المعتدي ، ويجب أن تكون غير يسيره لا يجدون بها بالا ، ولا تنجع من بخلهم ، ولا ثقيلة يعسر عليهم أداؤها ، وإلى تعيين المدة التي نجنى فيها الزكوات ، ويجب ألا تكون قصيرة يسرع دورانها ، فتعسر إقامتها فيها ، وألا تكون طويلة لا تنجع من بخلهم ، ولا تدر على المحتاجين والحفظة إلا بعد انتظار شديد ، ولا أوفق بالمصلحة من أن يجعل القانون في الجباية ما اعتاده الناس في جباية الملوك العادلة في رعاياهم ، لأن
____________________
(1/498)
التكليف بما اعتاده العرب والعجم ، وصار كالضروري الذي لا يجدون في صدورهم حرجا منه ، والمسلم الذي أذهبت الألفة عنه الكلفة أقرب من إجابة القوم وأوفق للرحمة بهم . والأبواب التي اعتادها طوائف الملوك الصالحين من أهل الأقاليم الصالحة وهو غير ثقيل عليهم ، وقد تلقتها العقول بالقبول - أربعة : الأول أن تؤخذ من حواشي الأموال النامية ، فإنها أحوج الأموال إلى الذب عنها لأن النمو لا يتم إلا بالتردد خارج البلاد ، ولإن إخراج الزكاة أخف عليهم لما يرون من التزايد كل حين ، فيكون الغرم بالغنم والاموال النامية ثلاثة أصناف : الماشية المتناسلة السائمة . والزروع . والتجارة . والثاني : أن تؤخذ من أهل الدثور والكنوز لأنهم أحوج الناس إلى حفظ المال من السراق وقطاع الطريق ، وعليهم انفاقات لا يعسر عليهم أن تدخل الزكاة في تضاعيفها . والثالث : أن تؤخذ من الأموال النافعة التي ينالها الناس من غير تعب كدفائن الجاهلية وجواهر العاديين ؛ فإنها بمنزلة المجان يخف عليهم الانفاق منه . والرابع : أن تلزم ضرائب على رءوس الكاسبين فانهم عامة الناس وأكثرهم ، إذا جبى من كل منهم شيء يسير كان خفيفا عليهم عظيم الخطر في نفسه . ولما كان دوران التجارات من البلدان النائية وحصاد الزروع وجبي الثمرات في كل سنة ، وهي أعظم أنواع الزكاة قدر الحول لها ، ولأنها تجمع فصولا مختلفة الطبائع وهي مظنة النماء ، وهي مدة صالحة لمثل هذه التقديرات . والآسهل والأوفق في بالمصلحة ألا تجعل الزكاة إلا من جنس تلك الأموال فتؤخذ من كل صرمة من الإبل ناقة ، ومن كل قطيع من البقرة بقرة ،
____________________
(1/499)
ومن كل ثلة من الغنم شاه مثلا ، ثم وجب أن يعرف كل واحد من هذه بالمثال والقسمة والاستقراء ليتخذ ذلك ذريعة إلى معرفة الحدود الجامعة المانعة ، فالماشية في أكثر البلدان الإبل . البقر . الغنم ، ويجمعها إسم الأنعام ، وأما الخيل فلا تكثر صرمها ولا تناسل نسلا وافرا إلا في أقطار يسيرة كتركستان ، والزروع عبارة عن الأقوات ، والثمار الباقية سنة كاملة ، وما دون ذلك يسمى بالخضروات ، والتجارة عبارة عن أن يشتري شيئا يريد أن يربح فيه إذ من ملك بهبه أو ميراث واتفق أن باعه فربح لا يسمى تاجرا ، والكنز عبارة عن مقدار كثير من الذهب والفضة محفوظ مدة طويلة ، ومثل عشرة دراهم وعشرين درهما لا يسمى كنزا ، وإن بقي سنين ، وسائر الأمتعة لا تسمى كنزا ، وإن كثرت ، والذي يغدوا ويروح ولا يكون مستقرا لا يسمى كنزا فهذه المقدمات تجري مجرى الأصول المسلمة في باب الزكاة ، ثم أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يضبط المبهم منها بحدود معروفة عند العرب مستعملة عندهم في كل باب .
____________________
(1/500)
( فضل الإنفاق وكراهية الإمساك ) ثم مست الحاجة إلى بيان فضائل الإنفاق والترغيب فيه ، ليكون برغبة وسخاوة نفس ، وهي روح الزكاة . وبها قوام المصلحة الراجعة إلى تهذيب النفس ، وإلى بيان مساوى الامساك ، والتزهيد فيه ، وإذا الشح هو مبدأ تضرر مانع الزكاة ، وذلك إما في الدنيا ، وهو قول الملك : ' اللهم أعط منفقا خلفا ، والآخر . اللهم اعط ممسكا تلفا . قوله صلى الله عليه وسلم ' اتقوا الشح فإن الشح أهلك من قبلكم ' الحديث ، وقوله صلى الله عليه وسلم ' إن الصدقة لتطفي غضب الرب ' ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ' إن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ' ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ' فإن الله يقبلها بيمينه ، ثم يربيها لصاحبها ' الحديث أقول : سر ذلك كله أن دعوة الملأ الأعلى إصلاح حال بني آدم والرحمة بمن يسعى في إصلاح المدينة أو في تهذيب نفسه إلى تنصرف هذا المنفق ، فتورث تلقي علوم الملأ السافل وبني آدم أن يحسنوا إليه ، ويكون سببا لمغفرة خطاياه ، ومعنى يتقبلها أن تتمثل صورة العمل في المثال منسوبة إلى صاحبها فتنسبغ هنالك بدعوات الملأ الأعلى ورحمة الله به ، أو في الآخرة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم ' ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح ' .
____________________
(1/501)
وقوله صلى الله عليه وسلم : ' مثل له شجاعا أقرع ' وقوله صلى الله عليه وسلم في الإبل والبقر والغنم قريبا من ذلك - أقول : السبب الباعث على كون جزاء مانع الزكاة على هذه الصفة شيآن : أحدهما أصل ، الثاني كالمؤكد له ، وذلك أنه كما أن الصورة الذهنية تجنب صورة أخرى كسلسلة أحاديث النفس الجالب بعضها بعضا ، وكما أن حضور صورة متضايف في الذهن يستدعي حضور صورة متضايف آخر كالبنوة والأبوة ، وكما أن امتلاء أوعية المنى به وثوران بخاره في القوى الفكرية يهز النفس لمشاهدة صور النساء في الحلم ، وكما أن امتلاء الأوعية ببخار ظلماني يهيج في النفس صور الأشياء المؤذية الهائلة - كالفيل - مثلا ، فكذلك المدارك تقتضي بطبيعتها إذا أفيضت قوة مثالية على النفس أن يتمثل بخلها بالأموال ظاهرا سابغا ، وأن يجلب ذلك تميل ما بخل به وتعانى في حفظه ، وامتلأت قواه الفكرية به أيضاً ظاهراً سابغاً يتألم منه حسبما جرت سنة الله أن يتألم منها ، فمن الذهب والفضة الكى ، ومن الإبل الوطء والعض ، وعلى هذا القياس . ولما كان الملأ الأعلى علموا ذلك ، وانعقد في وجوب الزكاة عليهم ، وتمثل عندهم تأذي النفوس البشرية بها - كان ذلك معدا لفيضان هذه الصورة في موطن الحشر ، والفرق بين تمثله شجاعا . وتمثله صفائح ، أن الأول فيما يغلب عليه حب المال إجمالا فتتمثل في نفسه صورة المال شيئا واحدا وتتمثل إحاطتها بالنفس تطوقا وتأذي النفس بها بلسع الحية البالغة في السم أقصى الغايات ، والثاني فيما يغلب عليه حب الدراهم والدنانير بأعيانها ، ويتعانى في حفظها ، وتمتلئ قواه الفكرية بصورها فتمثل تلك الصورة كاملة تامة مؤلمة .
____________________
(1/502)
قوله صلى الله عليه وسلم : ' السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار ، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار ، ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل ' أقول : قربه من الله تعالى كونه مستعدا لمعرفته وكشف الحجاب عنه ، وقربه من الجنة أن يكون مستعدا بطرح الهيآت الخسيسة التي تنافي الملكية لتكون البهيمية الحاملة لها بلون الملكية ، وقربه من الناس أن يحبوه ، ولا يناقشوه لأن أصل المناقشة هو الشح ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم ' إن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن يسفكوا دماءهم ويستحلوا محارمهم ' وإنما كان الجاهل السخي أحب من العابد البخيل لأن الطبيعة إذا سمحت بشيء كان أتم وأوفر مما يكون بالقسر . قوله صلى الله عليه وسلم : ' مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جنتان ' الحديث أقول : فيه إشارة إلى حقيقة الإنفاق والإمساك وروحهما ، وذلك أن الإنسان إذا أحاطت به مقتضيات الإنفاق ، وأراد أن يفعله يحصل له _ وإن كان سخي النفس سمحها - انشراح روحاني وصولة على المال ، ويتمثل المال بين يديه حقيرا ذليلا يكون نفضه عنه هينا ، بل يستريح بذلك ، وتلك الخصلة هي العمدة في نفض النفس علاقاتها بالهيآت الخسيسة والبهيمية المنطبعة فيها ، وإن كان شحيحا غاصت نفسه في حب المال ، وتمثل بين عينيه حسنه ، وملك قلبه فلم يستطع منه محيصا ، وتلك الخصلة هي العمدة في لجاج النفس بالهيآت الدنية واشتباكها بها ، ومن هذا التحقق ينبغي أن تعلم معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا يدخل الجنة خب ولا بخيل ولا منان ' .
____________________
(1/503)
وقوله صلى الله عليه وسلم ' لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا ' وقوله صلى الله عليه وسلم ' للجنة أبواب ثمانية فمن كان من أهل الصلاة ' الحديث . أقول : أعلم أن الجنة حقيقتها راحة النفس بما يترتشح عليها من فوقها من الرضا والموافقة والطمأنينة ، وهو قوله تعالى : ( ففي رحمة من الله هم فيها خالدون ) . وقوله تعالى في ضدها : ! ( أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها ) ! . وطريق خروج النفس إليها من ظلمات البهيمية إنما يكون من الخلق الذي جبلت النفس على ظهور الملكية فيه ، وانقهار البهيمية ، فمن النفوس من تكون مجبولة على قوة الملكية في خلق الخشوع والطهارة ، ومن خاصيتها أن تكون ذات حظ عظيم من الصلاة ، أو في خلق السماحة ، ومن خاصيتها ، أن تكون ذات حظ عظيم من الصدقات والعفو عمن ظلم ، وخفض الجناح للمؤمنين مع كبر النفس ، أو في خلق الشجاعة ، فينفث تدبير الحق لاصلاح عباده فيها ، فيكون أول ما يقبل النفث منه هو الشجاعة ، فتكون ذات حظ عظيم من الجهاد ، أو يكون من الأنفس المتجاذبة ، فيهدي لها إلهام أو تجربة على نفسها أن كسر البهيمية بالصوم والاعتكاف منقذ لها من ظلماتها ، فيتلقى ذلك بسمع قبول واجتهاد من صميم قلبه ، فيجازى جزاء وفاقا بالريان
____________________
(1/504)
فهذه هي الأبواب التي صرح بها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ، ويشبه أن يكون منها باب العلماء الراسخين ، وباب أهل البلايا والمصائب والفقر ، وباب العدالة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في سبعة يظلهم الله في ظله : ' إمام عادل ' . وآيته أن يكون عظيم السعي في التأليف بين الناس ، وباب التوكل . وترك الطيرة ، وفي كل باب من هذه الأبواب أحاديث كثيرة مشهورة ، وبالجملة فهذه أعظم أبواب خروج النفس إلى رحمة الله ، ويجب في حكمة الله أن يكون للجنة التي خلقها الله لعباده أيضا ثمانية أبواب بازائها ، والكمل من السابقين يفتح عليهم الإحسان من بابين وثلاثة وأربعة ، فيدعون يوم القيامة منها ، وقد وعد بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم ' من أنفق زوجين ' الحديث أنه يدعى من بعض أبوابها إنما خصه بالذكر زيادة لاهتمامه .
____________________
(1/505)
( مقادير الزكاة ) قال صلى الله عليه وسلم ' ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة ، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة ' . أقول : إنما قدر من الحب والتمر خمسة أوسق لأنها تكفي أقل أهل بيت إلى سنة ، وذلك لأن أقل البيت الزوج والزوجة وثالث خادم أو ولد بينهما ، وما يضاهي ذلك من أقل البيوت ، وغالب قوت الإنسان رطل أو مد من الطعام ، فإذا أكل كل واحد من هؤلاء ذلك المقدار كفاهم لسنة ، وبقيت بقية لنوائبهم أو إدامهم ، وإنما قدر من الورق خمس أوراق لأنها مقدار يكفي أقل أهل بيت سنة كاملة إذا كانت الأسعار موافقة في أكثر الأقطار ، واستقرئ عادات البلاد المعتدلة في الرخص والغلاء وتجد ذلك ، وإنما قدر من الإبل خمسة ذود وجعل زكاته شاة ، وإن كان الأصل ألا تؤخذ الزكاة إلا من جنس المال وأن يجعل النصاب عددا له بال لأن الأبل أعظم المواشي جثة وأكثرها فائدة يمكن أن تذبح ، وتركب ، وتحلب ، ويطلب منها النسل ، ويستدفأ بأوبارها وجلودها ، وكان بعضهم يقتني نجائب قليلة تكفي كفاية الصرمة ، وكان البعير يسوي في ذلك الزمان بعشر شياه وبثمان شياه . واثتني عشر شاة ، كما ورد في كثير من الأحاديث فجعل خمس ذود في حكم أدنى نصاب من من الغنم ، وجعل فيها شاة . قوله صلى الله عليه وسلم : ' ليس على المسلم صدقة في عبده ولا في فرسه ' .
____________________
(1/506)
أقول : ذلك لأنه لم تجر العادة باقتناء الرقيق للتناسل ، وكذا الخيل في كثير من الأقاليم ، لا تكثر كثرة يعتد بها في جنب الأنعام ، فلم يكونا من الأموال النامية اللهم إلا باعتبار التجارة . وقد استفاض من رواية ابي بكر الصديق . وعمر بن الخطاب . وعلي بن أبي طالب . وابن مسعود . وعمرو بن حزم . وغيرهم رضي الله عنهم ، بل صار متواترا بين المسلمين أن زكاة الإبل في كل خمس شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون ، وإذا بلفت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة ، فإذا بلغت واحده وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة ، فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون . فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان ، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة . أقول : الأصل في ذلك أنه إذا أراد توزيع النوق على الصرم ، فجعل الناقة الصغيرة للصرمة الصغيرة والكبيرة للكبيرة رعاية للأنصاف ، ووجد الصرمة لا تنطلق في عرفهم إلا على أكثر من عشرين ، فضبط بخمس وعشرين ، ثم جعل في كل عشرة زيادة سن من الأسنان المرغوب فيها عند العرب غاية الرغبة ، فجعل زيادتها في كل خمسة عشر . وقد استفاض من روايتهم أيضا في زكاة الغنم أنه إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة ففيها شاة ، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان ، فإذا زادت على مائتين إلى ثلثمائة ففيها ثلاث شياه . فإذا زادت على
____________________
(1/507)
ثلثمائة ففي كل مائة شاه أقول : الأصل فيه أن ثلة من الشاء تكون كثيرة ، وثلة منها تكون قليلة ، والاختلاف فيها يتفاحش لأنها يسهل اقتناؤها ، وكل يقتني بحسب التيسير ، فضبط النبي صلى الله عليه وسلم أقل ثلة بأربعين ، وأعظم ثلة بثلاث أربعينات ، ثم جعل في كل مائة شاه تيسيرا في الحساب . وصح من حديث معاذ رضي الله عنه في البقر في كل ثلاثين تبيع ، أو تبيعه ، وفي كل أربعين مسن ، أو مسنة ، وذلك لأنها متوسطة بين الأبل والشاء ، فروعي فيها شبههما . واستفاض أيضا أن زكاة الرقة ربع العشر ، فإن لم يكن إلا تسعون ومائة فليس فيها شيء ، وذلك لأن الكنوز أنفس المال يتضررون بانفاق المقدار الكثير منها ، فمن حق زكاته أن تكون أخف الزكوات ، والذهب محمول على الفضة ، وكان في ذلك الزمان صرف دينار بعشرة دراهم فصار نصابه عشرين مثقالا . وفيما سقت السماء والعيون - أو كان عشريا - العشر ، وما سقى بالنضح نصف العشر ، فإن الذي هو أقل تعانيا وأكثر ريعا أحق بزيادة الضريبة ، والذي هو أكثر تعانيا وأقل ريعا أحق بتخفيفها . قوله صلى الله عليه وسلم في الخرص ' دعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث ، فدعوا الربع ' أقول : السر في مشروعية الخرص دفع الحرج عن أهل الزراعة ، فإنهم يريدون أن يأكلوا بسرا . ورطبا . وعنبا . ونيئا ونضيجا . وعن المصدقين لأنهم لا يطيقون الحفظ عن أهلها إلا بشق
____________________
(1/508)
الأنفس ، ولما كان الخرص محل الشبهة ، والزكاة من حقها التخفيف أمر بترك الثلث أو الربع ، والذي يعد للبيع لا يكون له ميزان إلا القيمة ، فوجب أن يحمل على زكاة النقد . وفي الركاز الخمس لأنه يشبه الغنيمة من وجه ويشبه المجان فجعلت زكاته خمسا . فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد . والحر . والذكر . والأنثى . والصغير . والكبير من المسلمين ، وفي رواية أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب ، وإنما قدر بالصاع لأنه يشبع أهل البيت ، ففيه غنية معتد بها للفقير ، ولا يتضرر الإنسان بانفاق هذا القدر غالبا ، وحمل في بعض الروايات نصف صاع من قمح على صاع من شعير لأنه كان غالبا في ذلك الزمان لا يأكله إلا أهل التنعم ، ولم يكن من مأكل المساكين ، بينه زيد بن أرقم في قصة السرقة ، ثم قال علي رضي الله عنه : إذا وسع الله فوسعوا ، وإنما وقت بعيد الفطر لمعان : منها أنها تكمل كونه من شعائر الله ، وأن فيها طهرة للصائمين وتكميلا لصومهم بمنزلة سنن الرواتب في الصلاة . وهل في الحلي زكاة ؟ الأحاديث فيه متعارضة ، واطلاق الكنز عليه بعيد ، ومعنى الكنز حاصل ، والخروج من الاختلاف أحوط .
____________________
(1/509)
( المصارف ) الأصل في المصارف أن البلاد على نوعين : منها ما خلص للمسلمين لا يشوبهم أحد من سائر الملل ، ومن حقها أن يخفف عليها ، وهي لا تحتاج إلى جمع رجال ونصب قتال ، وكثيرا ما يخرج منها من يباشر الأعمال المشترك نفعها تصديقا لما وعد الله من أجر المحسنين ، وله كفاف في خويصة ماله إذ الجماعات الكثيرة من المسلمين لا تخلوا من مثل ذلك . ومنها ما فيه جماعات من أهل سائر الملل ، ومن حقها أن يشدد فيها وذلك قوله تعالى : ! ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) ! . وهي تحتاج إلى جنود كثيرة وأعوان قوية ، وتحتاج إلى أن يقبض على كل عمل نافع من يباشره ، ويكون معيشته في بيت المال ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لكل من هذين سنة ، وجعل الجباية بحسب المصارف ، وسيأتي مباحث الثاني في كتاب الجهاد . والبلاد الخاصة بالمسلمين عمدة ما يتلخص فيها من المال نوعان بإزاء نوعين من المصرف : نوع من المال الذي زالت عنه يد مالكة كتركة الميت لا وارث له ، وضوال من البهائم لا مالك لها ، ولقطة أخذها أعوان بيت المال ، وعرفت ، فلم يعرف لمن هي ، وأمثال ذلك ، من حقه أن يصرف إلى المنافع المشتركة مما ليس فيها تمليك لأحد . ككرى الأنهار . وبناء القناطر . والمساجد . وحفر الآبار . والعيون - وأمثال ذلك ؛ ونوع هو صدقات المسلمين جمعت في بيت المال ، ومن حقه أن يصرف إلى ما فيه تمليك لأحد . وفي ذلك قوله تعالى :
____________________
(1/510)
! ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) ! . الآية والجملة في ذلك أن الحاجات من هذا النوع وإن كانت كثيرة جدا لكن العمدة فيها ثلاثة : المحتاجون ، وضبطهم الشارع بالفقراء والمساكين وأبناء السبيل والغارمين في مصلحة أنفسهم . والحفظة ، وضبطهم بالغزاة والعاملين على الجبايات . والثالث مال يصرف إلى دفع الفتن الواقعة بين المسلمين أو المتوقعة عليهم من غيرهم وذلك إما أن يكون بمواطأه ضعيف النية في الإسلام بالكفار أو برد الكافر عما يريد من المكيدة بالمال ، ويجمع ذلك اسم المؤلفة قلوبهم ، أو المشاجرات بين المسلمين ، وهو الغارم في حمالة يتحملها ، وكيفية التقسيم عليهم وأنه بمن يبدأ وكم يعطى ؟ مفوض إلى رأي الإمام . وعن ابن عباس يعتق من زكاة ماله ويعطي في الحج ، وعن الحسن مثله ثم تلا ! ( إنما الصدقات للفقراء ) ! في أيها أعطيت أجزأت ، وعن أبي الآس حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة للحج . وفي الصحيح ' وأما خالد فأنكم تظلمون خالدا وقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله ' وفيه شيئآن : جواز أن يعطي مكان شيء شيئا إذا كان أنفع للفقراء ، وأن الحبس مجزئ عن الصدقة ، قلت : وعلى هذا فالحصر في قوله تعالى : ! ( إنما الصدقات ) ! إضافي بالنسبة إلى ما لما طلبه المنافقون في صرفها فيما يشتهون على ما يقتضيه سياق الآية ، والسر في ذلك أن الحاجات
____________________
(1/511)
غير محصورة وليس في بيت المال في البلاد الخالصة للمسلمين غير الزكاة كثير مال ، فلا بد من توسعه لتكفي نوائب المدينة والله أعلم . قوله صلى الله عليه وسلم ' إن هذه الصدقات إنما هي من أوساخ الناس وأنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ' أقول : إنما كانت أوساخا لأنها تكفر الخطايا ، وتدفع البلاء ، وتقع فداء عن العبد في ذلك ، فيتمثل في مدارك الملأ الأعلى أنها هي كما يتمثل في الصورة الذهنية واللفظية والخطية أنها وجودات للشيء الخارجي الذي جعلت بإزائه ، وهذا يسمى عندنا بالوجود التشبيهي ، فتدرك بعض النفوس العالية أن فيها ظلمة ، وينزل الأمر إلى بعض الأحياز النازلة . وقد يشاهد أهل المكاشفة تلك الظلمة أيضا ، وكان سيدى الوالد قدس سره يحكي ذلك من نفسه كما قد يكره أهل الصلاح ذكر الزنا وذكر الأعضاء الخبيثة ، ويحبون ذكر الأشياء الجميلة ، ويعظمون اسم الله ، وأيضا فإن المال الذي يأخذه الإنسان من غيره مبادلة عين أو نفع ولا يراد به احترام وجهه فيه ذلة ومهانة ، ويكون لصاحب المال عليه فضل ومنه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' اليد العليا خير من اليد السفلى ' فلا جرم أن التكسب بهذا النوع شر وجوه المكاسب لا يليق بالمظهرين والمنوه بهم في الملة ، وفي هذا الحكم سر آخر وهو أنه صلى الله عليه وسلم إن أخذها لنفسه ، وجوز أخذها لخاصته والذين يكون نفعهم بمنزلة نفعه - كان مظنة أن يظن الظانون ، ويقول القائلون في حقه ما ليس بحق فأراد أن يسد هذا الباب بالكلية ، ويجهر بأن منافعها راجعة إليهم ، وإنما تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم رحمة بهم وحدبا عليهم وتقريبا لهم من الخير وإنقاذا لهم من الشر . ولما كانت المسألة تعرضا للذلة وخوضا في الوقاحة وقدحا في المروءة شدد النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلا لضرورة لا يجد منها بدا ، وأيضا
____________________
(1/512)
إذا جرت العادة بها ، لم يستنكف الناس عنها ، وصاروا يستكثرون أموالهم بها كان ذلك سببا لإهمال الإكساب التي لا بد منها أو تقليلها وتضييقها على أهل الأموال بغير حق ، فاقتضت الحكمة أن يمثل الاستنكاف منها بين أعينهم لئلا يقدم عليها أحد إلا عند الاضطرار . قوله صلى الله عليه وسلم ' من سأل الناس ليثرى ماله كان خموشا في وجهه أو رضفا يأكله من جهنم ' أقول : السر فيه أنه يتمثل تألمه مما يأخذ من الناس بصورة ما جرت العادة بأن يحصل الألم بأخذه كالجمر ، أو بأكله كالرضف ، وتتمثل ذلته في الناس وذهاب ماء وجهه بصورة هي أقرب شبيه له من الخموش . وجاء في الرجل الذي أصابته جائحة اجتاحت ماله أنه حلت له المسألة حتى يجد قواما من عيش . وجاء في تقدير الغنية المانعة من السؤال أنها أوقية أو خمسون درهما . وجاء أيضا أنها ما يغديه أو يعشيه . وهذه الأحاديث ليست متخالفة عندنا ، لأن الناس على منازل شتى ، ولكل واحد كسب لا يمكن أن يتحول عنه ، أعني الإمكان المأخوذ في العلوم الباحثة عن سياسة المدن لا المأخوذ في علم تهذيب النفس ، فمن كان كاسبا بالحرفة فهو معذور حتى يجد آلات الحرفة ، ومن كان زارعا حتى يجد آلات الزرع ، ومن كان تاجرا حتى يجد البضاعة ، ومن كان على الجهاد مسترزقا بما يروح ويغدو من الغنائم . كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالضابط فيه أوقية أو خمسون درهما ، ومن كان كاسبا يحمل الأثقال في الأسواق ، أو احتطاب الحطب وبيعه وأمثال ذلك فالضابط فهي ما يغديه أو يعشيه .
____________________
(1/513)
قوله صلى الله عليه وسلم ' لا تلحفوا في المسألة ، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئل فتخرج له مسألته مني شيئا ، وأنا كاره ، فيبارك له فيما أعطيته ' . أقول : سره أن النفوس اللاحقة بالملأ الأعلى تكون الصورة الذهنية فيها من الكراهية والرضا بمنزلة الدعاء المستجاب . قوله صلى الله عليه وسلم ' إن المال حضر حلو فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع ' . أقول : البركة في الشيء على أنواع . أدناها طمأنينة النفس به وثلج الصدر كرجلين عندهما عشرون درهما أحدهما يخش الفقر ، والآخر مصروف الخاطر عن الخشية غلب عليه الرجاء ثم زياده النفع كرجلين مقدار مالهما واحد . صرفه أحدهما فيما إلى ما يهمه ، وينفعه ، وألهم التدبير الصالح في صرفه ، والآخر أضاعه ، ولم يقتصد في التدبير ، وهذه البركة تجلبها هيئة النفس بمنزلة جلب الدعاء . قوله صلى الله عليه وسلم ' من يستعفف يعفه الله ' الحديث أقول : هذا إشارة إلى أن هذه الكيفيات النفسانية في تحصيلها أثر عظيم لجمع الهمة وتأكد العزيمة .
____________________
(1/514)
( أمور تتعلق بالزكاة ) ثم مست الحاجة إلى وصية الناس أن يؤدوا الصدقة إلى المصدق بسخاوة نفس ، وفيها قوله صلى الله عليه وسلم ' إذا أتاكم المصدق فليصدر عنكم وهو عنكم راض ' وذلك لتحقق المصلحة الراجعة إلى النفس ، وأراد أن يسد باب اعتذراهم في المنع بالجور . وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' فإن عدلوا فلأنفسهم ، وإن ظلموا فعليها ' ولا اختلاف بين هذا الحديث . وبين قوله صلى الله عليه وسلم ' فمن سئل فوقها فلا يعط ' إذ الجور نوعان : نوع أظهر النص حكمه ، وفيه لا يعط ، ونوع فيه للاجتهاد مساغ وللظنون تعارض ، وفيه سد باب الاعتذار ، وإلى وصية المصدق ألا يعتدي في أخذ الصدقة ، وأن يتقي كرائم أموالهم وألا يغل ليتحقق الانصاف وتتوفر المقاصد . وسر قوله صلى الله عليه وسلم ' فو الذي نفسي بيده لا يأخذ منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء ' يتضح من مراجعة ما بينا في مانع الزكاة ، وإلى سد مكايد أهل الأموال وفيها لا يجمع بين متفرق ، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق بمائة عند موته ' ، وقال صلى الله عليه وسلم ' مثله كمثل الذي يهدي إذا شبع ' أقول : سره أن إنفاق ما لا يحتاج إليه ، ولا يتوقع الحاجة إليه لنفسه ليس بعتد على سخاوة يعتمد بها . ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم عمد إلى خصال مما يفيد إزالة البخل ،
____________________
(1/515)
أو تهذيب النفس ، أو تألف الجماعة ، فجعلها صدقات تنبيها على مشاركتها الصدقات في الثمرات ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' ' يعدل بين اثنين صدقة و يعين الرجل على دابته صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة ، وكل تهليلة وتكبير ة وتسبيحة صدقة ' وأمثال ذلك . قوله صلى الله عليه وسلم ' أيما مسلم كسا مسلما ثوبا على عري ' الحديث أقول قد ذكرنا مرارا أن الطبيعة المثالية تقتضي ألا يكون تجسد المعاني إلا بصورة هي أقرب شبه من الصور ، وأن الاطعام مثلا فيه صورة الطعام ، ولك عبرة بالمنامات والواقعات وتمثل المعاني بصورة الأجسام ومن هناك ينبغي أن تعرف لم رأى النبي صلى الله عليه وسلم وباء المدينة بصورة امرأة سوداء . ثم كان من الناس من يترك أهله وأقاربه ، ويتصدق على الأباعد ، وفيه إهمال من رعايته أوجب سوء التدبير وترك تألف الجماعة القريبة منه ، فمست الحاجة إلى سد هذا الباب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ' دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ' الحديث ولا اختلاف بين قوله ' خير ، الصدقة ما كان عن ظهر غني ، وابدأ بمن تعول ' وحديث : ' قيل : أي الصدقة أفضل ؟ قال : جهد المقل ، وابدأ بمن تعول ' لتنزيل كل على معنى أو جهة ، فالغنى ليس هو المصطلح عليه ، وإنما هو غنى النفس أو كفاية الأهل ، أو نقول صدقة الغني أعظم بركة في ماله ، وصدقة المقل أكثر إزالة لبخله ، وهو أقعد بقوانين الشرع .
____________________
(1/516)
قوله صلى الله عليه وسلم ' الخازن المسلم الأمين ' الحديث أقول : ربما يكون إنفاذ ما وجب إليه وليس له أن يمتنع عنه أيضا معرفا لسخاوة النفس من جهة طيب الخاطر والتوفية وإثلاج الصدر ، فلذلك كان متصدقا بعد المتصدق الحقيقي . ولا اختلاف بين حديث ' إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره فلها نصف الأجر ' وبين قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : لا تنفق امرأة شيئا من بيت زوجها إلا بإذنه ، قيل : ولا الطعام ؟ قال : ذلك أفضل أموالنا ' وحديث قالت امرأة إنا كل على أبنائنا وآبائنا وأزواجنا فما يحل لنا من أموالهم ؟ قال : الرطب تأكلنه وتهدينه ' لأن الأول فيما أمره عموما أو دلالة ، ولم يأمره خصوصا ولا صريحا ، ويكون الزوج لا يبدأ بالصدقة فلما بدأت المرأة سلم ذلك منها ، وإنما يجوز التصرف في ماله بما هو معروف عندهم ، وفيه إصلاح ماله كالرطب لو لم يهده لفسد وضاع ، ولا يجوز في غير ذلك ، وإن كان من الطعام . قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا تعد في صدقتك فان العائد في صدقته كالعائد في قيئه ' . أقول سبب ذلك أن المصدق إذا أراد الاشتراء يسامح في حقه أو يطلب هو المسامحة فيكون نقضا للصدقة في ذلك القدر لأن روح الصدقة نفض القلب تعلقه بالمال ، وإذ كان في قلبه ميل إلى الرجوع إليها بمسامحة لم يتحقق كمال النفض ، وأيضا فتوفير صورة العمل مطلوب ، وفي الاسترداد نقض لها ، وهو سر كراهية الموت في أرض هاجر منها ، والله أعلم .
____________________
(1/517)
( من أبواب الصوم ) ولما كانت البهيمة الشديدة مانعة عن ظهور أحكام الملكية وجب الاعتناء بقهرها . ولما كان سبب شدتها وتراكم طبقاتها وغزارتها هو الأكل ، والشرب والانهماك في اللذات الشهوية فإنه يفعل ما لا يفعله الأكل الرغد - وجب أن يكون طريق القهر تقليل هذه الأسباب ، ولذلك اتفق جميع من يريدون ظهور أحكام الملكية على تقليلها ونقصها مع اختلاف مذاهبهم وتباعد أقطارهم ، وأيضا فالمقصود إذعان البهيمية للملكية بأن تتصرف حسب وحيها ، وتنصبغ بصبغها ، وتمنع الملكية منها بألا تقبل ألوانها الدنية ، ولا تنطبع فيها نقوشها الخسيسة كما تنطبع نقوش الخاتم في الشمعة ، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن تقتضي الملكية شيئا من ذاتها . وتوحيه إلى البهيمية ، وتقترحه عليها ، فتنقاد لها ، ولا تبغي عليها ، ولا تتمنع منها ، ثم تقتضي أيضا ، وتنقاد هذه أيضا - ثم ، وثم - حتى تعتاد ذلك وتتمرن ، وهذه الأشياء التي تقتضيها هذه من ذاتها ، وتقسر تلك عليهم على رغم أنفها إنما يكون من جنس ما فيه انشراح لهذه وانقباض لتلك ، وذلك كالتشبه بالملكوت والتطلع للجبروت ، فإنهما خاصية الملكية بعيدة عنهما البهيمية غاية البعد ، أو ترك ما تقتضيه البهيمية ، وتستلذه وتشتاق إليه في غلوائها - وهذا هو الصوم - ولما لم تكن المواظبة على هذه من جمهور الناس ممكنة مع ما هم فيه من الارتفاقات المهمة ومعافسة الأموال والأزواج ، وجب أن يلتزم بعد كل طائفة من الزمان مقدار يعرف حالة ظهور الملكية وابتهاجها بمقتضياتها ،
____________________
(1/518)
ويكفر ما فرط منه قبلها ، ويكون مثله كمثل حصان طوله مربوطا بآخية يستن يمينا وشمالا ، ثم يرجع إلى آخيته ، وهذه مداوة بعد مداومة الحقيقية ، تم وجب تعيين مقدار لئلا يفرط أحد ، فيستعمل منه ما لا ينفعه ، وينجع فيه ، أو يفرط مفرط ، فيستعمل منه ما يوهن أركانه ، ويذهب نشاطه ، وينفه نفسه ، ويزيره القبور ، وإنما الصوم ترياق يستعمل لدفع السموم النفسانية مع ما فيه نكاية بمطية اللطيفة الإنسانية ومنصتها فلا بد من أن يتقدر بقدر الضرورة . ثم إن تقليل الأكل والشرب له طريقان : أحدهما ألا يتناول منهما إلا قدرا يسيرا ، والثاني أن تكون المدة المتخللة بين الأكلات زائدة على القدر المعتاد ، والمعتبر في الشرائع هو الثاني لأنه يخفف ، وينفه ، ويذيق بالفعل مذاق الجوع والعطش ، ويلحق البهيمية حيرة ودهشة ، ويأتي عليها إتيانا محسوسا ، والأول إنما يضعف ضعفا يمر به ، ولا يجد بالاحتى يدفنه ، وأيضا فإن الأول لا يأتي تحت التشريع العام إلا بجهد ، فإن الناس على منازل مختلفة جدا يأكل الواحد منهم رطلا والآخر رطلين ، والذي يحصل به وفاء الأول هو إجحاف الثاني ، أما المدة المتخللة بين الأكلات ، فالعرب والعجم وسائر أهل الأمزجة الصحيحة يتفقون فيها ، وإنما طعامهم غداء وعشاء ، أو أكلة واحدة في اليوم والليلة ، ويحصل مذاق الجوع بالكف إلى الليل ، ولا يمكن أن يفوض المقدار اليسير إلى المبتلين المكلفين ، فيقال مثلا : ليأكل كل واحد منكم ما تنقهر به بهيميته لأنه يخالف موضوع التشريع . ومن المثل السائر من استرعى الذئب فقد ظلم ، وإنما يسوغ مثل ذلك
____________________
(1/519)
في الإحسانيات ، ثم يجب أن تكون تلك المدة المتخللة غير مجحفة ولا مستأصلة ، كثلاثة أيام بلياليها ، لأن ذلك خلاف موضوع الشرع ، ولا يعمل به جمهور المكلفين ، ويحب أن يكون الامساك فيها متكررا ، ليحصل التمرن والانقياد ، وإلا فجوع واحد أي فائدة يفيد ، وإن قوى واشتد ، ووجب أن يذهب في ضبط الانقهار الغير المجحف وضبط تكراره إلى مقادير مستعملة عندهم لا تخفى على الخامل والنبيه والحاضر والبادي ، وإلى ما يستعمله أو يستعمل نظيره طوائف عظيمة من الناس ، لتذهب شهرتها وتسليمها غاية التعب منهم . وأوجبت هذه الملاحظات أن يضبط الصوم بالامساك من الطعام والشراب والجماع يوما كاملا إلى شهر كامل فإن ما دون اليوم هو من باب تأخير الغداء ، وأمساك الليل معتاد لا يجدون له بالا ، والأسبوع والأسبوعان مدة يسيرة لا تؤثر ، والشهران تغور فيهما الأعين ، وتنفه النفس ، وقد شاهدنا ذلك مرات لا تحصى . ويضبط اليوم بطلوع الفجر إلى غروب الشمس ، لأنه هو حساب العرب ومقدار يومهم ، والمشهور عندهم في صوم يوم عاشوراء ، والشهر برؤية الهلال إلى رؤية الهلال لأنه هو شهر العرب ، وليس حسابهم على الشهور الشمسية . وإذا وقع التصدي لتشريع عام وإصلاح جماهير الناس وطوائف العرب والعجم وجب ألا يخير في ذلك الشهر ليختار كل واحد شهرا يسهل عليه صومه ، لأن في ذلك فتحا لباب الاعتذار والتسلل ، وسدا لباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإخمالا لما هو من اعظم طاعات الإسلام ، وأيضا فإن اجتماع طوائف عظيمة من المسلمين على شيء واحد في زمان واحد يرى بعضهم بعضا - معونة لهم على الفعل ، ميسر عليهم ،
____________________
(1/520)
ومشجع إياهم ، وأيضا فان اجتماعهم هذا لنزول البركات الملكية على خاصتهم وعامتهم وأدنى أن ينعكس أنوار كملهم على من دونهم وتحيط دعوتهم من وراءهم . وإذا وجب تعيين ذلك الشهر فلا أحق من شهر نزل فيه القرآن ، وارتسخت فيه الملة المصطفوية وهو مظنة ليلة القدر على ما سنذكره . ثم لا بد من بيان المرتبة التي لا بد منها لكل خامل ونبيه وفارغ ومشغول والتي إن أخطأها أخطأ أصل المشروع والمرتبة المكملة التي هي مشرع المحسنين ومورد السابقين ، فالأولى صوم رمضان والاكتفاء على الفرائض الخمس ، فورد ' من صلى العشاء والصبح في جماعة فكانما قام الليل ' والثانية زائدة على الأولى كما وكيفا وهي قيام لليالية وتنزيه اللسان والجوارح ، وستة من شوال ، وثلاثة من كل شهر ، وصوم يوم عاشوراء ويوم عرفة ، واعتكاف العشر الأواخر ، فهذه المقدمات تجري مجرى الأصول في باب الصوم ، فإذا تمهدت حان أن نشتغل بشرح أحاديث الباب .
____________________
(1/521)
( فضل الصوم ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ' إذا دخل رمضان فتحت أبوب الجنة - وفي رواية - أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين ' أقول : اعلم أن هذا الفضل إنما هو بالنسبة إلى جماعة المسلمين فإن الكفار في رمضان اشد عمها وأكثر ضلالا منهم في غيره ، لتماديهم في هتك شعائر الله ، ولكن المسلمين إذا صاموا ، وقاموا ، وغاص كملهم في لجة الأنوار ، وأحاطت دعوتهم من ورائهم ، وانعكست أضواؤهم على من دونهم ، وشملت بركاتهم جميع فئتهم ، وتقرب كل حسب استعداده من المنجيات ، وتباعد من المهلكات - صدق أن أبواب الجنة تفتح عليهم ، وأن أبواب جهنم تغلق عنهم لأن أصلهما الرحمة واللعنة ، ولأن اتفاق أهل الأرض في صفة تجلب ما يناسبها من جود الله كما ذكرنا في الاستسقاء والحج ، وصدق أن الشياطين تسلسل عنهم ، وأن الملائكة تنتشر فيهم ، لأن الشيطان لا يؤثر إلا فيمن استعدت نفسه لأثره ، وغنما استعداده له لغلواء البهيمة وقد انقهرت ، وأن الملك لا يقرب إلا ممن استعد له ، وإنما استعداده بظهور الملكية وقد ظهرت ، وأيضا فرمضان مظنة الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ، فلا جرم أن الأنوار المثالية والملكية تنتشر حينئذ ، وأن أضدادها تنقبض . قوله صلى الله عليه وسلم ' من صام شهر رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ' أقول : وذلك لأنه مظنة غلبة الملكية ومغلوبية البهيمية ونصاب صالح من الخوض في لجة الرضا والرحمة ، فلا جرم أن ذلك مغير للنفس من لون إلى لون . قوله صلى الله عليه وسلم ' من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ' أقول : وذلك لأن الطاعة إذا وجدت في وقت انتشار
____________________
(1/522)
الروحانية وظهور سلطنة المثال أثرت في صميم النفس ما لا يؤثر إعدادها في غيره . قوله صلى الله عليه وسلم ' كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله تعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي ' أقول : سر مضاعفة الحسنة أن الإنسان إذا مات ، وانقطع عنه مدد بهيميته ، وأدبر عن اللذات الملائمة لها - ظهرت الملكية ، ولمع أنوارها بالطبيعة المجازاة وهذا هو سر المجازة ، فإن كان العمل خيرا فقليله كثير حينئذ لظهور الملكية ومناسبته بها ، وسر استثناء الصوم أن كتابة الأعمال في صحائفها إنما تكون بتصور صورة كل عمل في موطن من المثال مختص بهذا الرجل بوجه يظهر منها صورة جزائه المترتب عليه عند تجرده عن غواشي الحسد ، وقد شاهدنا ذلك مرارا وشاهدنا أن الكتبة كثيرا ما تتوقف في إبداء جزاء العمل الذي هو من قبيل مجاهدة شهوات النفس إذ في إبدائه دخل لمعرفة مقدار خلق النفس الصادر هذا العمل منه ، وهم لم يذوقوه ذوقا ، ولم يعلموه وجدانا ، وهو سر اختصامهم في الكفارات والدرجات على ما ورد في الحديث ، فيوحي الله إليهم حينئذ أن اكتبوا العمل كما هو ، وفوضوا جزاءه إلى ، وقوله : ' فإنه يدع شهوته وطعامه من أجلي ' إشارة إلى أنه من الكفارات التي لها نكاية في نفسه البهيمية ، ولهذا الحديث بطن آخر قد أشرنا إليه في أسرار الصوم فراجعه . قوله صلى الله عليه وسلم ' للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ' فالأولى طبيعية من قبل وجدان ما تطلبه نفسه ، والثانية إلهية من قبل تهيئته لظهور أسرار التنزيه عند تجرده عن غواشي الجسد وترشح اليقين عليه من فوقه ، كما أن الصلاة تورث ظهور أسرار التجلي الثبوتي ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم ' فلا تغلبوا على صلاة قبل الطلوع وقبل الغروب ' وههنا - أسرار يضيق هذا الكتاب عن كشفها .
____________________
(1/523)
قوله صلى الله عليه وسلم ' لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ' وأقول : سره أن أثر الطاعة محبوب لحب الطاعة متمثل في عالم المثال مقام الطاعة ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم انشراح الملائكة بسببه ورضا الله عنه في كفة وانشراح نفوس بني آدم عند استنشاق رائحة المسك في كفه ليريهم السر الغيبي راى العين . قوله صلى الله عليه وسلم ' الصيام جنة ' أقول : ذلك لأنه يقي شر الشيطان والنفس ، ويباعد الإنسان من تأثيرهما ، ويخالفه عليهما ، فلذلك كان من حقه تكميل معنى الجنة بتنزيه لسانه عن الأقوال والأفعال الشهوية ، وإليها الإشارة في قوله : ' فلا يرفث ' ، والسبعية ، وإليه الإشارة في قوله : ' ولا يصخب ' وإلى الأقوال بقوله : ' سابه ' وإلى الأفعال بقوله : ' قاتله ' قوله صلى الله عليه وسلم : ' فليقل إني صائم ' قيل : بلسانه ، وقيل : بقلبه ، وقيل : بالفرق بين الفرض والنفل ، والكل واسع .
____________________
(1/524)
( أحكام الصوم ) قال النبي صلى الله عليه وسلم ' لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم ، فاقدروا له - وفي رواية - فأكملوا العدة ثلاثين ' أقول : لما كان وقت الصوم مضبوطا بالشهر القمري باعتبار رؤية الهلال ، وهو تارة ثلاثون يوما ، وتارة تسع وعشرون ، وجب في صورة الاشتباه أن يرجع إلى هذا الأصل وأيضا مبنى الشرائع على الأمور الظاهرة عند اميين دون التعمق والمحاسبات النجومية ، بل الشريعة واردة بإخمال ذكرها ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ' وقوله صلى الله عليه وسلم ' شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة ' قيل لا ينقصان معا ، وقيل : لا يتفاوت اجر ثلاثين وتسعة وعشرين ، وهذا الأخير أقعد بقواعد التشريع كأنه أراد سد أن يخطر في قلب أحد ذلك . واعلم أن من المقاصد المهمة في باب الصوم سد ذرائع التعمق ، ورد ما أحدثه فيه المتعمقون ، فإن هذه الطاعة كانت شائعة في اليهود . والنصارى ومتحنثي العرب ، ولما رأوا أن أصل الصوم هو قهر النفس تعمقوا ، وابتدعوا أشياء فيها زيادة القهر ، وفي ذلك تحريف دين الله ، وهو إما بزيادة الكم أو الكيف . فمن الكم قوله صلى الله عليه وسلم ' لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجلا كان يصوم يوما فليصم ذلك اليوم ' ونهيه عن صوم يوم الفطر . ويوم الشك ، وذلك لأنه ليس بين هذه وبين رمضان فصل ، فلعله إن أخذ ذلك المتعمقون سنة فيدركه منهم الطبقة الأخرى وهلم جرا يكون تحريفا ، وأصل التعمق أن يؤخذ موضع الاحتياط لازما ، ومنه يوم الشك .
____________________
(1/525)
ومن الكيف النهي عن الوصال والترغيب في السحور ، والأمر بتأخيره وتقديم الفطر ، فكل ذلك تشدد وتعمق من صنع الجاهلية ، ولا اختلاف بين قوله صلى الله عليه وسلم ' إذا انتصف شعبان فلا تصوموه ' وحديث أم سلمة رضي الله عنها ' ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان ' لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل في نفسه ما لا يأمر به القوم ، وأكثر ذلك ما هو من باب سد الذرائع وضرب مظنات كلية ، فإنه صلى الله عليه وسلم مأمون من أن يستعمل الشيء في غير محله ، أو يجاوز الحد الذي أمر به إلى إضعاف المزاج وملال الخاطر ، وغيره ليس بمأمون ، فيحتاجون إلى ضرب تشريع وسد تعمق ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم ينهاهم أن يجاوزا أربع نسوة ، وكان أحل له تسع فما فوقها لأن علة المنع ألا يفضي إلى جور . ثم الهلال يثبت بشهاده مسلم عدل أو مستور أنه رآه ، وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلتا الصورتين ، ' جاء أعرابي فقال : إني رأيت الهلال ، قال : أتشهد ؟ ' الحديث وأخبر ابن عمر أنه رآه فصام ، وكذلك الحكم في كل ما كان من أمور الملة فإنه يشبه الرواية . وقال صلى الله عليه وسلم : تسحروا فإن في السحور بركة ' أقول : فيه بركتان : إحداهما راجعة إلى إصلاح البدن ألا ينفعهولا يضعف إذ الإمساك يوماً كاملا نصاب ، فلا يضاعف .
____________________
(1/526)
والثانية راجعة إلى تدبير الملة ألا يتعمق فيها ، ولا يدخلها تحريف أو تغيير . وقوله صلى الله عليه وسلم ' لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر ' وقوله عليه السلام صلى الله عليه وسلم : ' فصل ما بين وما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر ' وقال الله تعالى : ' أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا ' أقول : هذا إشارة إلى أن هذه مسألة دخل فيها التحريف من أهل الكتاب ، فبمخالفتهم ، ورد تحريفهم قيام الملة . ونهى صلى الله عليه وسلم عن الوصال ' فقيل : إنك تواصل ، قال : وأيكم مثلي ؟ ! إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ' أقول : النهي عن الوصال إنما هو لأمرين : أحدهما ألا يصل إلى حد الإجحاف كما بينا ، والثاني ألا تحرف الملة ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه لا يأتيه الإجحاف لأنه مؤيد بقوة ملكية نورية وهو مأمون . ولا اختلاف بين قوله صلى الله عليه وسلم : من لم يجمع الصوم قبل الفجر فلا صيام له ' وبين قوله عليه الصلاة والسلام حين لم يجد طعاما ' إني إذا صائم ' لأن الأول في الفرض . والثاني في النفل . والمراد بالنفي نفي الكمال . وقوله صلى الله عليه وسلم ' إذا سمع النداء أحدكم ' ألخ أقول : المراد بالنداء هو نداء خاص أعني نداء بلال ، وهذا الحديث مختصر حديث ' إن بلالا ينادي بليل ' . وقوله صلى الله عليه وسلم ' إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمرة فإنه بركة فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور ' .
____________________
(1/527)
أقول : الحلو يقبل عليه الطبع لا سيما بعد الجوع ، ويحبه الكبد ، والعرب يميل طبعهم إلى التمر ، وللميل في مثله أثر ، فلا جرم أنه يصرفه في المحل المناسب من البدن وهذا نوع من البركة . قوله صلى الله عليه وسلم ' من فطر صائما أو جهز غازيا فله مثل أجره ' أقول : من فطر صائما لأنه صائم يستحق التعظيم ، فإن ذلك صدقة وتعظيم للصوم وصلة بأهل الطاعات ، فإذا تمثلت صورته في الصحف كان متضمنا لمعنى الصوم من وجوه ، فجوزي بذلك . ومن أذكار الإفطار : ذهب الظمأ ، وابتلت العروق ، وثبت الأجر إن شاء الله ، وفيه بيان الشكر على الحالات التي يستطيبها الإنسان بطبيعته أو عقله معا ، ومنها اللهم لك صمت ، وعلى رزقك أفطرت ، وفيه تأكيد الإخلاص في العمل والشكر على النعمة . وقوله صلى الله عليه وسلم ' لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده ' ، وقوله صلى الله عليه وسلم ' لا تختصوا ليلة الجمعة ' الحديث أقول . السر فيه شيئان : أحدهما سد التعمق لأن الشارع لما خصه بطاعات وبين فضله كان مظنة أن يتعمق المتعمقون ، فيلحقون بها صوم ذلك اليوم . وثانيهما تحقيق معنى العيد ، فإن العيد يشعر بالفرح واستيفاء اللذة ، وفي جعله عيدا أن يتصور عندهم أنها من الاجتماعات التي يرغبون فيها من طبائعهم من غير قصر . قوله صلى الله عليه وسلم ' لا صوم في يومين الفطر . والأضحى ' ، وقوله صلى الله عليه وسلم ' أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله '
____________________
(1/528)
أقول : فيه تحقيق معنى العيد وكبح عنانهم عن التنسك اليابس والتعمق في الدين . قوله صلى الله عليه وسلم ' لا يحل لمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ' أقول : وذلك لأن صومها مفوت لبعض حقه ومنغص عليه بشاشتها وفكاهتها . ولا اختلاف بين قوله صلى الله عليه وسلم ' الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر ' ، وقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة . وحفصة رضي الله عنهما : ' اقضيا يوما آخر مكانه ' إذ يمكن أن يكون المعنى إن شاء أفطر مع التزام القضاء ، وأمرهما بالقضاء للاستحباب ، فإن الوفاء بما التزمه أثلج للصدر ، أو كان أمراً لهما خاصة حين رأى في صدرهما حرجا من ذلك كقول عائشة رضي الله عنها : رجعوا بحجة وعمرة ورجعت بحج فأعمرها من التنعيم . قوله صلى الله عليه وسلم ' من نسي وهو صائم ، فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه ' أقول إنما عذر بالنسيان في الصوم دون غيره لأن الصوم ليس له هيئة مذكرة بخلاف الصلاة و الإحرام فإن لهما هيآت عن استقبال القبلة والتجرد من المخيط ، فكان أحق أن يعذر فيه . قوله صلى الله عليه وسلم لمن وقع على امرأته في نهار رمضان ' أعتق رقبة ' الحديث أقول لما هجم على هتك حرمة شعائر الله وكان مبدؤه إفراطا طبيعيا وجب أن يقابل بإيجاب طاعة شاقة غاية المشقة ليكون بين يديه مثل تلك فيزجره عن غلواء نفسه ، ولا اختلاف بين حديث تسوكه صلى الله عليه وسلم ، وبين قوله عليه الصلاة والسلام : ' لخلوف
____________________
(1/529)
فم الصائم أطيب ' الحديث ، فإن مثل هذا الكلام إنما يرا به المبالغة كأنه قال : إنه محبوب بحيث لو كان له خلوف لكان محبوبا لحبه . ولا اختلاف بين قوله صلى الله عليه وسلم ' ليس من البر الصيام في السفر ذهب المفطرون بالأجر ' ، وقوله عليه الصلاة والسلام : ' من كانت له حمولة تأوى إلى شبع فليصم رمضان حيثما أدركه ' لأن الأول فيما إذا كان شاقا عليه مغضيا إلى الضعف والغشى ، كما هو مقتضي قول الراوي : قد ضلل عليه أو كان بالمسلمين حاجة لا تنجبر إلا بالإفطار وهو قول الراوي : فسقط الصوامون وقام المفطرون ، أو كان يرى في نفسه كراهية الترخص في مظانه وأمثال ذلك من الأسباب ، والثاني فيما إذا كان السفر خاليا عن المشقة التي يعتد بها ، والأسباب التي ذكرناها . ولا اختلاف بين قوله صلى الله عليه وسلم ' من مات وعليه صوم صام عنه وليه ' ، وقوله عليه الصلاة والسلام فيه أيضا ' فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا إذا يجوز أن يكون كل من الأمرين مجزئا ، والسر في ذلك شيآن : أحدهما راجع إلى الميت فإن كثيرا من النفوس المفارقة أجسادها تدرك أن وظيفة من الوظائف التي يجب عليها ، وتؤاخذ بتركها فأتت منها ، فتتألم ، ويفتح ذلك بابا من الوحشة ، فكان الحدب على مثله أن يقوم أقرب الناس منه وأولادهم به ، فيعمل عمله على قصد أن يقع عنه فإن همته تلك تفيد كما في القرابين ، أو يفعل فعلا آخر مثله ، وكذلك حال من مات وقد أجمع على صدقة تصدق عنه وليه ، وقد ذكرنا في الصلاة على الميت ما إذا عطف على صدقة الأحياء للأموات انعطف ، والثاني راجع إلى الملة ، وهو التأكيد البالغ ، ليعلموا أن الصوم لا يسقط بحال حتى الموت .
____________________
(1/530)
( أمور تتعلق بالصوم ) اعلم أن كمال الصوم إنما هو تنزيهه عن الأفعال والأقوال الشهوية والسبعية والشيطانية ، فإنها تذكر النفس في الأخلاق الخسيسة ، وتهيجها لهيآت فاسدة ، والاحتراز عما يفضي إلى الفطر ، ويدعوا إليه ، فمن الأول قوله صلى الله عليه وسلم ' فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم ' وقوله صلى الله عليه وسلم ' من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ' والمراد بالنفي نفي الكمال ، ومن الثاني : ' أفطر الحاجم والمحجوم ' فإن المحجوم تعرض للأفطار من الضعف ، والحاجم لأنه لا يأمن من أن يصل شيء إلى جوفه بمص الملازم ، والتقبيل والمباشرة ، وكان الناس قد أفرطوا ، وتعمقوا ، وكادوا أن يجعلوه من مرتبة الركن ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا أنه ليس مفطرا ولا منقصا للصوم . وأشعر بأنه ترك الأولى في حق غيره بلفظ الرخصة ، وأما هو كان مأمورا ببيان الشريعة ، فكان هو الأولى في حقه ، وكذا سائر ما تنزل فيه عن درجة المحسنين إلى درجة عامة المؤمنين ، والله أعلم . واختلفت سنن الأنبياء عليهم السلام في الصوم ، فكان نوح عليه السلام يصوم الدهر ، وكان داود عليه السلام يصوم يوما ، ويفطر يوما ، وكان عيسى عليه السلام يصوم يوما ، ويفطر يومين أو أياما ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه يصوم حتى يقال لا يفطر ، ويفطر حتى يقال لا يصوم ، ولم يكن يستكمل صيام شهر إلا رمضان ، وذلك أن الصيام ترياق ، والترياق لا يستعمل إلا بقدر المرض . وكان قوم نوح عليه السلام شديدي الأمزجة حتى روى عنهم ما روى ، وكان داود عليه السلام ذا قوة ورزانة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
____________________
(1/531)
وكان لا يفر إذا لاقى ' وكان عيسى عليه السلام ضعيفا في بدنه فارغا لا أهلك له ولا مال ، فاختار كل واحد ما يناسب الأحوال ، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم عارفا بفوائد الصوم والإفطار مطلعا على مزاجه وما يناسبه ، فاختار بحسب مصلحة الوقت ما شاء ، واختار لأمته صياما . منها يوم عاشوراء وسر مشروعيته أنه وقت نصر الله تعالى موسى عليه السلام على فرعون وقومه ، وشكر موسى بصوم ذلك اليوم ، وصار سنة بين أهل الكتاب والعرب ، فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومنها صوم عرفة ، السر فيه أنه تشبه بالحاج وتشوق إليهم وتعرض للرحمة التي تنزل عليهم ، وسر فضله على صوم يوم عاشوراء أنه خوض في لجة الرحمة النازلة ذلك اليوم ، والثاني تعرض للرحمة التي مضت ، وانقضت ، فعمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثمرة الخوض في لجة الرحمة وهي كفارة الذنوب السابقة والنبو عن الذنوب اللاحقة بألا يقبلها صميم قلبه ، فجعلها لصوم عرفة ، ولم يصمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته لما ذكرنا في التضحية وصلاة العيد من أن مبناها كلها على التشبه بالحاج وإنما المتشبهون غيرهم . ومنها ستة الشوال ، قال صلى الله عليه وسلم ' من صام رمضان فأتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر كله ' ، والسر في مشروعيتها أنها بمنزلة السنن الرواتب في الصلاة تكمل فائدتها بالنسبة إلى أمزجة لم تتام فائدتها بهم ، وإنما خص في بيان فضيلة التشبه بصوم الدهر لأن من القواعد المقررة أن الحسنة بعشر أمثالها ، وبهذه الستة يتم الحساب . ومنها ثلاث من كل شهر لأنها بحساب كل حسنة بعشرة أمثالها تضاهي
____________________
(1/532)
صيام الدهر ، ولأن الثلاثة اقل حد الكثرة ، وقد اختلفت الرواية في اختيار تلك الأيام ، فورد ' يا أبا ذر إذا صمت من الشهر الثلاثة فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ' وورد كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والآربعاء والخميس ، وورد من غرة كل شهر ثلاثة أيام ، وورد أنه أمر أم سلمة بثلاثة أولها الاثنين والخميس ، ولكل وجه ، واعلم أن ليلة القدر ليلتان : إحداهما ليلة ! ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) ! . وفيها نزل القرآن جملة واحدة ثم نزل بعد ذلك نجما نجما ، وهي ليلة في السنة ، ولا يجب أن تكون في رمضان ، نعم رمضان مظنة غالبة لها ، واتفق أنها كانت في رمضان عند نزول القرآن ، والثانية يكون فيها نوع من انتشار الروحانية ومجيء الملائكة إلى الأرض ، فيتفق المسلمون فيها على الطاعات ، فتتعاكس أنوارهم فيما بينهم ، ويتقرب منهم الملائكة ، ويتباعد منهم الشياطين ويستجاب منهم أدعيتهم وطاعاتهم ، وهي ليلة في كل رمضان في أوتار العشر الأواخر تتقدم ، وتتأخر فيها ، ولا تخرج منها ، فمن قصد الأولى قال : هي في كل السنة ، ومن قصد الثانية قال : هي في العشر الأواخر من رمضان ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ' أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر ، وقال : أرأيت هذه الليلة ثم أنسيتها وقد رأيتني أسجد في ماء وطين ' فكان ذلك في ليلة إحدى وعشرين ' ، واختلاف
____________________
(1/533)
الصحابة فيها مبني على اختلافهم في وجدانها ، ومن أدعية من وجدها . اللهم أنك عفو تحب العفو فاعف عني . ولما كان الاعتكاف في المسجد سببا لجمع الخاطر وصفاء القلب والتفرغ للطاعة والتشبه بالملائكة والتعرض لوجدان ليلة القدر اختاره النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر وسنه للمحسنين من أمته ، قالت عائشة رضي الله عنها : السنة على المعتكف ألا يعود مريضا ، ولا يشهد جنازة ولا يمس المرأة ، ولا يباشرها ، ولا يخرج إلا لحاجة إلا ما لا بد منه ، ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع أقول وذلك تحقيقا لمعنى الاعتكاف ، وليكون الطاعة لها بال ومشقة على النفس ومخالفة للعادة ، والله أعلم .
____________________
(1/534)
( من أبواب الحج ) المصالح المرعية في الحج أمور : منها تعظيم البيت ، فإنه من شعائر الله ، وتعظيمه هو تعظيم الله تعالى . ومنها تحقيق معنى العرضة ، فإن لكل دولة أو ملة اجتماعا يتوارده الأقاصي والأدانى ليعرف فيه بعضهم بعضا ، ويستفيدوا أحكام الملة ، ويعظموا شعائرها ، والحج عرضة المسلمين وظهور شوكتهم واجتماع جنودهم وتنويه ملتهم ، وهو قول الله تعالى : ( وإذا جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ) . ومنها موافقة ما توارث الناس عن سيدنا إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام ، فإنهما إماما الملة الحنيفة ومشرعاها للعرب ، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث لتظهر به الملة الحنيفية وتعلو بها كلمتها ، وهو قوله تعالى : ! ( ملة أبيكم إبراهيم ) ! . فمن الواجب المحافظة على ما استفاض عن إماميها كخصال الفطرة ومناسك الحج ؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم ' قفوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم ' . ومنها الاصطلاح على حال يتحقق بها الرفق لعامتهم وخاصتهم كنزول منى . والمبيت بمزدلفة ، فإنه لو لم يصطلح على مثل هذا لشق عليهم ، ولو لم يسجل عليهم لم تجتمع كلمتهم عليه مع كثرتهم وانتشارهم .
____________________
(1/535)
ومنها الأعمال التي تعلن بأن صاحبها موحد تابع للحق متدين بالملة الحنيفية شاكر لله على ما أنعم على أوائل هذه الملة كالسعي بين الصفا والمروة . ومنها أن أهل الجاهلية كانوا يحجون وكان الحج أصل دينهم ولكنهم خلطوا أعمالا ما هي مأثورة عن إبراهيم عليه السلام ، وإنما هي اختلاف منهم وفيها إشراك لغير الله كتعظيم إساف . ونائلة ، وكالاهلال لمناة الطاغية ، وكقولهم في التلبية : لا شريكا لك إلا شريك هو لك ، ومن حق هذه الأعمال أن ينهى عنها ويؤكد في ذلك ، وأعمالا انتحلوها فخرا وعجبا كقول حمس : نحن قطان الله ، فلا نخرج من حرم الله فنزل : ! ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) ! . وكذكرهم أباءهم ايام منى فنزل : ! ( فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ) ! . ولما استشعر الأنصار هذا الأصل تحرجوا في السعي بين الصفا والمروا حتى نزل ! ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) ! . ومنها أنهم كانوا ابتدعوا قياسات فاسدة هي من باب التعمق في الدين ، وفيها حرج للناس ، ومن حقها أن تنسخ وتهجر كقولهم : يجتنب المحرم دخول البيوت من أبوابها وكانوا يتسورون من ظهورها ظنا منهم أن الدخول من الباب ارتفاق ينافي هيئة الإحرام فنزل : ! ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) ! .
____________________
(1/536)
وككراهيتهم في التجارة موسم الحج ظنا منهم أنها تخل باخلاص العمل لله ، فنزل : ! ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) ! . وكاستحبابهم أن يحجوا بلا زاد ، ويقولوا : نحن المتوكلون وكانوا يضيقون على الناس ويعتدون . فنزل : ! ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) ! . وكقولهم من أفجر الفجور العمرة في أيام الحج ، وقولهم إذا انسلخ صفر ، وبرأ الدبر ، وعفا الأثر حلت العمرة لمن اعتمر وفي ذلك حرج للآفاقى حيث يحتاجون إلى تجديد السفر للعمرة ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أن يخرجوا من الإحرام بعمرة ، ويحجوا بعد ذلك ، وشدد الأمر في ذلك ينكلهم على عادتهم وما ركز في قلوبهم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ' يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ، فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال : لو قلت : نعم لوجبت ولما استطعتم ' اقول : سره أن الأمر الذي يعد لنزول وحي الله بتوقيت خاص هو إقبال القوم على ذلك وتلقي علومهم وهممهم له بالقبول وكون ذلك القدر هو الذي اشتهر بينهم وتداولوها ، ثم عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم وطلبه من الله ، فإذا اجتمعا لا بد أن ينزل الوحي على حسبه ، ولك عبرة بأن الله ما انزل كتابا إلا بلسان قومه وبما يفهمونه ، ولا ألقي عليهم حكما ولا دليلا إلا مما هو قريب من فهمهم ، كيف ومبدأ الوحي اللطف ، وإنما اللطف اختيار أقرب ما يمكن هناك للإجابة .
____________________
(1/537)
وقيل : ' أي الأعمال أفضل ؟ قال : الإيمان بالله ورسوله ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : حج مبرور ، ولا اختلاف بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم في فضل الذكر ' ألا أنبئكم بأفضل أعمالكم ؟ ' لأن الفضل يختلف باختلاف الاعتبار ، والمقصود ههنا بيان الفضل باعتبار تنويه دين الله وظهور شعائر الله ، وليس بهذا الاعتبار بعد الإيمان كالجهاد والحج . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ' من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ' وقال عليه السلام : ' العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ' وقال عليه السلام : ' تابعوا بين الحج والعمرة ' ، أقول : تعظيم شعائر الله والخوض في لجة رحمة الله يكفر الذنوب ، ويدخل الجنة ، ولما كان الحج المبرور والمتابعة بين الحج والعمرة ، والإكثار منها نصابا صالحا لتعرض رحمته أثبت لهما ذلك ، وإنما شرط ترك الرفث والفسق ؛ ليتحقق ذلك الخوض ، فإن من فعلهما عرضت عنه الرحمة ، ولم تكمل في حقه . وقال النبي صلى الله عليه وسلم ' إن عمرة في رمضان تعدل حجة ' ، أقول : سره أن الحج إنما يفضل العمرة بأنه جامع بين تعظيم شعائر الله واجتماع الناس على استنزال رحمة الله دونها ، والعمرة في رمضان تفعل فعله ، فإن رمضان وقت تعاكس أضواء المحسنين ونزول الروحانية . وقال صلى الله عليه وسلم : من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ' . أقول : ترك ركن من أركان الإسلام يشبه بالخروج عن الملة ، وإنما شبه تارك الحج باليهودي
____________________
(1/538)
والنصراني ، وتارك الصلاة بالمشرك ، لأن اليهود والنصارى يصلون ، ولا يحجون ، ومشركو العرب يحجون ، ولا يصلون . قيل : ' ما الحاج ؟ قال : الشعث التفل ، قيل : أي الحج أفضل ؟ قال : العج والثج ، قيل : ما السبيل ؟ قال : زاد وراحلة ' ، أقول : الحاج من شأنه أن يذلل نفسه لله ، والمصلحة المرعية في الحج إعلاء كلمة الله وموافقة سنة إبراهيم عليه السلام ، وتذكر نعمة الله عليه ، ووقت السبيل بالزاد والراحلة ، وإذا بهما يتحقق التيسير الواجب رعايته في أمثال الحج من الطاعات الشاقة ، وقد ذكرنا في صلاة الجنازة والصوم عن الميت ما إذا عطف على الحج عن الغير انعطف .
____________________
(1/539)
( صفة المناسك ) اعلم أن المناسك على ما استفاض من الصحابة والتابعين وسائر المسلمين أربعة : حج مفرد ، وعمرة مفردة ، وتمتع ، وقران . فالحج لحاضر مكة أن يحرم منها ، ويجتنب في الاحرام الجماع ودواعيه ، والحلق ، وتقليم الأظافر ، ولبس المخيط ، وتغطية الرأس والتطيب ، والصيد ، ويجتنب النكاح على قول ، ثم يخرج إلى عرفات ويكون فيها عشية عرفة ، ثم يرجع منها بعد غروب الشمس ، ويبيت بمزدلفة ، ويدفع منها قبل شروق الشمس ، فيأتي منى ، ويرمي العقبة الكبرى ، ويهدي إن كان معه ، ويحلق أو يقصر ، ثم يطوف للافاضة في ايام منى ويسعى بين الصفا والمروة . . ، وللآفاقي أن يحرم من الميقات ، فإن دخل مكة قبل الوقوف طاف للقدوم ، ورمل فيه ، وسعى بين الصفا والمروة ، ثم بقي على إحرامه حتى يقوم بعرفة ، ويرمي ، ويحلق ، ويطوف ، ولا يرهل فيه ، ولا سعي حينئذ والعمرة أن يحرم من الحل ، فان كان آفاقيا فمن الميقات ، فيطوف ، ويسعى ، ويحلق ، أو يقصر والتمتع أن يحرم الآفاقى للعمرة في أشهر الحج ، فيدخل مكة ، ويتم عمرته ، ويخرج من إحرامه ، ثم يبقى حلالا حتى يجمع عليه أن يذبح ما استيسر من الهدى القران ، أن يحرم الآفاقى بالحج والعمرة معا ، ثم يدخل مكة ، ويبقى على إحرامه حتى يفرغ من أفعال الحج ، وعليه أن يطوف طوافا واحدا ويسعى سعيا واحد في قول ، وطوافين وسعيين ثم يذبح ما استيسر من الهدى ، فإذا أراد أن ينفر من مكة طاف للوداع . وأقول اعلم أن الإحرام في الحج والعمرة بمنزلة التكبير في الصلاة ، فيه تصوير الإخلاص والتعظيم وضبط عزيمة الحج بفعل ظاهر ، وفيه
____________________
(1/540)
جعل النفس متذللة خاشعة لله بترك الملاذ والعادات المألوفة وأنواع التجمل ، وفيه تحقيق معاناة التعب والتشعث والتغبر لله ، وإنما شرع أن يجتنب المحرم هذه الأشياء تحقيقا لتذلل وترك الزينة والتشعث ، وتنويها لاستشعار خوف الله وتعظيمه ، ومؤاخذة نفسه ألا تسترسل في هواها ، وإنما الصيد تله وتوسع ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ' من اتبع الصيد لها ' ولم يثبت فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا كبار أصحابه وإن سوغه في الجملة . والجماع انهماك في الشهوة البهيمية ، وإذا لم يجز سد هذا الباب بالكلية لأنه يخالف قانون الشرع ، فلا أقل من أن ينهى في بعض الأحوال كالإحرام والاعتكاف والصوم وبعض المواضع كالمساجد سئل ما يلبس المحرم من الثياب ؟ ' فقال : لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف ' وقال للأعرابي : ' أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات وأما الجبة فانزعها . الفرق بين المخيط وما في معناه وبين غير ذلك ، أن الأول ارتفاق وتجمل وزينة ، والثاني ستر عورة ، وترك الأول تواضع لله ، وترك الثاني سوء أدب . قال النبي صلى الله عليه وسلم ' لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يحطب ' ، وروى أنه تزوج ميمونة محرما . أقول : اختار أهل الحجاز من الصحابة والتابعين والفقهاء أن السنة للمحرم ألا ينكح ، واختار أهل العراق أنه يجوز له ذلك ، ولا يخفى عليك أن الأخذ بالاحتياط أفضل ، وعلى الأول السر منه أن النكاح من الارتفاقات المطلوبة أكثر من الصيد ، ولا يقاس الانشاء على الابقاء لأن الفرح والطرب إنما يكون في الابتداء ، ولذلك يضرب بالعروس المثل في هذا
____________________
(1/541)
الباب دون البقاء ، ثم لا بد من ضبط الصيد فإن الإنسان قد يقتل ما يريد أكله ، وقد يقتل ما لا يريد أكله ، وإنما يريد التمرن بالاصطياد ، وقد يقتل يريد أن يدفع شره عنه أو عن أبناء نوعه ، وقد يذبح بهيمة الأنعام فأيها الصيد ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ' خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم والإحرام . الفأرة ، والغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والكلب العقور والجامع المؤذي الصائل على الإنسان أو على متاعه ' فإنه إذا رجع إلى استقراء العرف لا يقال له صيد ، وكذلك بهيمة الأنعام والدجاج وأمثالهما مما جرت العادة باقتنائه في البيوت لا تسمى صيدا ، وأما الأقسام الأخر ، فالظاهر أنها صيد . ووقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلملم فهن لهن ، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن فمهله من أهله حتى أهل مكة يهلون منها . أقول : الأصل في المواقيت أنه لما كان الإتيان إلى مكة شعثا تفلا تاركا لغلواء نفسه مطلوبا ، وكان في تكليف الإنسان أن يحرم من بلده حرج ظاهر ، فإن منهم من يكون قطره على مسيرة شهر وشهرين وأكثر - وجب أن يخص أمكنة معلومة حول مكة يحرمون منها ، ولا يؤخرون الإحرام بعدها ، ولا بد أن تكون تلك المواضع ظاهرة مشهورة ، ولا تخفى على أحد ، وعليها مرور أهل الآفاق ، فاستقرا ذلك ، وحكم بهذه المواضع ، واختار لأهل المدينة أبعد المواقيت لأنها مهبط الوحي ومأرز الإيمان ودار الهجرة وأول قرية آمنت بالله ورسوله ، فأهلها أحق بأن يبالغوا في إعلاء كلمة الله ، وأن يخصوا بزيادة طاعة الله ، وأيضا فهي أقرب الأقطار التي آمنت في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخلصت إيمانها بخلاف
____________________
(1/542)
جؤاثي . والطائف ويمامة . وغيرها فلا حرج عليها . والسر في الوقوف بعرفة أن اجتماع المسلمين في زمان واحد ومكان واحد راغبين في رحمة الله تعالى داعين له متضرعين إليه له تأثير عظيم في نزول البركات وانتشار الروحانية ، ولذلك كان الشيطان يومئذ أدحر وأحقر ما يكون ، وأيضا فاجتماعهم ذلك تحقيق لمعنى العرضة وخصوص هذا اليوم . وهذا المكان متوارث عن الأنبياء عليهم السلام على ما يذكر في الأخبار عن آدم فمن بعده ، والأخذ بما جرت به سنة السلف الصالح أصل أصيل في باب التوقيت . والسر في نزول منى أنها كانت سوقا عظيما من أسواق الجاهلية مثل عكاظ ، والمجنة ، وذي المجاز ، وغيرها ، وإنما اصطلحوا عليه لأن الحج يجمع أقواما كثيرة من أقطار متباعدة ، ولا أحسن للتجارة ولا أرفق بها من أن يكون موسمها عند هذا الاجتماع ، ولأن مكة تضيق عن تلك الجنود المجندة ، فلو لم يصطلح حاضرهم وباديهم وخاملهم ونبيهم على النزول في فضاء مثل منى لحرجوا ، وإن اختص بعضهم بالنزول لوجدوا في أنفسهم ، ولما جرت العادة بنزولها اقتضى ديدن العرب وحميتهم أن يجتهد كل حي في التفاخر والتكاثر ، وذكر مآثر الآباء وإراءة جلدهم وكثرة أعوانهم ليرى ذلك الأقاصي والأداني ، ويبعد به الذكر في الأقطار ، وكان للإسلام حاجة إلى اجتماع مثله يظهر به شوكة المسلمين وعدتهم وعدتهم ، ليظهر دين الله ، ويبعد صيته ، ويغلب على كل قطر من الأقطار ، فأبقاه النبي صلى الله عليه وسلم ، وحث عليه وندب إليه ، ونسخ التفاخر ، وذكر الآباء ،
____________________
(1/543)
وأبدله بذكر الله بمنزلة ما أبقى من ضيافاتهم وولائمهم . وليمة النكاح . وعقيقة المولود لما رأى فيها من فوائد جليلة في تدبير المنازل . والسر في المبيت بمزدلفة أنه كان سنة قديمة فيهم ، ولعلهم اصطلحوا عليها لما رأوا من أن للناس اجتماعا لم يعهد مثله في غير هذا الموطن ، ومثل هذا مظنة أن يزاحم بعضهم بعضا ، ويحطم بعضهم بعضا ، وإنما براحهم بعد المغرب ، وكانوا طول النهار في تعب يأتون من كل فج عميق ، فلو تجشموا أن يأتوا منى ، والحال هذه لتعبوا ، وكان أهل الجاهلية يدفعون من عرفات قبل الغروب ، ولما كان ذلك قدرا غير ظاهر ، ولا يتعين بالقطع ، ولا بد في مثل هذا الاجتماع من تعيين لا يحتمل الإبهام وجب أن يعين بالغروب . وإنما شرع الوقوف بالمشعر الحرام لأنه كان أهل الجاهلية يتفاخرون ، ويتراءون فأبدل من ذلك إكثار ذكر الله ليكون كابحا عن عادتهم ، ويكون التنويه بالتوحيد في ذلك الموطن كالمنافسة كأنه قيل : هل يكون ذكركم الله أكثر أو ذكر أهل الجاهلية مفاخرهم أكثر . والسر في رمي الجمار ما ورد في نفس الحديث من أنه إنما جعل لإقامة ذكر الله عز وجل ، وتفصيله أن أحسن أنواع توقيت الذكر وأكملها وأجمعها لوجوه التوقيت أن يوقت بزمان وبمكان ويقام معه ما يكون حافظا لعدده محققا لوجوده على رءوس الأشهاد حيث لا يخفى شيء ، وذكر الله نوعان : نوع يقصد به الإعلان بانقياده لدين الله ، والأصل فيه اختيار مجامع الناس دون الإكثار ، ومنه الرمي ولذلك لم يؤمر بالإكثار هناك ، ونوع يقصد به انصباع النفس بالتطلع للجبروت ، وفيه الإكثار ، وأيضا ورد في الأخبار ما يقتضي أنه سنة سنها إبراهيم عليه السلام حين طرد الشيطان ، ففي حكاية مثل هذا الفعل تنبيه للنفس أي تنبيه .
____________________
(1/544)
والسر في الهدى التشبه بفعل سيدنا إبراهيم عليه السلام فيما قصد من ذبح ولده في ذلك المكان طاعة لربه وتوجها إليه ، والتذكر لنعمة الله به وبأبيهم إسمعيل عليه السلام وفعل مثل هذا الفعل في هذا الوقت ، والزمان ينبه النفس أي تنبه . إنما وجب على المتمتع والقارن شكرا لنعمة الله حيث وضع عنهم إصر الجاهلية في تلك المسألة . والسر في الحلق أنه تعيين طريق للخروج من الإحرام بفعل لا ينافي الوقار ، فلو تركهم وأنفسهم لذهب كل مذهبا ، وأيضا ففيه تحقيق انقضاء التشعث والتغبر بالوجه الأتم ، ومثله كمثل السلام من الصلاة ، وإنما قدم على طواف الإفاضة ليكون شبيها بحال الداخل على الملوك في مؤاخذته نفسه بإزالة تشعثه وغباره . وصفة الطواف أن يأتي الحجر ، فيستلمه ، ثم يمشي على يمينه سبعة أطوفة يقبل فيها الحجر الأسود ، أو يشير إليه بشيء في يده كالمحجن ، ويكبر ، ويستلم الركن اليماني ، وليكن في ذلك على طهارة وستر عورة ، ولا يتكلم إلا بخير ، ثم يأتي مقام إبراهيم فيصلي ركعتين ، أما الابتداء بالحجر فلأنه وجب عند التشريع أن يعين محل البداءة وجهة المشي ، والحجر أحسن مواضع البيت لأنه نازل من الجنة ، واليمين أيمن الجهتين . وطواف القدوم بمنزلة تحية المسجد ، إنما شرع تعظيما للبيت ، ولأن الإبطاء بالطواف في مكانه وزمانه عند تهيء أسبابه سوء أدب ، وأول طواف بالبيت فيه رمل واضطباع ؛ وبعده سعى بين الصفا والمروة ؛ وذلك لمعان : منها ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من إخافة قلوب المشركين .
____________________
(1/545)
وإظهار صولة المسلمين ، وكان أهل مكة يقولون : وهنتهم حمى يثرب ، فهو فعل من أفعال الجهاد ، وهذا السبب قد انقضى ومضى ، ومنها تصوير الرغبة في طاعة الله ، وأنه لم يزده السفر الشاسع والتعب العظيم إلا شوقا ورغبة كما قال الشاعر : ( إذا اشتكت من كلال السير واعدها ** روح الوصال فتحيا عند ميعاد ) وكان عمر رضي الله عنه أراد أن يترك الرمل والاضطباع لانقضاء سببهما ، ثم تفطن إجمالاً أن لهما سببا آخر غير منقض فلم يتركهما . وإنما لم يشرع الوقوف بعرفة في العمرة لأنها ليس لها وقت معين ليتحقق معنى الاجتماع فلا فائدة للوقوف بها ، ولو شرع لها وقت معين كانت حجا ، وفي الاجتماع مرتين في السنة ما لا يخفى . وإنما العمدة في العمرة تعظيم بيت الله وشكر نعمة الله . والسر في السعي بين الصفا والمروة على ما ورد في الحديث أن هاجر أم إسمعيل عليه السلام لما اشتد بها الحال سعت بينهما سعي الإنسان المجهود ، فكشف الله عنهما الجهد بابداء زمزم ، وإلهام الرغبة في الناس أن يعمروا تلك البقعة ، فوجب شكر تلك النعمة على أولاده ومن تبعهم ، وتذكر تلك الآية الخارقة لتبهت بهيميتهم ، وتدلهم على الله ، ولا شيء في هذا مثل أن يعضد عقد القلب بهما بفعل ظاهر منضبط مخالف لمألوف القوم فيه تذلل عند أول دخولهم مكة وهو محاكاة ما كانت فيه من العناء والجهد ، وحكاية الحال في مثل هذا أبلغ بكثير من لسان المقال .
____________________
(1/546)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ' لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت وخفف عن الحائض ' أقول : السر فيه تعظيم البيت بأن يكون هو الأول وهو الآخر تصويرا لكونه هو المقصود من السفر ، وموافقة لعادتهم في توديع الوفود ملوكها عند النفر ، والله أعلم .
____________________
(1/547)
( قصة حجة الوداع ) الأصل فيها حديث جابر . وعائشة . وابن عمر . وغيرهم رضي الله عنهم . اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث بالمدينة تسع سنين لم يحج ، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج ، فقدم المدينة بشر كثير ، فخرج حتى أتى ذا الحليفة ، فاغتسل ، وتطيب ، وصلى ركعتين في المسجد ، ولبس إزارا ورداء ، وأحرم ، ولبى ، لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك . أقول : اختلف ههنا في موضعين : أحدهما أن نسكه ذلك كان حجا مفردا ، أو متعة ، بأن حل من العمرة ، واستأنف الحج ، أو أنه أحرم بالحج ، ثم أشار له جبريل عليه السلام أن يدخل العمرة عليه ، فبقي على إحرامه حتى فرغ من الحج ، ولم يحل لأنه كان ساق الهدى . وثانيهما أنه أهل حين صلى أو حين ركب ناقته أو حين أشرف على البيداء . وبين ابن عباس رضي الله عنهما أن الناس كانوا يأتونه أرسالا ، فأخبر كل واحد بما رآه ، وقد كان أول إهلاله حين صلى ركعتين ، وإنما اغتسل وصلى ركعتين لأن ذلك أقرب لتعظيم شعائر الله ، ولأنه ضبط للنية بفعل ظاهر منضبط يدل على الإخلاص لله والاهتمام بطاعة الله ، ولأن تغيير اللباس بهذا النحو ينبه النفس ، ويوقظها للتواضع لله تعالى ، وإنما تطيب لأن الإحرام حال الشعث والتفل ، فلا بد من تدارك له قبل ذلك ، وإنما اختار هذه الصيغة في التلبية لأنها تعبير عن قيامه بطاعة مولاه وتذكر له ذلك ، وكان أهل الجاهلية يعظمون شركاءهم ، فأدخل النبي صلى الله عليه وسلم لا شريك لك ' ردا على هؤلاء وتمييزا للمسلمين منهم ، ويستحب زيادة سؤال الله رضوانه والجنة واستعفاءه برحمته من النار .
____________________
(1/548)
وأشار جبريل عليه السلام برفع أصواتهم بالإحرام والتلبية وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا ) أقول : سره أنه من شعائر الله ، وفيه تنويه ذكر الله ، وكل ما كان من هذا الباب فإنه يستحب الجهر به ، وجعله بحيث يكون على رؤوس الخامل والنبيه ، وبحيث تصير الدار دار الإسلام ، فإذا كان كذلك كتب في صحيفة عمله صورة تلبية تلك المواضع : وأشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته في صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم عنها وقلدها نعلين أقول : السر في الإشعار التنويه بشعائر الله وأحكام الملة الحنيفية يرى ذلك منه الأقاصي والأداني ، وأن يكون فعل القلب منضبطا بفعل ظاهر : وولدت أسماء بنت عميس بذي الحليفة فقال لها ' اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي ' أقول : ذلك لتأتي بقدر الميسور من سنة الإحرام . وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين حاضت عائشة رضي الله عنها بسرف : إن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم فافعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري ' أقول : مهد الكلام بأنه شيء يكثر وقوعه ، فمثل هذا الشيء يجب في حكمة الشرائع أن يدفع عنه الحرج ، وأن يسن له سنة ظاهرة فلذلك سقط عنها طواف القدوم وطواف الوداع . فلما دنا من مكة نزل بذي طوى ، ودخل مكة من أعلاها نهارا ، وخرج
____________________
(1/549)
من أسفلها ، وذلك ليكون دخول مكة في حال اطمئنان القلب دون التعب ، لتمكن من استشعار جلال الله وعظمته ، وأيضا ليكون طوافه بالبيت على أعين الناس فإنه أنوه بطاعة الله ، وأيضا فكان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يعلمهم سنة المناسك ، فأمهلهم حتى يجتمعوا له جامعين متهيئين وإنما خالف في الطريق ليظهر شوكة المسلمين في كلتا الطريقين ، ونظيره العيد . فلما أتى البيت استلم الركن ، وطاف سبعا ، رمل ثلاثا ، ومشى أربعا ، وخص الركنين اليمانيين بالاستلام ، وقال فيما بينهما : ! ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) ! . ثم تقدم إلى مقام إبراهيم ، فقرأ : ! ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) ! . فصلى ركعيتن ، وجعل المقام بينه وبين البيت ، وقرأ فيهما : ! ( قل هو الله أحد ) ! . و ! ( قل يا أيها الكافرون ) ! . ثم رجع إلى الركن فاستلمه . أقول أما سر الرمل والاضطباع فقد ذكرناه ، وإنما خص الركنين اليمانيين بالاستلام لما ذكره ابن عمر من أنهما باقيان على بناء إبراهيم عليه السلام دون الركنين الآخرين فإنهما من تغييرات أهل الجاهلية ، وإنما اشترط له شروط الصلاة لما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن الطواف يشبه الصلاة في تعظيم الحق وشعائره ، فحمل عليها ، وإنما سن ركعتين بعده
____________________
(1/550)
إتماما لتعظيم البيت ، فإن تمامه أن يستقبل في صلواتهم ، وإنما خص بهما مقام إبراهيم لأنه أشرف مواضع المسجد ، وهو آية من آيات الله ظهرت على سيدنا إبراهيم ، وتذكر هذه الأمور هي العمدة في الحج ، وإنما استحب أن يقول بين الركنين : ( ربنا آتنا في الدنيا في الحسنة وفي الآخرة حسنة ) الخ لأنه دعاء جامع نزل به القرآن ، وهو قصير اللفظ يناسب تلك الفرصة القليلة . ثم خرج من الباب إلى الصفا ، فلما دنا من الصفا قرأ ! ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) ! أبدأ بما بدأ به ، فبدأ بالصفا ، ورقي عليه حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة ، فوحد الله ، وكبره ، وقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات ، ثم نزل ، ومشى إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ، ففعل على المروة كما فعل على الصفا . أقول : فهم النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية أن تقديم الصفا على المروة إنما هو لتوفيق المذكور بالمشروع ، وإنما خص من الأذكار ما فيه توحيد وبيان لإنجاز الوعد ونصره على أعدائه تذكيرا لنعمه وإظهارا لبعض معجزاته وقطعا لدابر الشرك وبيانا أن كل ذلك موضوع تحت قدميه وإعلانا لكلمة الله ودينه في مثل هذا الموضع ، ثم قال : ' لو أنى استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل ، وليجعلها عمرة ، قيل : ألعامنا هذا أم للأبد . قال : لا بل لأبد الأبد ، فحل الناس كلهم ، وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن كان معه هدى .
____________________
(1/551)
أقول الذي بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمور : منها أن الناس كانوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم يرون العمرة في أيام قبل الحج من أفجر الفجور ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبطل تحريفهم ذلك بأتم وجه . ومنها أنهم كانوا يجدون في صدورهم حرجا من قرب عهدهم بالجماع عند إنشاء الحج حتى قالوا : أناتي عرفة ومذا كيرنا تقطر منيا ؟ وهذا من التعمق ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسد هذا الباب . ومنها أن إنشاء الإحرام عند الحج أتم لعظيمهم البيت . وإنما كان سوق الهدى مانعا من الإحلال لأن سوق الهدى بمنزلة النذر أن يبقى على هيئته تلك حتى يذبح الهدى ، والذي يلتزمه الإنسان إذا كان حديث نفس أو نية غير مضبوطة بالفعل لا عبرة به ، وإذا اقترن بها فعل وصارت مضبوطة وجبت رعايتها ، والضبط مختلف ، فأدناه باللسان ، وأقواه أن يكون مع القول فعل علانية يختص بالحالة التي أرادها كالسوق . فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى ، فأهلوا بالحج ، وركب النبي صلى الله عليه وسلم ، فصلى بها الظهر . والعصر . والمغرب . والعشاء . والفجر ، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس ، فسار حتى نزل بنمرة . أقول : إنما توجه يوم التروية ليكون أرفق به وممن معه ، فإن الناس مجتمعون في ذلك اليوم اجتماعا عظيما ، وفيهم الضعيف والسقيم ، فاستحب الرفق بهم ، ولم يدخل عرفة قبل وقتها لئلا يتخذها الناس سنة ، ويعتقدوا أن دخولها في غير وقتها قربة . فلما زاغت الشمس بنمرة أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن
____________________
(1/552)
الوادي ، فخطب الناس ، وحفظ من خطبته يومئذ ' إن دماءكم حرام ' الخ ، ثم أذن بلال ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئا . أقول : إنما خطب يومئذ بالأحكام التي يحتاج الناس إليها ، ولا يسعهم جهلها لأن اليوم يوم اجتماع ، وإنما تنتهز مثل هذه الفرصة لمثل هذه الأحكام التي يراد تبليغها إلى جمهور الناس ، وإنما جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء لأن للناس يومئذ اجتماعا لم يعهد في غير هذا الموطن ، والجماعة الواحدة المطلوبة ، ولا بد من إقامتها في مثل هذا الجمع ليراه جميع من هنالك ولا يتيسر اجتماعهم في وقتين ، وأيضا فلأن للناس اشتغالا بالذكر والدعاء وهما وظيفة هذا اليوم ورعاية الأوقات وظيفة جميع السنة ، وإنما يرجح في مثل هذا الشيء البديع النادر . ثم ركب حتى أتى الموقف ، واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلا ، ثم دفع . أقول : إنما دفع بعد الغروب ردا لتحريف الجاهلية فإنهم كانوا لا يدفعون إلا قبل الغروب ، ولأن قبل الغروب غير مضبوط وبعد الغروب أمر مضبوط ، وإنما يؤمر في مثل ذلك اليوم بالأمر المضبوط . ثم دفع حتى أتى المزدلفة ، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان وإقامتين ولم يسبح بينهما ، ثم اضطجع حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة ، فدعا الله ، وكبره ، وهلله ، ووحده ، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس حتى أتى بطن محسر ، فحرك قليلا .
____________________
(1/553)
أقول : إنما لم يتهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مزدلفة لأنه كان لا يفعل كثيرا من الأشياء المستحبة في المجامع لئلا يتخذها الناس سنة ، وقد ذكرنا سر الوقوف بالمشعر الحرام ، وإنما أوضع بمسحر لأنه محل هلاك أصحاب الفيل ، فمن شأن من خاف الله وسطوته أن يستشعر الخوف في ذلك الموطن ، ويهرب من الغضب ، ولما كان استشعاره أمرا خفيا ضبط بفعل ظاهر مذكر له منبه للنفس عليه . ثم أتى جمرة العقبة ، فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي . أقول : إنما كان رمي الجمار في اليوم الأول غدوة ، وفي سائر الأيام عشية ، لأن من وظيفة الأول النحر والحلق و الإفاضة ، وهي كلها بعد الرمي ، ففي كونه غدوة توسعة ، وأما سائر الأيام فأيام تجارة وقيام أسواق ، فالأسهل أن يجعل ذلك بعد ما يفرغ من حوائجه ، وأكثر ما كان الفراغ في آخر النهار ، وإنما كان رمى الجمار توا ، والسعي بين الصفا والمروة توا لما ذكرنا من أن الوتر عدد محبوب ، وأن خليفة الواحد الحقيقي هو الثلاثة أو السبعة ، فبالحري ألا يتعدى من السبعة إن كان فيها كفاية ، وإنما رمي بمثل حصى الخذف لأن دونها غير محسوس ، وفوقها ربما يؤذى في مثل هذا الموضع . ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده ، ثم أعطى عليا رضي الله عنه لينحر ما غبر ، وأشركه في هديه ، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر ، فطبخت ، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها .
____________________
(1/554)
أقول : إنما نحر بيده هذا العدد ، ليشكر ما أولاه الله في كل سنة من عمره ببدنة ، وإنما أكل منها وشرب اعتناء بالهدى وتبركا بما كان لله تعالى . قال صلى الله عليه وسلم ' نحرت ههنا ، ومنى كلها منحر ، فانحروا في رحالكم ، ووقفت ههنا ، وعرفة كلها موقف ، ووقفت ههنا ، وجمع كلها موقف ' وزاد في رواية وكل فجاج مكة طريق ومنحر ' أقول : فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين ما فعله تشريعا لهم وبين ما فعله بحسب الاتفاق أو لمصلحة خاصة بذلك اليوم أو اختيارا لمحاسن الأمر . ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت ، فصلى بمكة الظهر ، وطاف وشرب من زمزم . أقول : إنما بادر إلى البيت لتكون الطاعة في أول وقتها ، ولأنه لا يأمن الإنسان أن يكون له مانع ، وإنما شرب من زمزم تعظيما لشعائر الله وتبركا بما أظهره الله رحمة . فلما انقضت أيام منى نزل بالأبطح ، وطاف للوداع ، ونفر . أقول : اختلف في نزول الأبطح هل هو على وجه العبادة أو العادة ؟ فقالت عائشة : نزول الأبطح ليس بسنة إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان أسمح لخروجه ، واستنبط من قوله ' حيث تقاسموا على الكفر ' أنه قصد بذلك تنويها بالدين ، والأول أصح .
____________________
(1/555)
( أمور تتعلق بالحج ) قال النبي صلى الله عليه وسلم ' نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن ، فسودته خطايا بني آدم ' ، وقال فيه : ' والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق ' وقال : ' إن الركن والمقام ياقوتتان ' أقول : يحتمل أن يكونا من الجنة في الأصل ، فلما جعد في الأرض اقتضت الحكمة أن يراعى فيهما حكم نشأة الأرض ، فطمس نورهما ، ويحتمل يراد أنه خالطهما قوة مثالية بسبب توجه الملائكة إلى تنويه أمرهما وتعلق همم الملأ الأعلى والصالحين من بني آدم حتى صارت فيهما قوة ملكية ، وهذا وجه التوفيق بين قول ابن عباس رضي الله عنهما : كلما هذا ، وقول محمد بن الحنفية رضي الله عنه : حجر من أحجار الأرض . وقد شاهدنا عيانا أن البيت كالمحشو بقوة ملكية ، ولذلك وجب أن يعطى في المثال ما هو خاصية الأحياء من العينين واللسان ولما كان معرفا لإيمان المؤمنين وتعظيم المعظمين لله وجب أن يظهر في اللسان بصورة الشهادة له أو عليه كما ذكرنا من سر نطق الأرجل والأيدي . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ' من طاف بهذا البيت أسبوعا يحصيه ، وصلى ركعتين كان كعتق رقبة ، وما وضع رجل قدما ، ولا رفعها إلا كتب له الله له بها حسنة ، ومحا بها سيئة ، ورفع له بها درجة ' أقول : السر في هذا الفضل شيآن : أحدهما أنه لما كان شبحا للخوض في رحمة الله وعطف دعوات الملأ الأعلى إليه ومظنة لذلك ذكر له أقرب خاصية لذلك . وثانيهما أنه إذا فعله الإنسان إيمانا بأمر الله وتصديقا لموعوده كان تبيانا لإيمانه وشرحا له
____________________
(1/556)
قال صلى الله عليه وسلم ' ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة ، وإنه ليدنو ، ثم يباهي بهم الملائكة ' أقول ذلك لأن الناس إذا تضرعوا إلى الله بأجمعهم لم يتراخ نزول الرحمة عليهم وانتشار الروحانية فيهم . وقال صلى الله عليه وسلم ' خير الدعاء دعاء يوم عرفة ، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ' الخ وذلك لأنه جامع لأكثر أنواع الذكر ، ولذلك رغب فيه . وفي سبحان الله . والحمد لله الخ في مواطن كثيرة وأوقات كثيرة كما يأتي في الدعوات . ومن السنة أن يهدى وإن لم يأت الحج إقامة لاعلاء كلمة الله بقدر الامكان ، وإنما دعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة إبانة لفضل الحلق ، وذلك لأنه المناسب لزوال الشعث الأقرب لهيئة الداخلين على الملوك وأدنى أن يبقى أثر الطاعة ويرى منه ذلك ليكون أنوه بطاعة الله ، ونهى أن تحلق المرأة رأسها لأنها مثلة وتشبه بالرجال ، وأفتى فيمن حلق قبل أن يذبح أو نحر قبل أن يرمي ، أو رمى بعد ما أمسى ، أو أفاض قبل الحلق أنه لا حرج ولم يأمر بكفاره ، والسكوت عند الحاجة بيان ، وليت شعرى هل في بيان الاستحباب صيغة أصرح من لا حرج ، ولا يتم التشريع إلا ببيان المرخص في وقت الشدائد فمنها أذى لا يستطيع معه الاجتناب عما حرم عليه في الاحرام وفيه قوله تعالى : ! ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) ! . وقوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة : ' فاحلق رأسك وأطعم
____________________
(1/557)
فرقا ' الخ وقد بينا أن أحسن انواع الرخص ما يجعل معه شيء يذكر له الأصل ، ويثلج صدر المجمع على عزيمة الأصل عند تركه ، وحمل الافراط في وجوب الكفارة على ذلك بالطريق الأولى ، ومنها الاحصار ، وقد سن فيه حين حال كفار قريش دون البيت ، فنحر هدايا ، وحلق ، وخرج من الإحرام ، والسر في حرم مكة والمدينة أن لكل شيء تعظيما وتعظيم البقاع ألا يتعرض لما فيها بسوء ، وأصله مأخوذ من حمى الملوك وحلة بلادهم ، فانه كان انقياد القوم لهم وتعظيمهم إياهم مساوقا لمؤاخذة أنفسهم ألا يتعرضوا لما فيها من الشجر والدواب ، وفي الحديث ' إن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه ' فاشتهر ذلك بينهم وركز في صميم قلوبهم وسويداء أفئدتهم ، ومن أدب الحرم أن يتأكد وجوب ما يجب في غيره من إقامة العدل وتحريم ما يحرم فيه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم ' احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه ' قوله تعالى : ! ( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) ! . الآية أقول : لما كان الصيد في الحرم والاحرام ، والجماع في الاحرام إفراطا ناشئا من توغل النفس في شهوتها وجب أن يزجر عن ذلك بكفارة ، واختلفوا في جزاء الصيد هل تعتبر المثلية في الخلق أو القيمة و الحق أنه ينبغي أن يسأل ذوي عدل ، فإن رأيا رأي السلف في تلك الصور فذاك ، وإن رأيا القيمة فذاك . قال النبي صلى الله عليه وسلم ' لا يصبر على لأواء المدينة أحد من أمتي إلا كنت له شفيعا يوم القيامة ' أقول : سر هذا الفضل أن عمارة
____________________
(1/558)
المدينة إعلاء لشعائر الدين ، فهذه فائدة ترجع إلى الملة ، وأن حضور تلك المواضع والحلول في ذلك المسجد مذكر له ما كان النبي صلى الله عليه وسلم فيه ، وهذه فائدة ترجع إلى نفس هذا المكلف . قال النبي صلى الله عليه وسلم ' إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراما وإني حرمت المدينة ' أقول : فيه إشارة إلى أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بجهد همته وتأكد عزيمته له دخل عظيم في نزول التوقيعات . ، والله أعلم
____________________
(1/559)
( من أبواب الإحسان ) اعلم أن ما كلف به الشارع تكليفا أوليا إيجابا أو تحريما هو الأعمال من جهة أنها تنبعث من الهيآت النفسانية التي هي في المعاد في للنفوس أو عليها وأنها تمد فيها ، وتشرحها وهي وأشباحها وتماثيلها . والبحث عن تلك الأعمال من جهتين : إحداهما جهة إلزامها جمهور الناس ، والعمدة في ذلك اختيار مظان تلك الهيئات من الأعمال ، والطريقة الظاهرة التي ليلها نهارها يؤاخذون بها على أعين الناس ، فلا يتمكنون من التسلل والاعتذار ، ولا بد أن يكون بناؤها على الاقتصاد . والأمور المضبوطة . والثانية جهة تهذيب نفوسهم بها وإيصالها إلى الهيآت المطلوبة منها ، والعمدة في ذلك معرفة تلك الهيآت ومعرفة الأعمال من جهة إيصالها إليها وبناؤها على الوجدان وتفويض الأمر إلى صاحب الأمر فالباحث عنها من الجهة الأولى هو علم الشرائع وعن الثانية هو علم الإحسان . فالناظر في مباحث الإحسان يحتاج إلى شيئين : النظر إلى الأعمال من حيث إيصالها إلى هيآت نفسانية لأن العمل ربما يؤدى على وجه الرياء أوالسمعة والعادة ، أو يقارنه العجب والمن والأذى ، فلا يكون موصلا إلى ما أريد منه ، وربما يؤدى على وجه لا تتنبه هذه النفس لإرواحه تنبها يليق بالمحسنين ، وإن كان من النفوس من يتنبه بمثله كالمكتفي بأصل الفرض لا يزيد عليه كما ولا كيفا وهو ليس بزكي ، والنظر في تلك الهيآت النفسانية ليعرفها حق معرفتها ، فيباشر الأعمال على بصيرة مما أريد منها ، فيكون
____________________
(1/560)
طبيب نفسه يسوس نفسه كما يسوس الطبيب الطبيعة ، فإن من لا يعرف المقصود من الآلات كاد إذا استعملها أن يخبط خبط عشواء ، أو يكون كحاطب ليل . وأصول الأخلاق المبحوث عنها في هذا الفن أربعة : - كما نبهنا على ذلك فيما سبق - الطهارة الكاسبة للتشبه بالملكوت ، والإخبات الجالب للتطلع إلى الجبروت ، وشرع للأول الوضوء والغسل ، وللثاني الصلاة والأذكار والتلاوة ، وإذا اجتمعتا سميناه سكينة ووسيلة ، وهو قول حذيفة في عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما : لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنه أقربهم إلى الله وسيلة ، وقد سماها الشارع إيمانا في قوله ' الطهور شطر الإيمان ' وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حال الأول حيث قال ' إن الله نظيف يحب النظافة ' وأشار إلى الثاني حيث قال ' الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ' والعمدة في تحصيلها التلبس بالنواميس المأثورة عن الأنبياء ، مع ملاحظة وأرواحها أنوارها والإكثار منها ، مع رعاية هيئاتها وأذكارها . فروح الطهارة هي نور الباطن وحالة الأنس والانشراح وخمود الأفكار الجربزة وركود التشويشات والقلق وتشتت الفكر والضجر والجزع . وروح الصلاة هي الحضور مع الله والاستشراف للجبروت وتذكر جلال الله مع تعظيم ممزوج بمحبة وطمأنينة ، وإليه الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم ' الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ' . وأشار إلى كيفية تمرين النفس عليها بقوله ' قال الله تعالى : قسمت
____________________
(1/561)
الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : ( الحمد لله رب العالمين ) ، قال الله : حمدني عبدي ، وإذا قال : ( الرحمن الرحيم ) قال الله أثنى علي عبدي ، وإذا قال : ( مالك يوم الدين ) قال : مجدني عبدي ، وإذا قال : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ، قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، وإذا قال : ( أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) ، قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ' . فذلك إشارة إلى الأمر بملاحظة الجواب في كل كلمة . فإنه ينبه للحضور تنبيها بليغا ، وبأدعية سنها النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة وهي مذكورة في حديث على رضي الله عنه وغيره . وروح تلاوة قراءة القرآن أن يتوجه إلى الله بشوق وتعظيم ، ويتدبر في مواعظه ، ويستشعر الانقياد في أحكامه ، ويعتبر بأمثاله وقصصه ، ولا يمر بآية صفات الله وآياته إلا قال : سبحان الله ، ولا بآية الجنة والرحمة إلا سأل الله من فضله ، ولا بآية النار والغضب إلا تعوذ بالله . فهذا ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمرين النفس بالاتعاظ . وروح الذكر الحضور والاستغراق في الالتفات إلى الجبروت ، وتمرينه أن يقول : لا إله إلا الله والله أكبر ، ثم يسمع من الله أنه قال : لا إله إلا أنا وأنا أكبر ، ثم بقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ثم يسمع من الله لا إله إلا أنا وحدى لا شريك لي ، وهكذا حتى يرتفع الحجاب ، ويتحقق الاستغراق ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك .
____________________
(1/562)
وروح الدعاء أن يرى كل حول وقوة من الله ، ويصير كالميت في يد الغسال ، وكالتمثال في يد محرك التماثيل ، ويجد لذة المناجاة . وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو بعد صلاة التهجد في أثناء أشفاعه دعاء طويلا يقنع فيها يديه يقول : يا رب يا رب ، يسأل الله خير الدنيا والآخرة ، ويتعوذ به من البلايا ، ويتضرع ، ويلح ، ويشترط في ذلك أن يكون بقلب فارغ غير لاه ، ولا يكون حاقنا ولا حاقبا ولا جائعا ولا غضبان . فإذا عرف الإنسان حالة المحاضرة ثم فقدها فليفحص عن سبب الفقد ، فإن كان غزارة الطبيعة فعليه بالصوم فإن له وجاء وأكثر ما يكون في الصوم أن يصوم شهرين متتابعين ، وإن احتاج إلى استفراغ المني والتفرغ من إصلاح المطعم والمشرب ، أو كان ذهب نشاطه ، وأراد إعادته يملك فرجا يدفع به سوء منيه من غير انهماك في المفاكهة والاختلاط ، وليجعله كالدواء يحصل نفعه ، ويتحرز من فساده . وإن كان الاشتغال بالارتفاقات وصحبة الناس فليعالج بضم العبادات معها . وإن كان امتلاء أوعية الفكر بخيالات مشوشة وأفكار جربزة فليعتزل الناس ، ويلتزم البيت أو المسجد ، وليمنع لسانه إلا من ذكر الله وقلبه إلا من الفكر فيما يهمه ، ويتعاهد نفسه عندما يستيقظ ، ليكون أول ما يدخل في قلبه ذكر الله وعندما يريد أن ينام ، ليتخلى قلبه عن تلك الأشغال .
____________________
(1/563)
والثالث سماحة النفس وهي ألا تنقاد الملكية لدواعي البهيمية : من طلب اللذة وحب الانتقام والغضب والبخل والحرص على المال والجاه ، فإن هذه الأمور إذا باشر الإنسان أعمالها المناسبة لها تتشبح ألوانها في جوهر النفس ساعة ما ، فإن كانت النفس سمحه يسهل عليها رفض الهيآت الخسيسة ، فصارت كأنه لم يمكن فيها شيء من ذلك الباب قط ، وخلصت إلى رحمة الله ، واستغرقت في لجه الأنوار التي تقتضيها جبلة النفوس لولا الموانع ، وإن لم تكن سمحة تشبح ألوانها في النفس كما يتشيح نقوش الخاتم في الشمعة ولصق بها وحز الحياة الدنيا ، ولم يسهل عليها رفضها فإذا فارقت جسدها أحاطت بها الخطيئات من بين يديها ومن خلفها وعن يمينها وعن شمالها ، وسدل بينها وبين الأنوار التي تقتضيها جبلة النفوس حجب كثيرة غليظة ، فكان ذلك سبب تأذيها وتألمها . والسماحة إذا اعتبرت بداعية الشهوتين : شهوة البطن . وشهوة الفرج سميت عفة ، أوبداعية الدعة والرفاهية سميت اجتهادا ، أو بداعية الضجر والجزع سميت صبرا ، أو بداعية حب الانتقام سميت عفوا ، أو بداعية حب المال سميت سخاوة وقناعة ، أو بداعية مخالفة الشرع سميت تقوى ، ويجمعها كلها شيء واحد ، وهو أن أصلها عدم انقياد النفس للهواجس البهيمية ، والصوفية يسمونها بقطع التعلقات الدنيوية أو بالفناء عن الخسائس البشرية ، أو بالحربة ، فيعبرون عن تلك الخصلة بأسماء مختلفة ، والعمدة في تحصيلها قلة الوقوع في مظان هذه الأشياء ، وإيثار القلب ذكر الله تعالى وميل النفس إلى عالم التجرد ، وهو قول زيد بن حارثة استوى عندي حجرها ومدرها إلى أن أخبر عن المكاشفة . والرابع العدالة ، وهي ملكة يصدر منها إقامة النظام العادل المصلح
____________________
(1/564)
في تدبير المنزل وسياسة المدينة ونحو ذلك بسهولة ، وأصلها جبلة نفسانية تنبعث منها الأفكار الكلية والسياسيات المناسبة بما عند الله وعند ملائكته ، وذلك أن الله تعالى أراد في العالم انتظار أمرهم ، وأن يعاون بعضهم بعضا ، وألا يظلم بعضهم بعضا ، وأن يتألف بعضهم ببعض ، ويصيروا كجسد رجل واحد ، وإذا تألم عضو منه تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر ، وأن يكثر نسلهم ، وأن يزجر فاسقهم ، وينوه بعادلهم ، ويخمل فيهم الرسوم الفاسدة ، ويشهد فيهم الخير والنواميس الحقة ، فلله سبحانه في خلقه قضاء إجمالي كل ذلك شرح له وتفصيل ، وملائكته المقربون تلقوا ذلك ، وصاروا يدعون لمن سعى في إصلاح الناس ، ويلعنون على من سعى في فسادهم ، وهو قوله تعالى : ! ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) ! وقوله تعالى : ( الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ) الآية . وقوله تعالى : ( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) الآية .
____________________
(1/565)
فمن باشر هذه الأعمال المصلحة شملته رحمة الله وصلوات الملائكة من حيث يحتسب أو لا يحتسب ، وكان هنالك رقائق تحيط به كأشعة النيرين تحيط بالإنسان ، فتورث الإلهام في قلوب الناس والملائكة أن يحسنوا إليه ، ويوضع له القبول في السماء والأرض ، وإذا انتقل إلى عالم التجرد أحس بتلك الرقائق المتصلة به ، والتذ بها ، ووجد سعة وقبولا ، وفتح بينه وبين الملائكة باب ، ومن باشر الأعمال المفسدة شمله غضب الله ولعنة الملائكة ، وكانت هناك رقائق مظلمة ناشئة من الغضب تحيط به ، فتورث الإلهام في قلوب الملائكة والناس أن يسيئوا إليه ويوضع له البغضاء في السموات والأرض ، وإذا انتقل إلى عالم التجرد أحس بتلك الرقائق الظلمانية عاضة عليه ، وتألمت نفسه بها ، ووجد ضيقا ونفرة ، وأحيط به من جميع جوانبه ، فضاقت عليه الأرض بما رحبت . والعدالة اذا اعتبرت بأوضاع الإنسان في قيامه . وقعوده . ونومه . ويقظته . ومشيه . وكلامه . وزيه . ولباسه . وشعره سميت أدبا ، وإذا اعتبرت بالأموال وجمعها وصرفها سميت كفاية ، وإذا اعتبرت بتدبير المنزل سميت حرية ، وإذا اعتبرت بتدبير المدينة سميت سياسة . وإذا اعتبرت بتألف الأخوان سميت بحسن المحاضرة أو حسن المعاشرة ، والعمدة في تحصيلها الرحمة ، والمودة ، ورقة القلب وعدم قسوته مع الإنقياد للأفكار الكلية والنظر في عواقب الأمور . وبين هاتين الخلتين تنافر ومناقضة من وجه ، وذلك لأن ميل القلب إلى التجرد وانقياده للرحمة والمودة يتخالفان في حق أكثر الناس لا سيما أهل التجاذب ، ولذلك ترى كثيرا من أهل الله تبتلوا ، وانقطعوا من الناس وباينوا الأهل والولد ، وكانوا من الناس على شق بعيد ، وترى العامة قد أحاطت بهم معافسة الأزواج والأولاد حتى أنساهم ذكر الله ، والأنبياء
____________________
(1/566)
عليهم السلام لا يأمرون إلا برعاية المصلحتين ، ولذلك أكثروا الضبط وتمييز المشكل في هاتين الخلتين ، فهذه هي الأخلاق المعتبرة في الشرائع ، وهنالك أفعال وهيآت تفعل فعل تلك الأخلاق وأضدادها من جهة أنها تعطيها مزاج الملائكة والشياطين ، أو تنبعث من ميل النفس إلى إحدى القبيلتين فيؤمر بذلك الباب ، وقد ذكرنا بعض ذلك . ومن هذا الباب قوله عليه السلام إن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ' وقوله عليه السلام : ' الاجدع شيطان ' وقوله عليه الصلاة والسلام : ' ألا تصفون كما تصف الملائكة ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمظان تلك الأخلاق ، فأمر بأذكار تفيد دوام الإخبات والتضرع ، وأمر بالصبر والانفاق ، ورغب في ذكر هاذم اللذات وذكر الآخرة ، وهون أمر الدنيا في أعينهم ، وحضهم على التفكر في جلال الله وعظم قدرته ، ليحصل لهم السماحة ، وأمر بعيادة المريض والبر والصلة وإفشاء السلام وإقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ليحصل لهم العدالة ، وبين تلك الأفعال والهيآت أتم بيان ، جزى الله تعالى هذا النبي الكريم كما هو أهله عنا وعن سائر المسلمين أجمعين . إذا علمت هذه الأصول حان أن نشتغل ببعض التفصيل ، والله أعلم
____________________
(1/567)
( الأذكار وما يتعلق بها ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ' أقول : لا شك أن اجتماع المسلمين راغبين ذاكرين يجلب الرحمة والسكينة ، ويقرب من الملائكة . وقال صلى الله عليه وسلم سبق المفردون ' ( أقول ) هم قوم من السابقين سموا بالمفردين لأن الذكر خفف عنهم أوزارهم . قال صلى الله عليه وسلم : قال تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ' أقول جبلة العبد الناشئ منها أخلاقها وعلومها ، والهيئات التي اكتسبتها نفسه هي المخصصة لنزول رحمة خاصة به ، فرب عبد سمح الخلق يظن بربه أنه يتجاوز عن ذنوبه ، ولا يؤاخذ بكل نقير وقطمير ، ويعامل معه معاملة فيكون رجاءه ذلك سبباً لنفض خطيآته عن نفسه ، ورب عبد شحيح الخلق يظن بربه أنه يؤاخذه بكل نقير وقطمير ، ويعامل معه معاملة المتعمقين ، السماحة ، ولا يتجاوز عن ذنوبه ، فهذا بأشد المنزلة بالنسبة إلى هيئات دنيوية تحيط به بعد موته ، وهذا الفرق إنما محله الأمور التي لم يتأكد في حظيرة القدس حكمها ، وأما الكبائر وما يشابهها فلا يظهر فيه إلا بالإجمال ، وقوله ' أنا معه ' إشارة إلى معية القبول وكونه في حظيرة القدس ببال ، فإن ذكر الله في نفسه ، وسلك طريق التفكر في آلائه ، فجزاؤه أن الله يرفع الحجب في ميسره ذلك حتى يصل إلى التجلي القائم في
____________________
(1/568)
حظيرة القدس ، وإن ذكر الله في ملأ ، وكان همه إشاعة دين الله وإعلاء كلمة الله فجزاؤه أن الله يلهم محبته في قلوب الملأ الأعلى يدعون له ، ويبركون عليه ، ثم ينزل له القبول في الأرض ، وكم من عارف بالله وصل إلى المعرفة وليس له قبول في الأرض ولا ذكر في الملأ الأعلى ، وكم من ناصر دين الله له قبول عظيم وبركة جسيمة لم ترفع له الحجب : قال صلى الله عليه وسلم : ' قال تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد ، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها ، أو أغفر ، ومن تقرب مني شبرا تقربت إليه ذراعا ، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ومن لقيني بقراب الأرض خطيئه لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة ' أقول : الإنسان إذا مات ، وأدبر عن الدنيا ، وضعفت سورة بهيميته ، وتلعلعت أنوار ملكيته ، فقليل خيره كثير ، وما بالعرض ضعيف بالنسبة إلى ما هو بذات والتدبير الإلهي مبناه على إفاضة الخير ، فالخير أقرب إلى الوجود والشر أدق منه ، وهو حديث ' إن لله مائة رحمة أنزل منها واحدة إلى الأرض ' فبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بمثل الشبر . والذراع . والباع والمشي . والهرولة ، وليس شيء أنفع في المعاد من التطلع إلى الجبروت والالتفات تلقاءها ، وهو قوله ' من لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة ' ، وقوله تعالى : ' أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويؤاخذ به ' . وقال صلى الله عليه وسلم : ' قال تعالى : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلى عبدي إلي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإن أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ،
____________________
(1/569)
وإن سألني لأعطينه ، وإن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ' أقول إذا أحب الله عبدا ، ونزلت محبته في الملأ الأعلى ، ثم نزل له القبول في الأرض ، فخالف هذا النظام أحد ، وعاداه ، وسعى في رد أمره وكبت حاله انقلبت رحمة الله بهذا المحبوب لعنة في حق عدوه ، ورضاه به سخطا في حقه ، وإذا تدلى الحق إلى عباده باظهار شريعة وإقامة دين ، وكتب في حظيرة القدس تلك السنن والشرائع كانت هذه السنن والقربات أجلب شيء لرحمة الله وأوفقه برضا الله ، وقليل هذه كثير ، ولا يزال العبد بتقرب إلى الله بالنوافل زيادة على الفرائض حتى يحبه الله ، وتغشاه رحمته ، وحينئذ يؤيد جوارحه بنور إلهي ، ويبارك فيه . وفي أهله وولده وماله ، ويستجاب دعاؤه ويحفظ من الشر ، وينصر ، وهذا القرب عندنا يسمى بقرب الأعمال ، والتردد ههنا كناية عن تعارض العنايات فإن الحق له عناية بكل نظام نوعي وشخصي ، وعنايته بالجسد الإنساني تقضي القضاء بموته ومرضه وتضييق الحال عليه ، وعنايته بنفسه المحبوبة تقتضي إفاضة الرفاهية من كل جهة عليه وحفظه من كل سوء . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ' ألا أنبئكم بخير أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من انفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم ، فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى ، قال : ذكر الله ' أقول : الأفضلية تختلف بالاعتبار ولا أفضل من الذكر باعتبار تطلع النفس إلى الجبروت ، ولا سيما في نفوس زكية لا تحتاج إلى الرياضات ، وإنما تحتاج إلى مداومة التوجه . وقال عليه الصلاة والسلام : من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه كانت عليه
____________________
(1/570)
من الله ترة ، ومن اضطجع مضطجعا لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة ، وقال : ' ما من قوم يقومون من مجلس يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار ؛ وكان عليهم حسرة ' وقال ' لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب ، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي ' أقول : من وجود حلاوة الذكر ، وعرف كيف يحصل له الاطمئنان بذكر الله وكيف تنقشع الحجب عن قلبه عند ذلك حتى يصير كأنه يرى الله عيانا ولا شك أنه إذا توجه إلى الدنيا وعافس الأزواج والضيعات ينسى كثيرا ، ويبقى كأنه فقد ما كان وجد ، ويسدل حجاب بينه وبين ما كان بمرأى منه وهذه الخصلة تدعوا إلى النار وإلى كل شر ، وفي كل من ذلك ترة وإذا اجتمعت الترات لم يكن بسبيل إلى النجاة ، وقد عالج النبي صلى الله عليه وسلم هذه الترات بأتم علاج ، وذلك أن شرع في كل حالة ذكرا مناسبا له ليكون ترياقا دافعا لسم الغفلة ، فنبه النبي صلى الله عليه وسلم على فائدة هذه الأذكار وعلى عروض الترات بدونها . واعلم أنه مست الحاجة إلى ضبط ألفاظ الذكر صونا له من أن يتصرف فيه متصرف بعقله الأبتر ، فيلحد في أسماء الله ، أو لا يعطى المقام حقه ، وعمدة ما سن في هذا الباب عشرة أذكار في كل واحد سر ليس في غيره ، ولذلك سن النبي صلى الله عليه وسلم في كل موطن أن يجمع بين ألوان منها . وأيضا فالوقوف على ذكر واحد يجعله لقلقة اللسان في حق عامة المكلفين ، والانتقال من بعضها إلى بعض ينبه النفس ، ويوقظ الوسنان . منها سبحان الله ، وحقيقته تنزيه عن الأدناس والعيوب والنقائص .
____________________
(1/571)
ومنها الحمد لله ، وحقيقته إثبات الكمالات والأوصاف التامة له ، فإذا اجتمعتا في كلمة واحدة كانت أفصح تعبير عن معرفة الإنسان بربه لأنه لا يستطيع أن يعرفه إلا من جهة إثبات ذات يسلب عنها ما نشاهده فينا من النقائص ، ويثبت لها ما نشاهده فينا من جهات الكمال من جهة كونه كمالا ، فإذا استقرت صورة هذا الذكر في الصحيفة ظهرت هناك هذه المعرفة تامة كاملة عندما يقضى بسبوغها ، فيفتح بابا عظيما من القرب ، وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : التسبيح نصف الميزان والحمد الله يملؤه ' ولهذا كانت كلمة سبحان الله وبحمده كلمة خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان حبيبة إلى الرحمن ، ومن يقولها : غرست له نخلة ، وورد فيمن يقولها مائة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر ، ولم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال : مثل ذلك أو وزاد عليه ، وهي أفضل الكلام اصطفاه الله لملائكته . وأما سر قوله عليه السلام : أول من يدعى إلى الجنة الذين يحمدون الله في السراء والضراء ' فهو أن عملهم ثبوتي منبعث من القوى الثبوتية ، وأهلها أحظى الناس بنعيم الجنان . وسر قوله عليه السلام : أفضل الدعاء الحمد لله ' أن الدعاء على قسمين كما سنذكر ، والحمد لله يفيدهما جميعا ، فإن الشكر يزيد النعمة ولأنها معرفة ثبوتية . وسر قوله عليه السلام : الحمد لله رأس الشكر ' أن الشكر يتأتى باللسان والجنان والأركان ، واللسان أفصح من ذينك . ومنها لا إله إلا الله وله بطون كثيرة : فالبطن الأول طرد الشرك الجلي والثاني طرد الشرك الخفي . والثالث طرد الحجب المانعة عن الوصول إلى
____________________
(1/572)
معرفة الله ، وإليه الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم : ' لا إله إلا الله ليس لها حجاب دون الله حتى تخلص إليه ' وكان موسى عليه السلام يعرف من بطونها البطنين الأولين ، فاستبعد أن يكون الذكر الذي يخصه الله به ذاك ، فأوحى الله إليه جلية الحال ، وكشف عليه أنه طارد كل ما سوى الله تعالى عن مستن الايثار ، وعن التمثل بين عينيه وانه لو وضع جميع ما سواه في كفة وهذه في كفة لمالت بهن ، فإنه يطردهن ، ويحقرهن ، والتهليلة مع تفصيل ما للنفي والإثبات وهي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . وورد من فضل من قالها مائة كانت له عدل عشر رقاب الخ وذلك لأنها جامعة بين المعرفة الثبوتية والسلبية ، والسلبية أقرب لمحو الذنوب ، والثبوتية أفيد لوجود الحسنات وتمثل الأجزية . ومنها الله أكبر وفيه ملاحظة عظمته وقدرته وسلطانه ، وهو إشارة إلى معرفة ثبوتية ، ولذلك ورد في فضله أنه يملأ ما بين السماء والأرض ، وهذه الكلمات الأربع أفضل الكلام وأحبه إلى الله ، وهي غراس الجنة . وسر حديث جويرية ' لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن : سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ' أن صورة العمل إذا استقرت في الصحيفة كان انفساحها وانشراحها عند الجزاء حسب معنى تلك الكلمة ، فإن كانت فيه كلمة مثل عدد خلقه كان انفساحها مثل ذلك .
____________________
(1/573)
واعلم أن من كان أكثر ميله إلى تلون النفس بلون معنى الذكر فالمناسب في حقه إكثار الذكر ، ومن كان أكثر ميله إلى محافظة صورة العمل في الصحيفة وظهورها يوم الجزاء فالأنفع في حقه اختيار ذكر راب على الأذكار بالكيفية . وليس لأحد أن يقول : إذا كانت هذه الكلمات ثلاث مرات أفضل من سائر الأذكار يكون الاعتناء بكثرة الأذكار واستيعاب الأوقات فيها ضائعا لأن الفضل إنما هو باعتبار دون اعتبار ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أرشد جويريه رضي الله عنها إلى أقرب الأعمال ورغب في ذلك ترغيبا بليغا ، والسر فيما سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الذكر من ضم الله أكبر وسائر الألفاظ مع التهليل أن ينبه النفس للذكر ولا يكون لقلقة لسان . ومنها سؤال ما ينفعه في بدنه أو نفسه باعتبار خلقه ، أو باعتبار حصول السكينة أو تدبير منزله وماله وجاهه وتعوذه عما يضره كذلك ، والسر فيه مشاهدة تأثير الحق في العالم ونفي الحول والقوة عن غيره . ومن أجمع ما سنه النبي صلى الله عليه وسلم في الباب : ' اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري ، واصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، واصلح لي آخرتي التي فيها معادي ، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير ، واجعل الموت راحة لي من كل شر ، اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم اهدني وسددني - وقال : أذكر بالهدى هدايتك الطريق ، وبالسداد سداد السهم - اللهم اغفر لي وارحمني ، واهدني ، وعافني ، وارزقني ، اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار ، رب اعني ،
____________________
(1/574)
ولا تعن علي وانصرني ، ولا تنصر علي ، وامكر لي ، ولا تمكر علي ، واهدني ، ويسر الهدى لي ، وانصرني على من بغى علي ، رب اجعلني لك شاكرا ، لك ناكرا لك راهبا ، لك مطواعا لك مخبتا ، إليك أواها منيبا رب تقبل توبتي ، واغسل حوبتي وأجب دعوتي ، وثبت حجتي وسدد لساني ، واهدي قلبي ، واسلل سخيمة صدري ، اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك ، اللهم مما رزقتني ما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب ، اللهم ما زويت عني مما أحب فاجعله فراغا لي فيما تحب ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصبيات الدنيا ، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا ' . ومن أجمع ما سنه النبي صلى الله عليه وسلم في الاستعاذة ' : أعوذ بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء ، وسوء القضاء ، وشماتة الأعداء ، اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، و العجز والكسل ، و الجبن والبخل ، وضلع الدين ، وغلبة الرجال ، اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم ، والمغرم والمأثم ، اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار ، وفتنة القبر وعذاب القبر ، ومن شر فتنة الغنى ، ومن شر فتنة الفقر ، ومن شر فتنة المسيح
____________________
(1/575)
الدجال ، اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد ، ونق قابي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ، اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها ، أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعوة لا يستجاب لها ، اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك ، اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة ، وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم ' . ومنها التعبير عن الخضوع والإخبات ، كقوله صلى الله عليه وسلم :
' سجد وجهي للذي خلقه ' الخ . واعلم أن الدعوات التي أمرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم على قسمين : أحدهما ما يكون المقصود منه أن تملأ القوى الفكرية بملاحظة جلال الله وعظمته ، أو يحصل حالة الخضوع والإخبات فإن لتعبير اللسان عما يناسب هذه الحالة أثراً عظيما في تنبه النفس لها وإقبالها عليها . والثاني ما يكون فيه الرغبة في خير الدنيا والآخرة والتعوذ من شرهما لأن همة النفس وتأكد عزيمتها في طلب شيء يقرع باب الجود بمنزلة إعداد مقدمات الدليل لفيضان النتيجة ، وتجعل جلال الله حاضرا بين عينيه ، وتصرف همته إليه ، فتلك الحالة غنيمة المحسن . وقوله صلى الله عليه وسلم :
' الدعاء هو العبادة '
. أقول : ذلك لأن أصل العبادة هو الاستفغراق في الحضور بوصف التعظيم ، والدعاء بقسميه نصاب تام منه .
____________________
(1/576)
قوله صلى الله عليه وسلم : ' أفضل العبادة انتظار الفرج ' أقول وذلك لأن الهمة الحثيثة في استنزال الرحمة أشد مما تؤثر العبادة . وقوله صلى الله عليه وسلم
: ' ما من أحد يدعوا بدعاء إلا أتاه الله تعالى ما سأل ، أو كف عنه شر السوء مثله ' أقول : ظهور الشيء عالم المثال إلى الأرض له سنن طبيعي يجري ذلك المجرى إن لم يكن مانع من خارج ، وله سنن غير طبيعي إن وجد مزاحمة في الأسباب ، فمن غير الطبيعي أن تنصرف الرحمة إلى كف السوء أو إلى إناس وحشتهم و إلهام بهجة قلبه ، أو ميل الحادثة من بدنه إلى ماله وأمثال ذلك . قوله صلى الله عليه وسلم :
' إذا دعا أحدكم فلا يقل : اللهم اغفر لي إن شئت ، وارحمني إن شئت ، وارزقني إن شئت ، وليعزم المسألة إنه يفعل ما يشاء ، ولا مكره له ' أقول : روح الدعاء وسره رغبة النفس في الشيء مع تلبسها بتشبهة الملائكة وتطلع الجبروت ، والطلب بالشك يشتت العزيمة ويفتر الهمة ، أما الموافقة بالمصلحة الكلية فحاصل لأن سببا من الأسباب لا يصد الله عن رعايتها ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' إنه يفعل ما يشأ ولا مكره له ' . وقوله صلى الله عليه وسلم :
' لا يرد القضاء إلا الدعاء ' أقول : القضاء ههنا الصورة المخلوقة في عالم المثال التي هي سبب وجود الحادثة في الكون وهو بمنزلة سائر المخلوقات يقبل المحو والإثبات . قال عليه الصلاو والسلام إن هما : ' أن الدعاء ينفع بما نزل ومما لم ينزل ' . أقول : الدعاء إذا عالج ما لم ينزل اضمحل ، ولم ينعقد سببا لوجود الحادثة في الأرض ، وإن عالج النازل ظهرت رحمة الله هناك في صورة تخفف موجدته وإيناس وحشته .
____________________
(1/577)
قال صلى الله عليه وسلم :
' من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء ' . أقول : وذلك أن الدعاء لا يستجاب إلا ممن قويت رغبته ، وتأكدت عزيمته ، وتمرن بذلك قبل أن يحيط به ما أحاط ، وأما رفع اليدين ومسح الوجه بهما فتصوير للرغبة ، ومظاهرة بين الهيئة النفسانية وما يناسبها من الهيئة البدنية وتنبيه للنفس على تلك الحال . قال صلى الله عليه وسلم : '
من فتح له باب من الدعاء فتحت له أبواب الرحمة ' . أقول : من علم كيف يدعو من برغبة ناشئة من صميم قلبه ، وعلم في أي الصورة تظهر الإجابة ، وتمرن بصفة الحضور فتح له باب الرحمة في الدنيا ، ونصر في كل داهية ، وإذا مات ، وأحاطت به خطيئته ، وغشيته غاشية من الهيآت الدنيوية توجه إلى الله توجها حثيثا كما كان تمرن به ، فيستجاب له ويخرج نقيا منها كما تسل الشعره من العجين . واعلم أن أقرب الدعوات من الاستجابة ما اقترن بحاله هي مظنة نزول الرحمة إما لكونها كما لا للنفس الإنسانية كدعاء عقيب الصلوات . ودعوة الصائم حين يفطر ، أو معدة لا لاستنزال جود الله كالدعاء يوم عرفة ، أو لكونها سببا لموافقة عناية الله في نظام العالم كدعوة المظلوم - فإن لله عناية بانتقام الظالم - وهذا موافقة منه لتلك العناية ، وفيه ' فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ' أو سببا لازورار راحة الدنيا عنه ، فتنقلب رحمة الله في حقه متوجهة في صورة أخرى كدعاء المريض والمبتلى ، أو سببا لإخلاص الدعاء مثل دعاء الغائب لأخيه أو دعاء الوالد للولد ، أو كانت في ساعة تنتشر فيها الروحانية وتدلى فيه الرحمة كليلة القدر والساعة المرجوة يوم الجمعة ، أو كانت في مكان تحضره الملائكة كمواضع بمكة أو تتنبه النفس عند الحلول بها لحالة الحضور والخضوع كمآثر الأنبياء عليهم السلام .
____________________
(1/578)
ويعلم من مقايسة ما قلنا سر قوله صلى الله عليه وسلم : ' يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل ' . قوله صلى الله عليه وسلم :
' لكل نبي دعوة مستجابة ، فتعجل كل نبي دعوته ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي إلى يوم القيامة ، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا ' . أقول : للأنبياء عليهم السلام دعوات كثيرة مستجابة ، وكذا استجيب لنبينا صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة ، لكن لكل نبي دعوة واحدة منبجسة من الرحمة التي هي مبدأ نبوته ، فإنها إن آمنوا كانت بركات عليهم ، وانبجس من قلبه في قلب النبي أن يدعو لهم ، وإن أعرضوا صارت نقمات عليهم ، وانبجس في قلبه ان يدعو عليهم ، واستشعر نبينا صلى الله عليه وسلم أن أعظم مقاصد بعثته أن يكون شفيعا للناس ، واسطة لنزول رحمة خاصة يوم الحشر فاختبأ دعوته العظمى المنبجسة من أصل نبوته لذلك اليوم . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' اللهم إني اتخذت عندك عهدا ' الخ أقول : اقتضت رحمته عليه الصلاة والسلام بأمته وحدبه عليهم أن يقدم عند الله عهدا ، ويمثل في حظيرة القدس همته لا يزال يصدر منها أحكامها ، وذلك أن يعتبر في قومه همته الضمنية المكنونة لا الهمة البارزة ، وذلك لأن قصده في تعزيز المسلمين قولا أو فعلا إقامة الدين الذي ارتضى الله لهم فيهم ، وأن يستقيموا ، ويذهب عنهم اعوجاجهم ، وقصده في التغليظ على المقضي عليهم بالكفر موافقة الحق في غضبة على هؤلاء فاختلف المشرعان وإن اتحدت الصورة . ومنها التوكل ، وروحه . توجه النفس إلى الله بوجه الاعتماد عليه
____________________
(1/579)
ورؤية التدبير منه ، ومشاهدة الناس مقهورين في تدبيره وهو مشهد قوله تعالى : ! ( وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة ) ! . وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أذكارا ، منها : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وفيه أنه كنز من كنوز الجنة ، وذلك لأنه يعد النفس لمعرفة جليلة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :
' بك أصول وبك أحول ' وما ورد على هذا الأسلوب ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : '
توكلت على الله ' وقوله عليه الصلاة والسلام :
' اعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ' ونحو ذلك . ومنها الاستغفار ، وروحه ملاحظة ذنوبه التي أحاطت بنفسه ونفضها عنها بمدد روحاني وفيض ملكي ، وله أسباب . منها شمول رحمة الله إياه بعمل يصرف إليه دعوات الملأ الأعلى ، أو يكون هو فيه جارحة من جوارح التدبير الإلهي في إظهار نافعة للمجهود أو سد خلة للمحتاج أو ما يضاهي ذلك . ومنها التشبه في بالملائكة في هيئاتهم ولمعان أنوار الملكية وخمود شرور البهيمية باضمحلال أجزائها وكسر سورتها . ومنها التطلع إلى الجبروت ومعرفة الحق واليقين به ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' قال الله تعالى : أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي ' فإذا استعمل العبد هذه الأمداد الروحانية في نفض ذنوبه عن نفسه اضمحلت عنها .
____________________
(1/580)
ومن أجمع صيغ الاستغفار : ' اللهم أغفر لي خطيئتي وجهلي ، وإسرافي في أمري ، وما أنت أعلم به مني ، اللهم اغفر لي جدي وهزلي ، وخطئي ، وعمدي ، وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت ، وما أخرت ، وما أسررت ، وما أعلنت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم ، وأنت المؤخر ، وأنت على كل شيء قدير ' وسيد الاستغفار : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني ، وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك علي ، وأبوء بذنبي ، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ' . قال صلى الله عليه وسلم :
' إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله تعالى في اليوم مائة مرة ' أقول : حقيقة هذا الغين أنه صلى الله عليه وسلم مأمور أن يصبر نفسه مع عامة المؤمنين في هيئة امتزاجية بين الملكية والبهيمية ليكون قدوة للناس فيما سن لهم على وجه الذوق والوجدان دون القياس والتخمين ، وكان من لوازمها الغين والله أعلم . ومنها التبرك باسم الله تعالى ، وسره أن الحق له تدل في كل نشأة ومن تدليه في النشأة الحرفية الأسماء الإلهية النازلة على ألسنة التراجمه والمتداولة في الملأ الأعلى ، فإذا توجه العبد إليه وجد رحمة الله قريبة . قال صلى الله عليه وسلم :
' إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة ' أقول : من أسباب هذا الفضل أنها نصاب صالح لمعرفة ما يثبت للحق ، ويسلب عنه ، وأن لها بركة وتمكنها في حظيرة القدس ، وأن صورتها إذا استقرت في صحيفة عمله وجب أن يكون انفساحها إلى رحمة عظيمة .
____________________
(1/581)
واعلم أن الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب هو الاسم الذي يدل على أجمع تدل من تدليات الحق ، والذي تداوله الملأ الأعلى أكثر تداول ، ونطقت به التراجمة في كل عصر ، وقد ذكرنا أن زيداً الشاعر الكاتب له صورة أنه شاعر وصورة أنه كاتب ، وكذلك للحق تدليات في موطن من المثال وهذا معنى يصدق على أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، وعلى لك الحمد ، لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام ، يا حي يا قيوم . ويصدق على أسماء تضاهي ذلك . ومنها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال صلى الله عليه وسلم ' من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا ' ، وقال عليه السلام :
' إن أولى الناس في يوم القيامة أكثرهم علي صلاة ' . أقول السر في هذا أن النفوس البشرية لا بد لها من التعرض لنفحات الله ولا شيء في التعرض لها كالتوجه إلى أنوار التدليات وإلى شعائر الله في أرضه والتكفف لديها والامعان فيها والوقوف عليها لا سيما أرواح المقربين الذين هم أفاضل الملأ الأعلى ووسائط جود الله على أهل الأرض بالوجه الذي سبق ذكره ، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعظيم ، وطلب الخير من الله تعالى في حقه - آلة صالحة للتوجه إليه مع ما فيه من سد مدخل التحريف حيث لم يذكره إلا بطلب الرحمة له من الله تعالى ، وأرواح الكمل إذا فارقت أجسادها صارت كالموج المكفوف لا يهزها إرادة متجددة وداعية سانحة ، ولكن النفوس التي هي دونها تلتصق منها بالهمة فيجلب بها نورا وهيئة مناسبة بالأرواح ، وهي المكنى عنه بقوله عليه السلام :
' ما من أحد يسلم علي إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام ' وقد شاهدت ذلك ما لا أحصى في مجاورتي المدينة سنة ألف ومائة وأربع وأربعين .
____________________
(1/582)
قال صلى الله عليه وسلم :
' لا تجعلوا زيارة قبري عيدا ' أقول : هذا إشارة إلى سد مدخل التحريف كما فعل اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم ، وجعلوها عيدا وموسما بمنزلة الحج . واعلم أنه مست الحاجة إلى توقيت الأذكار ولو بوجه أسمح من توقيت النواميس إذ لو لم تؤقت لتساهل المتساهل ، وذلك إيما بأوقات أو أسباب ، وقد ذكرنا تصريحا أو تلويحا أن المخصص لبعض الأوقات دون بعض ، إما ظهور الروحانية فيه كالصباح والمساء ، أو خلو النفس عن الهيئات الرذيلة كحالة التيقظ من النوم ، أو فراغها من الارتفاقات وأحاديث الدنيا ليكون كالمصقلة كخالة إرادة النوم ، وأن المخصص للسببيه أن يكون سببا لنسيان ذكر الله وذهول النفس عن الالتفات تلقاء جناب الله ، فيجب في مثل ذلك أن يعالج بالذكر ، ليكون ترياقا لسمها وجابرا لخللها ، أو طاعة لا يتم نفعها ، ولا تكمل فائدتها إلا بمزج ذكر معها كالأذكار المسنونة في الصلوات ، أو حالة تنبه النفس على ملاحظة خوف الله وعظيم سلطانه ، فإن هذه الحالة سائقة لها إلى الخير من حيث يدري ومن حيث لا يدري ، كأذكار الآيات من الريح والظلمة والكسوف ، أو حالة يخشى فيها الضرر ، فيجب أن يسأل الله من فضله ، ويتعوذ منه في أولها كالسفر والركوب ، أو حالة كان أهل الجاهلية يسترقون فيها لاعتقادات تميل إلى اشراك بالله أو طيرة أو نحو ذلك كما كانوا يعوذون بالجن وعند رؤية الهلال ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضائل هذه الأذكار وآثارها في الدنيا والآخرة إتماما للفائدة وإكمالا للترغيب . والعمدة في ذلك أمور : منها كون الذكر مظنة لتهذيب النفس ، فأدار عليه ما يترتب على التهذيب كقوله صلى الله عليه وسلم :
' من قالهن ، ثم مات مات على الفطرة ' أو دخل الجنة ، أو غفر له ونحو ذلك
____________________
(1/583)
ومنها بيان أن صاحب الذكر لا يضره شيء أو حفظ من كل سوء وذلك لشمول الرحمة الآلهية وإحاطة دعوة الملائكة به . ومنها بيان محو الذنوب وكتابة الحسنات ، وذلك لما ذكرنا أن التوجه إلى الله والتلفع بغاشية الرحمة يزيل الذنوب ، ويمد الملكية . ومنها بعد الشياطين منه لهذا السر بعينه . وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذكر في ثلاثة أوقات عند الصباح . والمساء . والمنام . وإنما لم يوقت اليقظة في اكثر الأذكار لأنه هو وقت طلوع الصبح أو إسفاره غالبا . فمن أذكار الصباح والمساء : اللهم عالم الغيب والشهادة ، فاطر السموات والأرض ، رب كل شيء ومليكه ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه أمسينا ، وامسى الملك لله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، اللهم إني أسألك من خير هذه الليلة وخير ما فيها ، وأعوذ بك من شرها و شر ما فيها . اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم وسوء الكبر وفتنة الدنيا وعذاب القبر ، وفي الصباح يبدل أمسينا بأصبحنا وامسى بأصبح ، وهذه الليلة بهذا اليوم ، بك أصبحنا وبك أمسينا ، وبك نحيا ، وبك نموت وإليك النشور ، باسم الله الذي لا يضر مع اسم شيء في الأرض ولا في السماء ، وهو السميع العليم ثلاث مرات سبحان الله وبحمده ، ولا قوة إلا بالله ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن . اعلم أن الله على كل شيء قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما .
____________________
(1/584)
( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون - إلى - تخرجون ) . اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة ، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي واهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي وآمن روعائي اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي ، وأعوذ بعظمتك أن اغتال من تحتي ، رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا - ثلاث مرات - أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك ، فلك الحمد ولك الشكر ، وسيد الاستغفار ، ومن أذكار وقت النوم إذا أوى إلى فراشه باسمك ربي وضعت جنبي ، وبك أرفعه ، إن أمسكت نفسي فارحمها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ، واللهم أسلمت نفسي إليك ، ووجهت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك ، الذي أنزلت ، ونبيك الذي أرسلت الحمد الله الذي أطعمنا ، وسقانا ، وكفانا وآوانا ، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوى له ويسبح الله ثلاثا وثلاثين ، ويحمد الله ثلاثا وثلاثين ، ويكبر الله أربعا وثلاثين ، اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك ثلاثا ، أعوذ بوجهك
____________________
(1/585)
الكريم وكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم ، اللهم لا يهزم جندك ، ولا يخلف وعدك ولا ينفع ذا الجد منك الجد سبحانك وبحمدك ، اللهم رب السموات والأرض ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين ، وأعذني من الفقر ، باسم الله وضعت جنبي ، اللهم اغفر لي ذنبي واخسأ شيطاني وفك رهاني ، واجعلني في الندى الأعلى الحمد لله الذي كفاني ، وآواني ، وأطعمني ، وسقاني ، والذي من على فأفضل ، والذي أعطاني فأجزل الحمد لله على كل حال اللهم رب كل شيء ومليكه ، وإله كل شيء أعوذ بك من النار - وجمع كفيه - فقرأ فيهما ! ( قل هو الله أحد ) ! . ^ و ( قل أعوذ برب الفلق ) . ^ و ( قل أعوذ برب الناس ) . ثم مسح بهما ما استطاع من جسده ، وقرأ آية الكرسي وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن تزوج امرأة أو اشترى خادما اللهم أني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه ، وأعوذ بك من شرها وشر
____________________
(1/586)
ما جبلتها عليه ، وإذا رفأ إنسانا بارك الله لك ، وبارك عليكما ، وجمع بينكما في خير ، وإذا أراد أن يأتي أهله : باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، ولمن أراد أن يدخل الخلاء : أعوذ بالله من الخبث والخبائث و للخارج منه : غفرانك ، وعند الكرب : لا إله إلا الله الحليم العظيم لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم ، وعند الغضب : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وعند صياح الديكه السؤال من فضل الله ، وعند نهيق الحمار التعوذ ، وإذا ركب كبر ثلاثا ، ثم قال : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ، الحمد لله ( ثلاثا ) الله أكبر ( ثلاثا ) سبحانك اللهم ظلمت نفسي ، فاغفر لي ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، وإذا أنشأ سفرا : اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ، ومن العمل ما ترضى ، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو لنا بعده . اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في المال والأهل ، وإذا نزل منزلا : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك ومن شر ما خلق فيك ومن شر ما يدب عليك وأعوذ بالله من أن أسد أو أسود ومن الحية والعقرب ومن شر ساكن البلد ومن والد
____________________
(1/587)
وما ولد ، وإذا أسحر في سفر : سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا ، ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذا بالله من النار ، وإذا قفل يكبر على كل شرف من الأرض ( ثلاث ) تكبيرات ثم يقول ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، آيبون تائبون عابدون ساجدون ، لربنا حامدون ، صدق الله وعده ، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، وإذا دعا على الكافرين اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اللهم اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم ، وزلزلهم اللهم إنا نجعلك في نحورهم ، ونعوذ بك من شرورهم ، اللهم أنت عضدي ونصيري ، بك أصول ، وبك أحول ، وبك أقاتل ، وإذا أضاف قوما : اللهم بارك لهم فيما رزقتهم واغفر لهم وراحمهم ، وإذا رأى الهلال : اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام ، ربي وربك الله ، وإذا رأى مبتلى الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك ، به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا ، وإذا دخل في سوق جامع : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، يحي ، ويميت وهو حي لا يموت ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير ، وإذا أراد أن يقوم من مجلس كثر فيه لغطه : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، استغفرك ، وأتوب إليك ، وإذا ودع رجلا : استودع الله دينك وأمانتك وآخر عملك ، وزودك الله التقوى ، وغفر ذنبك ، ويسر لك الخير حيثما كنت ، اللهم أطو له البعد ، وهون عليه السفر ، وإذا خرج من
____________________
(1/588)
بيته باسم الله ، توكلت على الله ، اللهم إنا نعوذ بك من أن نزل ، أو نضل أو نظلم أو نجهل ، أو يجهل علينا ، باسم الله توكلت على الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، وإذا ولج بيته : اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج ، باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا ، وعلى الله ربنا توكلنا ، وإذ لزمته ديون وهموم قال إذا أصبح وإذا أمسى : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من البخل والجبن ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال ، واللهم اكفني بحلالك عن حرامك ، واغنني بفضلك عمن سواك ، وإذا استجد ثوبا : اللهم لك الحمد أنت كسوتني هذا ويسميه باسمه أسألك خيره وخير ما صنع له ، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له ، الحمد الله الذي كساني ما أواري به عورتي ، وأتجمل به في حياتي ، وإذا أكل أو شرب : الحمد الله الذي أطعمنا ، وسقانا ، وجعلنا من المسلمين ، الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام من غير حول مني ولا قوة ، الحمد لله الذي أطعم ، وسقى ، وسوغه ، وجعل له مخرجا ، وإذا رفع مائدته : الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفى ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا ، وإذا مشى إلى المسجد : اللهم اجعل في قلبي نورا الخ وإذا أراد أن يدخل المسجد أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم ، اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج منه : اللهم إني أسألك من فضلك ، وإذا سمع صوت الرعد والصواعق : اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك ، اللهم إني أعوذ بك من
____________________
(1/589)
شرها ، وإذا عصفت الريح : اللهم إني أسألك خيرها وخيرما فيها وما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به ، وإذا عطس : الحمد الله حمدا كثيرا طيبا مباركا وليقل صاحبه : يرحمك الله . وليقل هو : يهديكم الله ، ويصلح بالكم ، وإذا نام : اللهم باسمك أموت وأحيا وإذا استيقظ ، الحمد الله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور . وشرع عند الأذان خمسة أشياء : أن يقول مثل ما يقول المؤذن غير حي على الصلاة وحي على الفلاح فإنه يقول مكانه لا حول ولا قوة إلا باالله ، ويقول : رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمد الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد ، ويسأل الله لآخرته ودنياه . وأمر في عشر ذي الحجة باكثار الذكر ، وقد استفاض من الصحابة . والتابعين . وأئمة المجتهدين تكبير يوم عرفة وأيام التشريق على وجوه أقربها أن يكبر دبر كل صلاة من فجر عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد ، وقد مر أدعية الصلاة وغيرها فيما سبق فراجع . وبالجملة فمن صبر نفسه على هذه الأذكار ، وداوم عليها في هذه الحالات وتدبر فيها كانت له بمنزلة الذكر الدائم وشمله قوله تعالى : ! ( والذاكرين الله كثيرا والذاكرات ) ! . والله أعلم .
____________________
(1/590)
( بقية مباحث الاحسان ) اعلم أن لهذه الأخلاق الأربعة أسبابا تكتسب بها ، وموانع تمنع عنها ، وعلامات يعرف تحققها بها فالاخبات لله تعالى ، والاستشراف تلقاء صقع الكبرياء ، والانصباغ بصبغ الملأ الأعلى ، والتجرد عن الرذائل البشرية ، وعدم قبول النفس نقوش الحياة الدنيا ، وعدم اطمئنانها بها لا شيء في ذلك كله كالتفكر ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' فكر ساعة خير من عبادة ستين سنة ' وهو على أنواع : منها التفكر في ذات الله تعالى وقد نهى الأنبياء صلوات الله عليهم عنه فإن العامة لا يطيقونه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' تفكروا في آلاء الله ، ولا تفكروا في الله ، ويروى ' تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله ' ومنها التفكير في صفات الله تعالى كالعلم والقدرة والرحمة والاحاطة ، وهو المعبر عنه عند أهل السلوك بالمراقبة ، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم :
' أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ' وقوله صلى الله عليه وسلم :
' احفظ الله تجده تجاهك ' . وصفته لمن أطاق ذلك أن يقرأ ( وهو معكم أين ما إنما كنتم ) . أو قوله تعالى :
____________________
(1/591)
! ( وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) ! . أو قوله تعالى : ( ألم تر أن الله يعلم ما في السموات و ما في الأرض وما يكون من نجوى ثلاثة إلا وهو رابعهم ولا خمسة إلا وهو سادسهم ولا أدني من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ) . أو قوله تعالى : ! ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) ! . أو قوله تعالى : ( وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا ويعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) . أو قوله تعالى :
____________________
(1/592)
( ألا إنه بكل شيء محيط ) . أو قوله تعالى : ! ( وهو القاهر فوق عباده ) ! . أو قوله تعالى ( وهو على كل شيء قدير ) . أو قوله صلى الله عليه وسلم :
' اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف ' أو قوله صلى الله عليه وسلم :
' إن لله مائة رحمة أنزل منها واحدة في الأرض ' الحديث ، ثم يتصور معنى هذه الآيات من غير تشبيه ولا جهة ، بل يستحضر اتصافه تعالى بتلك الأوصاف فقط ، فإذا ضعف عن تصوره أعاد الآية وتصورها أيضا ، وليختر لذلك وقتا لا يكون فيه حاقبا ولا حاقنا ولا جائعا ولا غضبان ولا وسنان ، وبالجملة فارغ القلب عن التشويش . ومنها التفكر في أفعال الله تعالى الباهرة ، والأصل في قوله تعالى : ! ( ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا ) ! .
____________________
(1/593)
وصفته أن يلاحظ إنزال المطر وانبات العشب ونحو ذلك ، ويستغرق في منة الله تعالى . ومنها التفكر في أيام الله تعالى وهو تذكر رفعه قوما وخفضه آخرين والأصل في قوله تعالى لموسى عليه السلام : ! ( وذكرهم بأيام الله ) ! فإن ذلك يجعل النفس مجردة عن الدنيا . ومنها التفكر في الموت وما بعده ، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم :
' واذكروا هاذم اللذات ' . وصفته أن يتصور انقطاع النفس عن الدنيا وانفرادها بما اكتسبت من خير و شر ، وما يرد عليها من المجازاة ، وهذان القسمان أفيد الأشياء لعدم قبول النفس نقوش الدنيا ، فالإنسان إذا تفرغ من أشغال الدنيا للفكر الممعن في هذه الأشياء ، أحضرها بين عينيه انقهرت بهيميته ، وغلبت ملكيته ولما لم يكن سهلا على العامة أن يتفرغوا للفكر الممعن وإحضارها بين أعينهم وجب أن يجعل أشباح يعبي فيها أنواع الفكر ، وهيا كل ينفخ فيها روحها ليقصدها العامة ويتلى عليهم ، ويستفيدوا حسبما قدر لهم ، وقد أوتى النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن جامعا لهذه الأنواع ومثله معه . وأرى أنه جمع له صلى الله عليه وسلم في هذين جميع ما كان له في الأمم السابقة والله أعلم ، فاقتضت الحكمة أن يرغب في تلاوة القرآن ، ويبين فضلها وفضل سوره وآيات منه ، فشبه النبي صلى الله عليه وسلم الفائدة
____________________
(1/594)
المعنوية الحاصلة من الآية بفائدة محسوسة لا أنفع منها عند العرب وهي - ناقة كوماء وخلفة سمينة - تصويرا للمعنى وتمثيلا له ، وشبه صاحبها بالملائكة ، وأخبر بأجرها بكل حرف ، وبين درجات الناس بما ضرب من قبل بمثل الاترجة والتمرة والحنظلة والريحان ، وبين أن سور القرآن تتمثل يوم القيامة أجسادا ترى ، وتلمس ، فتحاج عن أصحابها ، وذلك انكشاف لتعارض أسباب عذابه ونجاته ورجحان تلاوة القرآن على الأسباب الأخرى ، وبين أن السور فيما بينها تتفاضل . أقول : وإنما تتفاضل لمعان : منها إفادتها التفكر في صفات الله ، وكونها أجمع شيء فيه كآية الكرسي وآخر الحشر و ! ( قل هو الله أحد ) ! بمنزلة الاسم الأعظم من بين الأسماء . ومنها أن يكون نزولها على ألسنة العباد ، ليعلموا كيف يتقربوا إلى ربهم كالفاتحة ، ونسبته من السور كنسبة الفرائض من العبادات . ومنها أنها أجمع السور كالزهراوين ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في يس :
' إنه قلب القرآن ' لأن القلب يومئ إلى التوسط ، وهذه من المثاني دون المئين فما فوقها ، وفوق المفصل ، وفيها آيات التوكل والتفويض ، والتوحيد على لسان محدث أنطاكية .
____________________
(1/595)
! ( وما لي لا أعبد الذي فطرني ) ! الآيات . وفيها الفنون المذكورة تامة كاملة ، وفي تبارك الذي شفعت لرجل حتى غفر له وهذه قصة رجل رآه النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مكاشفاته ، وأن يرغب في تعاهده واستذكاره ويضرب له مثل تفصى الإبل وفي الترتيل به وتلاوته عند ائتلاف القلوب وجمع الخاطر ووفور النشاط ليكون أقرب إلى التدبر وحسن الصوت به والبكاء والتباكي عنده تقريبا من المراد وهو التفكر ؛ ويحرم نسيانه ، وينهى عن ختمه في أقل من ثلاث لأنه لا يفقه معناه حينئذ ، وجاءت الرخصة في قراءاته على لغات العرب تسهيلا عليهم لأن فيهم الأمي والشيخ الكبير والصبي . ومما أوتي صلى الله عليه وسلم من في غير القرآن عنه عز وجل ' يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا ، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ' الحديث ' كان في بني إسرائيل رجل قتل تسع وتسعين إنسانا ' الحديث ' لله أشد فرحا بتوبة عبده ' الحديث ' إن عبدا أذنب ذنبا ' الحديث ' إن لله مائة رحمة أنزل منها واحدة ' الحديث ' إذا أسلم العبد فحسن إسلامه ' الحديث ، وأحاديث تشبيه الدنيا بما يلحق الأصبع من اليم وبجدى أسك ميت
____________________
(1/596)
واعلم أن النية روح ، والعبادة جسد ، ولا حياة للجسد بدون روح ، والروح لها حياة بعد مفارقة البدن ، ولكن لا يظهر آثار الحياة كاملة بدونه ، ولذلك قال الله تعالى : ! ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) ! . وقال رسول صلى الله عليه وسلم :
' إنما الأعمال بالنيات ' وشبه النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من المواضع من صدقت نيته - ولم يتمكن من العمل لمانع - بمن عمل ذلك العمل كالمسافر والمريض لا يستطيعان وردا واظبا عليه ؛ فيكتب لهما وكصادق العزم في الانفاق ، وهو مملق يكتب كأنه أنفق وأعني بالنية المعنى الباعث على العمل من التصديق بما أخبر به الله على ألسنة الرسل من ثواب المطيع وعقاب العاصي ، أو حب امتثال حكم الله فيما أمر ، ونهى ، ولذلك وجب أن ينهى الشارع عن الرياء والسمعة ، ويبين مساويهما أصرح ما يكون ، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :
' إن أول الناس يقضى عليهم يوم القيامة ثلاثة : رجل قتل في الجهاد ليقال له : وهو رجل جريء ، ورجل تعلم العلم وعلمه ليقال : هو عالم . ورجل أنفق في وجوه الخير ليقال هو جواد ، فيؤمر بهم ، فيسحبون على وجوههم إلى النار ' ، قوله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى : ' أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه ' . أما حديث أبي ذر رضي الله عنه ' قيل : يا رسول الله أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه ؟ قال : تلك عاجل بشرى المؤمن ' فمعناه أن يعمل العمل لا يقصد به إلا وجه الله ، فينزل القبول
____________________
(1/597)
إلى الأرض ، فيحبه الناس ، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه ' قلت : يا رسول الله بينا أنا في بيتي في مصلاي إذ دخل علي رجل ، فأعجبتني الحال التي رآني عليها ، قال : رحمك الله يا أبا هريرة ، لك أجران ، أجر السر ، و وأجر العلانية ' ممعناه أن يكون الإعجاب مغلوبا لا يبعث بمجرده على العمل ، و ' أجر السر ' أجر الاخلاص الذي يتحقق في السر ، و ' أجر العلانية ' أجر إعلاء دين الله وإشاعة السنة الراشدة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' خياركم أحاسنكم أخلاقا ' اقول : لما كان بين السماحة والعدالة نوع من التعارض كما نبهنا عليه ، وكان بناء علوم الأنبياء عليهم السلام على رعاية المصلحتين وإقامة نظام الدارين ، وأن يجمع بين المصالح ما أمكن وجب ألا يعين في النواميس للسماحة إلا أشياء تشتبك مع العدالة ، وتؤيدها وتنبه عليها ، فنزل الأمر إلى حسن الخلق وهو عبارة عن مجموع أمور من باب السماحة والعدالة ، فإنه يتناول الجود والعفو عمن ظلم والتواضع وترك الحسد والحقد والغضب ، وكل ذلك من السماحة ، ويتناول التودد إلى الناس وصلة الرحم وحسن الصحبة مع الناس ومواساة المحاويج ، وهي من باب العدالة ، والفصل الأول يعتمد على الثاني ، والثاني لا يتم إلا بالأول ، وذلك في الرحمة المرعية من النواميس الإلهية . ولما كان اللسان أسبق الجوارح إلى الخير والشر ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ' ، وأيضا فإن آفاته تخل الإخبات والعدالة والسماحة جميعا لأن إكثار الكلام ينسي ذكر الله ، والغيبة والبذاء ونحوهما تفسد ذات البين ، والقلب ينصبغ بصبغ ما يتكلم به فإذا ذكر كلمة الغضب لا بد أن ينصبغ القلب بالغضب وعلى هذا القياس ، والانصباغ يفضي إلى التشبح - يجب أن يبحث الشرع عن آفات اللسان أكثر من آفات غيره ، وآفات اللسان على أنواع : منها أن يخوض في كل واد فتجتمع في الحس المشترك صور تلك الأشياء ،
____________________
(1/598)
فإذا توجه إلى الله لم يجد حلاوة الذكر ، ولم يستطع تدبر الأذكار ، ولهذا المعنى نهى عما لا يعنى . ومنها أن يثير فتنة بين الناس كالغيبة والجدال والمراء . ومنها أن يكون مقتضى تفشى النفس بغاشية عظيمة من السبعية والشهوية كالشتم وذكر محاسن النساء . ومنها أن يكون سبب حدوثه نسيان جلال الله والغفلة عما عند الله كقوله للملك : ملك الملوك . ومنها أن يكون مناقضا لمصالح الملة بأن يكون مرغبا لما أمرت الملة بهجره كمدح الخمر وتسمية العنب كرما أو يعجم كتاب الله كتسمية المغرب عشاء والعشاء عتمة . ومنها أن يكون كاملا شنيعا مثلا كمثل الأفعال الشنيعة المنسوبة إلى الشياطين كالفحش وذكر الجماع والأعضاء المستورة بصريح ما وضع لها ، وكذكر ما يتطير به كقوله : ليس بالدار نجاح ولا يسار . ثم لا بد من بيان ما كثر وقوعه من مظان السماحة وتميز ما اعتبره الشرع بما لم يعتبره ، فمنها الزهد فإن النفس ربما تميل إلى شره الطعام واللباس والنساء حتى تكتسب من ذلك لونا فاسدا يدخل في جوهرها ، فإذا نفضه الإنسان عن نفسه فذلك الزهد في الدنيا ، وليس ترك هذه الأشياء مطلوبا بعينه بل إنما يطلب تحقيقا لهذه الخصلة ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :
' الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن
____________________
(1/599)
الزهادة في الدنيا ألا تكون بما في يديك أوثق مما في يدي الله وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها أبقيت لك ' وقال : ' ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء ' . وقال : ' بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ' وقال : ' طعام الاثنين كافي الثلاثة ، وطعام الثلاثة كافي الأربعة ' يعني أن الطعام الذي يشبع الاثنين كل الإشباع إذا أكله ثلاثة كاهم على التوسط ، يريد الترغيب في المواساة وكراهية شره الشبع . ومنها القناعة وذلك أن الحرص على المال ربما يغلب على النفس حتى يدخل في جوهرها ، فإذا نفضه من قلبه ، وسهل عليه تركه فذلك القناعة ، وليست القانعة ترك ما رزقه الله تعالى من غير إشراف النفس ، قال النبي صلى الله عليه وسلم :
' ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس ' وقال : ' يا حكيم إن هذا المال خضر حلو فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه ، وكان كالذي ياكل ، ولا يشبع ، واليد العليا خيرا من اليد السفلى ' وقال عليه السلام : ' إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ؛ فتموله ، وما لا فلا تتبعه نفسك ' . ومنها الجود وذلك لأن حب المال وحب إمساكه ربما يملك القلب ، ويحيط به من جوانبه ، فإذا قدر على إنفاقه ولم يجد له بالا فهو الجود ، وليس الجود إضاعة المال ، وليس المال مغيضا لعينه ؛ فإنه نعمة كبيرة ، قال
____________________
(1/600)
صلى الله عليه وسلم : ' اتقوا الشح فإن الشح أهلك من قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلوا محارمهم ' ، وقال عليه الصلاة والسلام :
' لا حسد إلا في اثنين ' الحديث ، ' وقيل : أو يأتي الخير بالشر ؟ فقال : إنه لا يأتي الخير بالشر ، وإنما مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له ، فذكر من أصناف المال حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل ' وإنما رغب في ذلك أشد الترغيب لأنهم كانوا في الجهاد ، وكانت بالمسلمين حاجة ، واجتمع فيه السماحة وإقامة نظام الملة وإبقاء مهج المسلمين . ومنها قصر الأمل وذلك لأن الإنسان يغلب عليه حب الحياة حتى يكره ذكر الموت ، وحتى يرجو من طول الحياة شيئا لا يبلغه . فإن مات في هذه الحالة عذب بنزوعه إلى ما اشتاق إليه ، ولا يجده ، وليس العمر في نفسه مبغضا ، بل هو نعمة عظيمة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ، وخط خطا مربعا ، وخط في الوسط خارجا منه ، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط
____________________
(1/601)
من جانبه الذي في الوسط فقال : هذا الإنسان ، وهذا أجله محيط به ، وهذا الذي هو خارج أمله ، وهذا الخطط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهسه هذا ، وإن أخطأه هذا نهسه هذا ' ، وقد عالج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بذكر هاذم اللذات وزيارة القبور والاعتبار بموت الأقران ، وقال صلى الله عليه وسلم '
لا يتمنين أحدكم الموت ، ولا يدع به قبل أن يأته إنه إذا مات انقطع عمله ' . ومنها التواضع وهو ألا تتبع النفس داعية الكبر والاعجاب حتى يزدري بالناس ، فإن ذلك يفسد نفسه ، ويثير على ظلم الناس والازدراء ، قال صلى الله عليه وسلم :
' لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، فقال الرجل : أن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنة ، ونعله حسنا ، فقال إن الله جميل يحب الجمال ، والكبر بطر الحق وغمط الناس ' وقال عليه السلام : '
ألا أخبركم بأهل النار ، كل عتل مستكبر ' وقال عليه السلام :
' بينما رجل يمشي في حلة ، تعجبه نفسه ، مرجل برأسه ، يختال في مشيه إذا خسف الله به ، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة ' . ومنها الحلم والأناة والرفق ، وحاصلها ألا يتبع داعية الغضب حتى يروى ، ويرى في مصلحة ، وليس الغضب مذموما في جميع الأحوال قال صلى الله عليه وسلم :
' من يحرم الرفق يحرم الخير كله ' وقال رجل للنبي
____________________
(1/602)
صلى الله عليه وسلم : ' أوصني قال : لا تغضب ، فردد مرارا ، فقال : لا تغضب ' ، وقال صلى الله عليه وسلم :
' ألا أخبركم بمن يحرم على النار ؟ كل قريب هين لين سهل ' وقال عليه السلام :
' ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ' . ومنها الصبر ، وهو عدم انقياد النفس لداعية الدعة والهلع . والشهوة . والبطر . وإظهار السر . وصرم المودة وغير ذلك . فيسمى باسام حسب تلك الداعية ، وقال الله تعالى : ! ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) ! . وقال صلى الله عليه وسلم :
' وما أوتي أحد عطاء أفضل وأوسع من الصبر ' وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمظان العدالة ، ونبه على معظم أبوابها ، وبين محاسن الرحمة بخلق الله ، ورغب فيها ، وذكر أقسامها من تألف أهل المنزل ومعاشرة أهل الحي وأهل المدينة وتوفير عظماء الملة وتنزيل كل واحد منزلة . ونذكر من ذلك أحاديث تكون أنموذجا لهذا الباب ؛ قال صلى الله عليه وسلم :
' اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ' وقال عليه السلام : ' إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا ' ' المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ' ' والله لا يأخذ أحدكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة فلا عرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء . أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ' وقال : ' من ظلم قيد شبر من الأرض
____________________
(1/603)
طوقه من سبع أرضين ' وقد ذكر سره في الزكاة ، ' والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ' ' ومثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ' ' من لا يرحم الناس لا يرحمه الله ' ' المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يسلمه ' ' من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ، اشفعوا تؤجروا ، ويقضي الله على لسان نبيه ما يحب ' وقال : ' تعدل بين اثنين صدقة ، وتعين الرجل في دابته ، فتحمله ، أو ترفع له متاعه صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ' وقال في ضعفاء المهاجرين : ' لئن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك ' وقال : ' أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ، وأشار بالسبابة والوسطى ' ' الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ' من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار ' ' استوصوا بالنساء ، فإن المرأة خلقت من ضلع ، وأن أعوج ما في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ' ؛ وقال في حق الزوجة : ' أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت ' ' إذا دعا الرجل امرأته إلى الفراش ، فلم تأته ، فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح ' ' لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بأذنه ، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه ، ولو كنت أمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ' ' أيما امرأة ماتت ، وزوجها عنها راض دخلت الجنة ' ' دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ، ودينار أنفقه على مسكين ، ودينار أنفقته على أهلك ، وأعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك ' إذا أنفق
____________________
(1/604)
الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهو له صدقة ' ' ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ' ' يا أبا ذر إذا طبخت مرقا فأكثر ماءها ، وتعاهد جيرانك ' ' من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ' ' والله لا يؤمن الذي لا يأمن جاره بوائقه ' قال الله تعالى للرحم : ' ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ' ' من أحب أن يبسط له في رزقه ، وينسأ في أثره فليصل رحمه ' ' من الكبائر عقوق الوالدين ' ومن البائر شتم الرجل والديه ، يسب أبا الرجل ، فيسب أباه ، ويسب أمه ، فيسب أمه ' ' سئل هل بقى من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما فقال نعم : الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما ' ' وإن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم ، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه ، وإكرام ذي السلطان المقسط ' ' ليس منا من لم يرحم صغيرنا ، ولم يعرف شرف كبيرنا ' ' أنزلوا الناس منازلهم ' ' من عاد مريضا أو زار أخا له في الله ناداه مناد بأن طبت ، وطاب ممشاك ، وبوئت من الجنة منزلا ' فهذه الأحايث وأمثالها كلها تنبه على خلق العدالة وحسن المشاركة .
____________________
(1/605)
( المقامات والأحوال ) اعلم أن للإحسان ثمرات تحصل بعد حصوله ، وهي المقامات والأحوال ، وشرح الأحاديث المتعلقة بهذا الباب يتوقف على تمهيد مقدمتين : الأولى في إثبات العقل ، والقلب ، والنفس ، وبيان حقائقها ، والثانية في بيان كيفية تولد المقامات والأحوال منها . المقدمة الأولى أعلم أن في الإنسان ثلاث لطائف تسمى بالعقل ، والقلب ، والنفس ، دل على ذلك النقل ، والعقل ، والتجربة ، واتفاق العقلاء . أما النقل فقد ورد في القرآن العظيم : ! ( إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) ! . وورد حكاية عن أهل النار : ( لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا من أصحاب السعير ) . وورد في الحديث :
' أول ما خلق الله تعالى العقل وقال له : أقبل فأقبل ، وقال : أدبر فأدبر ، فقال : بك أؤاخذ ' ، وقال صلى الله عليه وسلم :
' دين المرء عقله ، ومن لا عقل له لا دين له ' وقال :
' أفلح من رزق لبا ' وهذه الأحاديث أن كان لأهل الحديث في ثبوتها مقال فإن لها أسانيد يقوي بعضها بعضا ، وورد في القرآن العظيم : ! ( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ) ! .
____________________
(1/606)
وورد : ! ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) ! . وفي الحديث
' ألا أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد وإذا فسدت فسد الجسد ألا وهي القلب ' وورد ' مثل القلب كريشة في فلاة تقلبها الرياح ظهرا لبطن ' وورد في الحديث ' النفس تتمنى و تشتهي والفرج يصدق ذلك ويكذبه ' . ويعلم من تتبع مواضع الاستعمال أن العقل هو الشيء الذي يدرك به الإنسان ما لا يدرك بالحواس ، وأن القلب هو الشيء الذي به يحب الإنسان ، ويبغض ، ويختار ، ويعزم ، وأن النفس هو الشيء الذي به يشتهي الإنسان ما يستلذه من المطاعم والمشارب والمناكح . وأما العقل فقد ثبت في موضعه أن في بدن الإنسان ثلاث أعضاء رئيسية بها تتم القوى ، والأفاعيل التي تقتضيها صورة نوع الإنسان ، فالقوى الإدراكية من التخيل والتوهم والتصرف في المتخيلات والمتوهمات ، والحكاية للمجردات بوجه من الوجوه محلها الدماغ . والغضب . الجرأة . والشح . والرضا . والسخط وما يشبهها محلها القلب ، وطلب ما لا يقوم البدن إلا به أو بجنسه محله الكبد ، وقد يدل فتور بعض القوى إذا حدثت آفة في بعض هذه الأعضاء على اختصاصها بها ، ثم إن فعل كل واحد من هذه الثلاثة لا يتم إلا بمعونة من الآخرين ، فلولا إدراك ما في الشتم أو الكلام الحسن من القبح والحسن وتوهم النفع والضر ما هاج غضب ولا حب ، ولولا متانة القلب لم يصر المتصور مصدقا به ، ولولا معرفة المطاعم والمناكح وتوهم المنافع فيها لم يمل إليها الطبع ، ولولا تنفيذ القلب حكمه في أعماق البدن لم يسع الإنسان في تحصيل مستلذاته ، ولولا خدمة
____________________
(1/607)
الحواس للعقل ما أدركنا شيئا ، فإن الكسبيات فرع البديهيات والبديهيات فرع المحسوسات ، ولولا صحة كل عضو من الأعضاء التي يتوقف عليها صحة القلب والدماغ لما كان لها صحة ولا تم لهما فعل ، ولكن كل واحد منهما بمنزلة ملك اهتم بأمر عظيم من فتح قلعة صعبة أو نحوه ، فاستمد من إخوانه بجيوش ودروع ومدافع وهو المدبر في فتح القلعة وإليه الحكم ومنه الرأي ، وإنما هم خدم يمشون على رأيه ، فجاءت صور الحوادث على حسب الصفات الغالبة في الملك من جراءته وجبنه وسخائه وبخله وعدالته وظلمه ، فكما يختلف الحال باختلاف الملوك وآرائهم وصفاتهم - وإن كانت الجيوش والآلات متشابهة - فكذلك يختلف حكم كل رئيس من الرؤساء الثلاثة في مملكة بدن الإنسان . وبالجملة الأفاعيل المنبجسة من كل واحد من هذه الثلاثة تكون متقاربة فيما بينها ، إما مائلة إلى الإفراط والتفريط ، أو قارة فيما بين هذا وذاك ، فإذا اعتبرنا هذه الهياكل الثلاثة مع أفاعيلها المتقاربة وأمزجتها التي تقتضي تلك الأفاعيل المتقاربة دائما فهي اللطائف الثلاث التي يبحث عنها ، لا تلك القوى بذواتها من غير اعتبار شيء معها . فالقلب من صفاته وأفعاله الغضب ، والجراءة ، والحب ، والجبن ، والرضا ، والسخط ، والوفاء بالمحبة القديمة ، والتلون في الحب والبغض ، وحب الجاه والجود ، والبخل ، والرخاء ، والخوف . والعقل من صفاته وأفعاله اليقين . والشك . والتوهم . وطلب الأسباب لكل حادث والتفكر في حيل جلب المنافع ودفع المصار . والنفس منتهى صفاتها الشره في المطاعم والمشارب اللذيذة وعشق النساء ونحو ذلك . وأما التجربة فكل من استقرأ أفراد الإنسان علم لا محالة أنهم
____________________
(1/608)
مختلفون بحسب جبلتهم في هذه الأمور : منهم من يكون قلبه هو الحاكم على نفسه ، ومنهم من يكون النفس هي القاهرة على القلب أما الأول فإذا أصابه غضب ، أو هاج في قلبه طلب منصب عظيم يستهين في جنبه اللذات العظيمة . ويصبر على تركها ، ويجاهد نفسه مجاهدة عظيمة في تركها . وأما الآخر فإنه إذا عرضت له شهوة اقتحم فيها وأن كان هناك ألف عار ، ولا يلتفت إلى ما يرغب فيه من المناصب العالية ، أو يرهب منه من الذل والهوان ، وربما يبدو للرجل الغيور منكح شهي ، وتدعو إليه نفسه أشد دعوة ، فلا يركن إليها لخاطر هجس من قلبه من قبيل الغيرة ، وربما يصبر على الجوع والعري ، ولا يسأل أحدا شيء لما جبل فيه من الأنفة ، وربما يبدو للرجل الحريص منكح شهي أو مطعم هني ، ويعلم فيهما ضرراً عظيما ، إما من جهة الطب ، أو من جهة الحكمة العملية ، أو من جهة سطوة بعض بني آدم فيخاف ، ويرتعش ، ويرعوى ، ثم يعميه الهوى ، فيقتحم في الورطة على علم ، وربما يدرك الإنسان من نفسه نزوعا إلى جهتين متخالفتين ، ثم يغلب داعية على داعية ، ويتكرر منه أفعال متشابهة على هذا النسق حتى يضرب به المثل ، إما في اتباع الهوى وقله الحفاظ ، وإما في ضبط الهوى وقوة المسكة ، ورجل ثالث يغلب عقله على القلب والنفس كالرجل المؤمن حق الإيمان انقلب حبه وبغضه وشهوته إلى ما يأمر به الشرع وإلى ما عرف من الشرع جوازه بل استحبابه ، فلا يبتغي أبدا عن حكم الشرع حولا ، ورجل رابع يغلب عليه الرسم وطلب الجاه ونفي العار عن نفسه ، فهو يكظم الغيظ ، ويصبر على مرارة الشتم مع قوة غضبه وشدة
____________________
(1/609)
جرأته ، ويترك شهواته مع قوة طبيعته ، ولئلا يقال فيه ما لا يحبه ، لئلا ينسب إلى الشيء القبيح ، أو ليجد ما يطلبه من رفعة الجاه وغيره ، فالرجل الأول يشبه بالسباع ، والثاني بالبهائم ، والثالث بالملائكة . والرابع يقال له : صاحب المروءة وصاحب معالي الهمم ، لم يجد من عرض الناس أفراد يغلب فيها قوتان معا على الثلاثة ، ويكون أمرهما فيما بينهما متشابها ينال هذا من ذلك من هذا أخرى ، فإذا أراد المستبصر ضبط أحوالهم والتعبير عما هم فيه اضطر إلى إثبات اللطائف الثلاث . وأما اتفاق العقلاء فاعلم أن جميع من اعتنى بتهذيب النفس الناطقة من أهل الملل والنحل اتفقوا على إثبات هذه الثلاث أو على بيان مقامات وأحوال تتعلق بالثلاث ، فالفيلسوف في حكمته العملية يسميها نفسا ملكية ، ونفسا سبعية ، ونفسا بهيمية ، وفي هذه التسمية نوع من التسامح ، فسمى العقل بالنفس الملكية تسمية بأفضل أفرادها ، وسمى القلب بالنفس السبعية تسمية له بأشهر صافه . وطوائف الصوفية ذكروا هذه اللطائف ، واعتنوا بتهذيب كل واحدة إلا أنهم أثبتوا لطيفتين أخريين أيضا ، واهتموا بهما اهتماما عظيما : وهما الروح ، والسر ، وتحقيقهما أن القلب له وجهان : وجه يميل إلى البدن والجوارح ، ووجه يميل إلى التجرد والصرافة ، وكذلك العقل له وجهان : وجه يميل إلى البدن والحواس ، ووجه يميل إلى التجرد والصرافة ، فسموا ما يلي جانب السفل قلبا وعقلا ، وما يلي جانب الفوق روحا وسرا ، فصفة القلب الشوق المزعج والوجد ، وصفة الروح الأنس والانجذاب ، وصفة العقل اليقين بما يقرب مأخذه من مأخذ العلوم العادية كالأيمان بالغيب ، والتوحيد الأفعالي ، وصفة السر شهود ما بحل عن العلوم العادية ، وإنما
____________________
(1/610)
هو حكاية ما عن المجرد الصرف الذي ليس في زمان ولا مكان ، ولا يوصف بوصف ولا يشار إليه بإشارة ، والشرع لما كان نازلا على ميزان الصورة الإنسانية دون الخصوصيات الفردية لم يبحث عن التفصيل كثير بحث ، وترك مباحثها في مخدع الإجمال ، وسائر الملل والنحل أيضا عندهم علم من ذلك يعرف بالاستقراء مع نوع من التفطن . المقدمة الثانية : اعلم أن الرجل العتيك الذي مكنت مادته لظهور أحكام النوع فيها كاملا وافرا وهو رئيس أفراد الإنسان بالطبع ، والدستور الذي يعرف جميع الأفراد قربا من الحد الأعلى ، وبعدا منه بالنظر إليه هو الذي غلب عقله على قلبه مع قوة قلبه وسوغ قواه وقهر قلبه عل نفسه ووفور مقتضياتها فهذا هو الذي تمت أخلاقه ، وقويت فطرته ، ودونه أصناف كثيرة متفاوتة تظهر التأمل الصحيح . وأما الحيوان الأعجم ففيه القوى الثلاث أيضا إلا أن عقله مغلوب قلبه ونفسه في الغاية فلم يستحق التكليف ، ولا لحق بالملا الأعلى ، وهو قوله تبارك وتعالى . ! ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) ! . وهذا الرجل العتيك إن كان عقله منقادا للعقائد الحقة المأخوذة من الصادقين الأخذين عن الملأ الأعلى صلوات الله عليهم فهو المؤمن حقا ، وإن كان له مع ذلك سبيل إلى الملأ الأعلى يأخذ عنهم بغير واسطة ففيه شعبة من النبوة وميراث منها ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' الرؤيا
____________________
(1/611)
الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ، وإن كان عقله منقادا لعقائد زائغة مأخوذة من المضلين المبطلين فهو الملحد الضال ، وإن كان عقله منقادا لرسم قومه ولما أدركه بالتجربة والحكمة العملية فهو الجاهل لدين الله ، ولما كان الأمر على ذلك وجب في حكمه الله تعالى أن ينزل كتابا على أزكى خلق الله وأعتكهم وأشبههم بالملأ الأعلى ، ثم يجمع إليه الآراء حتى تصير أحكامه من المشهورات الذائعة . ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيا عن بينة ) . وأن يبين لهم هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه طرق الإحسان والمقامات التي هي ثمراته أتم بيان . وبالجملة إذا آمن الرجل بكتاب الله تعالى ، أو بما جاء به نبيه صلوات الله عليه وسلامه من بيانه إيمانا يستتبع جميع قواة القلبية والنفسية ، ثم اشتغل بالعبودية حق الاشتغال ذكراً باللسان وتفكراً بالجنان وادبا بالجوارح ، ودام على ذلك مدة مديدة شرب كل واحد من هذه اللطائف الثلاث حظه من العبودية ، وكان الأمر شبيها بالدوحة اليابسة تسقى الماء الغزير ، فيدخل الري كل غصن من أغصانها وكل ورقة من أوراقها ، ثم ينبت منها الأزهار والثمار ، فكذلك تدخل العبودية في هذه اللطائف الثلاث وتغير صفاتها الطبيعية الخسيسة إلى الصفات الملكية الفاضلة . فتلك الصفات إن كانت ملكات راسخة تستمر أفاعيلها على نهج واحد وأنهاج متقاربة ، فهي المقامات ، وإن كانت بوارق تبدو تارة ، وتنمحي أخرى ، ولما تستقر بعد ، أو هي أمور ليس من شأنها الاستقرار كالرؤيا والهواتف والغلبة تسمى أحوالا وأوقاتا .
____________________
(1/612)
ولما كان مقتضى العقل في غلواء الطبيعة البشرية التصديق بأمور ترد عليه مناسباتها صار من مقتضاه بعد تهذيبه اليقين بما جاء به الشرع كأنه يشاهد كل ذلك عيانا كما أخبر زيد بن حارثة حين قال له صلى الله عليه وسلم ' لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟ فقال كأني أنظر إلى عرش الرحمن بارزا ' . ولما كان مقتضاه أيضا معرفة الأسباب لما يحدث من نعمة ونقمة صار من مقتضاه بعد تهذيبه التوكل ، والشكر ، والرضا ، والتوحيد ولما كان من مقتضى القلب في أصل الطبيعة محبة المنعم المربى وبغض المنافر الشانئ . والخوف عما يؤذيه . والرجاء لما ينفعه كان مقتضاه بعد التهذيب محبة الله تعالى والخوف من عذابه ورجاء ثوابه ، ولما كان من مقتضى النفس في غلواء طبيعتها والانهماك في الشهوات والدعة كان صفتها عند تهذيبها التوبة والزهد والاجتهاد ، وهذا الكلام إنما أردنا به ضرب المثال . والمقامات ليست محصورة فيما ذكرنا ، فقس غير المذكور على المذكور ، والأحوال كالسكر والغلبة والعزوف عن الطعام والشراب مدة مديدة ، وكالرؤيا و الهاتف على المقامات . وإذا قد فرغنا مما يتوقف عليه شرح أحاديث الباب حان أن نشرع في المقصود ، فنقول . أصل المقامات والأحوال المتعلقة بالعقل هو اليقين ، وينشعب من اليقين : التوحيد ، والإخلاص والتوكل ، والشكر ، والأنس . والهيبة ، والتفريد ، والصديقية ، والمحدثية وغير ذلك مما يطول عده ، وقال عبد الله بن
____________________
(1/613)
مسعود : اليقين الإيمان كله ويروي رفعه ، وقال صلى الله عليه وسلم : ' واقسم لنا من القين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ' . أقول : معنى اليقين أن يؤمن المؤمن بما جاء به الشرع من مسألة القدر ومسألة المعاد ، ويغلب الإيمان على عقله ، ويترشح من عقله رشحات على قلبه ونفسه حتى يصير المتيقن به كالمعاين المحسوس ، وإنما كان اليقين هو الإيمان كله لأنه العمدة في تهذيب العقل ، وتهذيب العقل هو السبب في تهذيب القلب والنفس ، وذلك لأن اليقين إذا غلب على القلب انشعب منه شعب كثيرة فلا يخاف مما يخاف منه الناس في العادة علما منه بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، ويهون عليه مصائب الدنيا اطمئنانا بما وعد في الآخرة ، وتزدري نفسه بالأسباب المتكثرة علما منه بأن القدرة الوجوبية هي المؤثرة في العالم بالاختيار والإرادة ، وبأن الأسباب عادية فيغتر سعيه فيما يسعى الناس فيه ، ويكدون ، ويكدحون ، فيستوي عنده ذهب الدنيا وحجرها . وبالجملة فإذا تم اليقين ، وقوي ، واستمر حتى ما يغيره فقر ولا غنى ولا عز ولا ذل - انشعب منه شعب كثيرة : ومنها الشكر وهو أن يرى جميع ما عنده من النعم الظاهرة والباطنة فائضة من بارئه جل مجده ، فيرتفع بعدد كل نعمة محبة منه إلى بارئه ، ويرى عجزه عن القيام بشكره ، فيضمحل ، ويتلاشى في ذلك . قال صلى الله عليه وسلم : ' أول من يدعى إلى الجنة الحامدون الذين يحمدون الله تعالى في السراء والضراء ' . أقول : وذلك لأنه آية انقياد عقله وقلبه لليقين ببارئه ، ولأن معرفة النعم ورؤية فيضانها من بارئها أورثت فيهم قوة فعالة في عالم المثال تنفعل منها
____________________
(1/614)
القوى المثالية والهياكل الأخروية ، فلا ينزل معرفة تفاصيل النعم ورؤية فيضانها من المنعم جل مجده من الدعاء المستجاب في قرع باب الجود ، ولا يتم الشكر حتى يتنبه بعجيب صنع الله به فيما مضى من عمره كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في انصرافه من حجته التي لم يحج بعدها : الحمد لله ، ولا إله إلا الله ، يعطي من شاء ما يشاء لقد كنت بهذا الوادي - يعني ضجنان - أرعى إبلا للخطاب ، وكان فظا غليظا يتعبني إذا عملت ويضربني إذا قصرت ، وقد أصبحت ، وأمسيت ، وليس بيني وبين الله أحد أخشاه . ومنها التوكل ، وهو أن يغلب عليه اليقين حتى يفتر سعيه في جلب المنافع ودفع المضار من قبل الأسباب ولكن يمشي في ما سنه الله تعالى على عباده من الاكساب من غير اعتماد عليها . قال صلى الله عليه وسلم : ' يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون ' . أقول إنما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا إعلاما بأن أثر التوكل ترك الأسباب التي نهى الشرع عنها لا ترك الأسباب التي سنها الله تعالى بعباده ، وإنما دخولوا الجنة من غير حساب لأنه لما استقر في نفوسهم معنى التوكل أورث ذلك معنى ينفض عنها سببية الأعمال العاضة عليها من حيث إنهم أيقنوا بأن لا مؤثر في الوجود إلا القدرة والوجوبية . ومنها الهيبة وهي أن يستيقن بعظم جلال الله حتى يتلاشى في جنبه كما قال الصديق إذ رأى طيرا واقعا على شجرة فقال : طوبى لك يا طير يا طير ، والله لوددت أني كنت مثلك تقع على الشجر ، وتأكل من الثمر ، ثم تطير ،
____________________
(1/615)
وليس عليك حساب ولا عذاب ، والله لوددت أني كنت شجرة إلى جانب الطريق مر علي جمل ، فأخذني ، فأدخلني فاه ، فلا كنى ثم ازدردني ، ثم أخرجني بعرا ، ولم أكن بشرا . ومنها حسن الظن وهو معبر عنه في لسان الصوفية بالأنس ، وينشأ من ملاحظة نعم الحق وألطافه ، كما أن الهيبة تنشأ من ملاحظة نقم الحق وسطواته . والمؤمن وإن كان بنظره الاعتقادي يجمع الخوف والرجاء لكن بحالة ومقاومة ربما يغلب عليه الهيبة ، وربما يغلب عليه حسن الظن ، كمثل رجل قائم على شفا البئر العميقة ترتعد فرائصه وإن كان عقله لا يوجب خوفا ، وكما أن حديث النفس بالنعم الهنيئة يفرح الإنسان وإن كان عقله لا يوجب فرحا ، ولكن تشرب الوهم في هاتين الحالتين خوفا وفرحا . قال صلى الله عليه وسلم : ' حسن الظن بالله من حسن العبادة ' وقال عن ربه تبارك وتعالى : ( أنا عند ظن عبدي بي ) أقول : وذلك لأن حسن الظن يهيئ نفسه لفيضان اللطف من بارئه . ومنها التفريد وهو أن يستولي الذكر على قواه الإدراكية حتى يصير كأنه يرى الله تعالى عيانا ، فتضمحل أحاديث نفسه ' وينطفئ كثير من لهبها ، قال صلى الله عليه وسلم : ( سيروا ، سبق المفردون هم الذين وضع عنهم الذكر أثقالهم ) أقول : إذا خلص نور الذكر إلى عقولهم ، وتشبح التطلع إلى الجبروت في نفوسهم انزجرت البهيمية ، وانطفأ لهبها ، وذهبت أثقالها . ومنها الإخلاص وهو أن يتمثل في عقله نفع العبادة لله تعالى من جهة قرب نفسه من الحق كما قال تبارك وتعالى . ! ( إن رحمة الله قريب من المحسنين ) ! .
____________________
(1/616)
أو من جهة تصديق ما وعد الله تعالى على ألسنة رسله من ثواب الآخرة ، فينشأ منه الأعمال بداعيه عظيمة لا يشوبها رياء ولا سمعة ولا موافقة عادة ، وينسحب هذا الحال على جميع أعماله حتى الأعمال المباحة العادية ، قال الله تعالى : ! ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) ! . وقال صلى الله عليه وسلم : ' إنما الأعمال بالنيات ' . ومنها التوحيد وله ثلاث مراتب : إحداها توحيد العبادة ، فلا يعبد الطواغيت ، ويكره عبادتها كما يكره أن يقذف في النار . والثانية ألا يرى الحول القوة ويرى أن لا مؤثر في العالم إلا القدرة الوجوبية بلا واسطة ، ويرى الأسباب عادية إنما تنسب المسببات إليها مجازا ، ويرى القدر غالبا على إرادة الخلق . والثالثة أن يعتقد تنزيه الحق عن مشاكله المحدثين ويرى أوصافه لا تماثل أوصاف الخلق ، ويصير الخبر في ذلك كالعيان ، ويطمئن قلبه بأن ليس كمثله شيء من جذر نفسه ، ويتلقى أخبار الشرع بذلك على بينة من ربه ناشئة من ذاته على ذاته . ومنها الصديقية ، والمحدثية ، وحقيقتها أن من الأمة من يكون في أصل فطرته شبيها بالأنبياء بمنزلة التلميذ الفطن للشيخ المحقق ، فتشبهه إن كان بحسب القوى العقلية فهو الصديق أو المحدث ، وإن كان تشبهه بحسب القود العملية فهو الشهيد والحواري ، وإلى هاتين القبيلتين وقعت الإشارة في قوله تعالى : ! ( والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء ) ! .
____________________
(1/617)
والفرق بين الصديق . والمحدث أن الصديق نفسه قريبة المأخذ من نفس النبي ، كالكبريت بالنسبة إلى النار ، فكلما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم خبرا وقع في نفسه بموقع عظيم ، ويتلقاه بشهادة نفسه حتى صار كأنه علم هاج في نفسه من غير تقليد ، وإلى هذا المعنى الإشارة فيما ورد من أن أبا ابا بكر الصديق كان سمع دوي صوت جبريل حين كان ينزل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ، والصديق تنبعث من نفسه لا محالة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم أشد ما يمكن من الحب ، فيندفع إلى المواساة معه بنفسه وماله والموافقة له في كل حال حتى يخبر النبي صلى الله عليه وسلم من حاله أنه ' أمن الناس عليه في ماله وصحبته ' وحتى يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لو أمكن أن يتخذ خليلا من الناس لكان هو ذلك الخليل ، وذلك لتعاقب ورود أنوار الوحي من نفس النبي صلى الله عليه وسلم إلى نفس الصديق ، وفكلما تكرر التأثير والتأثر والفعل والانفعال حصل الفناء والفداء ، ولما كان كماله الذي هو غاية مقصوده بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وباستماع كلامه لا جرم كان أكثرهم له صحبة . ومن علامه الصديق أن يكون أعبر الناس للرؤيا ، وذلك لما جبل عليه من تلقي الأمور الغيبية بأدنى سبب ، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلب التعبير من الصديق في واقعات كثيرة ، ومن علامة الصديق أن يكون أول الناس إيمانا وأن يؤمن بغير معجزة . والمحدث تبادر نفسه إلى بعض معادن العلم في الملكوت ، فتأخذ منه علوما مما هيأه الحق هناك ؛ ليكون شريعة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وليكون إصلاحا لنظام بني آدم وإن لم ينزل الوحي بعد على النبي صلى الله عليه وسلم ، كمثل رجل يرى في منامه كثيراً من الحوادث التي أجمع في الملكوت على إيجادها . ومن خاصة المحدث أن ينزل القرآن على وفق رأيه في كثير من الحوادث ، وأن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه أنه أعطاه اللبن بعد ريه .
____________________
(1/618)
والصديق أولى الناس بالخلافة لأن نفس الصديق تصير وكرا لعناية الله بالنبي ونصرته له وتأييده إياه حتى يصير كأن روح النبي صلى الله عليه وسلم ينطق بلسان الصديق ، وهو قول عمر حين دعا الناس إلى بيعة الصديق ، فإن يك محمد صلى الله عليه وسلم قد مات فإن الله قد جعل بين أظهركم نورا تهتدون به ، هدى الله محمدا صلى الله عليه وسلم إن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين وأنه أولى الناس بأموركم ، فقوموا ، فبايعوه . ثم المحدث بعد ذلك أولى الناس بالخلافة ، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ' اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر ، وعمر ' ، وقوله تعالى : ! ( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ) ! . وقال صلى الله عليه وسلم : ' لقد كان فيمن قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر ' . ومن الأحوال المتعلقة بالعقل التجلي قال سهل : التجلي على ثلاثة أحوال : تجلي ذات وهي المكاشفة ، وتجلي صفات الذات ، وهي مواضع النور ، وتجلي حكم الذات وهي الآخرة وما فيها . فمعنى المكاشفة غلبة اليقين حتى يصير كأنه يراه ، ويبصره ، ويبقى ذاهلا عما عداه كما قال صلى الله عليه وسلم : ' الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ' أما مشاهدة العيان وهو في الآخرة لا في الدنيا . وقوله : تجلي صفات الذات يحتمل وجهين : أحدهما أن يراقب أفعاله في الخلق ، ويستحضر صفاته ، فيغلب يقين قدرة الله عليه ، فيغيب عن الأسباب ، ويسقط عنه الخوف والتسبب ، ويغلب عليه علمه تعالى به ،
____________________
(1/619)
فيبقى خاضعا مرعوبا مدهوشا كما قال صلى الله عليه وسلم : ' فإن لم تكن تراه فإنه يراك ' وهي مواضع النور بمعنى أن النفس تتنور بأنوار متعددة تتقلب من نور إلى نور ومن مراقبة إلى مراقبة بخلاف تجلي الذات إذ لا تعدد هنالك ولا تحول . وثانيهما أن يرى صفة الذات بمعنى فعلها وخلقها بأمر كن من غير توسط الأسباب الخارجية ، ومواضع النور هي الأشباح المثالية النورية التي تتراءى للعارف عند غيبة حواسه عن الدنيا . ومعنى تجلي الآخرة أن يعاين كمجازاه ببصر بصيرته في الدنيا والآخرة ، ويجد ذلك من نفسه كما يجد الجائع ألم جوعه والظمآن ألم عطشه ، فمثال الأول قول عبد الله بن عمر حين سلم عليه إنسان وهو في الطواف ، فلم يرد عليه السلام ، فشكا إلى بعض أصحابه ، فقال ابن عمر : كنا نترايا لله في ذلك المكان ، وهذه الحالة نوع من الغيبة ونوع من الفناء ، وذلك لأن كل لطيفة من اللطائف الثلاث لها غيبة وفناء ، فغيبة العقل وفناؤه سقوط معرفة الأشياء شغلا بربه ، وغيبة القلب وفناؤه سقوط محبة الغير والخوف منه ، وغيبة النفس وفناؤها سقوط شهوات النفس وانحجامها عن الالتذاذ بالشهوات ، ومثال الثاني ما قال الصديق . وغيره من أجلاء الصحابة : الطبيب أمر ضنى ، ومثال الثالث رؤية الأنصار ضلة فيها أمثال المصابيح ، وما روي أنه خرج رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة ومعهما مثل المصباحين بين أيديهما ، فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحد حتى أتى أهله ، وما روى في الحديث أن النجاشي كان يرى عند قبره نور ومثال الرابع قول حنظلة الأسيدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم : تذكرنا بالنار والجنة ، عن حنظلة الربيع الأسيدي قال : لقيني أبو بكر ، فقال :
____________________
(1/620)
كيف أنت يا حنظلة ؟ قلت : نافق حنظلة قال : سبحان الله ما تقول ؟ ! قلت : نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكرنا بالجنة والنار كانا رأى عين ، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا ، قال أبو بكر فو الله إنا لنلقى مثل هذا ، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : نافق حنظلة يا رسول الله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' وما ذاك ؟ قلت : يا رسول الله تكون عندك تذكرنا بالجنة والنار كانا رأى عين ، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على كرشكم وفي طرقكم ، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ' ثلاث مرات ، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أن الأحوال لا تدوم ، ومثاله أيضا ما رأى عبد الله بن عمر في رؤياه من الجنة والنار ومنها الفراسة الصادقة . والخاطر المطابق للواقع ، قال ابن عمر : ما سمعت عمر يقول لشيء قط إني لأظنه كذا إلا كان كما يظن . ومنها الرؤيا الصالحة ، وكان صلى الله عليه وسلم يعتني بتعبير رؤيا السالكين ، حتى روى أنه كان يجلس بعد صلاة الصبح ، ويقول : ' من رأى منكم رؤيا '
____________________
(1/621)
فان قصها أحد عبر ما شاء الله ، وأعني بالرؤيا الصالحة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، أو رؤية الجنة والنار . أو رؤيا الصالحين والأنبياء عليهم السلام . أو رؤية المشاهد المتبركة كبيت الله . ورؤية الوقائع الآتية فتقع كما يرى ، أو الماضية على ما هي عليه ، أو رؤية ما ينبهه على تقصيره بأن يرى غضبه في صورة كلب يعضه ، أو رؤية الأنوار والطيبات من الرزق كشرب اللبن والعسل والسمن ، أو رؤية الملائكة ، والله أعلم . ومنها وجدان حلاوة المناجاة وانقطاع حديث النفس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' من صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ' . ومنها المحاسبة وهي تتولد من بين العقل المتنور بنور الإيمان والجمع الذي هو أول مقامات القلب ، قال صلى الله عليه وسلم :
' الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ' وقال عمر رضي الله عنه في خطبته : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا وتتزينوا للعرض الأكبر على الله تعالى ، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية . ومنها الحياء وهو غير الحياء الذي هو من مقامات النفس ، ويتولد من رؤية عزة الله تعالى وجلاله ، ومع ملاحظة عجزه عن القيام بحقه وتلبسه بالأدناس البشرية ، قال عثمان رضي الله عنه : إني لاغتسل في البيت المظلم ، فأنطوي حياء من الله تعالى . وأما المقامات المتعلقة في القلب فأولها الجمع ، وهو أن يكون أمر الآخرة هو المقصود الذي يهتم به ، ويكون أمر الدنيا هينا عنده لا يقصده ، ولا لتفت إليه إلا بالعرض من جهة أن يكون بلغة له إلى ما هو سبيله ، والجمع هو الذي يسميه الصوفية في بالإرادة .
____________________
(1/622)
قال صلى الله عليه وسلم :
من جعل همه هما واحدا هم الآخرة كفاه الله همه ، ومن تشعبت به الهموم لم يبال الله في أي أودية هلك ' . أقول : همة الإنسان لها خاصية مثل خاصية الدعاء في قرع باب الجود ، بل هي مخ الدعاء وخلاصته ، فإذا تجردت همته لمرضيات الحق كفاه الله تعالى ، فإذا حصل جمع الهمة ، وواظب على العبودية ظاهرا وباطنا أنتج ذلك في قلبه محبة الله ومحبة رسوله ، ولا يزيد بالمحبة الإيمان بأن الله تعالى مالك الملك ، وأن الرسول صادق مبعوث من قبله إلى الخلق فقط ، بل هي حاله شبيهة بحالة الظمآن بالنسبة إلى الماء والجائع بالنسبة إلى الطعام ، وتنشأ المحبة من امتلاء العقل بذكر الله والتفكر في جلاله وترشح نور الإيمان من العقل إلى القلب وتلقي القلب ذلك النور بقوة مجبولة فيه . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ، من كان الله ورسوله أحب إليه ما سواهما ' الحديث ، وقال صلى الله عليه وسلم في دعائه :
' اللهم اجعل حبك احب إلي من نفسي وسمعي وبصري وأهلي ومالي ومن الماء البارد ' ، وقال لعمر : ' لا تكون مؤمنا حتى أكون أحب إليك من نفسك ، فقال عمر : والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي ، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم
: الآن يا عمر تم إيمانك ' ، عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
' لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين . أقول : أشار إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن حقيقة الحب غلبة لذة اليقين على العقل ثم على القلب والنفس حتى يقوم مقام مشتهى القلب في مجرى
____________________
(1/623)
العادة حب الأهل والولد والمال ، حتى يقوم مقام مشتهى النفس من الماء البارد بالنسبة إلى العطشان ، فإذا كان كذلك فهو الحب الخاص الذي يعد من مقامات القلب . وقال صلى الله عليه وسلم : ' من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ' أقول : جعل النبي صلى الله عليه وسلم ميل المسلم إلى جانب الحق وتعطشه إلى مقام التجرد من جلباب البدن وطلبة التخلص من مضايق الطبيعة إلى فضاء القدس حيث يتصل إلى ما لا يوصف بالوصف علامة لصدق محبته لربع . قال الصديق رضي الله عنه : من ذاق خالص محبة الله تعالى شغله ذلك عن طلب الدنيا ، وأوحشه من جميع البشر أقول . قوله هذا غاية في الكشف عن آثار المحبة ، فإذا تمت محبة المؤمن لربه أدى ذلك إلى محبة الله له ، وليس حقيقة محبة الله من العبد انفعاله من العبد - تعالى عن ذلك علو كبيرا ، ولكن حقيقتها المعاملة معه بما استعد له ، فكما أن الشمس تسخن الجسم الصقيل أكثر من تسخينها لغيره وفعل الشمس واحد في الحقيقة ، ولكنه يتعدد بتعدد استعداد القوابل ، كذلك لله تعالى عناية نفوس عباده من جهة صفاتهم وأفعالهم ، فمن اتصف منهم بالصفات الخسيسة التي يدخل بها في أعداد البهائم فعل ضوء شمس الأحدية فيه ما يناسب استعداده ، ومن اتصف بالصفات الفاضلة التي يدخل بسببها في أعداد الملأ الأعلى فعل ضوء شمس الأحدية فيه نوراً وضياء حتى يصير جوهرا من جواهر حظيرة القدس ، وانسحب عليه أحكام الملأ الأعلى ، فعند ذلك يقال : أحبه الله لأن الله تعالى فعل معه فعل المحب بحبيبه ، ويسمى العبد حينئذ وليا ، ثم محبة الله لهذا العبد تحدث فيه أحوالا بينها النبي صلى الله عليه وسلم أتم بيان : فمنها نزول القبول له من الملأ الأعلى ، ثم في الأرض . قال صلى الله عليه وسلم :
' إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني أحب فلانا ، فأحبه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادي جبريل في السموات إن الله
____________________
(1/624)
تعالى أحب فلان ، فأحبوه ، فيحبه أهل السموات ، ثم يوضع له القبول في الأرض ' أقول : إذا توجهت العناية آلالهية إلى محبة هذا العبد انعكست محبته إلى الملأ الأعلى بمنزلة انعكاس ضوء الشمس في المرايا الصقيلة ، ثم ألهم الملأ السافل محبته ، ثم من استعد لذلك من أهل الأرض كما تتشرب الأرض الرخوة الندى من بركة الماء . ومنها خذلان أعدائه ، قال صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى : ' من عاد لي وليا فقد آذنته بالحرب ' . أقول : إذا انعكست محبته في مرايا نفوس الملأ الأعلى ، ثم خالفها مخالف في من اهل الأرض أحست الملأ الأعلى بتلك المخالفة كما يحس أحدنا حرارة الجمرة إذا وقعت قدمه عليها ، فخرجت من نفوسهم أشعة تحيط بهذا المخالف من قبيل النفرة والشنآن فعند ذلك يخذل ، ويضيق عليه ، ويلهم الملأ السافل وأهل الأرض أن يسيئوا إليه ، وذلك حربه تعالى إياه . ومنها إجابة وسؤاله وإعاذته مما استعاذ منه قال صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى : ' وإن سألني لأعطينه ، وإن استعاذني لأعيذنه ' . أقول : وذلك لدخوله في حظيرة القدس حيث يقضي بالحوادث ، فدعاؤه واستعاذته يرتقي هناك ، ويكون سببا لنزول القضاء ، وفي آثار الصحابة شيء كثير من باب استجابه الدعاء ، ومن جملة ذلك ما وقع لسعد حين دعا على أبي سعدة : اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا قام رياء ، وسمعة ، فأطل عمره ، وأطل فقره ، وعرضه للفتن فكان كما قال ، وما وقع لسعيد حين دعا على أروى بنت أوس : اللهم إن كانت كاذبة فاعم بصرها ، واقتلها في أرضها ، فكان كما قال . ومنها فناؤه عن نفسه وبقاؤه بالحق ؛ وهو المعبر عنه عند الصوفية بغلبة
____________________
(1/625)
كون الحق على كون العبد ، قال صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى . ' وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ' أقول : إذا غشى نور الله نفس هذا العبد من جهة قوته العملية المنبثة في بدنه دخلت شعبة من هذا النور في جميع قوامه ، فحدثت هنالك بركات لم تكن تعهد في مجرى العادة ، فعند ذلك ينسب الفعل إلى الحق بمعنى من معاني النسبة كما قال تعالى : ! ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) ! . ومنها تنبيه الله تعالى إياه بالمؤاخذة من على ترك بعض الآداب وبقبول الرجوع منه إلى الأدب كما وقع للصديق حين غاضب أضيافه ، ثم علم أن ذلك من الشيطان ، فراجع الأمر المعروف ، فبورك في طعامه . ومن مقامات القلب مقامان يختصان بالنفوس المتشبهة بالأنبياء عليهم الصلوات والتسليمات ينعكسان عليها كما ينعكس ضوء القمر بإزاء مرآة موضوعة على كوة مفتوحة ، ثم ينعكس ضوؤها على الجدران والسقف والأرض وهما بمنزلة الصديقية والمحدثية ، إلا أن ذينك تستقران في القوة العقلية من في نفوسهم . وهذا في القوة العملية المنبجسة من القلب ، وهما مقاما الشهيد ، والحواري ، والفرق بينهما أن الشهيد تقبل نفسه غضبا وشدة على الكفار ونصرة للدين من مواطن من موطن الملكوت هيأ الحق فيه إرادة الانتقام من العصاة ينزل من هنالك على الرسول ، ليكون الرسول جارحة من جوارح الحق في ذلك ، فتقبل نفوسهم من هناك كما ذكرنا في المحدثية ، والحواري من خلصت محبته للرسول ، وطالت صحبته معه ، واتصلت
____________________
(1/626)
قرابته به ، فأوجب ذلك انعكاس نصر دين الله من قلب النبي على قلبه ، قال الله تعالى : ! ( يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة ) ! . وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بأنه حواري . والشهيد . والحواري أنواع وشعب ، منهم الأمين ، ومنهم الرفيق ، ومنهم النجباء والنقباء وقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الصحابة بشيء كثير من هذه المعاني ، عن علي رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' إن لكل نبي سبعة نجباء رقباء ، وأعطيت أنا أربعة عشر قلنا : من هم ؟ قال : أنا ، وابناي ، وجعفر ، وحمزة ، وأبو بكر ، وعمر ، ومصعب بن عمير ، وبلال ، وسلمان ، وعمار ، وعبد الله بن مسعود ، وأبو ذر ، والمقداد ' وقال الله : ! ( لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ! . وقال صلى الله عليه وسلم :
' اثبت أحد فإنما عليك نبي أو صديق أو شهيد . ومن أحوال القلب السكر ، وهو أن يتشبح نور الإيمان في العقل ، ثم في القلب حتى تفوته مصالح الدنيا ، وحتى يجب ما لا يحبه الإنسان في مجرى
____________________
(1/627)
طبيعته ، فيكون شبيها في بالسكران المتغير عن سنن عقله وعاداته كما قال أبو الدرداء : أحب الموت اشتياقا إلى ربي ، وأحب المرض مكفرا لخطيئتي ، وأحب الفقر تواضعا لربي ، وكما يؤثر عن أبي ذر كراهيته للمال بطبعه وشنآنه الغنى والثروة مثل كراهية الأمور المستقذرة ، وليس في مجرى العادة البشرية حب هذا القبيل وكراهيته ، ذلك القبيل ولكنهما غلب عليهما اليقين حتى خرجا من مجرى العادة . ومن أحوال القلب الغلبة ، والغلبة غلبتان : غلبة داعية منبجسة من قلب المؤمن حين خالطه نور الإيمان ، فطفح طفاحة متولدة من ذلك النور ومن جبلة القلب ، فصارت داعيه وخاطرا لا يستطيع الإمساك عن موجبها وافقت مقصود الشرع أو لا ، وذلك لأن الشرع يحيط بمقاصد كثيرة لا يحيط بها قلب هذا المؤمن فربما ينقاد قلبه إلى للرحمة مثلا ، وقد نهى الشرع عنها في بعض المواضع ، قال تعالى : ! ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) ! . وربما ينقاد قلبه للبغض . وقد قصد الشرع اللطف مثل أهل الذمة ، ومثال هذه الغلبة ما جاء في الحديث عن أبي لبابة بن المنذر حين استشاره بنو قريظة لما استنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم على حكم سعد بن معاذ ، فأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح ، ثم ندم على ذلك ، وعلم أنه قد خان الله ورسوله ، مانطلق على وجهه حتى ارتبط نفسه في المسجد على عمد من عمده ، وقال . لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله تعالى على مما صنعت ، وعن عمر أنه غلبت عليه حمية الإسلام حين
____________________
(1/628)
اعترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أن أراد أن يصالح المشركين عام الحديبية فوثب حتى أتى أبا بكر رضي الله تعالى عنه ، قال : أليس برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بلى ، قال ألسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى ، قال : أليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى ، قال : فعلام نعطي الدنية في دنينا ؟ فقال أبو بكر : يا عمر الزم غزوه فإني أشهد أنه رسول الله ، ثم غلب عليه ما يجد حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له مثل ما قال لأبي بكر ، وأجابه النبي صلى الله عليه وسلم كما أجابه أبو بكر رضي الله عنه حتى قال : أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ، ولن يضيعني ، قال : وكان عمر يقول : فما زلت أصوم ، وأتصدق وأعتق ، وأصلي من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيرا ، وعن أبي طيبة الجراح حين حجم النبي صلى الله عليه وسلم فشرب دمه وذلك محظور في الشريعة ولكنه فعله في حال الغلبة ، فعذره النبي صلى الله عليه وسلم وقال له :
' قد احتظرت بحظائر من النار ' . وغلبة أخرى أجل من هذه وأتم ، وهي غلبة داعية إلهية تنزل على قلبه ، فلا يستطيع الإمساك عن موجبها ، وحقيقة هذه الغلبة فيضان علم إلهي من بعض المعادن القدسية على قوته العملية دون القوة العقلية . تفصيل ذلك أن النفس المتشبهة بنفوس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا استعدت لفيضان علم إلهي إن سبقت القوة العقلية منها على القوة العملية كان ذلك العلم المفاض فراسة وإلهاما ، وإن سبقت القوة العملية منها على القوة العقلية كان ذلك العلم المفاض عزما وإقبالا أو نفرة وانجحاماً ، مثاله ما روى في قصة بدر من أن النبي صلى الله عليه وسلم ألح في الدعاء حتى قال :
' إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد ، فأخذ أبو بكر
____________________
(1/629)
بيده ، فقال : حسبك ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : ! ( سيهزم الجمع ويولون الدبر ) ! . معناه أن الصديق ألقى في قلبه داعية الإلهية تزهده في الإلحاح ، وترغيه في الكف عنه فعرف النبي صلى الله عليه وسلم بفراسته أنها داعية حق ، فخرج مستظهرا بنصرة الله تاليا هذه الآية . ومثاله أيضا ما روى في قصة موت عبد الله بن أبى حين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي على جنازته قال عمر : فتحولت حتى قمت في صدره ، قلت : يا رسول الله أتصلي على هذا ، وقد قال : يوم كذا كذا وكذا أعد أيامه ؟ حتى قال : تأخر عني يا عمر إني خيرت ، فاخترت ، وصلى عليه ، ثم نزلت هذه الآية : ! ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ) ! . قال عمر : فعجبت لي وجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم . وقد بين عمر الفرق بين الغلبتين أفصح بيان ، فقال في الغلبة الأولى : فما زلت أصوم وأتصدق وأعتق الخ ، وقال في الثانية : فعجبت لي وجرأتي ، فانظر الفرق بين هاتين الكلمتين . ومنها إيثار طاعة الله تعالى على ما سواه وطرد موانعها والنفرة عما يشغله عنها كما فعل أبو طلحة الأنصاري كان يصلي في حائط له ، فطار دبسى وطفق يتردد ، ولم يجد مخرجا من كثرة الأغصان والأورق ، فأعجبه ذلك ، فصار لا يدري كم صلى ، فتصدق بحائطه .
____________________
(1/630)
ومنها غلبة الخوف حتى يظهر البكاء وارتعاد الفرائض ، وكان له صلى الله عليه وسلم إذا صلى بالليل أزيز كأزيز المرجل ، قال صلى الله عليه وسلم في سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله : ' ورجل ذكر الله خاليا ، ففاضت عيناه ' وقال : ' لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ' وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه حين يقرأ القرآن ، وقال جبير بن مطعم : سمعت النبي الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ) فكأنما طار قلبي . وأما المقامات الحاصلة للنفس من جهة تسلط نور الإيمان عليها وقهره إياها وتغيير صفاتها الخسيسة إلى الصفات الفاضلة ، فأولها أن ينزل نور الإيمان من العقل المتنور وبالعقائد الحقة إلى القلب ، فيزدوج بجبلة القلب ، فيتولد بينهما زاجر يقهر النفس ، ويزجرها عن المخالفات ، ثم يتولد بينهما ندم يقهر النفس ، ويأتي عليها ، ويأخذ بتلابيبها ، ثم يتولد بينها العزم على ترك المعاصي في المستقبل من الزمان ، فيقهر النفس ، ويجعلها مطمئنة بأوامر الشرع ونواهيه ، قال الله تبارك وتعالى : ! ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) ! . أقول : أما قوله : ( من خاف ) فبيان لاستنارة العقل بنور الإيمان ونزول النور منه إلى القلب وذلك لأن الخوف له مبتدأ ومنتهى ، فمبتدؤه
____________________
(1/631)
معرفة الخوف منه وسطوته ، وهذا محله العقل ومنتهاه فزع وقلق ودهش ، وهذا محلة القلب ، وأما قوله : ( ونهى النفس ) فبيان لنزول النور المخالط لوكاعة القلب إلى النفس وقهره إياها وزجره لها ، ثم انقهارها وانزجارها تحت حكمه ، ثم ينزل من العقل نور الإيمان مرة أخرى ، ويزدوج بجبلة القلب ، فيتولد بينهما اللجأ إلى الله ، ويفضي ذلك إلى الاستغفار والإنابة ، والاستغفار يفضي إلى الصقالة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب واستغفر صقل قلبه ، فإن زاد زادت حتى يعلو قلبه فذلكم الران الذي ذكر الله تعالى : ! ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) ! . أقول : أما النكتة السوداء فظهور ظلمة من الظلمات البهيمية واستنارة نور من الأنوار الملكية ، وأما الصقالة فضوء يفاض على النفس من نور الإيمان ، وأما الران فغلبة البهيمية ، وكمون الملكية رأسا ، ثم يتكرر نزول نور الإيمان ، ودفعه الهاجس النفساني ، فكلما هجس خاطر المعصية من النفس نزل بإزائه نور ، فدمغ الباطل ومحاه . قال صلى الله عليه وسلم :
' ضرب الله مثلا صراطا مستقيما ، وعن جنبي الصراط سوران ، فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب الستور مرخاة وعند رأس الصراط داع يقول : استقيموا على الصراط ، ولا تعوجوا ، وفوق ذلك داع يدعو ، كلما هم عبد أن يفتح شيئا من تلك
____________________
(1/632)
الأبواب قال : ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه ، ثم فسره فأخبر أن الصراط هو الإسلام ، وأن الأبواب المفتحة محارم الله ، وأن الستور المرخاة حدود الله ، وأن الداعي على رأس الصراط هو القرآن ، وأن الذي من فوقه هو واعظ الله في كل مؤمن ' . أقول : بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هنالك داعيين : داعيا على الصراط ، وهو القرآن والشريعة . لا يزال يدعو العبد إلى الصراط المستقيم بنسق واحد ، وداعيا فوق رأس السالك يراقبه كل حين ، كلما هم بمعصية صاح عليه ؛ وهو الخاطر المنبجس من القلب المتولد من بين جبلة القلب ، والنور الفائض عليه من العقل المتنور بنور القرآن ، وإنما هو بمنزلة شرر ينقدح من الحجر دفعة بعد دفعة ، وربما يكون من الله تعالى لطف ببعض عباده بأحداث لطيفة غيبية تحول بينه وبين المعصية ، وهو البرهان المشار إليه في قوله تبارك وتعالى . ! ( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) ! . وهذا كله مقام التوبة وإذا تم مقام التوبة ، وصار ملكة راسخة في النفس تثمر اضمحلالا عند إحضار جلال الله لا يغيرها مغير سميت حياء ، والحياء في اللغة انحجام النفس عما يعيبه الناس في العادة ، فنقله الشرع إلى ملكة راسخة في النفس تنماع بها بين يدي الله كما ينماع الملح في الماء ، ولا يتقاد بسببها للخواطر المائلة إلى المخالفات . قال صلى الله عليه وسلم :
' الحياء من الإيمان ' ثم فسر الحياء ، فقال : ' من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى وليحفظ البطن
____________________
(1/633)
وما حوى ، وليذكر الموت والبلى ، من أراد الآخرة ترك زينة الدنيا ، ومن فعل ذلك استحيا من الله حق الحياء ' أقول : قد يقال في العرف للإنسان المنحجم عن بعض الأفعال لضعف في جبلته إنه حي ، وقد يقال للرجل صاحب المروءة لا يرتكب ما يفشو لأجله القالة : إنه حي ، وليسا من الحياء المعدود من المقامات في شيء ، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم المعنى المراد بتعيين أفعال تنبعث منه ، والسبب الذي يجبله ومجاورة الذي يلزمه في العادة ، فقوله ، ' فليحفظ الرأس ' الخ بيان للأفعال المنبجسة من ملكه الحياء المراد مما هو من جنس ترك المخالفات ، وقوله : ' وليذكر الموت ' بيان لسبب استقراره في النفس ، وقوله ' من أراد الآخرة ' بيان لمجاورة الذي هو الزهد ، فإن الحياء لا يخلو عن الزهد ، فإذا تمكن الحياء من الإنسان نزل نور الإيمان أيضا وخالطه جبلة القلب ، ثم انحدر إلى النفس ، فصدها عن الشبهات ، وهذا هو الورع . قال صلى الله عليه وسلم :
' الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه ' ومن وقع في المشتبهات وقع في الحرام ' وقال : ' دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الصدق طمأنينة ، وإن الكذب ريبة ' وقال : ' لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس ' أقول : قد يتعارض في المسألة وجهان : وجه إباحة ، ووجه تحريم . إما في أصل مأخذ المسألة من الشريعة كحديثين متعارضين وقياسين متخالفين ، وإما في تطبيق صورة الحادثة بما تقرر في الشريعة من حكمي الإباحة والتحريم ، فلا يصفو ما بين العبد وبين الله إلا بتركه ، والأخذ ( بما - لا ) اشتباه فيه ، فإذا تحقق الورع نزل نور الإيمان أيضا ، وخالطه جبلة القلب ، فانكشف قبح الاشتغال بما يزيد
____________________
(1/634)
على الحاجة لأنه يصده عما هو بسبيله ، فانحدر إلى النفس ، فكفها عن طلبه . قال صلى الله عليه وسلم :
' من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ' أقول : كل شغل بما سوى الله نكتة سوداء في مرآة النفس إلا أن ( ما - لا ) بد له منه في حياته إذا كان بنية البلاغ معفو عنه ، وأما سوى ذلك فواعظ الله في قلب المؤمن يأمر بالكف عنه ، وقال صلى الله عليه وسلم : ' الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ، ولكن الزهادة في الدنيا ألا تكون بما في يدك أوثق منك بما في يدي الله ، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب منك فيها لو أنها أبقيت لك ' . أقول : قد يحصل للزاهد في الدنيا غلبة تحمله على عقائد وأفعال ما هي محمودة في الشرع مما ليس بمحمود ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم من محال الزهد ما هو محمود في الشرع مما ليس بمحمود ، فالرجل إذا انكشف عليه قبح الاشتغال بالزائد على الحاجة ، فكرهه كما يكره الأشياء الضارة بالطبع ربما يؤديه ذلك إلى التعمق فيه ، فيعتقد مؤاخذة الله عليه في صراح الشريعة ، وهذه عقيدة باطلة لأن الشرع نازل على دستور الطبائع البشرية ، والزهد نوع انسلاخ عن الطبيعة البشرية وإنما ذلك أمر الله في خاصة نفسه تكميلا لمقامه ، وليس بتكليف شرعي ، وربما يؤديه إلى إضاعة المال الرمي به في البحار والجبال ، وهذه غلبة لم يصححها الشرع ، ولم يعتبرها منصة لظهور أحكام الزهد بل الذي اعتبره الشرع منصة شيئان : أحدهما الزائد الذي لم يحصل بعد ، فلا يتكلف في طلبه اعتمادا على ما وعده الله من البلاء في الدنيا والثواب في الآخرة ، وثانيهما الشيء الذي فات من يده ، فلا يتبعه نفسه ، ولا يتأسف عليه ، إيمانا بما وعد الله الصابرين والفقراء .
____________________
(1/635)
واعلم أن النفس مجبولة على اتباع الشهوات ، لا تزال على ذلك إلا أن يبهرها نور الإيمان ، وهو قول يوسف عليه السلام . ! ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ) ! . فلا يزال المؤمن طول عمره في مجاهدة نفسه باستنزال نور الله ، فكلما هاجت داعية نفسية لجأ إلى الله ، وتذكر جلال الله وعظمته ، وما أعد للمطيعين من الثواب وللعصاة من العذاب ، فانقدح من قلبه وعقله خاطر حتى يدمغ خاطر الباطل ، فيصير كأن لم يكن شيئا مذكورا ، إلا أن الفرق بين العارف والمستأنف غير قليل ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم المدافعة بين الخاطرين وغلبة خاطر الحق على خاطر الباطل وانقياد النفس للحق إذا كانت مطمئنة متأدبة بآداب العقل المتنور بنور الإيمان وبغيها عليه وإبائها منه إذا كانت عصية أبيه بما ضرب في مسألة البخل والجود من مثل جنتين من حديد إحداهما سابغة والأخرى ضيقة ، قال صلى الله عليه وسلم :
' مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد ، وقد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه ، وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت ، وأخذت كل حلقة بمكانها . أقول الرجل الذي اطمأنت نفسه جبلة أو كسبا ، فخاطر الحق يملك نفسه ، ويقهرها أول ما يبدو ، والرجل الذي عصت نفسه ، وأبت فخاطر الحق لا يؤثر فيها ، بل ينبو . وقد بين الله تعالى في القرآن العظيم تنور العقل بنور الإيمان وفيضان نوره على النفس حيث قال :
____________________
(1/636)
! ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) ! . أقول : الشيطان يشرف على باطن الإنسان من قبل كوة شهوة النفس ، فيدخل عليه داعية المعصية ، فإن تذكر جلال ربه ، وخشع له تولد منه نور في العقل ، وهو الإبصار ، ثم ينحدر إلى القلب والنفس ، فيدفع الداعية ، ويطرد الشيطان . قال الله تبارك وتعالى : ! ( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) ! . أقول : قوله تعالى : ( إنا لله ) إشارة إلى نزول خاطر الحق ، وقوله : ( صلوات من ربهم ورحمة ) إشارة إلى بركات يثمرها الصبر من نورانية النفس وتشبهها في بالملكوت . وقال تعالى . ( وما أصاب من مصيبة إلا بأذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه ) . الآية أقول قوله : ( باذن الله ) إشارة إلى معرفة القدر ، وقوله :
____________________
(1/637)
( ومن يؤمن بالله ) إشارة إلى نزول الخاطر من العقل إلى القلب والنفس ومن أحوال النفس الغيبة هي أن تغيب عن شهواتها كما قال عامر ابن عبد الله : ما أبالي امرأة رأيت أم حائطا ، وقيل : للأوزاعي رأينا جاريتك الزرقاء في السوق ، فقال : أفزرقاء هي ؟ ، ومن أحوالها المحق ، وهو أن تغيب من الأكل والشرب مدة لا تغيب فيها عادة لميل نفسها إلى جانب العقل وامتلاء القلب بنور الله تعالى ، وأجل من هذا وأتم أن ينزل نور الله إلى النفس ، فيقوم مقام الأكل والشرب ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ' . واعلم أن القلب متوسط بين العقل والنفس ، فقد يتسامح ، وينسب جميع المقامات وأكثرها إليه ، وقد ورد على هذا الاستعمال آيات وأحاديث كثيرة ، فلا تغفل عن هذه النكتة . واعلم أن مدافعة نور الإيمان لكل نوع من دواعي النفس البهيمية والقلب السبعي يسمى باسم ، وقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم باسم كل ذلك ووصفه ، فإذا حصل للعقل ملكة في انقداح خواطر الحق منه ، وللنفس ملكة في قبول تلك الخواطر كان ذلك مقاما ، فملكة مدافعة داعية الجزع تسمى صبرا على المصيبة ، وهذا مستقره القلب . وملكة مدافعة الدعة الفراغ تسمى اجتهادا وصبرا على الطاعة ، وملكه مدافعة داعية مخالفة الحدود الشرعية تهاونا لها أو ميلا إلى أضدادها تسمى تقوى وقد تطلق التقوى على جميع مقامات اللطائف الثلاث بل على أعمال تنبعث منها أيضا ، وعلى هذا الاستعمال الأخير قوله تعالى : ! ( هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ) ! .
____________________
(1/638)
وملكة مدافعة داعية الحرص تسمى قناعة ، وملكة مدافعة داعية العجلة تسمى تأنيا ، وملكة مدافعة داعية الغضب تسمى حلما ، وهذه مستقرها القلب ، وملكة مدافعة داعية شهوة الفرج تسمى عفة ، وملكة مدافعة داعية التشدق والبذاء تسمى صمتا وعيا ، وملكة مدافعة داعية الغلبة والظهور تسمى خمولا ، وملكة مدافعة داعية التلون في الحب والبغض وغيرهما تسمى استقامة ووراء ذلك دواع كثيرة لمدافعتها أسام ، ومبحث كل ذلك في الأخلاق من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .
____________________
(1/639)
( من أبواب ابتغاء الرزق ) اعلم أن الله تعالى لما خلق الخلق ، وجعل معايشهم في الأرض ، وأباح لهم الانتفاع بما فيها وقعت بينهم المشاحة والمشاجرة . فكان حكم الله عند ذلك تحريم أن يزاحم الإنسان صاحبه فيما اختص به لسبق يده إليه . أو يد مورثه . أو لوجه من الوجوه المعتبرة عندهم إلا بمبادلة أو تراض معتمد على علم من غير تدليس وركوب غرر ، وأيضا لما كان الناس مدنيين بالطبع لا تستقيم معايشهم إلا بتعاون بينهم نزل القضاء بإيجاب التعاون ، وألا يخلو أحد منهم مما له دخل في التمدن إلا عند حاجة لا يجد منها بدا ، وأيضا فأصل التسبب حيازة الأموال المباحة أو استنماء ما اختص به مما يستمد من الأموال المباحة كالتناسل بالرعي ، والزراعة بإصلاح الأرض وسقي الماء ، ويشترط في ذلك ألا يضيق بعضهم على بعض بحيث يفضي إلى فساد التمدن ، ثم الاستنماء في أموال الناس بمعونة في المعاش يتعذر أو يتعسر اسقامة حال المدينة بدونها كالذي يجلب التجارة من بلد إلى بلد ، ويعتني إلى حفظ الجلب إلى أجل معلوم أو يسمسر بسعي وعمل ، أو يصلح مال الناس بإيجاد صفة مرضية فيه وأمثال ذلك ، فإن كان الاستنماء فيها بما ليس له دخل في التعاون كالميسر ، أو بما هو تراض يشبه الاقتضاب كالربا ، فإن المفلس يضطر إلى التزام ما لا يقدر على إيفائه ، وليس رضاه رضا في الحقيقة ، فليس من العقود المرضية ولا الأسباب الصالحة ، وإنما هو باطل وسحت بأصل الحكمة المدنية . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' من أحيا أرضا ميتة فهي له ' . أقول الأصل فيه ما أو مأنا أن الكل مال الله ، وليس فيه حق لأحد في الحقيقة ، لكن الله تعالى لما أباح لهم الانتفاع بالأرض وما فيها وقعت
____________________
(1/640)
المشاحة ، فكان الحكم حينئذ ألا يهيج أحد مما سبق إليه من غير مضارة ، فالأرض الميتة التي ليست في البلاد ولا في فنائها إذا عمرها رجل فقد سبقت يده إليها من غير مضارة ، فمن حكمه إلا يهيج عنها ، والأرض كلها في الحقيقة بمنزلة مسجد أو رباط جعل وقفا على ابناء السبيل ، وهم شركاء فيه ، فيقدم الأسبق فالأسبق ، ومعنى الملك في حق الآدمي كونه أحق بالانتفاع من غيره . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' عادى الأرض لله ورسوله ، ثم هي لكم مني ' . اعلم : أن عادى الأرض هي التي باد عنها أهلها ، ولم يبقى من يدعيها ، ويخاصم فيها ، ويحتج بسبق يد مورثه عليها فإذا كانت الأرض على هذه الصفة انقطع عنها ملك الآدميين ، وخلصت لملك الله ، وحكمها حكم ما لم يحيى قط لما ذكرناه من معنى الملك . قال صلى الله عليه وسلم :
' لا حمى إلا لله ورسوله ' . أقول : لما كان الحمى تضييقا على الناس وظلما عليهم واضطرارا نهى عنه ، وإنما استثنى الرسول لأنه أعطاه الله الميزان ، وعصمه من أن يفرط منه ما لا يجوز ، وقد ذكرنا أن الأمور التي مبناها على المظان الغالبة يستثنى منها النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن والأمور التي مبناها على تهذيب النفس وما يشبه ذلك فالأمر لازم فيها النبي وغيره سواء . وقضى صلى الله عليه وسلم في سيل المهزور أن يمسك حتى يبلغ
____________________
(1/641)
الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل ، وفي قصة مخاصمة الزبير رضي الله عنه ' اسق يا زبير ، ثم احبس حتى يرجع إلى الجدر ، ثم أرسل الماء إلى جارك ' . أقو ل : الأصل فيه أنه لما توجه للناس في شيء مباح حقوق مترتبة وجب أن يراعي الترتيب في قدر ما يحصل لكل واحد فائدة هي أدنى ما يعتد بها فإنه لو لم يقدم الأقرب كان فيه التحكم والمضارة ، ولو لم يستوف الأول ثم الأول الفائدة لم يحصل الحق ، فعلى هذا الأصل قضى أن يمسك حتى يبلغ الكعبين ، وهو قريب من قوله : ' إلى الجدر ' لأنه أول حد بلوغ الجدر ، وإنما يكون قبله امتصاص الأرض من غير أن يصادم الجدار . وأقطع صلى الله عليه وسلم الأبيض بن حمال المأربي الملح الذي بمأرب فقيل : إنما أقطعت له الماء العد قال : فرجعه منه . أقول : لا شك أن المعدن الظاهر الذي لا يحتاج إلى كثير عمل إقطاعه لواحد من المسلمين إضرار بهم وتضييق عليهم . وسئل صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال : ' اعرف عفاصها ووكاءها ، ثم عرفها سنة ، فإن جاء صاحبها ، وإلا فشأنك بها ، قال فضالة : الغنم ؟
____________________
(1/642)
فقال : هي لك أو لأخيك أو للذئب ، قال فضالة : الإبل قال : مالك ولها معها سقاؤها وحذلؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها ' وقال جابر رضي الله عنه : رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به أقول اعلم أن حكم اللقطة مستنبط من تلك الكلية التي ذكرناها فما استغنى عنه صاحبه ، ولا يرجع إليه بعد ما فارقه ، وهو التافه يجوز تملكه إذا ظن أن المالك غاب ، ولم يرجع ، وامتنع عوده إليه ، لأنه رجع إلى مال الله وصار مباحا ، وأما ما كان له بال يطلب ، ويرجع له الغائب ، فيجب تعريفه على ما جرت العادة بتعريف مثله حتى يظن أن مالكه لم يرجع ، ويستحب التقاط مثل الغنم لأنه يضيع إن لم يلتقط ، ويكره التقاط مثل الإبل . واعلم أنه يجب في كل مبادلة من أشياء عاقدين وعوضين ، والشيء الذي يكون مظنة ظاهرة لرضا العاقدين بالمبادلة ، وشيء يكون قاطعا لمنازعتهما موجبا للعقد عليهما . ويشترط في العاقدين كونهما حرين ، عاقلين ، يعرفان النفع والضرر ، ويباشران العقد على بصيرة وتثبت . . ، وفي العوضين كونهما ما لا ينتفع به ، ويرغب فيه ، ويشح به ، غير مباح ، ولاما لا فائدة معتدا بها فيه ، وإلا لم يكن مما شرع الله لخلقه وكان عبثا أو مرعيا في فائدة ضمنية لا يذكرها في الظاهر ، وهذا إحدى المفاسد لأن صاحبها على شرف ألا يجد ما يريده ، فيسكت على خيبة ، أو يخاصم بغير حق ، توجه له عند الناس . . ، وفيما يعرف به رضا العاقدين أن يكون أمرا واضحا يؤاخذ به على عيون الناس ، ولا يستطيع أن يحيف إلا بحجة عليه ، وأوضح الأشياء في مثل ذلك العبارة باللسان ، ثم التعاطي بوجه لا يبقى فيه ريب .
____________________
(1/643)
قال صلى الله عليه وسلم :
' المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار ' أقول اعلم أنه لا بد من قاطع يميز حق كل واحد من صاحبه ، ويرفع خيارهما في رد البيع ، ولولا ذلك لأضر أحدهما بصاحبه ، ولتوقف كل عن التصرف فيما بيده خوفا أن يستقيلها الآخر ، وههنا شيء آخر ، وهو اللفظ المعبر عن رضا العاقدين بالعقد وعزمهما عليه ، ولا جائز أن يجعل القاطع ذلك لأن مثل هذه الألفاظ يستعمل عند التراوض والمساومة ، إذ لا يمكن أن يتراوضا إلا بإظهار الجزم بهذا القدر ، وأيضا فلسان العامة في مثل هذا تمثال الرغبة من قلوبهم ، والفرق بين لفظ دون لفظ حرج عظيم ، وكذلك التعاطي فإنه لا بد لكل واحد أن يأخذ ما يطلبه على أنه يشتريه ، لينظر فيه ، ويتأمله ، والفرق بين أخذ وأخذ غير يسير ، ولا جائز أن يكون القاطع شيئا غير ظاهر ، ولا أجلا بعيدا يوما فما فوقه ؛ إذ كثير من السلع إنما يطلب ، لينتفع به في يومه ، فوجب أن يجعل ذلك التفرق من مجلس العقد ، لأن العادة جارية بأن العاقدين يجتمعان للعقد ، ويتفرقان بعد تمامه ، ولو تفحصت طبقات الناس من العرب والعجم رأيت أكثرهم يرون رد البيع بعد التفرق جورا وظلما ، لا قبله ، اللهم إلا من غير فطرته ، وكذلك الشرائع الإلهية لا تنزل إلا بما تقبله نفوس العامة قبولا أوليا ، ولما كان من الناس من يتسلل بعد العقد يرى أنه قد ربح ، ويكره أن يستقيله صاحبه ، وفي ذلك قلب الموضوع - سجل النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن ذلك فقال :
' ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله ، فوظيفتهما أن يكونا على رسلهما ، ويتفرق كل واحد على عين صاحبه . واعلم أنه إذا اجتمع عشرة آلاف إنسان مثلا في بلدة فالسياسة المدنية تبحث عن مكاسبهم ، فإنهم إن كان أكثرهم مكتسبين بالصناعات وسياسة
____________________
(1/644)
البلدة ، والقليل منهم مكتسبين بالرعي والزراعة فسد حالهم في الدنيا ، وإن تكسبوا بعصارة الخمر وصناعة الأصنام كان ترغيبا للناس في استعمالها على الوجه الذي شاع بينهم فكان سببا لهلاكهم في الدين ، فان وزعت المكاسب وأصحابها على الوجه المعروف الذي تعطيه الحكمة ، وقبض على أيدي المتكسبين بالاكساب القبيحة صلح حالهم . وكذلك من مفاسد المدن أن ترغب عظماؤهم في دقائق الحلي واللباس والبناء والمطاعم وغيد النساء ونحو ذلك زيادة على ما تعطيه الارتفاقات الضرورية التي لا بد للناس منها ، واجتمع عليها عرب الناس وعجمهم ، فيكتسب الناس بالتصرف في الأمور الطبيعية ، لتتأتى منها شهواتهم ، فينتصب قوم إلى تعليم الجواري للغناء والرقص والحركات المتناسبة اللذيذة ، وآخرون إلى الألوان المضطربة في الثياب وتصوير صور الحيوانات والأشجار العجيبة والتخاطيط الغريبة فيها وآخرون إلى الصناعات البديعة في الذهب والجواهر الرفيعة ، وآخرون إلى الأبنية الشامخة وتخطيطها وتصويرها فإذا أقبل جم غفير منهم إلى هذه الأكساب أهملوا مثلها من في الزراعات والتجارات ، وإذا انفق عظماء المدينة فيها الأموال أهملوا مثلها من مصالح المدينة ، وجر ذلك إلى على التضييق على القائمين بالاكساب الضرورية والزراع والتجار والصناع وتضاعف الضرائب عليهم ، وذلك ضرر بهذه المدينة يتعدى من عضوا منها إلى عضو حتى يعم الكل ، ويتجارى فيها كما يتجارى الكلب في بدن المكلوب ، وهذا شرح تضررهم في الدنيا ، وأما تضررهم بحسب الخروج إلى الكمال الأخروى . ففنى عن البيان ، وكان هذا المرض قد استولى على مدن العجم ، فنفث الله في قلب نبيه صلى الله عليه وسلم أن يداوي هذا المرض بقطع مادته ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مظان غالبية لهذه الأشياء كالقينات والحرير والقسي وبيع الذهب بالذهب متفاضلا لأجل الصياغات أو طبقات أصنافه ونحو ذلك ، فنهى عنها
____________________
(1/645)
( البيوع المنهي عنها ) اعلم أن الميسر سحت باطل ؛ لأنه اختطاف لأموال الناس عنهم . معتمد على اتباع جهل وحرص وأمنية باطلة وركوب غرر تبعثه هذه على الشرط ، وليس له دخل في التمدن والتعاون ، فان سكت المغبون سكت على غيظ وخيبة ، وإن خاصم خاصم فيما التزمه بنفسه ، واقتحم فيه بقصده ، والغابن يستلذه ، ويدعوه قليله إلى كثيره ، ولا يدعه حرصه أن يقلع عنه ، وعما قليل تكون الترة عليه ، وفي الاعتياد بذلك إفساد للأموال ومناقشات طويلة وإهمال للارتفاقات المطلوبة وإعراض عن التعاون المبني عليه التمدن ، والمعاينة تغنيك عن الخبر ، هل رأيت من أهل القمار إلا ما ذكرناه . وكذلك الربا ، وهو القرض على أن يؤدي إليه أكثر أو أفضل مما أخذ سحت باطل فإن عامة المقترضين بهذا النوع هم المفاليس المضطرون ، وكثيرا ما لا يجدون الوفاء عند الأجل ، فيصير أضعافا مضاعفة لا يمكن التخلص منه أبدا ، وهو مظنة لمناقشات عظيمة وخصومات مستطيرة ، وإذا جرى الرسم باستنماء المال بهذا الوجه أفضى إلى ترك الزراعات والصناعات التي هي أصول المكاسب ، ولا شيء في العقود أشد تدقيقا واعتناء بالقليل وخصومة من الربا ، وهذان الكسبان بمنزلة السكر مناقضان لأصل ما شرع الله لعباده من المكاسب ، وفيهما قبح ومناقشة ، والأمر في مثل ذلك إلى الشارع ، إما أن يضرب له حدا يرخص فيما دونه ويغلظ النهي عما فوقه أو يصد عنه رأسا . وكان الميسر والربا شائعين في العرب ، وكان قد حدث بسببهما مناقشات
____________________
(1/646)
عظيمة لا انتهاء لها ومحاربات ، وكان قليلهما يدعوا إلى كثيرهما ، فلم يكن أصوب ولا أحق من أن يراعى حكم القبح والفساد موفرا ، فينهى عنهما بالكلية . واعلم أن الربا على الوجهين : حقيقي . ومحمول عليه . أما الحقيقي فهو في الديون ، وقد ذكرنا أن فيه قلبا لموضوع المعاملات ، وأن الناس كانوا منهمكين فيه في الجاهلية اشد انهماك ، وكان حدث لأجله محاربات مستطيرة ، وكان قليله يدعوا إلى كثيره ، فوجب أن يسد بابه بالكلية ، ولذلك نزل في القرآن في شأنه ما نزل . والثاني ربا الفضل ، والأصل فيه الحديث المستفيض ' الذهب بالذهب . والفضة بالفضة . والبر بالبر . والشعير بالشعير . والتمر بالنمر . والملح بالملح ، مثلا بمثل ، وسواء بسواء يدا بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف ، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ' وهو مسمى بربا تغليظا وتشبيها له بالربا الحقيقي على حد قوله عليه السلام :
' المنجم كاهن ' وبه يفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم :
' لا ربا إلا في النسيئة ' ثم كثر في الشرع استعمال الربا في هذا المعنى حتى صار حقيقة شرعية فيه أيضا والله أعلم . وسر التحريم أن الله تعالى يكره الرفاهية البالغة كالحرير والارتفاقات المحوجة إلى الإمعان في طلب الدنيا كآنية الذهب الفضة ، وحلي غير مقطع من الذهب وكالسوار والخلخال والطوق والتدقيق في المعيشة والتعمق فيها لأن ذلك مراد لهم في أسفل السافلين صارف لأفكارهم إلى ألوان مظلمة ،
____________________
(1/647)
وحقيقة الرفاهية طلب الجيد من كل ارتفاق ، والاعراض عن رديئه ، والرفاهية البالغة اعتبار الجودة والرداءة في الجنس الواحد . وتفصيل ذلك أنه لا بد من التعيش بقوت ما من الأقوات ، والتمسك بنقد ما من النقود ، والحاجة إلى الأقوات جميعها واحدة ، والحاجة إلى النقود جميعها واحدة ، ومبادلة إحدى القبيلتين بالأخرى من أصول الارتفاقات التي لا بد للناس منها ، ولا ضرورة في مبادلة شيء بشيء يكفي كفايته ، ومع ذلك ، فأوجب اختلاف أمزجتهم وعاداتهم أن تتفاوت مراتبهم في التعيش ، وهو قوله تعالى : ! ( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ) ! . فيكون منهم من يأكل الأرز والحنطة ، ومنهم من يأكل الشعير والذرة ، ويكون منهم من يتحلى بالفضة . وأما تميز الناس فيما بينهم بأقسام الأرز والحنطة مثلا واعتبار فضل بعضها على بعض ، وكذلك اعتبار الصناعات الدقيقة في الذهب وطبقات عياره ، فمن عادة المسرفين والأعاجم ، والامعان في ذلك تعمق في الدنيا ، فالمصلحة حاكمة بسد هذا الباب ، وتفطن الفقهاء أن الربا المحرم يجري في غير الأعيان الستة المنصوص عليها ، وأن الحكم متعد منها إلى كل ملحق بشيء منها ، ثم اختلفوا في العلة . والأوفق بقوانين الشرع أن تكون في النقدين الثمينة ، وتختص بهما ، وفي الأربعة المقتات المدخر ، وأن الملح لا يقاس عليه الدواء والتوابل
____________________
(1/648)
لأن للطعام إليه حاجة ليست إلى غيره ، ولا عشر تلك الحاجة ، فهو جزء مقوت وبمنزلة نفسه دون سائر الأشياء ، وإنما ذهبنا إلى ذلك لأن الشرع اعتبر الثمينة في كثير من الاحكام كوجوب التقابض في المجلس ، ولان الحديث ورد بلفظ الطعام ، والطعام يطلق في العرف على معنيين : أحدهما البر وليس بمراد ، والثاني المقتات المدخر ، ولذلك يجعل قسيما للفاكهة والتوابل ، وإنما أوجب التقابض في المجلس لمعنيين ، أحمدهما الطعام والنقد الحاجة إليهما أشد الحاجات وأكثرهما وقوعا ، والانتفاع بهما لا يتحقق إلا بالإفناء والإخراج من الملك ، وربما ظهرت خصومة عند القبض ويكون البدل قد فنى ، وذلك أقبح المناقشة ، فوجب أن يسد هذا الباب بألا يتفرقا إلا عن قبض ، ولا يبقى بينهما شيء ، وقد اعتبر الشرع هذه العلة في النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفى ، وحيث قال في اقتضاء الذهب من الورق : ' ما لم تتفرقا وبينكما شيء ' ، والثاني إنه إذا كان النقد في جانب والطعام أو غيره في جانب ، فالنقد وسيلة لطلب الشيء كما هو مقتضى النقدية ، فكان حقيقا بأن يبذل قبل الشيء ، وإذا كان في كلا الجانبين النقد أو الطعام كان الحكم يبذل أحدهما تحكما ، ولو لم يبذل من الجانبين كان بيع الكالئ بالكالئ وربما يشح بتقديم البذل ، فاقتضى العدل أن يقطع الخلاف بينهما ، ويؤمرا جميعا ألا يتفرقا إلا عن قيض ، وإنما خص الطعام والنقد لأنهما أصلا الأموال وأكثرها تعاورا ، ولا ينتفع بهما إلا بعد إهلاكهما ، فلذلك كان الحرج في التفرق عن بيعهما قبل القبض أكثر وأفضى إلى المنازعة ، والمنع فيهما أردع من تدقيق المعاملة . واعلم أن مثل هذا الحكم إنما يراد به ألا يجري الرسم به ، وألا يعتاد تكسب ذلك الناس لا ألا يفعل شيء منه أصلا ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لبلال : ' بع التمر ببيع آخر ، ثم اشتر به ' .
____________________
(1/649)
واعلم أن من البيوع ما يجري فيه معنى الميسر ، وكان أهل الجاهلية يتعاملون بها فيما بينهم ، فنهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم . منها المزابنة أن يبيع الرجل الثمر في رءوس النخل بمائة فرق من التمر مثلا . والمحاقلة أن يبيع الزرع بمائة فرق حنطة ، ورخص في العرايا بخرصها من التمر فيما دون خمسة أوسق لأنه عرف أنهم لا يقصدون في ذلك القدر الميسر ، وإنما يقصدون أكلها رطبا ، وخمسة أوسق هو نصاب الزكاة وهي مقدار ما يتفكه به أهل البيت . ومنها بيع الصبرة من الثمر لا يعلم مكيلتها بالكيل المسمى من التمر . والملامسة أن يكون لمس الرجل ثوب الآخر بيده بيعا . والمنابذة أن يكون نبذ الرجل بثوبه بيعا من غير نظر . وبيع الحصاة أن يكون وقوع الحصاة بيعا . فهذه البيوع فيها معنى الميسر ، وفيها قلب موضوع المعاملة ، وهو استيفاء حاجته بترو وتثبت . ونهى عن بيع العربان أن يقدم إليه شيء من الثمن ، فإن اشترى حسب من الثمن ، وإلا فهو له مجانا وفيه معنى الميسر . وسئل صلى الله عليه وسلم عن اشتراء التمر بالرطب ، فقال : أينقص إذا
____________________
(1/650)
يبس ؟ فقال . نعم ، فنهاه عن ذلك ' أقول : وذلك لأنه أحد وجوه الميسر ؛ وفيه احتمال ربا الفضل ، فإن المعتبر حتى تمام الشيء . وقال صلى الله عليه وسلم :
' قلادة فيها ذهب وخرز : ' لا تباع حتى تفصل ' أقول : وذلك لأنه أحد وجوه الميسر ومظنة أن يغبن أحدهما ، فيسكت على غيظ ، أو يخاصم في غير حق . واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في العرب ، ولهم معاملات وبيوع ، فأوحى الله إليه كراهية بعضها وجواز بعضها ، والكراهية تدور على معان : منها أن يكون شيء قد جرت العادة بأن يقتنى لمعصية ، أو يكون الانتفاع المقصود به عند الناس نوعا من المعصية كالخمر ، والأصنام ، والطنبور ، ففي جريان الرسم ببيعها واتخاذها تنويه بتلك المعاصي وحمل الناس عليها وتقريب لهم منها ، وفي تحريم بيعها واقتنائها إخمال لها وتقريب لهم من ألا يباشروها ، قال رسول الله إنا : ' أن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ' . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه ' يعني إذا كان وجه الاستمتاع بالشيء متعينا كالخمر يتخذ للشرب . والصنم للعبادة ، فحرمه الله - اقتضى ذلك في حكمة الله تحريم بيعها . قال صلى الله عليه وسلم : ' مهر البغي خبيث ' نهى صلى الله عليه وسلم عن حلوان الكاهن - ونهى عن كسب الزمارة . أقول : المال الذي يحصل من مخامرة المعصية لا يحل الاستمتاع به لمعنيين : أحدهما أن تحريم هذا المال وترك الانتفاع به زاجر عن تلك المعصية . وجريان الرسم بتلك المعاملة جالب للفساد حامل لهم عليه ، وثانيهما
____________________
(1/651)
أن الثمن ناشئ من المبيع في مدارك الناس وعلومهم ، فكان عند الملأ الأعلى للثمن وجود تشبيهي أنه المبيع ، وللأجرة وجود تشبيهي أنه العمل ، فانجر الخبث إليه في علومهم ، فكان لتلك الصورة العلمية أثر في نفوس الناس . ولعن رسول الله في الخمر عاصرها ، ومعتصرها ، وشاربها ، وحاملها ، والمحمولة إليه . أقول : الإعانة في المعصية وترويجها وتقريب الناس إليها معصية وفساد في الأرض ، ومنها أن مخالطة النجاسة كالميتة والدم والسرقين والعذرة فيها شناعة وسخط ، ويحصل بها مشابهة الشياطين ، والنظافة وهجر الرجز من أصول ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم لإقامته وبه تحصل مشابهة الملائكة والله يحب المتطهرين . ولما لم يكن بد من إباحة بعض المخالطة إذ في سد الباب في بالكلية حرج وجب أن ينهى عن التكسب بمعالجته والتجارة فيه ، وفي معنى النجاسة الرفث الذي يستحيا منه كالفساد ولذلك حرم بيع الميتة ونهى عن كسب الحجام ، وقال عند الضرورة ' أطعمه ناضجك ' وعن عسب الفحل ، ويروى وضراب الجمل ورخص في الكرامة ، وهي ما يعطى من غير شرط . ومنها ألا تنقطع المنازعة بين العاقدين لابهام في العوضين ، أو يكون العقد بيعة بين ببعتين أو لا يمكن تحقق الرضا إلا برؤية المبيع ولم يره أو يكون في البيع شرط يحتج به من بعد . ونهى رسول الله عن بيع المضامين . والملاقيح ، فالمضامين ما في أصلاب الفحول ، والملاقيح ما في البطون ، وعن بيع حبل
____________________
(1/652)
الحبلة ، و عن بيع الكالئ بالكالئ ، وعن ببعتين في ببعة أن يكون البيع بألف نقداً و ألفين نسيئة لأنه لا يتعين أحد الأمرين عند العقد ، وقيل : أن يقول بعنى هذا بألف على أن تبيعني ذاك بكذا ، وهذا شرط يحتج به الشارط من بعد فيخاصم ، ومنه أن يبيع بشرط إن أراد البيع فهو أحق به ، وقال فيه عمر رضي الله عنه : لا تحل لك وفيها شرط لأحد . ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثنيا حتى يعلم ، مثل أن يبيع عشرة أفراق إلا شيئا لأن فيه جهالة مفضية إلى المنازعة ، وما كل جهالة تفسد البيع ، فإن كثيراً من الأمور يترك مهملا في البيع ، واشتراط الاستقصاء ضرر ولكن المفسد هو المفضي إلى المنازعة ، ومنها أن يقصد بهذا البيع معاملة أخرى يترقبها في ضمنه أو معه لأنه إن فقد المطلوب لم يكن له أن يطالب ، ولا أن يسكت ، ومثل هذا حقيق بأن يكون سببا للخصومة بغير حق ، ولا يقضي فيها بشيء فصل . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' لا يحل بيع وسلف ولا شرطان في بيع ' مثل أن يقول بعت هذا على أن تقرضني كذا ، ومعنى الشرطين أن يشترط حقوق البيع ، ويشترط شيئا خارجا منها مثل أن يهبه كذا ، أو يشفع له إلى فلان ، أو إن احتاج إلى بيعه لم يبع إلا منه ، ونحو ذلك ، فهذا شرطان في صفقة واحدة . ومنها ألا يكون التسليم بيد العاقد ، كمبيع ليس بيد البائع ، وإنما هو حق توجه له على غيره ، وشيء لا يجده إلا برفع قضية أو إقامة بينة أو سعى واحتيال أو استيفاء واكتيال أو نحو ذلك فإنه مظنة أن يكون قضية في قضية أو يحصل غرر وتخبيب ، وكل ما ليس عندك فلا تأمن أن تجده إلا بجهد
____________________
(1/653)
النفس وربما يطالبه المشتري بالقبض ، فلا يكون عنده فيطالب الذي توجه عليه حقه ، أو يذهب ليصطاد من البرية ، أو يشتري من السوق ، أو يستوهب من صديقه ، وهذا أسد المناقشات . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' لا تبع ما ليس عندك ' . ونهى عن بيع الغرر ، وهو الذي لا يتيقن أنه موجود أو لا . قال صلى الله عليه وسلم :
' من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه ' قيل : مخصوص بالطعام لأنه أكثر الأموال تعاورا وحاجة ' ولا ينتفع به إلا باهلاكه ، فإذا لم يستوفه فربما تصرف فيه البائع ، فيكون قضية في قضية وقيل : يجري في المنقول لأنه مظنة أن يتغير ، ويتعيب ، فتحصل الخصومة وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ولا أحسب كل شيء إلامثله وهو الأقيس بما ذكرنا من العلة . ومنها ما هو مظنة لمناقشات وقعت في زمانه صلى الله عليه وسلم وعرف أنه حقيق بأن تكون فيه المناقشات كما ذكر زيد بن ثابت رضي الله عنه أنهم كانوا يحتجون بعاهات تصيب الثمار يقولون : أصابها قشام دمان فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمارحتى يبدو صلاحها ، اللهم إلا أن يشترط القطع في الحال ، وعن السبيل حتى يبيض ، ويأمن العاهة ، وقال : ' أرأيت إذا منع الله الثمر بم يأخذ أحدكم مال أخيه ' يعني أنه غرر ، لأنه على خطر أن يهلك ، فلا يجد المعقود عليه وقد لزمه الثمن ، وكذا في بيع السنين . ومنها ما يكون سببا لسوء انتظام المدينة وإضرار بعضها بعضا ، فيجب
____________________
(1/654)
إخمالها والصد عنها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' لا تلقوا الركبان لبيع ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، ولا يسم الرجل على سوم أخيه ولا تناجشوا ، ولا يبع حاضر لباد ' . أقول : أما تلقي الركبان فهو أن يقدم ركب بتجارة فيتلقاه رجل قبل أن يدخلوا البلد ، ويعرفوا السعر ، فيشتري منهم بأرخص من سعر البلد ، وهذا مظنة ضرر بالبائع ، لأنه إن نزل بالسوق كان أغلى له ولذلك كان له الخيار إذا عثر على الضرر ، وضرر بالعامة لأنه توجد في تلك التجارة حق أهل البلد جميعا ، والمصلحة المدنية تقتضي أن يقدم الأحوج فالأحوج ، فإن استووا سوى بينهم أو أقرع ، فاستئثار واحد منهم بالتلقي نوع من الظلم ، وليس لهم الخيار لأنه لم يفسد عليهم مالهم ، وإنما منع ما كانوا يرجونه . وأما البيع على البيع فهو تضييق على أصحابه من التجار وسوء معاملة معهم ، وقد توجه حق البائع الأول وظهر وجه لرزقه فافساده عليه ومزاجته فيه نوع من ظلم . وكذا السوم على سوم أخيه في التضييق على المشترين والإساءة معهم ، وكثير من المناقشات والأحقاد تنبعث فيهم من أجل هذين . والنجش في زيادة الثمن بلا رغبة في المبيع تغريرا للمشترين ، وفيه من الضرر ما لا يخفى . وبيع الحاضر للبادى أن يحمل البدوي متاعه إلى البلد يريد أن يبيعه بسعر يومه ، فيأتيه الحاضر ، فيقول : خل متاعك عندي حتى أبيعه على المهلة بثمن غال ، ولو باع البادى بنفسه لأرخص ، ونفع البلديين ، وانتفع هو أيضا ، فإن انتفاع التجار يكون بوجهين : أن يبيعوا بثمن غال بالمهلة على من يحتاج إلى الشيء أشد حاجة . فيستقل في جنبها ما يبذل ، وأن يبيعوا بربح يسير ،
____________________
(1/655)
ثم يأتوا بتجارة أخرى عن قريب ، فيربحوا أيضا وهلم جرا ، وهذا الانتفاع أوفق بمصلحة المدينه وأكثر بركة ، وقال صلى الله عليه وسلم : ' من احتكر فهو خاطئ ' . وقال عليه السلام : ' الجالب مرزوق والمحتكر ملعون ' . أقول : وذلك لأن حبس المناع مع حاجة أهل البلد إليه لمجرد طلب الغلاء وزيادة الثمن إضرار بهم يتوقع نفع ما هو سوء انتظام المدينة . ومنها أن يكون فيه التدليس على المشتري ، قال رسول الله :
' لا تصروا الإبل والغنم ، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ، إن رضيها أمسكها ، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر - ويروى صاعا من طعام - لا سمراء ' . أقول : التصرية جمع اللبن في الضرع ليتخيل المشتري غزارته ، فيغتر ، ولما كان أقرب شبهه بخيار المجلس أو الشرط لأن عقد البيع كأنه مشروط بغزارة اللبن لم يجعل من باب الضمان بالخراج ، ثم لما كان قدر اللبن وقيمته بعد إهلاكه وإتلافه متعذر المعرفة جدا لا سيما عند تشاكس الشركاء وفي مثل البدو وجب أن يضرب له حد معتدل بحسب المظنة الغالبية يقطع به النزاع ، ولبن النوق فيه زهومة ويوجد رخيصا ، ولبن الغنم طيب ، ويوجد غالبا ، فجعل حكمها واحداً ، فتعين أن يكون صاعا من أدنى جنس يقتاتون به كالتمر في الحجاز . والشعير . والذرة عندنا لا من الحنطة والأرز فانهما أغلى الأقوات وأعلاها ، واعتذر بعض من لم يوفق للعمل بهذا
____________________
(1/656)
الحديث بضرب قاعدة من عند نفسه ، فقال . كل حديث لا يرويه إلا غير فقيه إذا إنسد باب الرأي فيه يترك العمل به ، وهذه القاعدة على ما فيها لا تنطبق على صورتنا هذه لأنه أخرجه البخاري عن ابن مسعود أيضا ، وناهيك به ، ولأنه بمنزلة سائر المقادير الشرعية يدرك العقل حسن تقدير ما فيه ، ولا يستقل بمعرفة حكمة هذا القدر خاصة اللهم إلا عقول الراسخين في العلم . وقال صلى الله عليه وسلم في صبرة طعام داخلها بلل :
' أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس ، فمن غش فليس مني ' . ومنها أن يكون الشيء مباح الأصل كالماء العد فيتغلب ظالم عليه ، فيبيعه وذلك تصرف في مال الله من غير حق وإضرار بالناس ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء ليباع به الكلأ أقول : هو أن يتغلب رجل على عين أو واد ، فلا يدع أحد يسقي منه ماشية إلا بأجر ، فإنه يفضي إلى بيع الكلأ المباح يعني يصير الرعي من ذلك بإزاء مال ، وهذا باطل لأن الماء والكلأ مباحان ، وهو وقوله عليه السلام : ' فيقول الله اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك ' . وقيل : يحرم بيع الماء الفاضل عن حاجته لمن أراد الشرب أو سقي الدواب ، قال صلى الله عليه وسلم :
' المسلمون شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار ' أقول : يتأكد استحباب المواساة في هذه فيما كان مملوكا وما ليس بمملوك أمره ظاهر .
____________________
(1/657)
( أحكام البيع ) قال صلى الله عليه وسلم :
' رحم الله رجلا سمحا إذا باع ، وإذا اشترى ، وإذا اقتضى ' أقول : السماحة من أصول الأخلاق التي تتهذب بها النفس ، وتتخلص بها عن إحاطة الخطيئة ، وأيضا فيها نظام المدينة ، وعليها بناء التعاون ، وكانت المعاملة بالبيع والشراء والاقتضاء مظنة لضد السماحة ، فسجل النبي صلى الله عليه وسلم على استحبابها . وقال صلى الله عليه وسلم :
' الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة ' أقول : يكره إكثار الحلف في البيع لشيئين : كونه مظنة لتغرير المتعاملين ، وكونه سببا لزوال تعظيم اسم الله من القلب ، والحلف الكاذب منفقة للسلعة لأن مبنى الانفاق في تدليس المشتري ، وممحقة للبركة لأن مبنى البركة على توجه دعاء الملائكة إليه ، وقد تباعدت بالمعصية بل دعت عليه . وقال عليه السلام :
' يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة ' أقول : فيه تكفير الخطيئة وجبر ما فرط من غلواء النفس . وقال عليه الصلاة والسلام ، فيمن باع بالدنانير وأخذ مكانها الدراهم : ' لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء ' . أقول . لأنهما إن افترقا وبينهما شيء مثل أن يجعلا تمام صرف الدينار بالدراهم موقوفا على ما يأمر به الصيرفيون ، أو على أن يزنه الوزان أو مثل ذلك كان مظنة أن يحتج به المحتج ، ويناقش فيه المناقش ، ولا تصفوا المعاملة .
____________________
(1/658)
قال صلى الله عليه وسلم :
' من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ' أقول : ذلك لأنه عمل زائد عن أصل الشجرة ، وقد ظهرت الثمرة على ملكه وهو يشبه الشيء الموضوع في البيت فيجب أن يوفى له حقه إلا أن يصرح بخلافه . وقال صلى الله عليه وسلم :
' ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ' . أقول : المراد كل شرط ظهر النهي عنه ، وذكر في حكم الله نفيه لا النفي البسيط . ونهى عليه السلام عن بيع الولاء . وعن هبته لأن الولاء ليس بمال حاضر مضبوط ، إنما هو حق تابع للنسب ، فكما لا يباع النسب لا ينبغي أن يباع الولاء . وقال صلى الله عليه وسلم :
' الخراج بالضمان ' . أقول : لا تنقطع المنازعة إلا بأن يجعل الغنم بالغرم ، فمن رد المبيع بالعيب إن طولب بخراجه كان في إثبات مقدار الخراج حرج عظيم ، فقطع المنازعه بهذا الحكم كما قطع المنازع في القضاء بأن ميراث الجاهلية على ما قسم . وقال صلى الله عليه وسلم البيعان : إذا اختلفا والمبيع قائم ليس بينهما بينة فالقول ما قال البائع أو يترادان . أقول : وإنما قطع به المنازعة لأن الأصل ألا يخرج شيء من ملك أحد إلا بعقد صحيح وتراض ، فإذا وقعت المشاحة وجب الرد إلى الأصل والمبيع ما له يقينا وهو صاحب اليد بالفعل أو قبل العقد الذي لم تتقر صحته ، والقول قول صاحب المال لكن المبتاع بالخيار لأن البيع مبناه على التراضي .
____________________
(1/659)
وقال صلى الله عليه وسلم : ' الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطريق فلا شفعة ' وقال عليه السلام :
' الجار أحق بعقبه ' . أقول : الأصل في الشفعة دفع الضرر من الجيران والشركاء ، وأرى أن الشفعة شفعتان : شفعة يجب للمالك أن يعرضها على الشفيع فيما بينه وبين الله ، وأن يؤثره على غيره ، ولا يجبر عليها في القضاء ، وهي للجار الذي ليس بشريك ، وشفعة يجبر عليها في القضاء وهي للجار الشريك فقط ، وهذا وجه الجمع بين الأحاديث المختلفة في الباب . وقال صلى الله عليه وسلم : ' من أقال أخاه المسلم صفقة كرهها أقال الله عثرته يوم القيامة ' أقول : يستجب إقالة النادم في صفقته دفعا للضرر عنه ، ولا يجب لأن المرء مأخوذ باقراره لازم عليه ما التزمه . وحديث جابر رضي الله عنه بعته ، واستثنيت حملانه إلى أهلى أقول : فيه جواز الاستثناء فيما لم يكن محل المناقشة وكانا متبرعين متباذلين لأن المنع إنما هو لكونه مظنة المناقشة . قال صلى الله عليه وسلم :
' من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ' وقال لعلي رضي الله عنه حين باع أحد الأخوين : ' رده ' . أقول : التفريق بين والده وولدهما يهيجهما على الوحشة والبكاء ، ومثل ذلك حال الأخوين ، فوجب أن يجتنب الإنسان ذلك . قال الله تعالى : ( إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذرا البيع )
____________________
(1/660)
أقول : يتعلق الحكم بالنداء الذي هو عند خروج الإمام ، ولما كان الاشتغال بالبيع ونحوه كثيرا ما يكون مفضيا إلى ترك الصلاة وترك استماع الخطبة نهى عن ذلك . وقيل : قد غلا السعر فسعر لنا فقال عليه السلام :
' إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطلبني بمظلمة ' ، أقول : لما كان الحكم العدل بين المشترين وأصحاب السلع الذي لا يتضرر به أحدهما ، أو يكون تضررهما سواء في غاية الصعوبة تورع منه النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يتخذها الأمراء من بعده سنة ، ومع ذلك فان رؤى منهم جور ظاهر لا يشك فيه الناس جاز تغييره فانه من الافساد في الأرض . قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذ تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) اعلم أن الدين أعظم المعاملات مناقشة وبأكثرها جدلا ، ولا بد منه للحاجة ، فلذلك أكد الله تعالى في الكتابة والاستشهاد ، وشرع الرهن والكفالة ، وبين إثم كتمان الشهادة ، وأوجب بالكفاية القيام بالكتابة والشهادة ، وهو من العقود الضرورية . وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث ، فقال :
' من أسلف في شيء ، فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ' أقول : ذلك لترتفع المناقشة بقدر
____________________
(1/661)
الإمكان ، وقاسوا عليها الأوصاف التي يبين بها الشيء من غير تضييق ، ومبنى القرض على التبرع من أول الأمر ، وفيه معنى الإعارة ؛ فلذلك جازت النسيئة ، وحرم الفضل ، ومبنى الرهن على الاستيثاق ، وهو بالقبض ، فلذلك اشترط فيه ، ولا اختلاف عندي بين حديث ' لا يغلق الرهن الرهت من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه ' وحديث ' الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا ، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة ' ؛ لأن الأول هو الوظيفة ، لكن إذا امتنع الراهن من النفقة عليه ، وخيف الهلاك ، وأحياه المرتهن ، فعند ذلك ينتفع به بقدر ما يراه الناس عدلا . وقال صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان :
' إنكم قد وليتم أمرين هلكت فيها الأمم السابقة قبلكم ' أقول : يحرم التطفيف لأنه خيانة وسوء معاملة ، وقد سبق في قوم شعيب عليه السلام ما اقص الله تعالى في كتابه . وقال : ' أيما رجل أفلس ، فأدرك رجل ماله بعينه ، فهو أحق به ' أقول : وذلك لأنه كان في الأصل ماله من غير مزاحمة ، ثم باعه ، ولم يرض في بيعه بخروجه من يده إلا بالثمن ، فكان البيع إنما هو بشرط إيفاء الثمن ، فلما لم يؤد كان له نقضه ما دام المبيع قائما بعينه ، فإذا فات المبيع لم يمكن أن يرد المبيع ، فيصير دينه كسائر الديون .
____________________
(1/662)
وقال صلى الله عليه وسلم : ' من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه ' . أقول : هذا ندب إلى السماحة التي هي من أصول ما ينفع في المعاد والمعاش ، وقد ذكرناه . وقال عليه السلام :
' مطل الغني ظلم ، وإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع ' أقول : هذا أمر استحباب لأن فيه قطع المناقشة . وقال صلى الله عليه وسلم :
' لى الواجد يحل عرضه وعقوبته ' ، أقول : هو هذا أن يغلظ له في القول ، ويحبس ، ويجبر على البيع إن لم يكن له مال غيره . وقال صلى الله عليه وسلم :
' الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا ، أو أحل حراما ، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا ، أو أحل حراما ' فمنه وضع جزء من الدين كقصة ابن أبي حدرد ، وهذا الحديث أحد الأصول في باب المعاملات
____________________
(1/663)
( التبرع والتعاون ) التبرع أقسام : صدقة إن أريد به وجه الله ، ويجب أن يكون مصرفة ما ذكر الله تعالى في قوله : ! ( إنما الصدقات للفقراء ) ! الآية وهدية إن قصد به وجه المهدي له ، قال صلى الله عليه وسلم : ' من أعطى عطاء فوجد فليجز به ، ومن لم يجد فليثن ، فإن من أثنى فقد شكر ، ومن كتم فقد كفر ، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور ' اعلم أن الهدية إنما يبتغي بها إقامة الألفة فيما بين الناس ، ولا يتم هذا المقصود إلا بأن يرد إليه مثله ، فإن الهدية تحبب المهدي إلى المهدى له من غير عكس ، وأيضا فإن اليد العليا خير من اليد السفلى ، ولمن أعطي الطول على من أخذ ، فإن عجز فليشكره ، وليظهر نعمته فإن الثناء أول اعتداد بنعمته وإضمار لمحبته ، وأنه يفعل في إيراث الحب ما تفعل الهدية ، ومن كتم فقد خالف عليه ما أراده ، وناقض مصلحة الائتلاف ، وغمط حقه ، ومن أظهر ما ليس في الحقيقة فذلك كذب ، وقوله عليه السلام :
' كلابس ثوبي زور ' معناه كمن تردى أو اتزر بالزور وشمل الزور جميع بدنه . قال صلى الله عليه وسلم : ' من صنع إليه معروف ، فقال لفاعله :
____________________
(1/664)
جزاك الله خيرا ، فقد أبلغ في الثناء ' أقول : إنما عين النبي صلى الله عليه وسلم هذه اللفظة لأن الكلام الزائد في مثل هذا المقام إطراء وإلحاح ، والناقص ، كتمان وغمط ' ، وأحسن ما يحيي به بعض المسلمين به بعضا ما يذكر المعاد ، ويحيل الأمر على الله ، وهذه اللفظة نصاب صالح بجميع ما ذكرنا . وقال صلى الله عليه وسلم :
' تهادوا ، فإن الهدية تذهب الضغائن ' وفي رواية ' تذهب وحر الصدر ' أقول : الهدية وإن قلت تدل على تعظيم المهدى له ، وكونه منه على بال ، وأنه يحبه ، ويرغب فيه ، وإليه الإشارة في حديث '
لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاه ' فلذلك كان طريقا صالحا لدفع الضغينة ، ويدفعها تمام الألفة في المدينة والحي . قال صلى الله عليه وسلم :
' من عرض عليه ريحان فلا يرده ، فإنه خفيف المحمل طيب الريح ' أقول : إنما كره رد الريحان ، وما يشبهه لخفة مؤنته ، وتعامل الناس بإهدائه ، فلا يلحق هذا كثير عار في قبوله ، ولا في ذلك كثير حرج في إهدائه ، وفي التعامل بذلك إئتلاف ، وفي رده فساد ذات البين ، وإضمار على وحر . قال صلى الله عليه وسلم :
' العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه ، ليس لنا مثل السوء ' أقول : إنما كره الرجوع في الهبة لأن منشأ العود فيما أفرزه عن ماله ، وقطع الطمع عنه إما شح بما أعطى ، أو تضجر منه ، أو إضرار له ، وكل ذلك من الأخلاق المذمومة ، وأيضا نفي نقض الهبة بعد ما أحكم ، وأمضى وحر وضغينة ، بخلاف ما لم يعط من أول الأمر ، فشبه النبي صلى الله عليه وسلم العود فيما أفرزه من ملكه بعود الكلب في قيئه ، يمثل لهم المعنى بادئ الرأي وبين لهم قبح تلك الحالة بأبلغ وجه اللهم إلا
____________________
(1/665)
إذا كان بينهما مباسطة ترفع المناقشة ك الوالد والولد ، وهو قوله عليه السلام :
' إلا الوالد من ولده ' . وقال صلى الله عليه وسلم فيمن ينحل بعض أولاده ما لم ينحل الآخر .
' أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء ؟ قال : بلى . قال : فلا إذا ' . أقول : إنما كره تفضيل بعض الأولاد على بعض في العطية لأنه يورث الحقد فيما بينهم والضغينة بالنسبة إلى الوالد ، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تفضيل بعضهم إلى بعض سبب أن يضمر المنقوص له على ضغينة ، ويطوي على غل ، فيقصر في البر ، وفي ذلك فساد المنزل . ووصية إن كان موقنا بالموت ، وإنما جرت بها السنة لأن الملك في بني آدم عارض لمعنى المشاحة ، فإذا قارب أن يستغني عنه بالموت استحب أن يتدارك ما قصر فيه ، ويواسي من وجب حقه عليه في مثل هذه الساعة . قال صلى الله عليه وسلم :
' أوص بالثلث والثلث كثير ' . واعلم أن مال الميت ينتقل إلى ورثته عند طوائف العرب والعجم ، وهو كالجبلة عندهم والأمر اللازم فيما بينهم لمصالح لا تحصى ، فلما مرض ، وأشرف على الموت توجه طريق لحصول ملكهم ، فيكون تأييسهم عما يتوقعون غمطا لحقهم وتفريطا في جنبهم ، وأيضا فالحكمة أن يأخذ ماله من بعده أقرب الناس منه ، وأولادهم ، به وأنصرهم له ، وأكثرهم مواساة ، وليس أحد في ذلك بمنزلة الوالد والولد ، وغيرهما من الأرحام . وهو وقوله تعالى :
____________________
(1/666)
( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) ومع ذلك فكثيراً ما تقع أمور توجب مواساة غيرهم ، وكثيرا ما يوجب خصوص الحال أن يختار غيرهم ، فلا بد من ضرب حد لا يتجاوزه الناس وهو الثلث لأنه لا بد من ترجيح الورثة ، وذلك بأن يكون لهم أكثر من النصف ، فضرب لهم الثلثين ، ولغيرهم الثلث . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إن الله أعطى لكل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث . أقول : لما كان الناس في الجاهلية يضارون في الوصية ، ولا يتبعون في ذلك الحكمة الواجبة ، فمنهم من ترك الحق والأوجب سواساته ، واختار الأبعد برأيه الأبتر . وجب أن يسد هذا الباب ، ووجب عند ذلك أن يعتبر المظان الكلية بحسب القرابات دون الخصوصيات الطارئة بحسب الأشخاص ، فلما تقرر أمر المواريث قطعا لمنازعتهم وسدا لضغائنهم كان من حكمه ألا يسوغ الوصية لوارث ؛ إذ في ذلك مناقضة للحد المضروب . وقال صلى الله عليه وسلم .
' ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلا إلا ووصيته مكتوبة عنده ' . أقول : استحب تعجيل الوصية احترازا من أن يهجمه الموت ، أو يحدث حادث بغتة ، فتفوته المصلحة التي يجب إقامتها عنده ، فيتحسر ، قال صلى الله عليه وسلم :
' أيما رجل أعمر عمري ' الحديث . أقول : كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم مناقشات لا تكاد تنقطع ، فكان قطعها إحدى المصالح التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لها كالربا والثارات وغيرها ، وكان قوم أعمروا لقوم ، ثم انقرض هؤلاء
____________________
(1/667)
وهؤلاء ، فجاء القرن الآخر ، فاشتبه عليهم الحال ، فتخاصموا ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه إن كان نص الواجب هي لك ولعقبك فهي هبة ؛ لأنه بين الأمر بما يكون من خواص الهبة الخالصة ، وإن قال : هي لك ما عشت فهي إعارة إلى مدة لمدة حياته ؛ لأنه قيده بقيد ينافي الهبة . ومن التبرعات الوقف وكان أهل الجاهلية لا يعرفونه ، فاستنبطه النبي صلى الله عليه وسلم لمصالح لا توجد في سائر الصدقات ، فإن الإنسان ربما يصرف في سبيل الله مالا كثيرا ، ثم يفنى ، فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى ، ويجيء أقوام آخرون من الفقراء ، فيبقون محرومين ، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء حبسا للفقراء وأبناء السبيل تصرف عليهم منافعة ، ويبقى أصله على ملك الواقف ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه :
' إن شئت حبست أصلها ؛ وتصدقت بها ' فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ، ولا يوهب ، ولا يورث ، وتصدق بها في الفقراء وفي القربى ، وفي الرقاب ، وفي سبيل الله ، وابن السبيل ، والضعيف ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ، ويطعم غير متمول . أما المعاونة فهي أنواع أيضا : منها المضاربة ، وهي أن يكون المال لإنسان ، والعمل في التجارة من الآخر ليكون الربح بينها على ما يبينانه . والمفاوضة أن يعقد رجلان ما لهما سواء الشركة في جميع ما يشتريانه ويبيعانه ، والربح بينهما ، وكل واحد كفيل الآخر ووكيله . والعنان أن يعقدا الشركة في مال معين كذلك ، ويكون كل واحد وكيلا للآخر فيه ولا يكون كفيلا يطالب بما على الآخر . وشركة الصنائع كخياطين أو صباغين اشتركا على أن يتقبل كل واحد ، ويكون الكسب بينهما . وشركة الوجوه أن يشتركا ولا مال بينهما على أن يشتريا بوجوههما ، ويبيعا ، الربح بينهما .
____________________
(1/668)
والوكالة أن يكون أحدهما يعقد العقود لصاحبه . والمساقاة أن تكون أصول الشجر لرجل فيكفي مؤنتها الآخر على أن يكون الثمر بينهما . والمزارعة أن تكون الأرض والبذر لواحد ، والعمل ، والبقر من الآخر والمخابرة أن تكون الأرض لواحد ، والبذر ، والبقر ، والعمل من الآخر ، ونوع آخر يكون العمل من أحدهما والباقي من الآخر . والإجارة وفيها معنى العبادة . ومعنى المعاونة فإن كان المطلوب نفس المنفعة فالمبادلة غالبة ، وإن كان خصوص العامل مطلوبا فمعنى المعاونة غالب ، وهذه عقود كان الناس يتعاملون بها قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، فما لم يكن منها محلا لمناقشة غالبا ، ولم بنه عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو باق على إباحته داخل في قوله صلى الله عليه وسلم :
' المسلمون على شروطهم ' . وقد اختلف الرواة في حديث رافع بن خديج اختلافا فاحشا ، وكان وجوه التابعين يتعاملون بالمزراعة ، ويدل على الجواز حديث معاملة أهل خيبر ، وأحاديث النهي عنها محمولة على الإجارة بما على الماذيانات أو قطعة معينة ، وهو قوله رافع رضي الله عنه ، أو على التنزيه والإرشاد وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ، أو على مصلحة خاصة بذلك الوقت من جهة كثرة مناقشتهم في هذه المعاملة حينئذ ، وهو قول زيد رضي الله عنه والله أعلم .
____________________
(1/669)
( الفرائض ) اعلم أنه أوجبت الحكمة أن تكون السنة بينهم أن يتعاون أهل الحي فيما بينهم ، ويتناصروا ، ويتواسوا ، وأن يجعل كل واحد ضرر الآخر ونفعه بمنزلة ضرر نفسه ونفعه ، ولا يمكن إقامة ذلك إلا بجبلة تؤكدها أسباب طارئة ، ويسجل عليها سنة متوارثه بينهم فالجبلة هي ما بين الوالد ، والولد ، والأخوة ، وغير ذلك من المرادة . والأسباب الطارئة هي التألف ، والزيارة ، والمهاداة ، والمواساة فإن كل ذلك يحبب الواحد إلى الآخر ، ويشجع على النصر والمعاونة في الكريهات . وأما السنة فهي ما نطقت به الشرائع من وجوب صلة الأرحام وإقامة اللأئمة على إهمالها ، ثم لما كان من الناس من يتبع فكرا فاسدا ، ولا يقيم صلة الرحم كما ينبغي ، ويعد ما دون الواجب كثيرا مست الحاجة إلى إيجاب بعض ذلك عليهم ، أشاءوا ، أم أبوا مثل عيادة المريض ، وفك العاني ، والعقل ، وإعتاق ما ملكه من ذي حم وغير ذلك ، وأحق هذا الصنف ما استغنى عنه بالإشراف على الموت ، فإنه يجب في مثل ذلك أن يصرف ماله على عينه فيما هو نافع في المعاونات المنزلية ، أو يصرف ماله من بعده في أقاربه . واعلم أن الأصل في الفرائض أن الناس جميعهم عربهم وعجمهم اتفقوا على أن أحق الناس بمال الميت أقاربه وأرحامه ، ثم كان لهم بعد ذلك اختلاف شديد ، وكان أهل الجاهلية يورثون الرجال دون النساء يرون أن الرجال هم القائمون بالبيضة ، وهم الذابون عن الذمار ، فهم أحق بما يكون شبه
____________________
(1/670)
المجان ، وكان أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الوصية للاقربين من غير تعيين ولا توقيت ؛ لأن الناس أحوالهم مختلفة : فمنهم من ينصره أحد أخويه دون الآخر ، ومنهم من ينصره والده ، وعلى هذا القياس فكانت المصلحة أن يفوض الأمر إليهم ، ليحكم كل واحد ما يرى من مصلحة ، ثم إذا ظهر من موص جنف أو إثم كان للقضاة أن يصلحوا وصيته ، ويغيروا ، فكان الحكم على ذلك مدة ، ثم أنه لما ظهرت أحكام الخلافة الكبرى ، وزوى للنبي صلى الله عليه وسلم مشارق الأرض ومغاربها ؛ وتشعشعت أنوار البعثة العامة أوجبت المصلحة ألا يجعل أمرهم إليهم ولا إلى القضاة من بعدهم ، بل يجعل على المظان الغالبية في علم الله من عادات العرب والعجم وغيرهم مما يكون كالأمر الطبيعي ، ويكون مخالفة كالشاذ النادر وكالبهيمية المخدجة التي تولد جدعاء أو عرجاء خرقا للعادة المستمرة ، وهو قوله تعالى : ! ( لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ) ! ومسائل المواريث تبتنى على أصول : منها أن المعتبر في هذا الباب هو المصاحبة الطبيعية ؛ والمناصرة ؛ والموادة التي هي كمذهب جبلي ، دون الاتفاقات الطارئة ؛ فإنها غير مضبوطة ، ولا يمكن أن يبنى عليها النواميس الكلية ؛ وهو قوله تعالى : ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) فلذلك لم يجعل الميراث إلا لأولي الأرحام غير الزوجين ؛ فإنهما لاحقان بأولى الأرحام داخلان في تضاعيفهم لوجوه : منها تأكيد التعاون في تدبير
____________________
(1/671)
المنزل ، والحث على أن يعرف كل واحد منهما ضرر الآخر ونفعه راجعا إلى نفسه ، ومنها أن الزوج ينفق عليها ، ويستودع منها ماله ؛ ويأمنها على ذات يده ؛ حتى يتخيل أن جميع ما تركته أو بعض ذلك حقه في الحقيقة ، وتلك خصومة لا تكاد تنصرم ؛ فعالج الشرع هذا الداء بأن جعل له الربع أو النصف ، ليكون جابرا لقلبه وكاسرا لسورة خصومته ، ومنها أن الزوجة ربما تلد من زوجها أولادا هم من قوم الرجل لا محالة وأهل نسبه ومنصبه ، واتصال الإنسان بأمه لا ينقطع أبدا ، فمن هذا الجهة تدخل الزوجة في تضاعيف من لا ينفك عن قومه ، وتصير بمنزلة ذوي الأرحام ، ومنها أنه يجب عليها يعده أن تعتد في بيته لمصالح لا تخفى ولا متكفل لمعيشتها من قومه ، فوجب أن تجعل كفايتها في مال الزوج ، ولا يمكن أن يجعل قدرا معلوما لأنه لا يدري كم يترك ، فوجب جزء شائع كالثمن ، والربع . ومنها أن القرابة نوعان : أحدهما ما يقتضي المشاركة في الحسب ، والمنصب ، وأن يكونا من قوم واحد وفي منزله واحدة ، وثانيهما ما لا يقتضي المشاركة في الحسب ، والنسب ، والمنزلة ، ولكنه مظنة الود والرفق ، وأنه لو كان أمر قسمة التركة إلى الميت لما جاوز تلك القرابة ، ويجب أن يفضل النوع الأول على الثاني ، لأن الناس عربهم وعجمهم يرون إخراج منصب الرجل وثروته من قومه إلى قوم آخرين جورا وهضما ، ويسخطون على ذلك ، وإذا أعطي مال الرجل ومنصبه لمن يقوم مقامه من قومه رأوا ذلك عدلا ، ورضوا به وذلك كالجبلة التي لا تنفك منهم إلا أن تقطع قلوبهم اللهم إلا في زماننا حين اختلت الانساب ، ولم يكن تناصرهم بنسبهم ، ولا يجوز أن يهمل حق النوع الثاني أيضا بعد ذلك ولذلك كان نصيب الأم مع أن برها أوجب وصلتها أوكد أقل من نصيب البنت . والأخت فإنها ليست من قوم ابنها ولا من أهل حسبه ونسبه ومنصبه وشرفه ، ولا ممن يقوم مقامه ، ألا ترى أن الابن ربما يكون هاشميا ، والأم حبشية ، والابن
____________________
(1/672)
قرشيا ، والأم عجمية ، والابن من بيت الخلافة ، والأم مغموصا عليها بعهر ودناءة ، أما البنت والأخت فهما من قوم المرء وأهل منصبه ، وكذلك أولاد الأم لم يرثوا حين ورثوا إلا ثلثا لا يزاد لهم عليه ألبتة ، ألا ترى أن الرجل يكون من قريش وأخوه لأمه من تميم ، وقد يكون بين القبيلتين خصومة ، فينصر كل رجل قومه على قوم الآخر ، ولا يرى الناس قيامه مقام أخيه عدلا ، وكذلك الزوجة التي هي لاحقة بذوي الأرحام داخلة في تضاعيفها لم تجد إلا أوكس الانصباء ، وإذا اجتمعت جماعة منهن اشتركن في ذلك النصيب ، ولم يرز أن سائر الورثة ألبتة ، ألا ترى أنها تتزوج بعد بعلها زوجا غيره ، فتنقطع العلاقة بالكلية . وبالجملة فالتوارث يدورعلى معان ثلاثة : القيام مقام الميت في شرفه ومنصبه وما هو من هذا الباب ، فإن الإنسان يسعى كل السعي ، ليبقي له خلف يقوم مقامه ، والخدمة . والمواساة . والرفق . والحدب عليه من هذا الباب ، الثالث القرابة المتضمنة لهذين المعنيين جميعا ، والأقدم بالاعتبار هو الثالث ، ومظنتها جميعا على وجه الكمال من يدخل في عمود النسب كالأب . والجد . والابن . وابن الابن فهؤلاء أحق الورثة بالميراث ، غير أن قيام الابن مقام أبيه هو الوضع الطبيعي الذي عليه بناء العالم من انقراض قرن وقيام القرن الثاني مقامهم ، وهو الذي يرجونه ، ويتوقعونه ، ويحصلون الأولاد والأحفاد لأجله ، أما قيام الأب بعد ابنه فكأنه ليس بوضع طبيعي ، ولا ما يطلبونه ، ويتوقعونه ، ولو أن الرجل خير في ماله لكانت مواساة ولده أملك لقلبه من مواساة والده ، فلذلك كانت السنة الفاشية في طوائف الناس تقديم الأولاد على الأباء ، أما القيام مقامه فمظنته بعد ما ذكرنا الأخوة ومن في معناه ممن هم كالعضد وكالصنو ومن قوم
____________________
(1/673)
المرء وأهل نسبه وشرفه ، وأما الخدمة والرفق فمظنة القرابة القريبة ، فالأحق به الأم والبنت ومن في معناهما ممن يدخل في عمود النسب ، ولا تخلو البت من قيام ما مقامه ، ثم الأخت ولا تخلو أيضا من قيام ما مقامه ، ثم من به علاقة التزوج ، ثم أولاد الأم ، والنساء لا يوجد فيهن معنى الحماية والقيام مقامه كيف والنساء ربما تزوجن في قوم آخرين ، ويدخلن فيهم اللهم إلا البنت والأخت على ضعف فيهما ، ويوجد في النساء معنى الرفق والحدب كاملا موفرا ، وإنما مظنة القرابة القريبة جدا كالأم والبنت ثم الأخت دون البعيدة كالعمة وعمة الأب ، والباب الأول يوجد في الأب والابن كاملا ، ثم الأخوة ، ثم الأعمام ، والمعنى الثاني يوجد في الأب كاملا ، ثم الابن ، ثم الأخ لأب وأم أو لأم ، وإنما مظنة القرابة القريبة دون البعيدة ، فمن ثم لم يجعل للعمة شيء مما للعم لأنها لا تذب عنه كما يذب العم وليست كالاخت في القرب . ومنها أن الذكر يفضل على الأنثى إذا كانا في منزلة واحدة أبدا لاختصاص الذكور بحماية البيضة والذب عن الذمار ، ولأن الرجال عليهم انفاقات كثيرة ، فهم أحق ما يكون شبه المجان ، بخلاف النساء فإنهن كل على أزواجهن أو آبائهن أو أبنائهن ، وهو قوله تعالى : ! ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا ) ! وقال ابن مسعود رضي الله عنه في مسألة ثلث الباقي : ما كان الله ليريني أن أفضل أما على أب ، غير أن الوالد لما اعتبر فضله مرة بجمعه بين العصوبة والفرض ولم يعتبر ثانيا بتضاعف نصيبه أيضا ، فإنه غمط لحق سائر الورثة ، وأولاد الأم ليس للذكر منهم حماية للبيضة ولا ذب عن الذمار ، فإنهم من
____________________
(1/674)
قوم آخرين ، فلم يفضل على الأنثى ، وأيضا فإن قرابتهم منشعبة من قرابة الأم فكأنهم جميعا إناث . ومنها أنه إذا اجتمع جماعة من الورثة فإن كانوا في مرتبة واحدة وجب أن يوزع عليهم لعدم تقدم واحد منهم على الآخر وإن كانوا في منازل شتى فذلك على وجهين : إما أن يعمهم اسم واحد أو جهة واحدة والأصل فيه أن الأقرب يحجب الأبعد حرمانا لأن التوارث إنما شرع حثا على التعاون ولكل قرابة وتعاون كالرفق فيمن يعمهم اسم الأم والقيام مقام الرجل فيمن يعمهم اسم الابن والذب عنه فيمن يعمهم اسم العصوبة . ولا تتحقق هذه المصلحة إلا بأن يتعين من يؤاخذ نفسه بذلك ، ويلام على تركه ، ويتميز من سائر من هنالك بالنبل اما فضل سهم على سهم ، فلا يجدون له كثير بال أو تكون أسماؤهم وجهاتهم مختلفة ، والأصل فيه أن الأقرب والأنفع فيما عند الله من علم المظان الغالبية يحجب الأبعد نقصانا . ومنها أن السهام التي تعين بها الأنصباء يجب أن تكون أجزاؤها ظاهرة يتميزها بادئ الرأي المحاسب وغيره ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :
' إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ' إلى أن الذي يليق أن يخاطب به جمهور المكلفين هو ما لا يحتاج إلى تعمق في الحساب ويجب أن يكون بحيث يظهر فيها ترتيب الفضل والنقصان بادئ الرأي ، فآثر الشرع من السهام فصلين : الأول الثلثان ، والثلث ، والسدس ، والثاني النصف ، والربع ، والثمن ، فإن مخرجهما الأصلي أولا الأعداد ، ويتحقق فيهما ثلاث مراتب بين كل منها نسبة الشيء إلى ضعفه ترفعا ونصفه تنزلا ، وذلك أدنى أن يظهر فيه الفضل والنقصان محسوسا متبينا ، ثم إذا اعتبر فضل ظهرت نسب أخرى لا بد منها في الباب كالشيء الذي زيد على النصف ، فلا يبلغ التمام وهو الثلثان ، والشيء الذي ينقص عن النصف ، ولا يبلغ الربع وهو الثلث ، ولم يعتبر الخمس ، والسبع لأن تخريج مخرجهما أدق ، والترفع والتنزل فيهما يحتاج إلى تعمق في الحساب ، وقال الله تعالى :
____________________
(1/675)
! ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ) ! أقول : يضعف نصيب الذكر على الأنثى ، وهو قوله تعالى : ! ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله ) ! وللبنت المنفردة النصف لأنه إن كان ابن واحد لأحاط المال ، فمن حق البنت الواحدة أن تأخذ نصفه قضية للتضعيف ، والبنتان حكمهما حكم الثلاث بالأجماع ، وإنما أعطيتا الثلثين لأنه لو كان مع البنت ابن لوجدت الثلث ، ، فالبنت الأخرى أولى ألا ترزأ نصيبها من الثلث ، وإنما أفضل للعصبة الثلث لأن للبنات معونة وللعصبات معونة ، فلم يسقط إحداهما الأخرى ، لكن كانت الحكمة أن يفضل من في عمود النسب على من يحيط به من جوانبه ، وذلك نسبة الثلثين من الثلث ، وكذلك حال الوالدين مع البنين والبنات ، وقال الله تعالى : ! ( ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس ) ! الآية . أقول : قد علمت أن الأولاد أحق بالميراث من الوالدين ، وذلك بأن يكون لهم الثلثان ، ولهما الثلث ، وإنما لم يجعل نصيب الوالد أكثر من نصيب
____________________
(1/676)
الأم لأنه اعتبر فضله من جهة قيامه مقام الولد وذبه عنه مرة واحدة بالعصوبة ، فلا يعتبر ذلك الفضل بعينه في حق التضعيف أيضا ، وعند عدم الولد لا أحق من الوالدين ، فأحاط تمام الميراث ، وفضل الأب على الأم ، وقد علمت أن الفضل المعتبر في أكثر هذه المسائل فضل التضعيف ، ثم إن كان الميراث للأم والأخوة وهم أكثر من واحد وجب أن ينقص سهمها إلى السدس لأنه إن لم تكن الأخوة عصبة ، وكانت العصبات أبعد من ذلك فالعصوبة ، والرفق ، والمودة على السواء ، فجعل النصف لهؤلاء ، والنصف لهؤلاء ثم قسم النصف على الأم وأولادها ، فجعل السدس لها ألبتة لا ينقص سهمها منه ، والباقي لهم جميعا ، وإن كانت الأخوة عصبات فقد اجتمع فيهم القرابة القريبة والحماية ، وكثيرا ما يكون مع ذلك ورثة آخرون كالبنت والبنين والزوج فلو لم يجعل لها السدس حصل التفسيق عليهم . وقال تعالى : ! ( ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين ) ! . أقول : الزوج يأخذ الميراث لأنه ذو اليد عليها وعلى مالها ، فاخراج المال من يده يسوؤه ، ولأنه يودع منها ، ويأمنها في ذات يده حتى يتخيل أن له حقا قويا فيما في يدها أو الزوجة تأخذ حق الخدمة والمواساة والرفق ففضل الزوج على الزوجة ، وهو قوله تعالى :
____________________
(1/677)
! ( الرجال قوامون على النساء ) ! ثم اعتبر ألا يضيقا على الأولاد ، وقد علمت أن الفضل المعتبر في أكثر المسائل فضل التضعيف قال تعالى : ( وإن كان رجل يورث كللة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ) . أقول : هذه الآية في أولاد الأم للاجماع ، ولما لم يكن له والد ولا ولد جعل لحق الرفق - إذا كانت فيهم الأم - النصف ، ولحق النصرة والحماية النصف ، فان لم تكن أم جعل لهم الثلثان ، ولهؤلاء الثلث ، قال الله تعالى : ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكللة إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا أخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين ) الآية . أقول : هذه الآية في أولاد الأب بني الأعيان وبني العلات بالاجماع ، والكلالة من لا والد له ولا ولد ، وقوله ( ليس له ولد ) كشف لبعض حقيقة الكلالة ، والجملة في ذلك أنه إذا لم يوجد من يدخل في عمود النسب حمل أقرب من يشبه الأولاد وهم الأخوة والأخوات على الأولاد .
____________________
(1/678)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فهو لأولى ، رجل ذكر ' . أقول : قد علمت أن الأصل في التوارث معنيان ، وقد ذكرناهما وأن المودة ، والرفق لا يعتبر إلا في القرابة القريبة جدا كالأم والأخوة دون ما سوى ذلك ، فإذا جاوزهم الأمر تعين التوارث بمعنى القيام مقام الميت والنصرة له ، وذلك قوم الميت وأهل نسبه وشرفه الأقرب فالأقرب . قال صلى الله عليه وسلم :
' لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ' . أقول : إنما شرع ذلك ليكون طريقا إلى قطع المواساة بينهما ، فان اختلاط المسلم بالكافر يفسد عليه دينه ، وهو قوله تعالى في حكم النكاح : ! ( أولئك يدعون إلى النار ) ! وقال صلى الله عليه وسلم :
' القاتل لا يرث ' أقول إنما شرع ذلك لأن من الحوادث الكثيرة الوقوع أن يقتل الوارث مورثه ، ليحرز ماله لا سيما في أبناء العم ونحوهم ، فيجب أن تكون السنة بينهم تأييس من فعل ذلك عما أراده ، لتقطع عنهم تلك المفسدة ، وجرت السنة ألا برث العبد ، ولا يورث ، وذلك لأن ماله لسيده والسيد أجنبي . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات ' أقول وذلك لما ذكرنا من أن القيام مقام الميت مبناه على الاختصاص وحجب الأقرب والأبعد بالحرمان ، وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم في زوج وأبوين وامرأة وأبوين أن للأم ثلث الباقي ، وقد بين ابن مسعود رضي الله عنه ذلك . بما لا مزيد عليه حديث قال : ما كان الله ليريني أن أفضل أما على
____________________
(1/679)
أب ، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنت وابنة ابن وأخت لأب وأم للابنة النصف ولابنة الابن السدس وما بقي فللاخت . أقول : وذلك لأن الأبعد لا يزاحم الأقرب فيما يجوزه ، فما بقي فان الأبعد أحق به حتى يستوفى ما جعل الله لذلك النصف ، فالابنة تأخذ النصف كملا وابنة الابن في حكم البنات ، فلم تزاحم البنت الحقيقية ، واستوفت ما بقي من نصيب البنات ، ثم كانت الأخت عصبة لأن فيها معنى من القيام مقام البنت وهي من أهل شرفه . وقال عمر رضي الله عنه في زوج وأم ، وأخوة لأب وأم ، وأخوة لأم : لم يزدهم الأب إلا قربا ، وتابع عليه ابن مسعود ، وزيد ، وشريح ، رضي الله عنهم ، وخلائق ، وهذا القول أوفق الأقوال بقوانين الشرع ، وقضى للجدة بالسدس إقامة لها مقام الأم عند عدمها . وكان أبو بكر ، وعثمان ، وابن عباس رضي الله عنهم يجعلون الجد ابا ، وهو أولى الأقوال عندي . وأما الولاء فالسر فيه النصرة وحماية البيضة ، فالأحق بها مولى النعمة ، ثم بعده الذكور من قومه الأقرب فالأقرب ، والله أعلم . ( من أبواب تدبير المنزل ) اعلم أن أصول فن تدبير المنازل مسلمة عند طوائف العرب والعجم لهم اختلاف في أشباحها وصورها ، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم في العرب ، واقتضت الحكمة أن يكون طريق ظهور كلمة الله في الأرض غلبتهم على الأديان ، ونسخ عادات أولئك بعاداتهم ، ورياسة أولئك برياساتهم ، فأوجب ذلك ألا يتعين تدبير المنازل إلا في العادات للعرب ، وأن تعتبر تلك الصور والأشباح بأعيانها ، وقد ذكرنا أكثر ما يجب ذكره في مقدمة الباب في الارتفاقات وغيرها فراجع .
____________________
(1/680)
( الخطبة وما يتعلق بها ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فانه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ؛ فإنه له وجاء ' اعلم أن المني إذا كثر توالده في البدن صعد بخاره إلى الدماغ ، فحبب إليه النظر إلى المرأة الجميلة ، وشغف قلبه حبها ، ونزل قسط منه إلى الفرج ، فحصل الشبق ، واشتدت الغلمة ، وأكثر ما يكون ذلك في وقت الشباب ، وهذا حجاب عظيم من حجب الطبيعة يمنعه من الإمعان في الإحسان ، ويهيجه إلى الزنا ، ويفسد عليه الأخلاق ، ويوقعه في مهالك عظيمة من فساد ذات البين ، فوجب إماطة هذا الحجاب ، فمن استطاع الجماع ، وقدر عليه بأن تيسرت له امرأة على ما تأمر به الحكمة ، وقدر على نفقتها فلا أحسن له من أن يتزوج ، فان التزوج أغض للبصر وأحصن للفرج من حيث إنه سبب لكثر استفراغ المني ، ومن لم يستطع ذلك فعليه بالصوم ، فان سرد الصوم له من خاصية في كسر سورة الطبيعة ، وكبحها عن غلوائها ؛ لما فيه من تقليل مادتها ، فيتغير به كل خلق فاسد نشأ من كثرة الاختلاط . ورد صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مطعون التبتل ، فقال : ' أما والله إني لأخشاكم لله ، وأتقاكم له ، لكني أصوم ، وأفطر ، وأصلي ، وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ' . اعلم أنه كانت المانوية والمترهبة من النصارى يتقربون إلى الله بترك
____________________
(1/681)
النكاح ، وهذا باطل ، لأن طريقة الأنبياء عليهم السلام التي ارتضاها الله للناس هي إصلاح الطبيعة ودفع اعوجاجها ، لا سلخها عن مقتضياتها ، وقد ذكرنا ذلك مستوعبا ، فراجع ، ثم لا بد من الإرشاد إلى المرأة التي يكون نكاحها موافقا للحكمة موفرا عليه مقاصد تدبير المنزل ؛ لأن الصحبة بين الزوجين لازمة ، والحاجات من الجانبين متأكدة ، فلو كان لها جبلة سوء ، وفي خلقها وعادتها فظاظة ، وفي لسانها بذاء - ضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وانقلبت عليه المصلحة مفسدة ، ولو كانت صالحة صلح المنزل كل الصلاح ، وتهيأ له أسباب الخير من كل جانب ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' الدنيا متاع ، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة ' ، قال صلى الله عليه وسلم : ' تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك ' واعلم أن المقاصد التي يقصدها الناس في اختيار المرأة أربع خصال غالبا : تنكح لمالها بأن يرغب في المال ، ويرجو مواساتها معه في مالها ، أو يكون أولاده أغنياء لما يجدون من قبل أمهم ، ولحسبها يعنى مفاخر آباء المرأة فان التزوج في الأشراف شرف وجاه ، ولجمالها فإن الطبيعة البشرية راغبة في الجمال ، وكثير من الناس تغلب عليهم الطبيعة ، ولدينها أي لعفتها عن المعاصي وبعدها عن الريب وتقربها إلى بارئها بالطاعات . . . فالمال ، والجاه مقصد من غلب عليه حجاب الرسم . . . ؛ والجمال ، وما يشبهه من الشباب مقصد من غلب عليه حجاب الطبيعة . . . ، والدين مقصد من تهذب بالفطرة ، فأحب أن تعاونه امرأته في دينه ورغب في صحبة أهل الخير . قال صلى الله عليه وسلم :
' خير نساء ركبن الإبل نساء قريش ، أحناه على ولد في صغره ، وأرعاه على زوج في ذات يده ' أقول : يستحب أن تكون المرأة من كورة وقبلة عادات نسائها صالحه ' فإن الناس معادن
____________________
(1/682)
كمعادن الذهب والفضة وعادات القوم ورسومهم غالبة على الإنسان ، وبمنزلة الأمر المجبول هو عليه ، وبين أن نساء قريش خير النساء من جهة أنهن أحنى إنسان على الولد في صغره ، وأرعاه على الزوج في ماله ورقيقه ، ونحو ذلك ، وهذان من أعظم مقاصد النكاح ، وبهما انتظام تدبير المنزل ، وإن أنت فتشت حال الناس اليوم في بلادنا ما وراء النهر وغيرها لم تجد أرسخ قدما في الأخلاق الصالحة ولا أشد لزوما لها من نساء قريش . وقال صلى الله عليه وسلم :
' تزوجوا الولود الودود ، فإني مكاثر بكم الأمم ' . أقول : تواد الزوجين به تتم المصلحة المنزلية ، وكثرة النسل بها تتم المصلحة المدنية والملية ، وود المرأة لزوجها دال على صحة مزاجها ، وقوة طبيعتها مانع لها من أن يطمح بصرها إلى غيره ، باعث على تجملها بالامتشاط وغير ذلك ، وفيه تحصين فرجه ونظره . قال صلى الله عليه وسلم :
' إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ' أقول . ليس في هذا الحديث أن الكفاءة غير معتبرة ، كيف وهي مما جبل عليه طوائف الناس ، وكاد يكون القدح فيها اشد من القتل ، والناس على مراتبهم والشرائع لا تهمل مثل ذلك ولذلك قال عمر رضي الله عنه : لأمنعن النساء إلا من أكفائهن ، ولكنه أراد ألا يتبع أحد محقرات الأمور نحو قلة المال ورثاثة الحال ودمامة الجمال ، أو يكون ابن أم ولد ونحو ذلك من الأسباب بعد أن يرضى دينه وخلقه ، فإن اعظم مقاصد تدبير المنزل الاصطحاب
____________________
(1/683)
في خلق حسن ، وأن يكون ذلك الاصطحاب سببا لصلاح الدين . قال صلى الله عليه وسلم :
' الشؤم في المرأة والدار والفرس ' أقول : التفسير الصحيح الذي يوجبه مورد الحديث أن هنالك سببا خفيا غالبيا يكون به أكثر من يتزوج المرأة مثلا محارفا غير مبارك ، ويستحب للرجل إذا دلت التجربة على شؤم امرأة أن يريح نفسه بترك تزوجها إن كانت جميلة أو ذات مال . والحكمة تحكم بايثار البكر بعد أن تكون عاقلة بالغة ، فإنها أرضى باليسير لقلة خبابتها ، وانتق رحما لقوة شبابها وأقرب للتأدب بما تأمر به الحكمة ويلزم عليها ، وأحصن للفرج والنظر بخلاف الثيبات فأنهن أهل خبابة وصعوبة الأخلاق وقلة الأولاد وهن كالألواح المنقوشة لا يكاد يؤثر فيهن التأديب اللهم إلا إذا كان تدبير المنزل لا ينتظم إلا بذات التجربة كما ذكره جابر بن عبد الله رضي الله عنهما . قال صلى الله عليه وسلم :
' إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل ' وقال : ' فإنه أحرى أن يؤدم بينكما ' وقال ' هل رأيتها فإن في أعين الأنصار شيئا ' أقول : السبب في استحباب النظر إلى المخطوبة أن يكون التزوج على روية ، وأن يكون أبعد من الندم الذي يلزمه إن اقتحم في النكاح ولم يوافقه فلم يرده ، وأسهل للتلافي إن رد ، وأن يكون تزوجها على شوق ونشاط إن وافقه ، والرجل الحكيم لا يلح مولجا حتى يتبين خيره وشره قبل ولوجه . وقال صلى الله عليه وسلم
' إن المرأة تقبل في صورة شيطان ، وتدبر
____________________
(1/684)
في صورة شيطان إذا أحدكم أعجبته امرأة ، فوقعت في قلبه فليعمد إلى امرأته ، فليواقعها ؛ فإن ذلك يرد ما في نفسه ' . اعلم أن شهوة الفرج أعظم الشهوات وأرهقها للقلب موقعة في مهالك كثيرة ، والنظر إلى النساء يهيجها ، وهو قوله عليه السلام :
' المرأة تقبل في صورة شيطان ' الخ فمن نظر إلى امرأة ، ووقعت في قلبه ، واشتاق إليها وتوله لها فالحكمة ألا يهمل ذلك ، فإنه يزداد حينا فحينا في قلبه حتى يملكه ، ويتصرف فيه ، ولكل شيء مدد يتقوى به ، وتدبير ينتقص به ، فمدد التوله للنساء امتلأ أوعية المني به وصعود بخاره إلى الدماغ ، وتدبير انتقاصه استفراغ تلك الأوعية ، وأيضا فإن الجماع يشغل قلبه ، ويسلبه عما يجده ، ويصرف قلبه عما هو متوجه إليه ، والشيء إذا عولج قبل تمكنه زال بأدنى سعى . قال صلى الله عليه وسلم :
' لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح ، أو يترك ' . أقول : سبب ذلك أن الرجل إذا خطب امرأة ، وركنت إليه ظهر وجه لصلاح منزله ، فيكون تأييسه عما هو لسبيله وتخبيته عما يتوقعه إساءة معه وظلما عليه وتضييقا به . وقال صلى الله عليه وسلم :
' لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ، ولتنكح فإن لها ما قدر لها ' أقول السرفية أن طلب طلاقها اقتضاب عليها وسعى في إبطال معيشتها ، ومن أعظم أسباب فساد المدينة أن يقتضب واحد على الآخر وجه معيشته ، وإنما المرضى عند الله أن يطلب كل واحد معيشته بما يسر الله له من غير أن يسعى في إزالة معيشة الآخر .
____________________
(1/685)
( ذكر العورات ) اعلم أنه لما كان الرجال يهيجهم النظر إلى النساء على عشقهن والتوله بهن ، ويفعل بالنساء مثل ذلك ، وكان كثيرا ما يكون ذلك سببا لأن يبتغي قضاء الشهوة منهن على غير السنة الراشدة ، كإتباع من هي في عصمة غيره ، أو بلا نكاح ، أو غير اعتبار كفاءة - والذي شوهد في هذا الباب يغني عما سطر في الدفاتر - اقتضت الحكمة أن يسد هذا الباب ، ولما كانت الحاجات متنازعة محوجة إلى المخالطة وجب أن يجعل ذلك على مراتب بحسب الحاجات فشرع النبي صلى الله عليه وسلم وجوها من السنن . أحدها ألا تخرج المرأة من بيتها إلا لحاجة لا تجد منها بدا . قال صلى الله عليه وسلم : '
المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان ' . أقول : معناه استشرف حزبه ، أو هو كناية عن تهيئ أسباب الفتنة ، وقال الله تعالى : ! ( وقرن في بيوتكن ) ! وكان عمر رضي الله عنه - لما أوتي من علم أسرار الدين - حريصا على أن ينزل هذا الحجاب حتى نادى : يا سودة إنك لا تخفين علينا لكنه صلى الله عليه وسلم رأى أن سد هذا الباب بالكلية حرج عظيم فندب إلى ذلك من غير إيجاب ، وقال : ( أذن لكن أن تخرجن إلى حوائجكن ) الثاني أن تلقي عليها جلبابها ، ولا تظهر مواضع الزينة منها إلا لزوجها أو لذي رحم محرم ، قال تعالى : ( وقل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون )
____________________
(1/686)
! ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن ) ! إلى قوله : ( تفلحون ) فرخص فيما يقع به المعرفة من الوجه ، وفيما يقع به البطش في غالب الأمر وهو اليدان ، وأوجب ستر ما سوى ذلك إلا من بعولتهن والمحارم وما ملكت أيمانهن من العبيد ، ورخص للقواعد من النساء أن يضعن ثيابهن . الثالث ألا يخلو رجل مع امرأة في بيت ليس معهما من يهابانه ، قال صلى الله عليه وسلم :
' ألا لا يبيتن رجل عند امرأة ثيب إلا أن يكون ناكحا أو ذا رحم ' ، وقال صلى الله عليه وسلم :
' لا يخلون رجل بامرأة فان الشيطان ثالثهما ' . قال صلى الله عليه وسلم :
' لا تجلوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ' . الرابع ألا ينظر أحد امرأة كان أو رجلا إلى عورة الآخر امرأة كان أو رجلا إلا الزوجان ، قال صلى الله عليه وسلم :
' لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ' . أقول : ذلك لأن النظر إلى العورة يهيج الشهوة ، والنساء ربما يتعاشقن
____________________
(1/687)
فيما بينهن ، وكذلك الرجال فيما بينهم ، ولا حرج في ترك النظر إلى السوءة ، وأيضا فستر العورة من أصول الارتفاقات لا بد منها . الخامس أن لا يكامع أحد أحدا في ثوب واحد ، وفي معناه أن يبيتا على سرير واحد مثلا ، قال صلى الله عليه وسلم :
' لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد ' . وقال صلى الله عليه وسلم :
' لا تباشر المرأة المرأة لتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها ' أقول : السبب أنه أشد شيء في تهيج الشهوة والرغبة ، ويورث شهوة السحاق واللواطة ، وقوله : كأنه ينظر إليها معناه أن مباشرة المرأة ربما كانت سببا لاضمار حبها ، فيجري على لسانها ذكر ما وجدت فيه من اللذة عند زوجها أو ذي رحم منها ، فيكون سببا لتولههم ، وأعم المفاسد أن تنعت امرأة عبد رجل ليس زوجا لها ، وهو سبب إخراج هيت المخنث من البيوت . واعلم أن ستر العورة أعني الأعضاء التي يحصل العار بانكشافها بين الناس في العادات المتوسطة كالتي كانت في قريش مثلا يومئذ - من أصل الارتفاقات المسلمة عند كل من يسمى بشرا ، وهو مما امتاز به الإنسان من سائر أنواع الحيوانات ، فلذلك أوجبه الشرع ، والسوأتان ، والخصيتان ، والعانة ، وما وليها من أصول الفخذين من أجلى بديهيات الدين أنها من العورة ، لا حاجة إلى الاستدلال في ذلك ، ودل قوله صلى الله عليه وسلم :
' إذا زوج
____________________
(1/688)
أحدكم عبده أمته فلا ينظر إلى ، عورتها ' وفي رواية ' فلا ينظر إلى مادون السرة وفوق الركبة ' ، وقوله عليه السلام : ' أما علمت أن الفخذ عورة ' على أن الفخذين عورة ، وقد تعارضت الأحاديث في المسألة لكن الأخذ بهذا أحوط وأقرب من قوانين الشرع . وقال صلى الله عليه وسلم
' إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله فاستحيوهم وأكرموهم ' وقال : ' فالله أحق أن تستحيا منه ' أقول : التعري لا يجوز إن كان خاليا إلا عند ضرورة لا تجد منها بدا ؛ فإنه كثيرا ما يهجم الإنسان عليه ، والأعمال إنما تعتبر بالأخلاق التي تنشأ منها ، ومنشأ الستر الحياء ، وأن يغلب على النفس هيئة التحفظ والتقيد ، وأن يترك الوقاحة ، وألا يسترسل ، وإذا أمر الشارع أحدا بشيء اقتضى ذلك أن يؤمر الآخر أن يفعل معه حسب ذلك ، فلما أمرت النساء بالتستر وجب أن يرغب الرجال في غض البصر ، وأيضا فإن فتهذيب نفوس الرجال لا يتحقق إلا بغض الأبصار ومؤاخذة أنفسهم بذلك . . . قال صلى الله عليه وسلم :
' الأولى لك وليست لك الآخرة ' . أقول : يشير أن حالة البقاء بمنزلة الإنشاء ، وحين دخل أعمى ، وقيل : ' أليس هو أعمى لا يبصرنا ؟ قال صلى الله عليه وسلم : أفعميان أنتما ألستما تبصرانه ' أقول : السر في ذلك أن النساء يرغبن في الرجال كما يرغب الرجال فيهن .
____________________
(1/689)
وقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها :
' إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك ' أقول : إنما كان العبد بمنزلة المحارم لأنه لا رغبة له في سيدته لجلالتها في عنيه ، ولا لسيدته فيه لحقارته عندها ، ويعسر التستر بينهما ، وهذه الصفات كلها معتبرة في المحارم فان القرابة القريبة المحرمة مظنة قلة الرغبة ، واليأس أحد أسباب قطع الطمع ، وطول الصحبة يكون سبب قلة النشاط وعسر التستر وعدم الالتفات ، فلذلك جرت السنة أن الستر عن المحارم دون الستر عن غيرهم : ( صفة النكاح ) قال صلى الله عليه وسلم :
لا نكاح إلا بولي ' اعلم أنه لا يجوز أن يحكم في النكاح النساء خاصة لنقصان عقلهن وسوء فكرهن ، فكثيرا ما لا يهتدين المصلحة ، ولعدم حماية الحسب منهن غالبا ، فربما رغبن في غير الكفء وفي ذلك عار على قومها ، فوجب أن يجعل للأولياء شيء من هذا الباب لتسد المفسدة ، وأيضا فإن السنة الفاشية في الناس من قبل ضروره جبلية أن يكونوا الرجال قوامين على النساء ، ويكون بيدهم الحل والعقد وعليهم النفقات وإنما النساء عوان بأيديهم ، وهو قوله تعالى : ! ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم ) ! . الآية ، وفي اشتراط الولي في النكاح تنويه أمرهم ، واستبداد النساء بالنكاح وقاحة منهن ، منشؤها قلة الحياء واقتضاب على الأولياء وعدم اكتراث لهم ، وأيضا يجب أن يميز النكاح من السفاح بالتشهير ، وأحق التشهير أن يحضره أولياؤها . وقال صلى الله عليه وسلم :
' لا تنكح الثيب حتى تستأمر ، ولا البكر حتى تستأذن ، وإذنها الصموت ' وفي رواية ' البكر يستأذنها أبوها ' أقول :
____________________
(1/690)
لا يجوز أيضا أن يحكم الأولياء فقط لأنهم لا يعرفون ما تعرف المرأة من نفسها ولأن حار العقد وقاره راجعان إليها ، والاستثمار طلب أن تكون هي الآمره صريحا ، والاستئذان طلب أن تأذن ، ولا تمنع ، وأدناه السكوت ، وإنما المراد استئذان البكر البالغة دون الصغيرة كيف ولا رأي لها ، وقد زوج أبو بكر الصديق رضي الله عنه عائشة رضي الله عنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست سنين . قال صلى الله عليه وسلم :
' إيما عبد تزوج بغير إذن سيده فهو عاهر ' أقول : لما كان العبد مشغولا بخدمة مولاه ، والنكاح وما يتفرع عليه من المواساة معها والتخلي بها ربما ينقص من خدمته وحب أن تكون السنة أن يتوقف نكاح العبد على إذن مولاه ، وأما حال الأمة فأولى أن يتوقف نكاحها على إذن مولاها ، وهو قوله تعالى : ! ( فانكحوهن بإذن أهلهن ) ! . قال ابن مسعود رضي الله عنه : علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في الحاجة أن الحمد لله ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلله فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ويقرأ ثلاث آيات . ! ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ! .
____________________
(1/691)
! ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) ! . ! ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ) ! . أقول كان أهل الجاهلية يخطبون قبل العقد بما يرونه من ذكر ومفاخر قومهم ونحو ذلك يتوسلون بذلك إلى ذكر المقصود والتنويه به ، وكان جريان الرسم بذلك مصلحة ، فإن الخطبة مبناها على التشهير وجعل الشيء بمسمع ومرآى من الجمهور ، والتشهير بما يراد وجوده في النكاح ليتميز من السفاح ، وأيضا فالخطبة لا تستعمل إلا في الأمور المهمة ، والاهتمام بالنكاح وجعله أمرا عظيما بينهم من أعظم المقاصد ، فأبقى النبي صلى الله عليه وسلم أصلها ، وغير وصفها ، وذلك أنه ضم مع هذه المصالح مصلحة ملية ، وهي أنه ينبغي أن يضم مع كل ارتفاق ذكر مناسب له ، وينوه في كل محل بشعائر الله ، ليكون الدين الحق منشورا أعلامه وراياتة ، ظاهرا شعاره وأماراته ، فسن فيها أنواعا من الذكر كالحمد ، والاستعانة ، والاستغفار ، والتعوذ ، والتوكل ، والتشهد ، وآيات من القرآن ، وأشار إلى هذه المصلحة بقوله : ' كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء ' وقوله :
' كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم ' وقال صلى الله عليه وسلم : ' فصل ما بين الحلال والحرام الصوت
____________________
(1/692)
والدف في النكاح ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه الدفوف ' . أقول : كانوا يستعملون الدف والصوت في النكاح ، وكانت تلك عادة فاشية فيهم لا يكادون يتركونها في النكاح الصحيح الذي أبقاه النبي صلى الله عليه وسلم من الأنكحة الأربعة على ما بينته عائشة رضي الله عنها ، وفي ذلك مصلحة وهي أن النكاح والسفاح لما اتفقا في قضاء الشهوة ورضا الرجل والمرأة وجب أن يؤمر بشيء يتحقق به الفرق بينهما بادى الرأي بحيث لا يبقى لأحد فيه كلام ولا خفاء ، وكان صلى الله عليه وسلم قد رخص في المتعة أياما ، ثم نهى عنها ، أما الترخيص أولا فلمكان حاجة تدعو إليه كما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما فيمن يقدم بلدة ليس بها أهله ، وأشار ابن عباس رضي الله عنهما أنها لم تكن يومئذ استئجارا على مجرد البضع ، بل كان ذلك مغمورا في ضمن حاجات من باب تدبير المنزل ، كيف والاستئجار على مجرد البضع انسلاخ عن الطبيعة الإنسانية ، ووقاحة يمجها الباطن السليم وأما النهي عنها فلارتفاع تلك الحاجة في غالب الأوقات ، وأيضا ففي جريان الرسم به اختلاط الأنساب لأنها عند انقضاء تلك المدة تخرج من حيزه ، ويكون الأمر بيدها ، فلا يدري ماذا تصنع ، وضبط العدة في النكاح الصحيح الذي بناؤه على التأييد في غاية العسر فما ظنك في بالمتعة وإهمال النكاح الصحيح المعتبر في الشرع ؟ فان أكثر الراغبين في النكاح إنما غالب داعيتهم قضاء
____________________
(1/693)
شهوة الفرج وأيضا فان من الأمر الذي يتميز به النكاح من السفاح التوطين على المعاونة الدائمة وإن كان الأصل فيه قطع المنازعة فيها على أعين الناس . وكانوا لا يناكحون إلا بصدق لأمور بعثتهم على ذلك ، وكان فيه مصالح منها أن النكاح لا تتم فائدته إلا بأن يوطن كل واحد نفسه على المعاونة الدائمة ، ويتحقق ذلك من جانب المرأة بزوال أمرها من يدها ، ولا جائز أن يشرع زوال أمره أيضا من يده وإلا انسد باب الطلاق ، وكان أسيرا في يدها كما أنها عانية بيده وكان الأصل أن يكونوا قوامين على النساء ، ولا جائز أن يجعل أمرهما إلى القضاء . فان مراجعة القضية إليهم فيها حرج وهم لا يعرفون ما يعرف هو من خاصة أمره ، فتعين أن يكون بين عينيه خسارة مال إن أراد فك النظم لئلا يجترئ على ذلك إلا عند حاجة لا يجد منها بدا ، فكان هذا نوعا من التوطين . وأيضا لا يظهر الاهتمام بالنكاح إلا بمال يكون عوض البضع ، فإن الناس لما تشاحوا بالأموال شحا لم يتشاحوا به في غيرها كان الاهتمام لا يتم إلا ببذلها ، وبالاهتمام تقر أعين الأولياء حين يتملك هو فلذة أكبادهم وبه يتحقق التمييز بين النكاح والسفاح ، وهو قوله تعالى : ! ( أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين ) ! . فلذلك أبقى النبي صلى الله عليه وسلم وجوب المهر كما كان ، ولم يضبطه للنبي صلى الله عليه وسلم بحد لا يزيد ولا ينقص ، إذ العادات في إظهار الاهتمام مختلفة ، والرغبات لها مراتب شتى ، ولهم في المشاحة طبقات ، فلا يمكن تحديده عليهم كما لا يمكن أن يضبط ثمن الأشياء المرغوبة بحد مخصوص ، ولذلك قال : التمس ولو خاتما من حديد ' وقال صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/694)
: ' من أعطى في صداق امرأته ملء كفه سويقا أو تمرا فقد استحل ' غير أنه سن في صداق أزواجه وبناته ثنتي عشرة أوقيات ونشا ، وقال عمر رضي الله عنه : لا تغالوا في صدقات النساء فإنها إن كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها نبي الله صلى الله عليه وسلم الحديث . أقول : والسر فيما سن أنه ينبغي أن يكون المهر مما يتشاح به ، ويكون له بال ينبغي ألا يكون مما يتعذر أداؤه عادة بحسب ما عليه قومه ، وهذا القدر نصاب صالح حسبما كان عليه الناس في زمانه صلى الله عليه وسلم ، وكذلك أكثر الناس بعده اللهم إلا ناس أغنياؤهم بمنزلة الملوك على الأسرة وكان أهل الجاهلية يظلمون النساء في صدقاتهن بمطل أو نقص فأنزل الله تعالى : ! ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم ) ! الآية . وقال الله تعالى : ! ( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ) ! . الآية أقول : الأصل في ذلك أن النكاح سبب الملك والدخول بها أثره ، والشيء إنما يراد به أثره ، وإنما يترتب الحكم على سببه فلذلك كان من حقهما أن يوزع الصداق عليهما ، وبالموت يتقرر الأمر ، ويثبت حيث لم يرده حتى مات ، وما انخنس عنه حتى حال بينه وبينه الموت ، وبالطلاق يرتفع الأمر ، وينفسخ ، وهو شبه الرد والإقالة ، إذا تمهد هذا فنقول :
____________________
(1/695)
كانت في الجاهلية مناقشات في باب المهر ، وكانوا يتشاحون بالمال ، ويحتجون بأمور ، فقضى الله تعالى فيها بالحكم العدل على هذا الأصل ، فإن سمى لها شيئا ، ودخل بها فلها المهر كاملا سواء مات عنها أو طلقها لأنه قد تم له سبب الملك وأثره ، وأفضى الزوج إليها وهو قوله تعالى : ! ( وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ) ! . وإن سمى لها ، ولم يدخل بها ، ومات عنها فلها المهر كاملا ، لأنه بالموت تقرر الأمر وعدم الدخول غير ضار والحالة هذه لأنه بسبب سماوي ، فان طلقها فلها نصف المهر على هذه الآية ، لتحقق أحد الأمرين دون الآخر ، فحصل شبهان : شبه بالخطبة من غير نكاح ، وشبه بالنكاح التام ، وإن لم يسم لها شيئا ودخل بها فلها مثل صداق نسائها ، لا وكس ، ولا شطط ، وعليها العدة ، ولها الميراث ، لأنه تم لها العقد بسببه وأثره ، فوجب أن يكون لها مهر ، وإنما يقدر الشيء بنظيره وشبهه ، وصداق نسائها أقرب ما يقدر به في ذلك ، وإن لم يسم لها شيئا ، ولم يدخل بها فلها المتعة لأنه لا يجوز أن يكون عقد نكاح خاليا عن المال ، وهو قوله تعالى : ! ( أن تبتغوا بأموالكم ) ! . ولا سبيل إلى إيجاب المهر لعدم تقرر الملك ولا التسمية ، فقدر دون ذلك بالمتعة ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم مرة سورا من القرآن مهرا ، لأن تعليمها أمر ذو بال يرغب فيه ، ويطلب كما ترغب وتطلب الأموال ، فجاز أن يقوم مقامها ، وكان الناس يعتادون الوليمة قبل الدخول بها ، وفي ذلك مصالح كثيرة .
____________________
(1/696)
منها التلطف بإشاعة النكاح ، وأنه على شرف الدخول بها إذ لا بد من الإشاعة لئلا يبقى محل لوهم الواهم في النسب ؛ وليتميز النكاح عن السفاح بادى الرأي ، ويتحقق اختصاصه بها على أعين الناس . ومنها شكره ما أولاه الله تعالى من انتظام تدبير المنزل بما يصرفه الآيه عباده ، وينفعهم به . ومنها البر بالمرأة وقومها فإن صرف المال لها ، وجمع الناس في أمرها يدل على كراماتها عليه وكونها ذات بال عنده ، ومثل هذه الأمور لا بد منها في إقامة التأليف فيما بين أهل المنزل لا سيما في أول اجتماعهم . ومنها : أن تجدد النعمة حيث ملك ما لم يكن مالكا له يورث الفرح والنشاط والسرور ، ويهيج على صرف المال ، وفي اتباع تلك الداعية التمرن على السخاوة ، وعصيان داعية الشح إلى غير ذلك من الفوائد والمصالح فلما كان فيها جملة صالحة من فوائد السياسة المدنية والمنزلية وتهذيب النفس والاحسان وجب أن ، يبقيها النبي صلى الله عليه وسلم ، ويرغب فيها ، ويحث عليها ، ويعمل هو بها ، ولم يضبطه النبي صلى الله عليه وسلم بحد بمثل ما ذكرنا في المهر ، والحد الوسط الشاة ، لم صلى الله عليه وسلم على صفية رضي الله عنها بحيس وأولم على بعض نسائه بمدين من شعير . قال : ' إذا دعى أحدكم إلى الوليمة فليأتها ' وفي رواية ' فإن شاء طعم وإن شاء ترك ' أقول : لما كان من الأصول التشريعية أنه إذا أمر واحد أن يصنع بالناس شيئا لمصلحة فمن موجب ذلك أن يحث الناس على أن ينقادوا له فيما يريد ، ويتمثلوا له ، ويطاوعوه ، وإلا لما تحققت المصلحة المقصودة بالأمر ، فلما أمر هذا أن يشيع أمر النكاح بوليمة تصنع للناس وجب أن يؤمر أولئك أن يجيبوه إلى طعامه ، فإن كان صائما ولم يطعم
____________________
(1/697)
فلا بأس بذلك فإنه حصلت الإشاعة المقصودة ، وأيضا فمن الصلة أن يجيبه إذا دعى ، وفي جريان السنة بذلك انتظام أمر المدينة والحي . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إنه ليس لي أو لنبي أن يدخل بيتا مزوقا ' أقول : لما كانت الصور يحرم صنعها ، ويحرم استعمال الثوب المصنوعة هي فيه كان من مقتضى ذلك أن يهجر البيت الذي فيه تلك الصورة ، وأن تقام اللأئمة في ذلك لا سيما للأنبياء عليهم السلام ، فإنهم بعثوا أمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ، وأيضا فلما كان استحباب التجمل البالغ سببا لشدة خوضهم في طلب الدنيا - وقد وقع ذلك في الأعاجم حتى أنساهم ذكر الآخرة - وجب أن يكون في الشرع ناهية عن ذلك وإظهار نفرة عنه . ونهى صلى الله عليه وسلم عن طعام المتبارين أن يؤكل . أقول : كان أهل الجاهلية يتفاخرون يريد كل واحد أن يغلب الآخر ، فيصرف المال لذلك الغرض دون سائر النيات ، وفيه الحقد وفساد ذات البين وإضاعة المال من غير مصلحة دينية أو مدنية ، وإنما هو اتباع داعيه نفسانية ، فلذلك وجب أن يهجر أمره ، ويهان ، ويسد هذا الباب ، وأحسن ما ينهى به ألا يؤكل طعامه . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إذا اجتمع داعيان فأجب أقربهما بابا ، وإن سبق أحدهما فأجب الذي سبق ' . أقول : لما تعارضا طلب الترجيح وذلك بالسبق أو بقربه . ( المحرمات ) الأصل فيها قوله تعالى : ( ولا تنكحوا ما نكح آبائكم )
____________________
(1/698)
إلى قوله : ! ( والله غفور رحيم ) ! . وقوله صلى الله عليه وسلم :
' أمسك أربعا وفارق سائرهن ' وقوله صلى الله عليه وسلم :
' لا تنكح المرأة على عمتها ' الحديث ، وقوله تعالى : ! ( الزاني لا ينكح إلا زانية ) ! . الآية اعلم أن تحريم المحرمات المذكورة في هذه الآيات كان أمرا شائعا في أهل الجاهلية مسلما عندهم ، لا يكادون يتركونه ، اللهم إلا أشياء يسيرة كانوا ابتدعوها من عند أنفسهم بغيا وعدوانا كنكاح ما نكح آباؤهم والجمع بين الأختين ، وكانوا توارثوا تحريمها طبقة عن طبقة حتى صار لا يخرج من قلوبهم إلا أن تمزع وكان في تحريمها مصالح جليلة ، فأبقى الله تعالى عز وجل أمر المحرمات على ما كان ، وسجل عليهم فيما كانوا تهاونوا فيه . والأصل في التحريم أمور : منها جريان العادة بالاصطحاب والارتباط وعدم إمكان لزوم الستر فيما بينهم وارتباط الحاجات من الجانبين على الوجه الطبيعي دون الصناعي فإنه لو لم تجر السنة بقطع الطمع عنهن والإعراض عن الرغبة فيهن لهاحت مفاسد لا تحصى وأنت ترى الرجل يقع بصره على محاسن امرأة أجنبية ، فيتوله بها ، ويقتحم في المهالك لأجلها ، فما ظنك فيمن يخلو معها ، وينظر إلى محاسنها ليلا ونهارا ؟ وأيضا لو فتح باب الرغبة فيهن ولم يسد ، ولم تقم اللائمة عليهم فيه أفضى ذلك إلى ضرر عظيم عليهن ، فإنه سبب عضهن إياهن
____________________
(1/699)
عمن يرغبن فيه لأنفسهم ، فإنه بيدهم أمرهن ، وإليهم إنكاحهن أولا يكون لهن أن نكحوهن من يطالبهم عنهن حقوق الزوجية مع شدة احتياجهن إلى من يخاصم عنهن . ونظيره ما وقع في اليتامى كان الأولياء يرغبون في مالهن وجمالهن ولا يوفون حقوق الزوجية فنزل : ! ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) ! . الآية بينت ذلك عائشة رضي الله عنها وهذا الارتباط على الوجه الطبيعي واقع بين الرجال ، والأمهات ، والبنات ، والأخوات ، والعمات ، والخالات ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت . ومنها الرضاعة فإن التي أرضعت تشبه الأم من حيث إنها سبب اجتماع أمشاج بنيته وقيام هيكله ، غير أن الأم جمعت خلقته في بطنها ، وهذه درت عليه سد رمقه في أول نشأته ، فهي أم بعد الأم وأولادها أخوة بعد الأخوة . وقد قاست في حضانته ما قاست ، وقد ثبت في ذمته من حقوقها ما ثبت ، وقد رأت في صغره ما رأت ، فيكون تملكها والوثوب عليها ما تمجه الفطرة السليمة ، وكم من بهيمة عجماء لا تلتفت إلى أمها أو مرضعتها هذه اللفتة فما ظنك بالرجال ؟ وأيضا فإن العرب كانوا يسترضعون أولادهم في حي من الأحياء ، فيشب فيهم الوليد ، ويخالطهم كمخالطة المحارم ، ويكون عندهم للرضاعة لحمة كلحمة النسب ، فوجب أن يحمل على النسب ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ' . ولما كان الرضاع إنما صار سببا للتحريم لمعنى المشابهة بالأم في كونها سببا لقيام بنية المولود وتركيب هيكله وجب أن يعتبر في الأرضاع شيآن :
____________________
(1/700)
أحدهما القدر الذي يتحقق به هذا المعنى ، فكان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات ( يحر - من - ، ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ في القرآن . أما التقدير فلأنه لما كان المعنى موجودا في الكثير دون القليل وجب عند التشريع أن يضرب بينهما حد يرجع إليه عند الاشتباه ، وأما التقدير بعشر فلأن العشر أول حد مجاوزة العدد من الآحاد وتدربه في العشرات ، وأول حد يستعمل فيه جمع الكثرة ولا يستعمل فيه جمع القلة ، فكان نصابا صالحا لضبط الكثرة المعتد بها المؤثرة في بدن الإنسان أما النسخ بخمس فللاحتياط لأن الطفل إذا أرضع خمس رضعات غزيرات يظهر الرونق والنضارة على وجهه وبدنه ، وإذا أصابه عوز اللبن في هذه الرضعات وكانت المرضع غير ذات در ظهر على بدنه القحول والهزال وهذه آية أنها سبب التنمية وقيام الهيكل وما دون ذلك لا يظهر أثره . قال صلى الله عليه وسلم : ' لا تحرم الرضعة والرضعتان ، ولا تحرم المصة والمصتان ، لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان ' وأما على قول من قال يحرم الكثير والقليل فالسبب تعظيم أمر الرضاع وجعله كالمؤثر بالخاصية كسنة الله تعالى في سائر ما لا يدرك مناط حكمه . والثاني أن يكون الرضاع في أول قيام الهيكل وتشبح صورة الولد ، وإلا فهو غذاء بمنزلة سائر الأغذية الكائنة بعد التشبح وقيام الهيكل كالشاب يأكل الخبز ، قال صلى الله عليه وسلم :
' إن الرضاعة من المجاعة ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي ، وكان قبل الفطام ' .
____________________
(1/701)
ومنها الاحتراز عن قطع الرحم بين الأقارب ؛ فإن الضرتين تتحاسدان ، وينجر البعض إلى أقرب الناس منهما ، والحسد بين الأقارب أخنع وأشنع ، وقد كره جماعان من السلف ابنتي عم لذلك ، فما ظنك بامرأتين أيهما فرض ذكرا حرمت عليه الأخرى كالأختين ، والمرأة ، وعمتها ، والمرأة ، وخالتها ، وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأصل في تحريم الجمع بين بنت النبي صلى الله عليه وسلم وبنت غيره ؛ فإن الحسد من الضره واستئثارها من الزوج كثيرا ما ينجران إلى بغضها وبغض أهلها ، وبغض النبي صلى الله عليه وسلم ولو بحسب الأمور المعاشية يفضي إلى الكفر ، والأصل في هذا الأختان ، ونبه النبي صلى الله عليه وسلم بقولة : ' لا يجمع بين المرأة وعمتها ' الحديث على وجه المسألة . ومنها المصاهرة فإنه لو جرت السنة رغبة بين الناس أن يكون للأم رغبة في زوج بنتها وللرجال في حلائل الأبناء وبنات نسائهم لأفضى إلى السعي في فك ذلك الربط أو قتل من يشح به ، وإن أنت تسمعت إلى قصص قدماء الفارسيين واستقرأت حال أهل زمانك من الذين لم يتقيدوا بهذه السنة الراشدة وجدت أمروا عظاما ومهالك ومظالم لا تحصى ، وأيضا فإن الاصطحاب في هذه القرابة لازم ، والستر متعذر ، والتحاسد شنيع ، والحاجات من الجانبين متنازعة ، فكان أمرها بمنزلة الأمهات والبنات أو بمنزلة الأختين . ومنها العدد الذي لا يمكن الإحسان إليه من العشرة الزوجية فإن الناس كثيرا ما يرغبون في جمال النساء ، ويتزوجون منهن ذوات عدد ، ويستأثرون منها حظية ، ويتركون الأخر كالمعلقة ، فلا هي مزوجة حظية تقر عينها ، ولا هي أيم يكون أمرها بيدها ، ولا يمكن أن يضيق في ذلك كل تضييق ، فإن من الناس من لا يحصنه فرج واحد ، وأعظم المقاصد التناسل ، والرجل
____________________
(1/702)
يكفي لتلقيح عدد كثير من النساء ، وأيضا فالاكثار من النساء شيمة الرجال وربما يحصل به المباهاة ، فقدر الشارع بأربع ، وذلك أن الأربع عدد يمكن لصاحبة أن يرجع إلى كل واحدة بعد ثلاثة ليال ، وما دون ليلة لا يفيد فائدة القسم ، ولا يقال في ذلك : بات عندها ، وثلاث أول حد كثرة وما فوقها زيادة الكثرة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح ما شاء وذلك لأن ضرب هذا الحد إنما هو لدفع مفسدة غالبية دائرة على مظنة لا لدفع مفسدة عينية حقيقيه ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد عرف المئة فلا حاجة له في المظنة وهو مامون في طاعة الله وامتثال أمره دون سائر الناس . ومنها اختلاف الدين ؛ وهو قوله تعالى : ! ( ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ) ! . الآية وقد بين في هذه الآية أن المصلحة المرعية في هذا الحكم هو أن صحبة المسلمين مع الكفار وجريان المواساة فيما بين المسلمين وبينهم لا سيما على وجه الازدواج مفسدة للدين سبب لآن يدب في قلبه الكفر من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر ، وأن اليهود . والنصارى يتقيدون بشريعة سماوية قائلون بأصول قوانين التشريع وكلياته دون المجوس والمشركين فمفسدة صحبتهم خفيفة بالنسبة إلى غيرهم ، فإن الزوج قاهر على الزوجة قيم عليها وإنما الزوجات عوان بأيديهم ، فإذا تزوج المسلم الكتابية خف الفساد ، فمن حق هذا أن يرخص فيه ، ولا يشدد كتشديد سائر أخوات المسألة . ومنها كون المرأة أمة لآخر ، فإنه لا يمكن تحصين فرجها بالنسبة إلى سيدها ، ولا اختصاصه بها بالنسبة إليه إلا من جهة التفويض إلى دينه
____________________
(1/703)
وأمانته ، ولا جائز أن يسد سيدها عن استخدامها والتخلي بها فإن ذلك ترجيح أضعف الملكين على أقواهما فإن هنالك ملكين : ملك الرقبة . وملك البضع ، والأول هو الأقوى المشتمل على الآخر المستتبع له ، والثاني هو الضعيف المندرج ، وفي اقتضاب الأدنى للأعلى قلب الموضوع وعدم الاختصاص بها ، وعدم إمكان ذب الطامع فيها هو أصل الزنا ، وقد اعتبر انبي صلى الله عليه وسلم هذا الأصل في تحريم الأنكحة التي كان أهل الجاهلية يتعاملونها ، كالاستبضاع وغيره على ما بينته عائشة رضي الله عنها ، فإذا كانت فتاة مؤمنة بالله محصنة فرجها ، واشتدت الحاجة إلى نكاحها لمخافة العنت وعدم طول الحر خف الفساد وكانت الضروره والضرورات تبيح المحظورات . ومنها كون المرأة مشغولة بنكاح مسلم أو كافر ، فإن أصل الزنا هو الازدحام على الموطوءه من غير اختصاص أحدهما بها وغير قطع طمع الآخر فيها ، ولذلك قال الزهري رحمة الله عليه : ويرجع ذلك إلى أن الله تعالى حرم الزنا ، وأصاب الصحابه رضي الله عنهم سبايا ، وتحرجوا من غشيانها من أجل أزواجهن من المشركين ، فأنزل الله تعالى : ! ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ) ! . أي فهن حلال من جهة أن السبي قاطع لطعمه ، واختلاف الدار مانع من الازدحام عليها ، ووقوعها في سهمه مخصص لها به . ومنها كون المرأة زانية مكتسبة بالزنا ، فلا يجوز نكاحها حتى تتوب ، وتقلع عن فعلها ذلك ، وهو قوله تعالى : ! ( والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ) ! .
____________________
(1/704)
والسر فيه أن كون الزانية في عصمته وتحت يده وهي باقية على عادتها من الزنا ديوسية وانسلاخ عن الفطرة السليمة ، وأيضا فانه لا يأمن من أن تلحق به ولد غيره . ولما كانت المصلحة من تحريم المحرمات لا تتم إلا بجعل التحريم أمرا لازما وخلقا جبليا بمنزلة الأشياء التي يستنكف منها طبعا ، وجب أن يؤكد شهرتها وشيوعها وقبول الناس لها باقامة لائمة شديدة على إهمال تحريمها ، وذلك أن تكون السنة قتل من وقع على ذات ، ورحم محرم منه بنكاح أو غيره ، ولذلك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من تزوج بامرأه أبيه أن يؤتى برأسه . ( آداب المباشرة ) اعلم أن الله تعالى لما خلق الإنسان مدنيا بالطبع ، وتعلقت إرادته ببقاء النوع بالتناسل وجب أن يرغب الشرع في التناسل أشد رغبة ، وينهى عن قطع النسل والأسباب المفضية إليه أشد نهي ، وكان أعظم أسباب النسل وأكثرها وجودا وأفضاها إليه وأحثها عليه هو شهوة الفرج ، فانها كالمسلط عليهم منهم يقهرهم على ابتغاء النسل ، أشاءوا أم أبوا ، وفي جريان الرسم باتيان الغلمان ووطء النساء في أدبارهن تغيير خلق الله حيث منع المسلط على شيء من إفضائه إلى ما قصد له وأشد ذلك كله وطء الغلمان فانه تغيير لخق الله من الجانبين وتأنث الرجال أقبح الخصال ، وكذلك جريان الرسم بقطع أعضاء النسل واستعمال الادوية القامعة للباءة والتبتل وغيرها تغيير لخلق الله عز وجل وإهمال لطلب النسل ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذلك قال : ' لا تأتوا النساء في أدبارهن ، ملعون من أتى امرأة في دبرها ' وكذلك نهى عن الخصاء والتبتل في أحاديث كثيرة قال الله تعالى : ! ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) ! .
____________________
(1/705)
اقول : كان اليهود يضيقون في هيئة المباشرة من غير حكم سماوي ، وكان الأنصار ومن وليهم يأخذون سنتهم ، وكانوا يقولون : إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول فنزلت هذه الآية : أقبل ، وأدبر ما كان في صمام واحد ، وذلك لأنه شيء لا يتعلق به المصلحة المدنية والملية ' والإنسان أعرف بمصلحة خاصة نفسه ، وإنما كان ذلك من تعمقات اليهود فكان من حقه أن ينسخ . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل ؟ فقال :
' ما عليكم ألا تفعلوا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة ' أقول : يشير إلى كراهية العزل من غير تحريم ، والسبب في ذلك أن المصالح متعارضة ، فالمصلحة الخاصة بنفسه في السبي مثلا أن يعزل ، والمصلحة النوعية ألا يعزل ، ليتحقق كثرة الأولاد وقيام النسل ، والنظر إلى المصلحة النوعية أرجح من النظر إلى المصلحة الشخصية في عامة أحكام الله تعالى التشريعية والتكوينية ، على أن العزل ليس فيه ما إتيان الدبر من تغيير خلق الله ولا الأعراض من التعرض للنسل ، ونبه صلى الله عليه وسلم بقوله : ' ما عليكم أن ألا تفعلوا ' على أن الحوادث مقدرة قبل وجودها . وأن الشيء إذا قدر ولم يكن له في الأرض إلا سبب ضعيف فمن سنة الله عز وجل أن يبسط ذلك السبب الضعيف حتى يفيد الفائدة التامة ، فالإنسان إذا قارب الإنزال وأراد أن ينزع ذكره كثيرا ما يتقاطر في إحليله قطرات تكفي من مادة ولده وهو لا يدري ، وهو سر قول عمر رضي الله عنه بالحاق الولد بمن أقر أنه مسها لا يمنع من ذلك العزل .
____________________
(1/706)
وقال صلى الله عليه وسلم : ' لقد هممت أن أنهي عن الغيلة فنظرت في الروم فارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا تضر أولادهم ' وقال :
' لا تقتلوا أولادكم سرا فان الغيل يدرك الفارس ، فيدعثره ' . أقول : هذا إشارة إلى كراهية الغيلة من غير تحريم ، وسببه أن جماع المرضع يفسد لبنها ، وينفه الولد ، وضعفه في أول نمائه يدخل في جذر مزاجه ، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه أراد التحريم لكونه مظنة الغالب للضرر ، ثم أنها لما استقرأ وجد أن الضرر غير مطرد وأنه لا يصلح للمظنة حتى يدار عليه التحريم ، وهذا الحديث أحد دلائل ما أثبتناه من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد وأن اجتهاده معرفة المصالح والمظان وإدارة التحريم والكراهية عليها . قال صلى الله عليه وسلم : ' إن من أشر الناس عند الله منزلة الرجل يفضي إلى امرأته ، وتفضي هي إليه ثم ينشر سرها ' أقول : لما كان الستر واجبا وإظهار ما أسبل عليه الستر قلبا لموضوعه ومناقضا لغرضه كان من مقتضاه أن ينهى عنه ، وأيضا فاظهار مثل هذه مجانة ووقاحة ، واتباع مثل هذه الدواعي يعد النفس لتشبح الألوان الظلمانية فيها . وكانت الملل مختلفه فيما يفعل في بالحائض ، فمن متعمق كاليهود يمنع مؤاكلتها ومضاجعتها ، ومن متهاون كالمجوس يجوز الجماع وغيره ، ولا يجد للحيض بالا وكل ذلك إفراط وتفريط ، فراعت الملة المصطفوية التوسط فقال : ' اصنعوا كل شيء إلا النكاح ' وذلك لمعان منها أن جماع الحائض لا سيما في فور حيضتها ضار اتفق الأطباء على ذلك ، ومنها أن مخالطة النجاسة خلق فاسد تمجه الطبيعة السليمة ، ويقرب
____________________
(1/707)
من الشياطين وفي مثل الاستنجاء حاجة ، وإنما المقصود من ذلك إزالتها ، وفي جماع الحائض الغمس في النجاسة ، وهو قوله تعالى : ! ( قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ) ! . واختلفت الرواية فيما دون الجماع ، فقيل : يتقي شعار الدم ، وقيل : يتقي ما تحت الإزار ، وعلى الوجهين هو الدواعي ، وجاء الأمر لمن عصى الله ، فجامع الحائض أن يتصدق بدينار أو نصف دينار وهذا ليس بمجمع عليه ، وسر الكفارة ما ذكرنا مرارا . ( حقوق الزوجية ) اعلم أن الارتباط الواقع بين الزوجين أعظم الارتباطات المنزلية بأشرها ، وأكثرها نفعا ، وأتمها حاجة ؛ إذ السنة عند طوائف الناس عربهم وعجمهم أن تعاونه المرأة في استيفاء الارتفاقات ، وأن تتكفل له بتهيئة المطعم والمشرب والملبس ، وأن تخزن ماله ، وتحضن ولده ، وتقوم في بيته مقامه عند غيبته إلى غير ذلك مما لا حاجة إلى شرحه وبيانه ، فلذلك كان أكثر توجه الشرائع إلى إبقائه ما أمكن وتوفير مقاصده وكراهية تنغيصه وإبطاله ، وكل ارتباط لا يمكن استيفاء مقاصده إلا بإقامة الألفة ، ولا ألفة إلا بخصال يقيدان أنفسهما عليها ، كالمواساة وعفو ما يفرط من سوء الأدب والاحتراز عما يكون سببا للضغائن ووحر الصدر وإقامة المفاكهة وطلاقة الوجه ونحو ذلك ، فاقتضت الحكمة أن يرغب في هذه الخصال ويحث عليها . قال صلى الله عليه وسلم :
' استوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع ، فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج ' أقول : معناه اقبلوا وصيتي ، واعملوا بها في النساء ، وان في خلقهن عوجا وسوءا ، وهو
____________________
(1/708)
كالأمر اللازم بمنزلة ما يتوارثه الشيء من مادته ، وأن الإنسان إذا أراد استيفاء مقاصد المنزل منها لا بد أن يجاوز عن محقرات الأمور ، ويكظم الغيظ فيما يجده خلاف هواه إلا ما يكون من باب الغيرة المحمودة وتداركا لجور ونحوه ذلك . وقال صلى الله عليه وسلم :
' لا يفرك مؤمن مؤمنة ، ان كره منها خلقا رضي منها الآخر ' أقول : الإنسان إذا كره منها خلقا ينبغي ألا يبادر إلى الطلاق ، فإنه كثيرا ما يكون فيها خلق آخر يستطاب منها ، ويتحمل سوء عشرتها لذلك . وقال صلى الله عليه وسلم :
' اتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمان الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ، فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ' . اعلم أن الواجب الأصلي هو المعاشرة بالمعروف ، وهو قوله تعالى : ! ( وعاشروهن بالمعروف ) ! . فبينها النبي صلى الله عليه وسلم بالرزق والكسوة وحسن المعاملة ، ولا يمكن في الشرائع المستندة إلى الوحي أن يعين جنس القوت وقدره مثلا ، فإنه لا يكاد يتفق أهل الأرض على شيء واحد ، ولذلك إنما أمر أمرا مطلقا .
____________________
(1/709)
قال صلى الله عليه وسلم :
' إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه ، فأبت ، فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح ' . أقول لما كانت المصلحة المرعية في النكاح تحصين فرجه وجب أن تحقق تلك المصلحة ، فإن من أصول الشرائع أنها إذا ضربت مظنة لشيء سجل بما يحقق وجود المصلحة عند المظنة وذلك أن تؤمر المرأة بمطاوعته إذأ أراد منها ذلك ، ولولا هذا لم يتحقق تحصين فرجه ، فإن أبت ، فقد سعت في رد المصلحة التي أقامها الله في عباده ، فتوجه إليها لعن الملائكة على كل من سعى في فسادها . قال صلى الله عليه وسلم :
' إن من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله ، فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة ، وأما التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة ' . أقول : فرق بين اقامة المصلحة والسياسة التي لا بد له منها وبين سوء الخلق والضجر والضيق من غير موجب . قال الله تعالى : ! ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله ) ! إلى قوله . ! ( إن الله كان عليما خبيرا ) ! . أقول : يجب أن يجعل الزوج قواما على امرأته ، وأن يكون له الطول عليها بالجبلة فإن الزوج أتم عقلا وأوفر سياسة وآكد حماية وذبا للعار ، بالمال حيث أنفق عليها رزقها وكسوتها ، وكون السياسة بيده يقتضي أن يكون له تعزيرها وتأديبها أن بغت ، وليأخذ بالأسهل فالأسهل ، فالأول بالوعظ ، ثم الهجر بالضجع يعني ترك مضاجعتها ، ولا يخرجها من بيته ، ثم الضرب غير المبرح أي الشديد ، فإن اشتد الشقاق ، وادعى كل نشوز الآخر وظلمه لم يكن قطع المنازعة إلا بحكمين : حكم من أهله ، وحكم من أهلها يحكمان عليهما من النفقة وغيرها ما يريان من المصلحة وذلك لأن
____________________
(1/710)
إقامة البينة على ما يجري في الزوجين ممتنعة ؛ فلا أحق من أن يجعل الأمر إلى أقرب الناس إليهما وأشفقهم عليهما . قال رسول الله :
' ليس منا من خبب امرأة على زوجها أو عبدا على سيده ، . أقول : أحد أسباب فساد تدبير المنزل أن يخبب إنسان المرأة أو العبد وذلك سعي في تنغيص هذا النظم وفكه ومناقضة المصلحة الواجب إقامتها . واعلم أن باب فساد تدبير المنزل خصالا فاشية في الناس ، كثيرا المبتلون بها ، فلا بد أن يتعرض الشرع لها ، ويبحث عنها ، منها أن يجتمع عند رجل عدد من النسوة ، فيفضل إحداهن في القسم وغيره ، ويظلم الآخرى ويتركها كالمعلقة قال الله تعالى : ! ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ) ! . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' إذا كان عند الرجل امرأتان ، فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط ' . أقول : قد مر أن المجازاة إنما تظهر في صورة العمل فلا نعيده . ومنها أن يعضلهن الأولياء عما يرغبن فيه من الأكفاء أتباعا لداعية نفسانية من حق وغضب ونحوهما ، وفي ذلك من المفسدة ما لا يخفى فنزل قوله تعالى :
____________________
(1/711)
! ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ) ! . ومنها أن يتزوج اليتامى اللاتي في حجره إن كن ذوات مال وجمال ، ولا يفي بحقوقهن مثل ما يصنع بذوات الآباء ، ويتركهن إن كن على غير ذلك ، قال الله تعالى : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ) . فنهى الإنسان إن خشي الجور أن ينكح اليتامى ، أو ينكح ذوات عدد من النساء . ومن السنة إذا تزوج البكر على امرأة أقام عندها سبعا ، ثم قسم ، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ، ثم قسم . أقول : السر في هذا أنه لا يجوز أن يضيق في هذا الباب كل التضييق ، فإنه لا يطيقه أكثر أفراد الإنسان وهو قوله تعالى : ! ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) ! نبه على أنه لما لم يكن إقامة العدل الصراح وجب أن يدار الحكم على ترك الجور الصريح ، فإذا رغب رجل في امرأة ، وأعجبه حسنها ، وشغف قلبه جمالها ، وكان له رغبة وافره إليها لم يكن أن يصد عن ذلك بالكلية ؛ لأنه كالتكليف بالممتنع ، فقدر له مقدار استئثاره لها ، لئلا يزيد ، فيقتحم
____________________
(1/712)
في الجور ، وأيضا فمن المصلحة المعتبرة تأليف قلب الجديدة وإكرامها ، ولا يحصل إلا بأن يستأثر وهو إيماء قوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة رضي الله عنها :
' ليس لك على أهلك هوان إن شئت سبعت ' الحديث وأما كسر قلب القديمة فقد عولج في الجريان السنة بالزيادة للجديدة ، فإنه إذا جرت السنة بشيء ، ولم يكن مما قصد به إيذاء أحد أو مما خص به هان وقعه عليه ، وهو إيماء قوله تعالى : ! ( ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن ) ! . يعني نزول القرآن بالخيرة في حقهن سبب زوال السخطة بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم ، والبكر الرغبة فيهاا أتم ، والحاجة إلى تأليف قلبها أكثر ، فجعل قدرها السبع ، وقدر الثيب الثلاث . وكان صلى الله عليه وسلم يقسم بهن ، وإذا أراد سفرا أقرع بين نسائه . أقول : وذلك دفعا لوحر الصدر ، والظاهر أن ذلك منه صلى الله عليه وسلم كان تبرعا وإحسانا من غير وجوب عليه لقوله تعالى : ! ( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ) ! . وأما في غيره فموضع تأمل واجتهاد ، ولكن جمهور الفقهاء أوجبوا
____________________
(1/713)
القسم ، واختلفوا في القرعة . أقول : وفيه أن قوله : فلم يعدل مجمل لا يدري أي عدل أريد به ، وقوله تعالى : ! ( فتذروها كالمعلقة ) ! . مبين أن المراد نفي الجور الفاحش وإهمال أمرها بالكلية سوء العشرة معها . وأعتقت بربرة ، وكان زوجها عبدا ، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم . فاختارت نفسها . أقول : السبب في ذلك ان كون الحرة فراشا للعبد عار عليها ، فوجب دفع ذلك العار عنها إلا أن ترضى به ، وأيضا فالأمة تحت يد مولاها ليس رضاها رضا حقيقة ، وإنما النكاح بالتراضي ، فلما أن كان أمرها بيدها وجب ملاحظة رضاها ، وفي رواية إن قربك ، فلا خيار لك ، وذلك لأنه لا بد من ضرب حد ينتهي إليه الخيار ، وإلا كان لها الخيار طول عمرها ، وفي ذلك قلب موضوع النكاح ، ولا يصلح اختيارها إياه بالكلام حتى ينتهي إليه ، لأنها ربما تشاور أهلها ، وتقلب الأمر في نفسها وكثيرا ما يجري عند ذلك صيغة الاختيار وإن لم تجزم به ، وفي إلجائها ألا تتكلم بمثلها حرج ، فلا أحق من القربان إذ هو فائدة الملك والشيء الذي يقصد منه والأمر الذي يتم به ، والله أعلم . ( الطلاق ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' أيما امرأة سألت زوجها طلاقا من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة '
، وقال صلى الله عليه وسلم : ' أبغض الحلال إلى الله الطلاق ' اعلم أن في الأكثار من الطلاق وجريان الرسم بعدم المبالاة به مفاسد كثيرة ، وذلك أن ناسا ينقادون إلى لشهوة الفرج ،
____________________
(1/714)
ولا يقصدون إقامة تدبير المنزل ولا التعاون في الارتفاقات ولا تحصين الفرج ، وإنما مطمح أبصارهم التلذذ بالنساء وذوق لذة كل امرأة ، فيهيجهم ذلك إلى أن يكثروا الطلاق والنكاح ، ولا فرق بينهم ويبين الزناة من جهة ما يرجع إلى نفوسهم ، وإن تميزوا عنهم بإقامة سنة النكاح والموافقة لسياسة المدينة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' لعن الله الذواقين والذواقات ' وأيضا ففي جريان الرسم لذلك إهمال لتوطين النفس على المعاونة الدائمة أو شبه الدائمة ، وعسى إن فتح هذه الباب أن يضيق صدره أو صدرها في شيء من محقرات الأمور ، فيندفعان إلى الفراق ، وأين ذلك من احتمال أعباء الصحبة ، والإجماع على إدامة هذا النظم ؟ وأيضا فإن اعتيادهن بذلك وعدم مبالاة الناس به وعدم حزنهم عليه يفتح باب الوقاحة ، وألا يجعل كل منهما ضرر الآخر ضرر نفسه ، وأن تخون كل واحد الآخر يمهد لنفسه إن وقع الافتراق ، وفي ذلك ما لا يخفى ، ومع ذلك لا يمكن سد هذا الباب والتضيق ، فيه فانه قد يصير الزوجان متناشزين إما لسوء خلقهما أو لطموح غين أحدهما إلى حسن إنسان آخر أو لضيق معيشتهما أو لخرق واحد منهما ، ونحو ذلك من الأسباب ، فيكون إدامة هذا النظم مع ذلك بلاء عظيما وحرجا . قال صلى الله عليه وسلم :
' رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يبلغ ، وعن المعتوه حتى يعقل ' أقول : السر في ذلك أن مبنى جواز الطلاق بل العقود كلها على المصالح المقتضية لها ، والنائم والصبي والمعتوه بمعزل عن معرفة تلك المصالح . قال صلى الله عليه وسلم :
' لا طلاق ولا إعتاق في إغلاق ' معناه : في إكراه ، اعلم أن السبب في هدر طلاق المكره شيئان :
____________________
(1/715)
أحدهما أنه لم يرض به ، ولم يرد فيه مصلحة منزلية ، وإنما هو لحادثة لم يجد منها بدا ، فصار بمنزلة النائم . وثانيهما أنه لو اعتبر طلاقه طلاقا لكان ذلك فتحا لباب الاكراه ، فعسى أن يختطف الجبار الضعيف من حيث لا يعلم الناس ، ويخيفه بالسيف ، ويكرهه على الطلاق إذا رغب في امرأته ، فلو خيبنا رجاءه ، وقلبنا عليه مراده كان ذلك سببا لترك تظالم الناس فيما بينهم بالاكراه ، ونظيره ما ذكرنا في قوله صلى الله عليه وسلم :
' القاتل لا يرث ' . وقال صلى الله عليه وسلم : ' لا طلاق فيما لا لا يملك ' وقال عليه السلام : ' لا طلاق قبل النكاح ' . أقول : الظاهر أنه يعم الطلاق المنجر والمعلق بنكاح وغيره ، والسبب في ذلك أن الطلاق إنما يجوز في للمصلحة ، والمصلحة لا تتمثل عنده قبل أن يملكها ، ويرى منها سيرتها ، فكان طلاقها قبل ذلك بمنزلة نية المسافر الإقامة في المفازة أو الغازى في دار الحرب مما تكذبه دلائل الحال ، وكان أهل الجاهلية يطلقون ويراجعون إلى متى شاءوا وكان في ذلك من الأضرار ما لا يخفى ، فنزل قوله تعالى : ! ( الطلاق مرتان ) ! . الآية معناه : أن الطلاق المعقب للرجعة مرتان ، فإن طلقها الثالثة ، فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ، وألحقت السنة ذوق العسيلة بالنكاح . والسر في جعل الطلاق ثلاثا لا يزيد عليها أنها أول حد كثرة ، ولأنه لا بد من ترو ، ومن الناس لا يتبين له المصلحة حتى يذوق فقدا ، وأصل التجربة واحدة ، ويكملها ثنتان . وأما اشتراط النكاح بعد الثالثة فلتحقيق معنى التحديد والإنهاء ، وذلك أنه لو جاز رجوعها إليه من غير تخلل نكاح الآخر كان ذلك بمنزلة الرجعة ،
____________________
(1/716)
فإن نكاح المطلقة إحدى الرجعتين ، وأن المرأة ما دامت في بيته وتحت يده وبين أظهر أقاربه يمكن أن يغلب على رأيها ، وتضطر إلى رضا ما يسولون لها فإذا فارقتهم ، ذاقت الحر والقر ، ثم رضيت بعد ذلك فهو حقيقية الرضا ، وأيضا ففيه إذاقة الفقد ومعاقبة على اتباع داعية الضجر من غيرتروي مصلحة مهمة أيضا : ففيه إعظام المطلقات الثلاث بين أعينهم وجعلها بحيث لا يبادر إليها إلا من وطن نفسه على ترك الطمع فيها إلا بعد ذل وإرغام أنف لا مزيد عليه . وقال صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة حين طلقها ، فبت طلاقها ، فنكحت زوجا غيره : أتريدين أن ترجعى إلى رفاعة ؟ قالت : نعم ، قال : لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ' . أقول : إنما شرط تمام النكاح بذوق العسيلة ليتحقق معنى التحديد الذي ضرب عليهم فإنه لولا ذلك لاحتمال رجل باجراء صيغة النكاح على اللسان ، ثم يطلق في المجلس ، وهذا مناقضة لفائدة التحديد . ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له . أقول : لما كان من الناس من ينكح لمجرد التحليل من غير أن يقصد منها تعاونا في المعيشة ، ولا يتم بذلك المصلحة المقصودة ، وأيضا ففيه وقاحة وإهمال غيرة وتسويغ إزدحام على الموطوأة من غير أن يدخل في تضاعيف المعاونة نهى عنه . وطلق عبد الله بن عمر رضي الله عنه امرأته وهي حائض . وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فتغيظ ، وقال : ليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ثم تطهر ، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها ' . أقول : السر في ذلك أن الرجل قد يبغض المرأة بغضة طبيعية ، ولا طاعة لها مثل كونها حائضا ، وفي هيئة رثة وقد ، يبغضها لمصلحة يحكم بإقامتها
____________________
(1/717)
العقل السليم مع وجود الرغبة الطبيعية ، وهذه هي المتبعة وأكثر ما يكون الندم في الأول وفيه يقع التراجع ، وهذا داعية يتوقف تهذيب النفس على إهمالها وترك اتباعها ، وقد يشتبه الأمران على كثير من الناس ، فلا بد من ضرب حد يتحقق به الفرق ، فجعل الطهر مظنة للرغبة الطبيعية ، والحيض مظنة للبغضة الطبيعية ، والأقدام على الطلاق على حين رغبة فيها مظنة للمصلحة العقلية ، ، والبقاء مدة طويلة على هذا الخاطر مع تحول الأحول من حيض إلى طهر ، ومن رثاثة إلى زينة ، ومن انقباض إلى انبساط مظنة للعقل الصراح والتدبير الخالص ، فلذلك كره الطلاق في الحيض ، وأمر بالمراجعة وتخلل حيض جديد ، وأيضا فإن طلقها في الحيض فإن عدت هذه الحيضة في العدة انتقصت مدة العدة ، وإن لم تعد تضررت المرأة بطول العدة سواء كان المراد بالقروء الإطهار أو الحيض ، ففي كل ذلك مناقضة للحد الذي ضربه الله في محكم كتابه من ثلاثة قروء . وإنما أمر أن يكون الطلاق في الطهر قبل أن يمسها لمعنيين : أحدهما بقاء الرغبة الطبيعية فيها ، فإنه في بالجماع تفتر سورة الرغبة . وثانيهما أن يكون ذلك أبعد من اشتباه الإنساب . وإنما أمر الله تعالى بإشهاد شاهدين على الطلاق لمعنيين : أحدهما الاهتمام بأمر الفروج ؛ لئلا يكون نظم تدبير المنزل ، ولا فكه إلا على أعين الناس ، والثاني ألا تشتبه الانساب وألا يتواضع الزوجان من بعد ، فيهملا الطلاق ، والله أعلم . وكره أيضا جمع الطلقات الثلاث في طهر واحد ، وذلك لأنه إهمال للحكمة المرعية في شرع تفريقها ، فإنها شرعت ليتدارك المفرط ، ولأنه تضييق على نفسه وتعرضه للندامة ، وأما الطلقات الثلاث في ثلاثة أطهار فأيضا تضييق
____________________
(1/718)
ومظنة ندامة غير أنها أخف من الأول من جهة وجود التروي والمدة التي تتحول فيها الأحوال ، ورب إنسان تكون مصلحته في تحريم المغلظ . ( الخلع . والظهار . واللعان . والايلآء ) اعلم أن الخلع فيه شناعة ما ؛ لأن الذي أعطاه من المال قد وقع في مقابله المسيس وهو قوله تعالى : ! ( وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ) ! . واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في اللعان حيث قال :
' إن صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها ' ومع ذلك فربما تقع الحاجة إلى ذلك فذلك قوله تعالى : ! ( فلا جناح عليهما فيما افتدت به ) ! وكان أهل الجاهلية يحرمون أزواجهم ، ويجعلونهن كظهر الأم ، فلا يقربونهن بعد ذلك أبدا ، وفي ذلك من المفسدة ما لا يخفى ، فلا هي حظية تتمتع منه كما تتمتع النساء من أزواجهن ، ولا هي أيم يكون أمرها بيدها ، فلما وقعت هذه الواقعة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، واستفتي فيها أنزل الله عز وجل . ! ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ) ! . إلى قوله ! ( عذاب أليم ) ! .
____________________
(1/719)
والسر فيه أن الله تعالى لم يجعل قولهم ذلك هدرا بالكلية ؛ لأنه أمر ألزمه على نفسه ، وأكد فيه القول بمنزلة سائر الايمان ، ولم يجعله مؤبدا كما كان في الجاهلية دفعا للحرج الذي كان عندهم ، وجعله مؤقتا إلى كفارة لأن الكفارة شرعت دافعة للآثام منهية لما يجده المكلف في صدره ، أما كون هذا القول زورا فلأن الزوجة ليست بأم حقيقة ولا بينهما مشابهة أو مجاورة تصحح إطلاق اسم أحداهما على الأخرى إن كان خبرا ، وهو عقد ضار ، غير موافق للمصلحة ، ولا مما أوحاه الله في شرائعه ، ولا مما استنبطه ذوو الرأي في أقطار الأرض إن كان إنشاء ، وأما كونه منكرا فلأنه ظلم وجور وتضييق على من أمر بالإحسان إليه . وإنما جعلت الكفارة عتق رقبة أو إطعام ستين مسكينا أو صيام شهرين متتابعين لأن مقاصد الكفارة أن يكون بين عيني المكلف ما يكبحه عن الاقتحام في الفعل خشية أن يلزمه ذلك ، ولا يمكن ذلك إلا بكونها طاعة شاقة تغلب على النفس إما من جهة كونها بذل مال يشح به ، أو من جهة مقاساة جوع وعطش مفرطين . ! ( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ) ! الآية . اعلم أن أهل الجاهلية كانوا يحلفون ألا يطأوا أزواجهم أبدا أو مدة طويلة ، وفي ذلك جور وضرر ، فقضى الله تعالى بالتربص أربعة أشهر . قال الله تعالى : ( فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم ) . واختلف العلماء في الفيء ، فقيل : يوقف المولي بعد مضي أربعة أشهر ثم يجبر على التسريح بالاحسان أو الامساك بالمعروف ، وقيل : يقع الطلاق ،
____________________
(1/720)
ولا يوقف أما السر في تعيين هذه المدة فإنها مدة تتوق النفس فيها للجماع لا محالة ، ويتضرر بتركه إلا أن يكون مؤفا ، ولأن هذه المدة ثلث السنة ، والثلث يضبط به أقل من النصف ، والنصف يعد مدة كثيرة . قال الله تعالى : ! ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء ) ! الآية . واستفاض حديث عويمر العجلاني . وهلال بن أمية . اعلم أن أهل الجاهلية كانوا إذا قذف الرجل امرأته ، وكان بينهما في ذلك مشاقة رجعوا إلى الكهان كما كان في قصة هند بنت عتبة فلما جاء الإسلام امتنع أن يسوغ لهم الرجوع إلى الكهان ؛ ولأن في مبنى الملة الحنيفية على تركها وإخمالها ، لأن الرجوع إليهم من غير أن يعرف صدقهم من كذبهم ضررا عظيما ، وامتنع أن يكلف الزوج بأربعة شهداء وإلا ضرب الحد ؛ لأن الزنا إنما يكون في الخلوة ، ويعرف الزوج ما في بيته ويقوم عنده من المخايل ما لا يمكن أن يعرفه غيره ، وامتنع أن يجعل الزوج بمنزلة سائر الناس يضربون الحد لأنه مأمور شرعا وعقلا بحفظ ما في حيزه من العار والشنار ، مجبول على غيره أن يزدحم على ما في عصمته ، ولأن الزوج أقصى ما يقطع به الريبة ويطلب به تحصين فرجها ، فلو كان هو فيما يؤاخذها به بمنزلة سائر الناس ارتفع الأمان ، وانقلبت المصلحة مفسدة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما وقعت الواقعة مترددا تارة لا يقضي بشيء
____________________
(1/721)
لأجل هذه المعارضات ، وتارة يستنبط حكمه مما أنزل الله عليه من القواعد الكلية ، فيقول : ' البينة أو حدا في ظهرك حتى قال ، المبتلى : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزل الله ما يبرئ ظهرى من الحد ، ثم أنزل الله تعالى آية اللعان ' ، والأصل فيه أنه أيمان مؤكدة تبرئ الزوج من حد القذف ، وتثبت اللوث عليها تحبس لأجله ، ويضيق عليها به ؛ فإن نكل ضرب الحد وأيمان مؤكدة منها تبرئها ، فإن نكلت ضربت الحد . وبالجملة فلا أحسن فيما ليس فيه بينة ، وليس مما يهدر ، ولا يسمع من الإيمان المؤكده ، وجرت السنة أن تذكره المرأة تحقيقا للمقصود من الإيمان ، وجرت السنة ألا تعود إليه أبدا فإنهما بعدما حصل بينهما هذا التشاجر ، وانطوت صدورهما على اشد الوحر ، وأشاع عليها الفاحشة لا يتوافقان ، ولا يتوادان غالبا ، والنكاح إنما شرع لأجل المصالح المبينة على التواد والتوافق ، وأيضا ففي هذه زجر عليهما من الإقدام على مثل هذه المعاملة . ( العدة ) قال الله تعالى : ! ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) ! إلى أخر الآيات . أعلم أن العدة كانت من المشهورات المسلمة في الجاهلية ، وكانت مما لا يكادون يتركونه ، وكان فيها مصالح كثيرة : منها معرفة براءة رحمها من مائه ، لئلا تختلط الأنساب ، فان النسب أحد ما يتشاح به ، ويطلبه العقلاء ، وهو من خواص نوع الانسان ، ومما امتاز به من سائر الحيوان ، وهي المصلحة المرعية من باب الاستبراء . ومنها التنويه بفخامة أمر النكاح حيث لم يكن أمرا ينتظم إلا بجمع
____________________
(1/722)
رجال ، ولا ينفك إلا بانتظار طويل ، ولولا ذلك لكان بمنزلة لعب الصبيان ينتظم ، ثم يفك في الساعة . ومنها أن مصالح النكاح لا تتم حتى يوطنا أنفسهما على إدامة هذا العقد ظاهرا ، فان حدث حادث يوجب فك النظام لم يكن بد من تحقيق صورة الإدامة في الجملة بأن تتربص مدة تجد لتربصها بالا ، وتقاسي لها عناء . وعدة المطلقة ثلاثة قروء ، فقيل : هي الإطهار ، وقيل : هي الحيض ، وعلى أنها طهر ، فالسر فيه أن الطهر محل رغبة كما ذكرنا ، فجعل تكرارها عدة لازمة ليتروى المتروي ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في صفة الطلاق : '
فتلك العدة التي أمر الله بالطلاق فيها ' وعلى أنها حيض فالحيض هو الأصل في معرفة عدم الحمل . فإن لم تكن من ذوات الحيض لصغر أو كبر ، فتقوم ثلاثة اشهر مقام ثلاثة قروء لأنها مظنتها ولأن براءة الرحم ظاهرة ، وسائر المصالح تحقق بهذه المدة . وفي الحامل انقضاء الحمل لأنه معرف براءة رحمها . والمتوفى عنها زوجها تتربص أربعة أشهر وعشرا ، ويجب عليها الإحداد في هذه المدة ، وذلك لوجوه : أحدها أنها لما وجب عليها أن تتربص ، ولا تنكح ، ولا تخطب في هذه المدة حفظا لنسب المتوفى عنها اقضى ذلك في حكمه السياسة أن تؤمر بترك الزينة لأن الزينة تهيج الشهوة من الجابيين ، وهيجانها في مثل هذه الحالة مفسدة عظيمة . وأيضا فان من حسن الوفاء أن تحزن على فقده ، وتصير تفلة شعثة ، وأن تحد عليه ، فذلك من حسن وفائها ، وتحقيق معنى قصر بصرها عليه ظاهرا .
____________________
(1/723)
ولم تؤمر المطلقة بذلك لأنها تحتاج إلى أن تتزين ، فيرغب زوجها فيها ، ويكون ذلك معونة في جمع ما افترق من شملها ، وكذلك اختلف العلماء في المطلقة ثلاثا هل تتزين أم لا ؟ فمن ناظر إلى الحكمة ، ومن ناظر إلى عموم لفظ المطلقة . وإنما عين في عدتها أربع أشهر وعشرا لأن الأربعة أشهر هي ثلاث أربعينات ، وهي مدة تنفخ فيها الروح في الجنين ، ولا يتأخر عنها تحرك الجنين غالبا ، وزيد عشر لظهور تلك الحركة . وأيضا فإن هذه المدة نصف مدة الحمل المعتاد وفيه يظهر الحمل بادى الرأي بحيث يعرف كل من يرى . وإنما شرع عدة المطلقة قروءا ، وعدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا لأن هنالك صاحب الحق قائم بأمره ينظر إلى مصلحة النسب ، ويعرف بالمخايل والقرائن ، فجاز أن تؤمر بما تختص به ، وتؤمن عليه ، ولا يمكن للناس أن يعلموا منها إلا من جهة خبرها ، وههنا ليس صاحب الحق موجودا وغيره لا يعرف باطن أمرها ، ولا يعرف مكايدها كما يعرف هو ، فوجب أن يجعل عدتها أمرا ظاهرا يتساوى في تحقيقه القريب والبعيد ، ويحقق الحيض لأنه لا يمتد إليه الطهر غالبا أو دائما . قال صلى الله عليه وسلم :
' لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة ' ، وقال صلى الله عليه وسلم :
' كيف يستخدمه
____________________
(1/724)
وهو لا يحل له ، أم كيف يورثه ، وهو لا يحل له ' أقول : السر في الاستبراء معرفة براءة الرحم وألا تختلط الأنساب ، فإذا كانت حاملا فقد دلت التجربة على أن الولد في هذه الصورة يأخذ شبهين : شبه من خلق من مائه . وشبه من جامع في أيام حمله ، بين ذلك أثر عمر رضي الله عنه وهو إيماء قوله صلى الله عليه وسلم :
' لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقى ماءه لزرع غيره ' وقوله عليه السلام : ' كيف يستخدمه ' الخ معناه أن الولد الحاصل بعد جماع الحبلى فيه شبهان لكل شبه حكم يناقض حكم الشبه الآخر ، فشبه الأول يجعل الولد عبدا ، وشبه الثاني يجعله ابنا ، وحكم الأول الرق ووجوب الخدمة عليه لمولاه ، وحكم الثاني الحرية واستحقاق الميراث ، فلما كان الجماع سبب التباس أحكام الشرع في الولد نهى عنه ، والله أعلم . ( تربية الأولاد والمماليك ) اعلم أن النسب أحد الأمور التي جبل على محافظتها البشر ، فلن ترى إنسانا في إقليم من الأقاليم الصالحة لنشء الناس إلا وهو يحب أن ينسب إلى أبيه وجده ، ويكره أن يقدح في نسبته إليهما ، اللهم إلا لعارض من دناءة النسب أو غرض من دفع ضر أو جلب نفع ونحو ذلك ، ويجب أيضا أن يكون له أولاد ينسبون إليه ويقومون بعده مقامه ، فربما اجتهدوا اشد الاجتهاد ، وبذلوا طاقاتهم في طلب الولد ، فما اتفق طوائف الناس على هذه الخصلة إلا لمعنى في جبلتهم ، ومبنى شرائع الله على إبقاء هذه المقاصد التي تجري بجري الجبلة ، وتجري فيها المناقشة والمشاحة والاستيفاء لكل ذي حق حقه منها والنهي عن التظالم فيها ، فلذلك وجب أن يبحث الشارع عن النسب ، قال صلى الله عليه وسلم :
' الولد للفراش وللعاهر الحجر '
____________________
(1/725)
فقيل : معناه الرجم ، وقيل : الخيبة . أقول : كان أهل الجاهلية يبتغون الولد بوجوه كثيرة لا تصححها قوانين الشرع ، وقد بينت بعض ذلك عائشة رضي الله عنها ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم سد هذا الباب ، وخيب العاهر ، وذلك لأن من المصالح الضرورية التي لا يمكن بقاء نوع الإنسان إلا بها اختصاص الرجل بامرأته حتى يسد باب الازدحام على الموطوأة رأسا ، ومن مقتضى ذلك أن يخيب من عصى هذه السنة الراشدة ، وابتغى الولد من غير اختصاص ؛ إرغامه لأنفه وازدراء بأمره وزجرا له أن يقصد مثل ذلك ، وإلى هذا الإشارة في قوله عليه السلام للعاهر الحجر : ' العاهر للحجر ' إن أريد معنى الخيبة كما يقال : بيده التراب ، وبيده الحجر ، وأيضا فإذا تزاحمت الحقوق ، وادعى كل لنفسه وجب أن يرجح من يتمسك بالحجة الظاهرة المسموعة عند جماهير الناس والذي يتمسك بما يزيد اللأئمة عليه ، ويفتح باب ضرب الحد ، أو يعترف فيه بأنه عصى الله ، وكان مع ذلك أمر خفيا لا يعلم إلا فمن جهة قوله : من حق ذلك أن يهجر ويخمل ، وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا المعنى حديث قال في قصة اللعان :
' إن كذبت عليه فهو أبعد لك ' وإليه الإشارة في قوله : ' وللعاهر الحجر ' إن أريد معنى الرجم بالحجارة . قال صلى الله عليه وسلم :
' من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ' . أقول : من الناس من يقصد مقاصد دنية ، فيرغب عن أبيه ، وينتسب إلى غيره ، وهو ظلم وعقوق لأنه تخييب أبيه ، فانه طلب بقاء نسله المنسوب اليه المتفرغ عليه ، وترك شكر نعمته وإساءة معه ، وأيضا فإن النصرة والمعاونة لا بد منها في نظام الحي والمدينة ، ولو فتح باب الانتفاء من الاب
____________________
(1/726)
لأهملت هذه المصلحة ، ولاختلطت أنساب القبائل ، وقال صلى الله عليه وسلم : ' أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله الجنة ، وأيما رجل جحدو ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه ' وفضحه على رءوس الخلائق ' . أقول : لما كانت المرأة مؤتمنة في العدة ونحوها مأمورة ألا تلبس عليهم أنسابهم وجب أن ترهب في ذلك وإنما عوقبت على هذا لأنه سعي في إبطال مصلحة العالم ومناقضة لما في جبلة النوع ، وذلك جالب بغض الملأ الأعلى حيث أمروا بالدعاء لصلاح النوع ، وأيضا ففي ذلك تخييب لولده وتضييق وحمل لنقل الولد على آخرين ، والرجل إذا أنكر ولده فقد عرضه للذل الدائم والعار الذي لا ينتهي حيث لا نسب له ، وأضاع نسمته حيث ى منفق عليه ، وهو يشبه قتل أولاد من جهة ، وعرض والدته للذل الدائم والعار الباقي طول العمر . ( العقيقة ) واعلم أن العرب كانوا يعقون عن أولادهم ، وكانت العقيقة أمرا لازما عندهم وسنة مؤكدة ، وكان فيها مصالح كثيرة راجعة إلى المصلحة الملية والمدينة فيمن تلك المصالح التلطف بإشاعة نسب الولد ، إذ لا بد من إشاعته لئلا يقال ما لا يحبه ، ولا يحسن أن يدور في السكك ، فينادي أنه ولد لي ولد . فتعين التلطف بمثل ذلك ، ومنها اتباع داعية السخاوة وعصيان داعية الشح ، ومنها أن النصارى كان إذا ولد لهم ولدا صبغوه بماء اصفر يسمونه المعمودية ، وكانوا يقولون : يصير الولد به نصرانيا ، وفي مشاكلة هذا الاسم نزل قوله تعالى : ! ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ) ! .
____________________
(1/727)
فاستحب أن يكون للحنفيين فعل بإزاء فعلهم ذ لك يشعر بكون الولد حنيفيا تابعا لملة إبراهيم واسماعيل عليهما السلام والنفسانية ، فأبقاها النبي صلى الله عليه وسلم وعمل بها ، ورغب الناس فيها من الإجماع على ذبح ولده ، ثم نعمة الله عليه أن فداه بذبح عظيم ، وأشهر شرائعهما الحج الذي فيه الحلق والذبح ، فيكون التشبه بهما في هذا تنويها بالملة الحنيفية ونداء أن الولد قد فعل به ما يكون من أعمال هذه الملة ، ومنها أن هذا الفعل في بدء ولادته يخيل إليه أنه بذل ولده في سبيل الله كما فعل إبراهيم عليه السلام ، وفي ذلك تحريك سلسلة الاحسان والانقياد كما ذكرنا في السعي بين الصفا والمروة . قال صلى الله عليه وسلم :
' مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى ' وقال صلى الله عليه وسلم '
الغلام مرتهن بعقيقته يذبح عنه يوم السابع ويسمى ويحلق ' . أقول : أما سبب الأمر في بالعقيقة فقد ذكرنا ، وأما تخصيص اليوم السابع فلأنه لا بد من فصل بين الولادة والعقيقة ، فإن أهله مشغولون باصلاح الوالدة والولد في أول الأمر ، فلا يكلفون حينئذ بما يضاعف شغلهم ، وأيضا فرب إنسان لا يجد شاة إلا بسعي ، فلو سن كونها في أول يوم لضاق الأمر عليهم ، والسبعة أيام مدة صالحة للفصل المعتد به غير الكثير ، وأما إماطة الأذى فللتشبه بالحاج ، وقد ذكرنا ، وأما التسمية فلأن الطفل قبل ذلك لا يحتاج أن يسمى . وعق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن بشاة ، وقال : ' يا فاطمة احلقي رأسه ، وتصدقي بزنة شعره فضة ' أقول السبب في التصدق بالفضة أن الولد لما انتقل من الجنينية إلى الطفلية كان ذلك نعمة يجب شكرها ، وأحسن ما يقع به الشكر ما يؤذن أنه عوضه ، فلما كان شعر الجنين
____________________
(1/728)
بقية النشأة الجنسية وإزالته أمارة للاستقلال بالنشأة الطفلية وجب أن يؤمر بوزن الشعر فضة ، وأما تخصيص الفضة فلأن الذهب أغلى ، ولا يجده إلا غني ، وسائر المتاع ليس له بال أن يزنه شعر المولود . وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة . أقول : السر في ذلك ما ذكرنا في العقيقة من المصلحة الملية ، فإن الأذان من شعائر الإسلام ، وإعلام الدين المحمدي ، ثم لا بد من تخصيص المولود بذلك الأذان ، ولا يكون إلا بأن بصوت به في أذنه ، وأيضا فقد علمت أن من خاصية الأذان أن يفر منه الشيطان ، والشيطان يؤذي الولد في أول نشأته حتى ورد في الحديث ' إن استهلاله لذلك ' . قال صلى الله عليه وسلم :
' عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة ' . أقول : يستحب لمن وجد الشاتين أن ينسك بهما عن الغلام وذلك لما عندهم أن الذكر أنفع لهم من الإناث ، فناسب في زيادة الشكر وزيادة التنويه به . قال صلى الله عليه وسلم : ' أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن ' اعلم أن أعظم المقاصد الشرعية أن يدخل ذكر الله في تضاعيف ارتفاقاتهم الضرورية ليكون كل ذلك ألسنة تدعوا إلى الحق ، وفي تسمية المولود بذلك إشعار بالتوحيد ، وأيضا فكان العرب وغيرهم يسمون الأولاد بمن يعبدونه ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم مقيما لمراسم التوحيد وجب أن يسن في التسمية أيضا مثل ذلك ، وإنما كان هذان الاسمان أحب من سائر ما يضاف فيه العبد إلى اسم من أسماء الله تعالى لأنهما أشهر الأسماء ، ولا يطلقان على غيره تعالى بخلاف غيرهما ، وأنت تستطيع أن تعلم من هذا سر استحباب تسمية المولود بمحمد وأحمد ، فإن طوائف الناس أولعوا بتسمية أولادهم
____________________
(1/729)
بأسماء أسلافهم المعظمين عندهم ، وكاد يكون ذلك تنويها بالدين وبمنزلة الإقرار بأنه من أهله . وقال صلى الله عليه وسلم :
' اخنى الأسماء يوم القيامة عند الله رجل يسمى ملك الأملاك ' . أقول : السبب فيه أن أصل أصول الدين هو تعظيم الله وألا يسوى به غيره وتعظيم الشيء مساوق لتعظيم اسمه ، ولذلك وجب ألا يسمى باسمه لا سيما هذا الاسم الدال على أعظم التعظيم ، قال الله تعالى : ! ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) ! الآية . أقول : لما توجهت إرادة الله تعالى إلى إبقاء نوع الإنسان بالتناسل ، وجرى بذلك قضاؤه وكان الولد لا يعيش في العادة إلا بتعاون من الوالد والوالدة في أسباب حياته ، وذلك أمر جبلي خلق الناس عليه بحيث يكون عصيانه ومخالفته تغييرا لخلق الله وسعيا في نقض ما أوجبته الحكمة الإلهية - وجب أن يبحث الشرع عن ذلك ، ويوزع عليهما ما يتيسر ، ويتأتى منهما ، والمتيسر من الوالدة أن ترضع . وتحضن . فيجب عليها ذلك ، والمتيسر من الوالد أن ينفق عليه من طوله ، وينفق عليها ، لأنه حبسها عن المكاسب ، وشغلها بحضانة ولده ، ومعاناة التعب فيها . فكان العدل أن تكون كفايتها عليه ، ولما كان من الناس من يستعجل الفطام ، وربما يكون ذلك ضارا بالولد حد الله له حدا تغلب السلامة عنده وهو حولان كاملان ، ورخص فيما دون ذلك بشرط تشاور منهما ، إذ كثيرا ما يكون الولد بحيث يقدر على التغذى قبلها ، ولكنه يحتاج إلى اجتهاد وتحر وهما أرفق الناس به وأعلمهم بسريرته ، ثم حرم المضادة من الجانبين لأنه
____________________
(1/730)
تضييق يفضي إلى نقصان التعاون فإن احتاجوا إلى الاسترضاع لضعف الوالدة أو مرضها ، أو تكون قد وقعت بينهما فرقة لا تلائمه ونحو ذلك من الأسباب فلا جناح فيه ، ويجب عند ذلك إيفاء الحق من الجانبين . ' قيل يا رسول الله ما يذهب عني مذمة الرضاع ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم :
' غرة عبد أو أمة ' . اعلم أن المرضع أم بعد الأم الحقيقية ، وبرها واجب بعد بر الأم حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم بسط رداءه لمرضعة إكراما لها ، وربما لا ترضى بما يهديه إليها وإن كثر ، وربما يستكثر الذي رضع القليل الذي يمنحها ، ويكون في ذلك الاشتباه ، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن حد يضر به ، فضرب الغرة حدا ، وذلك أن المرضع إنما أثبتت حقا في ذمته لأجل إقامة بنيته وتصييرها إياه إنسانا كاملا ولأجل حضانته ومقاساة التعب فيه ، فيكون الجزاء الوفاق أن يمنحها إنسانا يكون بمنزلة جوارحه فيما يريد من ارتفاقاته ، ويتحمل عنها مؤنة عملها ، وهو حد استحبابي لا ضروري . وقالت هند : ' إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني إلا أن آخذ من ماله بغير إذنه ، فقال صلى الله عليه وسلم : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ' أقول : لما كانت نفقة الولد والزوجة يعسر ضبطها فوضها النبي صلى الله عليه وسلم إليها ، وأكد اشتراط أخذها بالمعروف ، وأهمل الرجوع إلى القضاة مثلا لأنه عسير عند ذلك . قال صلى الله عليه وسلم :
' مروا أولادكم بالصلاة ' الحديث . وقد مر أسراره فيما سبق . واختلفت قضاياه صلى الله عليه وسلم في الأحق بالحضانة عند المشاجرة
____________________
(1/731)
منهما ، لأنه إنما ينظر إلى الأرفق بالولد والديه ، ولا ينظر إلى من يريد المضارة ، ولا يلتفت إلى المصلحة ، فإن الحسد والضرار غير متبع ، فجاءته مرة امرأة ، وقالت : يا رسول الله إن أبني هذا كان بطني له وعاء وثدي له سقاء ، وحجري له حواء ، وان أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني ، قال صلى الله عليه وسلم . ' أنت أحق به ما لم تنكحي ' . أقول : وذلك لأن الأم أهدى للحضانة وأرفق به ، فإذا نكحت كانت كالمملوكة تحته ، وإنما هو أجنبي لا يحسن إليه ، وخير غلاما بين أبيه وأمه وذلك إذا كان مميزا . اعلم أن الإنسان مدني بالطبع لا يستقيم معاشه إلا بتعاون بينهم ، ولا تعاون إلا بالألفة والرحمة فيما بينهم ، ولا ألفة إلا بالمواساة ومراعاة الخواطر من الجانبين ، وليس التعاون على مرتبة واحدة ، بل له مراتب يختلف باختلافها البر والصلة ، فأدناها الارتباط الواقع بين المسلمين ، وحد رسول الله صلى الله عليه وسلم البر فيما بينهم بخمس ، فقال : ' حق المسلم على المسلم خمس : رد السلام ، وعيادة المريض ، واتباع الجنائز ، وإجابة الدعوة وتشميت العاطس ' وفي رواية ستة السادسة ' إذا استنصحك فانصح له : وقال صلى الله عليه وسلم : ' أطعموا الجائع ، وفكوا العاني ' يعني الأسير . والسر في ذلك أن هذه الخمس أو الست خفيفة المؤنه مورثة للألفة ، ثم الارتباط الواقع بين أهل الحي والجيران والأرحام ، فتتأكد هذه الأشياء فيما بينهم ، وتتأكد التعزية والتهنئة والزيارة والمهاداة ، وأوجب النبي صلى الله عليه وسلم أمورا يتقيدون بها شاءوا أم أبوا كقوله صلى الله عليه وسلم :
' من ملك ذا رحم محرم فهو حر وكباب الديات ' .
____________________
(1/732)
ثم الارتباط الواقع بين أهل المنزل من الزوجة وما ملكت يمينه أما الزوجة فقد ذكرنا البر معها ، وأما ما ملكت اليمين فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بره على مرتبتين : إحداهما واجبه يلزمهم أشاءوا أم أبو ، والثانية ندب إليها ، وحث عليها من غير إيجاب . أما الأولى فقال صلى الله عليه وسلم :
' للمملوك طعامه وكسوته ، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق ' وذلك أنه مشغول بخدمته عن الاكتساب ، فوجب أن تكون كفايته عليه ، وقال صلى الله عليه وسلم :
' من قذف مملوكه ، وهو برئ مما قال جلد يوم القيامة ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' من جدع عبده فالعبد حر عليه ' . أقول : وذلك أن إفساد ملكه عليه مزجرة عن أن يفعل ما فعل . وقال صلى الله عليه وسلم لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله ' أقول : وذلك سد لباب الظلم والامعان في التعزيز زيادة بالحد على الحد ، أو المراد النهي عن أن يعاقب في حق نفسه أكثر من عشر جلدات كترك ما أمر به و نحو ذلك ، والمراد بالحد الذنب المنهي عنه لحق الشرع ، وهو قول القائل أصبت حدا ، وأرى ان هذا الوجه أقرب ، فان الخلفاء لم يزالوا يعزرون أكثر من عشر في حقوق الشرع . وأما الثانية فقوله صلى الله عليه وسلم :
ِ ' إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه ، ثم جاء به ، وقد ولى حره ودخانه ، فليقعده معه فليأكل ، فان كان الطعام مشفوها قليلا فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين ' وقوله صلى الله عليه وسلم :
' من ضرب غلاما له حدا لم يأته أو لطمه ، فان كفارته أن يعتقه ' ، وقوله
' إذا ضرب أحدكم خادمه ، فذكر اسم الله فليمسك .
____________________
(1/733)
قال صلى الله عليه وسلم :
' من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منها عضوا فيه من النار ' . أقول : العتق فيه جمع شمل المسلمين ، وفك عانيهم ، فجوزي جزاء وفاقا . وقال صلى الله عليه وسلم :
' من أعتق شقصا في عبد اعتق كله إن كان له مال ' ، أقول : سببه ما وقع التصريح به في نفس الحديث حيث قال صلى الله عليه وسلم :
' ليس لله شريك ' يريد أن العتق جعله لله ، وليس من الأدب أن يبقى معه ملك لأحد . قال صلى الله عليه وسلم :
' من ملك ذا رحم محرم فهو حر ' ، أقول : السبب فيه صلة الرحم ، فأوجب الله تعالى نوعا منها عليهم ، أشاءوا أم أبوا ، وإنما حض هذا لأن ملكة والتصرف فيه واستخدامه بمنزلة العبيد حفاء عظيم . قال صلى الله عليه وسلم :
' إذا ولدت أمة الرجل منه فهي معتقة عن دبر منه ' . أقول : السر في الإحسان إلى الولد لئلا يملك أمه غير أبيه ، فيكون عليه عار من هذه الجهة . وأوجب على العبد خدمة المولى وحرم عليه الاباق ، قال صلى الله عليه وسلم :
' إيما عبد أبق فقد برئ من الذمة حتى يرجع ' وحرم على المعتق أن يوالي غير مواليه .
____________________
(1/734)
وأعظم ذلك كله حرمة حق الوالدين ، قال صلى الله عليه وسلم :
' من أكبر الكبائر عقوق الوالدين ' وبرهما يتم بأمور : الإطعام والكسوة والخدمة إن احتاجا . وإذا دعاه الوالد أجاب . وإذا أمره أطاع ما لم يأمر بمعصية ، ويكثر زيارته ، ويتكلم معه بالكلام اللين ، ولا يقل أف ، ولا يدعوه باسمه ، ويمشي خلفه ، ويذب عنه من اغتابه وآذاه ، ويوقره في مجلسه ، ويدعو له بالمغفرة ، والله أعلم . ( من أبواب سياسة المدن ) اعلم أنه يجب أن يكون في جماعة المسلمين خليفة لمصالح لا تتم إلا بوجوده ، وهي كثيرة جدا يجمعها صنفان : أحدهما ما يرجع إلى سياسة المدينة من ذب الجنود التي تغزوهم وتقهرهم ، وكف الظالم عن المظلوم ، وفصل القضايا ، وغير ذلك ، وقد شرحنا هذه الحاجات من قبل . وثانيهما ما يرجع إلى الملة ، وذلك أن تنويه دين الإسلام على سائر الأديان لا يتصور إلا بأن يكون في المسلمين خليفة ينكر على من خرج من الملة ، وارتكب ما نصت على تحريمه أو ترك ما نصت على افتراضه أشد الانكار ، ويذل أهل سائر الأديان ويأخذ منهم الجزية عن يد وهم صاغرون ، وإلا كانوا متساوين في المرتبة لا يظهر فيهم رجحان إحدى الفزقتين على الأخرى ، ولم يكن كابح يكبحم عن عدوانهم . والنبي صلى الله عليه وسلم جمع تلك الحاجات في أبواب أربعة : باب المظالم . وباب الحدود . وباب القضاء . وباب الجهاد ، ثم وقعت الحاجة إلى ضبط كليات هذه الأبواب وترك الجزئيات إلى رأى الأئمة ووصيتهم بالمجاعة ' خيرا ، وذلك لوجوه :
____________________
(1/735)
منها أن متولي الخلافة كثيرا ما يكون جائرا ظالما يتبع هواه ، ولا يئبع الحق ، فيفسدهم ، وتكون مفسدته عليهم أشد مما يرجى من مصلحتهم ، ويحتج فيما يفعل أنه تابع للحق ، وأنه رأى المصلحة في ذلك ، فلا بد من كليات ينكر على من خالفها ، ويؤاخذ بها ، ويرجع احتجاجهم عليها إليها . ومنها أن الخليفة يجب أن يصحح على الناس ظلم الظالم ، وأن العقوبة ليست زائدة على قدر الحاجة ، ويصحح في فصل القضايا أنه قضى بالحق ، وإلا كان سببا لاختلافهم عليه ، وأن يجد الذي كان الضرر عليه وأوليائه في أنفسهم وحرا راجعا إلى غدر ، ويضمروا عليه حقدا يرون فيه أن الحق بأيديهم وذلك مفسدة شديدة . ومنها أن كثيرا من الناس لا يدركون ما هو الحق في سياسة المدينة ، فيجتهدون ، فيخطئون يمينا وشمالا ، فمن صلب شديد يرى البالغ في المزجرة قليلا ، ومن سهل لين يرى القليل كثيرا ، ومن أذن إمعة يرى كل ما أنهى إليه المدعى حقا ، ومن متمنع كؤود يظن بالناس ظنونا فاسدة ، ولا يمكن الاستقصاء ، فانه كالتكليف بالمحال ، فيجب أن تكون الأصول مضبوطة ، فان اختلافهم في الفروع أخف من اختلافهم في الأصول . ومنها أن القوانين إذا كانت ناشئة من الشرع كانت بمنزلة الصلاة والصيام في كونها قربة إلى الحق ، والسنة تذكر الحق عند القوم ، وبالجملة فلا يمكن أن يفوض الأمر بالكلية إلى أولي أنفس شهوية أو سبعية ، ولا يمكن معرفة العصمة والحفظ عن الجواز في الخلفاء والمصالح التي ذكرناها في التشريع وضبط المقادير كلها متأتيه ههنا ، والله أعلم .
____________________
(1/736)
( الخلافة ) اعلم أنه يشترط في الخليفة أن يكون عاقلا بالغا حرا ذكرا شجاعا ذا رأي وسمع وبصر ونطق ، وممن سلم الناس شرفه وشرف قومه ، ولا يستنكفون عن طاعته ، قد عرف منه أنه يتبع الحق في سياسة المدينة ، هذا كله يدل عليه العقل ، واجتمعت أمم بني آدم على تباعد بلدانهم واختلاف أديانهم على اشتراطها ، ولما رأوا أن هذه الأمور لا تتم المصلحة المقصودة من نصب الخليفة إلا بها ، وإذا وقع شيء من إهمال هذه رأوه خلاف ما ينبغي ، وكرهه قلوبهم ، وسكتوا على غيظ ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في فارس لما ولوا عليه امرأة . ' لن يفلح قوم ولوا عليهم امرأة ' . والمملة المصطفوية اعتبرت في خلافة النبوة أمورا أخرى : منها الإسلام ، والعلم ، والعدالة ، وذلك لأن المصالح الملية لا تتم بدونها ضرورة اجمع المسلمون عليه ، والأصل في ذلك قوله تعالى : ! ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ) ! إلى قوله تعالى : ! ( فأولئك هم الفاسقون ) ! . ومنها كونه من قريش ، قال النبي صلى الله عليه وسلم :
' الأئمة من قريش ' والسبب المقتضي لهذا أن الحق الذي أظهره الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إنما جاء بلسان قريش وفي عاداتهم ، وكان أكثر ما تعين من المقادير والحدود ما هو عندهم ، وكان المعد لكثير من الأحكام ما هو فيهم ، فهم أقوم به وأكثر الناس تمسكا بذلك ، وأيضا فإن قريشا قوم النبي صلى الله عليه وسلم وحزبه ، ولا فخر لهم إلا بعلو دين محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد اجتمع فيهم حمية دينيه وحمية نسبيه ، فكانوا مظنة القيام
____________________
(1/737)
بالشرائع والتمسك بها ، وأيضا فإنه يجب أن يكون الخليفة ممن لا يستنكف الناس من طاعته لجلالة نسبه وحسبه ، فإن من نسب له يراه الناس حقيرا ذليلا ، وان يكون ممن عرف منهم الرياسات والشرف ، ومارس قومه جمع الرجال ونصب القتال ، وأن يكون قومه أقوياء يحمونه ، وينصرونه ، ويبذلون دونه الأنفس ، ولم تجتمع هذه الأمور إلا في قريش لا سيما بعد ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ونبه به أمر قريش . وقد أشار أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى هذه فقال : ولن يعرف هذا الأمر إلا بقريش هم أوسط العرب دارا الخ . وإنما لم يشترط كونه هاشميا مثلا لوجهين : أحدهما ألا يقع الناس في الشك ، فيقولوا إنما أراد ملك أهل بيته كسائر الملوك فيكون سببا للارتداد ولهذه العلة لم يعط النبي صلى الله عليه وسلم المفتاح لعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه . والثاني أن المهم في الخلافة رضا الناس به واجتماعهم عليه وتوقيرهم إياه وأن يقيم الحدود ، ويناضل دون الملة ، وينفذ الأحكم ، واجتماع هذه الأمور لا يكون إلا في واحد بعد واحد ، وفي اشتراط أن تكون من قبيلة خاصة تضييق وحرج فربما لم يكن في هذه القبيلة من تجتمع فيه الشروط ، وكان في غيرها ، ولهذه العلة ذهب الفقهاء إلى المنع عن اشتراط كون المسلم فيه من قرية صغيرة وجوزوا كونه من قرية كبيرة . وتنعقد الخلافة بوجوه : بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء وأمراء الأجناد ممن يكون له رأى ونصيحة للمسلمين ، كما انعقدت خلافة أبي بكر رضي الله عنه .
____________________
(1/738)
وبأن يوصي الخليفة الناس به ، كما انعقدت خلافة عمر رضي الله عنه أو يجعل شورى بين قوم ، كما كان انعقاد خلافة عثمان ، بل علي أيضا رضي الله عنهما ، أو استيلاء رجل جامع للشروط على الناس وتسلطه عليهم ، كسائر الخلفاء بعد خلافة النبوة ، ثم إن إستوى من لم يجمع الشروط لا ينبغي أن يبادر إلى المخالفة . لأن خلعه لا يتصور غالبا إلا بحروب ومضايقات ، وفيها من المفسدة اشد مما يرجى من المصلحة ، وسئل رسول صلى الله عليه وسلم عنهم فقيل : أفلا ننابذهم ؟ قال : ' لا ما أقاموا فيكم الصلاة ' وقال : ' إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان ' وبالجملة فإذا كفر الخليفة بانكار ضرورى من ضروريات الدين حل قتاله بل وجب وإلا لا ، وذلك لأنه حينئذ فاتت مصلحة نصبه ، يل يخاف مفسدته على القوم ، فصار قتاله من الجهاد في سبيل الله . قال صلى الله عليه وسلم :
' السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب ، وكره ، ما لم يؤمو بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ' أقول لما كان الإمام منصوبا لنوعين من المصالح اللذين بهما انتظام الملة والمدن . وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم لأجلهما والامام نائبه ومنفذ أمره - كانت طاعته طاعة رسول الله ، ومعصيته معصية رسول الله إلا أن يأمر بالمعصية ، فحينئذ ظهر أن طاعته ليس بطاعة الله ، وأنه ليس نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قال عليه السلام . ' ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني ' .
____________________
(1/739)
قال صلى الله عليه وسلم :
' إنما الامام جنة يقاتل من ورائه ، ويتقي به ، فان أمر بتقوى الله ، وهدى فان له بذلك أجرا ، وإن قال بغيره فان عليه منه ' . أقول إنما جعله بمنزلة الجنة لأنه سبب اجتماع كلمة المسلمين والذب عنهم . وقال صلى الله عليه وسلم :
' من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصير ، فانه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية ' . أقول وذلك لأن الإسلام إنما امتاز من الجاهلية بهذين النوعين من المصالح ، والخليفة نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما ، فإذا فارق منفذهما ومقيمهما أشبه الجاهلية . قال صلى الله عليه وسلم :
' ما من عبد يسترعيه الله رعية ، فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة ' أقول لما كان نصب الخليفة لمصالح وجب أن يؤمر الخليفة بايفاء هذه المصالح ، كما أمر الناس أن ينقادوا له ، لتتم المصالح من الجانبين . ثم إن الامام لما كان لا يستطيع بنفسه أن يباشر جباية الصدقات وأخذ العشور وفصل القضاء في كل ناحية وجب بعث العمال والقضاة ، ولما كان أولئك مشغولين بأمر من مصالح العامة وجب أن تكون كفايتهم في بيت المال ، وإليه الإشارة في قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما استخلف
____________________
(1/740)
لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي وشغلت بأمر المسلمين ، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال ، ويحترف للمسلمين فيه . ثم وجب أن يؤمر العامل بالتيسير ، وينهى عن الغلول والرشوة ، وأن يؤمر القوم بالانقياد له لتتم المصلحة المقصودة ، وهذا قوله صلى الله عليه وسلم : إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة وقال صلى الله عليه وسلم ' من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول ' ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي ، والسر في ذلك أنه ينافي المصلحة المقصودة ويفتح باب المفاسد . وقال صلى الله عليه وسلم : ' لا تستعمل من طلب العمل ' أقول وذلك لأنه قلما يخلوا طلبه من داعية نفسانية ، وقال صلى الله عليه وسلم . إذ جاءكم العامل فليصدر وهو عنكم راض ' ثم وجب أن يقدر القدر الذي يعطى العمال في عملهم لئلا يجاوزه الامام ، فيفرد ، أو يفرط ، ولا يعدوه العامل بنفسه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة ، فان لم يكن له خادم فليكتسب خادما , فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا . فاذا بعث الامام العامل في صدقات سنة فليجعل له فيها ما يكفي مؤنته ، ويفضل فضل بقدر به على حاجة من هذه الحوائج ، فان الزائد لا حد له ، والمؤنة بدون زيادة لا يتعانى لها العامل ، ولا يرغب فيها
____________________
(1/741)
( المظالم ) اعلم أن من أعظم المقاصد التي قصدت ببعثة الأنبياء عليهم السلام دفع المظالم من بين للناس ، فان تظالمهم يفسد حالهم ، ويضيق عليهم ، ولا حاجة إلى شرح ذلك ، والمظالم على ثلاثة أقسام : تعد على النفس ، وتعد على أعضاء الناس ، وتعد على أموال الناس ، فاقتضت حكمة من الله أن يزجر عن كل نوع من هذه الأنواع بزواجر قوية تردع الناس عن أن يفعلوا ذلك مرة أخرى ، ولا ينبغي أن تجعل هذه الزواجر على مرتبة واحدة فان القتل ليس كقطع الطرف ؛ ولا قطع الطرف كاستهلاك المال . وأن الدواعي التي تنبعث منها هذه المظالم لها مراتب ؛ فمن البديهي أن تعمد القتل ليس كالتساهل المنجر إلى الخطأ : فأعظم المظالم القتل ، وهو أكبر الكبائر ، أجمع عليه أهل الملل قاطبتهم ، وذلك لأنه طاعة النفس في داعية لغضب ، وهو أعظم وجوه الفساد فيما بين الناس ، وهو تغيير خلق الله وهدم بنيان الله ومناقضة ما أراد الحق في عباده من انتشار نوع الإنسان والقتل على ثلاثة أقسام : عمد ، وخطأ ، وشبه عمد ، فالعمد هو القتل الذي يقصد فيه إزهاق روحه بما يقتل غالبا جارحا أو مثقلا ، والخطأ ما لا يقصد فيه إصابته ، فيصيبه فيقتله كما إذا وقع على إنسان فمات أو رمى شجرة ، فأصابه ، فمات . وشبه العمد أن يقصد الشخص بما لا يقتل غالبا ، فيقتله كما إذا ضرب بسوط أو عصا فمات ،
____________________
(1/742)
وإنما جعل على ثلاثة أقسام لما أشرنا من قبل أن الزاجر ينبغي أن يكون بحيث يقاوم الداعية والمفسدة ، ولهما مراتب ، فلما كان العمد أكثر فسادا وأشد داعية وجب أن يغلظ فيه بما يحصل زيادة الزجر ، ولما كان الخطأ أقل فسادا وأخف داعية وجب أن يخفف من جزائه ، واستنبط النبي صلى الله عليه وسلم بين العمد والخطأ نوعا آخر لمناسبة منهما وكونه برزخا بينهما ، فلا ينبغي أن يدخل في أحدهما . فالعمد فيه قوله تعالى : ! ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ) ! . ظاهره أنه لا يغفر له ، وإليه ذهب ابن عباس رضي الله عنهما ، لكن الجمهور وظاهر السنة على أنه بمنزلة سائر الذنوب ، وأن هذه التشديدات للزجر وأنها تشبيه لطول مكثه بالخلود واختلفوا في الكفارة فان الله تعالى لم ينص عليها في مسألة العمد قال الله تعالى : ! ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) ! . نزلت في حيين من أحياء العرب : أحدهما أشرف من الآخر ، فقتل الأوضع من الأشرف قتلى فقال الأشرف لنقتلن الحر بالعبد والذكر بالأنثى ، ولنضاعفن الجراح . ومعنى الآية - والله أعلم أن خصوص الصفات لا يعتبر في القتلى كالعقل ، والجمال ، والصغر ، والكبر وكونه شريفا أو ذا مال ونحو ذلك ،
____________________
(1/743)
وإنما تعتبر الأسامي والمظان الكلية ، فكل امرأة مكافئة لكل امرأة ، ولذلك كانت ديات النساء واحدة وإن تفاوتت الأوصاف ، وكذلك الحر يكافئ الحر ، والعبد يكافئ العبد ، فمعنى القصاص التكافؤ وأن يجعل اثنان في درجة واحدة من الحكم لا يفضل أحدهما على الآخر لا القتل مكانه ألبتة ، ثم أثبتت السنة أن المسلم لا يقتل بالكافر ، وأن الحر لا يقتل بالعبد . والذكر يقتل بالأنثى لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل اليهودي بجارية وفي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أقيال همدان ' ويقتل الذكر بالأنثى ' وسره أن القياس فيه مختلف ، ففضل الذكور على الإناث ، وكونهم قوامين عليهن يقتضي ألا يقاد بها وأن الجنس واحد ، وإنما الفرق بمنزلة الفرق الصغير والكبير وعظيم الجثة وحقيرها ، ورعاية مثل ذلك عسيرة جدا ، ورب امرأة هي أتم من الرجال في محاسن الخصال تقتضي أن يقاد ، فوجب أن يعمل على القياسين ، وصورة العمل بهما أنه اعتبر المقاصة في القود وعدم المقاصة في الدية ، وإنما فعل ذلك لأن صاحب العمد قصدها وقصد التعدي عليها ، والمتعمد المتعدى ينبغي أن يذب عنها أتم ذب ، فإنها ليست بذات شوكة ، وقتلها ليس فيه حرج بخلاف قتل الرجال فإن الرجل يقاتل الرجل ، فكانت هذه الصورة أحق بإيجاب القود ؛ ليكون ردعا وزجرا عن مثله . وقال صلى الله عليه وسلم :
' لا يقتل مسلم لكافر ' . أقول : والسر في ذلك أن المقصود الأعظم في الشرع تنويه الملة الحنيفية ، ولا يحصل إلا بأن يفضل المسلم على الكافر ، ولا يسوي بينهما . وقال صلى الله عليه وسلم :
' لا يقاد الوالد بالولد ' أقول : السبب في
____________________
(1/744)
ذلك أن الوالد شفقته وافرة ، وحبه عظيم ، فاقدامه على القتل مظنة أنه لم يتعمده . وإن ظهرت مخايل العمد أو كان لمعنى أباح قتله ، وليست دلالة هذه اقل من دلالة استعمال ما لا يقتل غالبا على أنه لم يقصد إزهاق الروح . وأما القتل شبه العمد ، فقال فيه صلى الله عليه وسلم :
' من قتل في عمية في رمي يكون فيهم بالحجارة أو جلد بالسياط أو ضرب بعصا فهو خطأ وعقله عقل الخطأ ' . أقول : معناه أنه يشبه الخطأ وأنه ليس من العمد وأن عقله مثل عقله في الأصل ، وإنما يتمايزا في الصفة ، أو أنه لا فرق بينه وبينه في الذهب والفضة واختلفت الرواية في الدية المغلظة . فقول ابن مسعود رضي الله عنه : إنها تكون أرباعا خمسا وعشرين جذعة . وخمسا وعشرين حقة ، وخمسا وعشرين بنت لبون ، وخمسا وعشرين بنت مخاض ، وعنه صلى الله عليه وسلم ' ألا إن في قتل العمد الخطأ بالسوط أو العصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها الأولادها ، وفي رواية ' ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفه ' وما صولحوا عليه فهو لهم ' . وأما القتل الخطأ ففيه الدية المخففة المخمسة عشرون بن مخاض . وعشرون ابن مخاض . وعشرون بنت لبون . وعشرون حقة وعشرون جذعة ، وفي هذين القسمين إنما تجب الدية على العاقلة في ثلاث سنين . ولما كانت هذه الأنواع مختلفة المراتب روعي في ذلك التخفيف والتغليظ من وجوه : منها أن سفك دم القاتل لم يحكم به إلا في العمد . ولم يجعل في الباقيين إلا الدية ، وكان في شريعة اليهود القصاص لا غير : فخفف الله على هذه الأمة ،
____________________
(1/745)
فجعل جزاء القتل العمد عليها أحد الأمرين القتل . والمال ، فلربما كان المال أنفع للأولياء من الثأر ، وفيه إبقاء نسمة مسلمة . ومنها أن كانت الدية في العمد واجبة على نفس القاتل وفي غيره تؤخذ من عاقلته ؛ لتكون مزجرة شديدة وابتلاء عظيما للقاتل ينهك ماله أشد إنهاك ، وإنما تؤخذ في غير العمد من العاقلة لأن هدر الدم مفسدة عظيمة ، وجبر قلوب المصابين مقصود ، والتساهل من القاتل في مثل هذا الأمر العظيم ذنب يستحق التضييق عليه ، ثم لما كانت الصلة واجبة على ذوي الأرحام اقتضت الحكمة الإلهية أن يوجب شيء من ذلك عليهم أشاءوا أم أبوا ، وإنما تعين هذا لمعنيين . أحدهما أن الخطأ وإن كان مأخوذا به لمعنى التساهل فلا ينبغي أن يبلغ به أقصى المبالغ ، فكان أحق ما يوجب عليهم عن ذوي رحمهم ما يكون الواجب في التخفيف عليه . والثاني أن العرب كانوا يقومون بنصرة صاحبهم بالنفس والمال عندما يضيق عليه الحال ، ويرون ذلك صلة واجبة وحقا مؤكدا ، ويرون تركه عقوقا وقطع رحم ، فاستوجبت عاداتهم تلك أن يغين لهم ذلك . ومنها أن جعل دية العمد معجلة في سنة واحدة ، ودية غيره مؤجلة في ثلاث سنين لما ذكرنا من معنى التخفيف . والأصل في الدية أنها يجب أن تكون مالا عظيما يغلبهم ، وينقص من مالهم ، ويجدون له بالا عندهم ويكون بحيث يؤدونه بعد مقلساة الضيق ؛ ليحصل الزجر وهذا القدر يختلف باختلاف الأشخاص ، وكان أهل الجاهلية قدروها بعشرة من الإبل ، فلما رأى عبد المطلب أنهم لا ينزجرون بها بلغها إلى مائة ، وأبقاها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لأن العرب يومئذ كانوا أهل إبل ، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف أن شرعه
____________________
(1/746)
لازم للعرب والعجم وسائر الناس ، وليسوا كلهم أهل إبل ، فقدر من الذهب ألف دينار ، ومن الفضة اثني عشر ألف درهم ، ومن البقر مائتي بقرة ، ومن الشاء ألفي شاة . والسبب في هذا إذا مائة رجل إن وزع عليهم ألف دينار في ثلاث سنين أصاب كل واحد منهم في سنة ثلاثة دنانير وشيء ، ومن الدراهم ثلاثون درهما وشيء ، وهذا شيء لا يجدون لأقل منه بالا ، والقبائل تتفاوت فيما بينها ، يكون منها الكبيرة ، ومنها الصغيرة ، وضبط الصغيرة بخمسين ، فإنهم أدنى ما تتقرى بهم القرية ، ولذلك جعل القسامة خمسين يمينا متوزعة على خمسين رجلا ، والكبيرة ضعف الخمسين فجعلت الدية مائة ليصيب كل واحد بعيرا أو بعيران أو بعير وشيء في أكثر القبائل عند استواء حالهم . والأحاديث التي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رخصت الإبل خفض من الدية ، وإذا غلت رفع منها ، فمعناها عندي أنه كان يقضي بذلك على أهل الإبل خاصة ، وأنت إن فتشت عامة البلاد وجدتهم ينقسمون إلى أهل تجارات وأموال وهم أهل الحضر ، وأهل رعي ، وهم أهل البدو لا يجاوزهم حال الأكثرين . قال الله تعالى : ! ( ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ) ! . الآية أقول . إنما وجب في الكفارة تحرير رقبة مؤمنة أو إطعام ستين مسكينا ليكون طاعة مكفرة له فيما بينه وبين الله فإن الدية مزجرة تورث فيه الندم بحسب تضييق الناس عليه ، والكفارة فيما بينه وبين الله تعالى . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
' لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث . النفس بالنفس .
____________________
(1/747)
والثيب الزاني . والمفارق لدينه التارك للجماعة . ' أقول . الأصل المجمع عليه في جميع الأديان أنه إنما يجوز القتل لمصلحة كلية لا تتأتى بدونه ، ويكون تركها اشد إفسادا منه ، وهو قوله تعالى . ! ( والفتنة أشد من القتل ) ! . وعندما تصدى النبي صلى الله عليه وسلم للتشريع وضرب الحدود وجب أن يضبط المصلحة الكلية المسوغة للقتل ولو لم يضبط ، وترك سدى لقتل منهم قاتل من ليس قتله من المصلحة الكلية ظنا أنه منها فضبط بثلاث : القصاص فإنه مزجرة ، وفيه مصالح كثيرة قد أشار الله تعالى إليها بقوله . ! ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) ! . والثيب الزاني لأن الزنا من أكبر الكبائر في جميع الأديان ، وهو من أصل ما تقتضيه الجبلة الإنسانية ، فإن الإنسان عند سلامة مزاجه يخلق على الغيرة أن يزاحمه أحد على موطوأته كسائر البهائم ، إلا أن الإنسان استوجب أن يعلم ما به إصلاح النظام فيما بينهم ، فوجب عليهم ذلك . والمرتد اجترأ على الله ودينه ، وناقض المصلحة المرعية في نصب الدين وبعث الرسل . وأما ما سوى هؤلاء الثلاث مما ذهبت إليه الأمة مثل الصائل . ومثل المحارب من غير أن يقتل أحداً عند من يقول بالتخيير بين أجزية المحارب فيمكن إرجاعه إلى أحد هذه الأصول . واعلم أنه كان أهل الجاهلية يحكمون بالقسامة وكان أول من قضى بها أبو طالب كما بين ذلك ابن عباس رضي الله عنهما وكان فيها مصلحة عظيمة ، فإن القتل ربما يكون في المواضع الخفية والليالي المظلمة حيث لا تكون البينة
____________________
(1/748)
فلو جعل مثل هذا القتل هدرا لاجترأ الناس عليه ولعم الفساد ، ولو أخذ بدعوى أولياء المقتول بلا حجة لادعى الناس على كل من يعادونه ، فوجب أن يؤخذ بأيمان جماعة عظيم تتقرى بها قرية ، وهم خمسون رجلا ، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم ، وأثبتها . واختلف الفقهاء في العلة التي تدار عليها ، فقيل . وجود قتيل به أثر جراحة من ضرب أو خنق في موضع هو في حفظ قوم كمحلة ، ومسجد ، ودار ، وهذا مأخوذ من قصة عبد الله بن سهل وجد قتيلا بخيبر يتشحب في دمه ، وقيل . وجود قتيل وقيام لوث على أحد أنه القاتل باخبار المقتول أو شهادة دون النصاب ونحوه ، وهذا مأخوذ من قصة القسامة التي قضى بها أبو طالب . قال صلى الله عليه وسلم .
' دية الكافر نصف دية المسلم ' أقول . السبب في ذلك ما ذكرنا قبل أنه يجب أن ينوه بالملة الإسلامية ، وأن يفضل المسلم على الكافر ، ولأن قتل الكافر أقل إفسادا بين المسلمين ؛ وأقل معصية ؛ فإنه كافر مباح الأصل يندفع بقتله شعبة من الكفر ، وهو مع ذلك ذنب وخطيئة وإفساد في الأرض ، فناسب أن تخفف ديته . وقضى صلى الله عليه وسلم في الاملاص بغرة عبد أو أمة اعلم أن الجنين فيه وجهان : كونه نفسا من النفوس البشرية ، ومقتضاه أن يقع في عوضه النفس ، وكونه طرفا وعضوا من أمة لا يستقل بدونها ومقتضاه أن يجعل بمنزلة سائر الجروح في الحكم بالمال ، فروعي الوجهان فجعل ديته مالا هو أدمي وذلك غاية العدل . وأما التعدي على أطراف الإنسان فحكمه مبني على أصول : أحدها أن ما كان منها عمدا ففيه القصاص إلا أن يكون القصاص فيه مفضيا إلى الهلاك فذلك مانع من القصاص ، وفيه قوله تعال ى :
____________________
(1/749)
! ( النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ) ! . فالعين بمرآة محماة والسن بالمبرد ولا تقلع لأن في القلع خوف زيادة الأدى . وفي الجروح إذا كان كالموضحة القصاص يقبض على السكين بقدر عمق الموضحة فان كان كسر العظم فلا قصاص لأنه يخاف منه الهلاك . وجاء عن بعض التابعين لطمة بلطمة . وقرصة بقرصة . والثاني أن ما كان إزالة لقوة نافعة في الإنسان كالبطش . والمشي والبصر . والسمع . والعقل . والباءة ، ويكون بحيث يصير الإنسان به كلا على الناس ، ولا يقدر على الاستقلال بأمر معيشته ، ويلحق به عار فيما بين الناس ، ويكون مثله يتغير بها خلق الله ، ويبقى أثرها في بدنه طول الدهر فانه يجب فيها الدية كاملة ، وذلك لأنه ظلم عظيم وتغيير لخلقه ومثله به وإلحاق عار به وكان الناس لا يقومون بنصرة المظلوم بأمثال ذلك كما يقومون في باب القتل ، ويحقر أمرهم الظالم والحاكم . وعصبة الظالم وعصبة المظلوم فاستوجب ذلك أن يؤكد الأمر فيه ويبلغ مزجرته أقصى المبالغ . والأصل في قوله صلى الله عليه وسلم في كتابه إلى أهل اليمن : ' في الأنف إذا أوعب جدعة الدية ، وفي الاسنان الدية ، وفي الشفتين الدية ، وفي البيضتين الدية ، وفي الذكر الدية ، وفي الصلب الدية ، وفي العينين الدية ' وقال عليه السلام .
' في العقل الدية ' . ثم ما كان إتلافا لنصف هذه المنفعة ففيه نصف الدية ، في الرجل الواحده نصف الدية ، وفي اليد الواحدة نصف الدية ، وما كان إتلافا لعشرها كأصبع
____________________
(1/750)
من أصابع اليدين والرجلين ففيه عشر الدية ، وفي كل سن نصف عشر الدية ، وذلك لأن الأسنان تكون ثمانية وعشرين . وستة وعشرين ، والكسر الذي يكون بإزاء نسبة الواحد إلى ذلك العدد خفي محتاج إلى التعمق في الحساب ، فأخذنا العشرين ، وأوجبنا نصف عشر الدية . والثالث أن الجروح التي لا تكون إبطالا لقوة مستقلة ولا لنصفها ، ولا تكون مثله ، وإنما هي تبرأ ، وتندمل لا ينبغي أن تجعل بمنزلة النفس ولا بمنزلة اليد والرجل ، فيحكم بنصف الدية ، ولا ينبغي أن يهدر ولا يجعل بإزائه شيء ، فأقلها الموضحة إذ ما كان دونها يقال له خدش وخمش لا جرح ، والموضحة ما يوضح العظم ففيه نصف العشر لآن نصف العشر أقل حصة يعرف من غير إمعان في الحساب ، وإنما يبنى الأمر في الشرائع على السهام المعلوم مقدارها عند الحاسب وغيره ، والمنقلة فيها خمسة عشر بعيرا لأنها إيضاح وكسر ونقل فصار بمنزلة ثلاثة إيضاحات والجائفة والآمة أعظما الجراحات فمن حقهما أن يجعل في كل واحدة منهما ثلث الدية لأن الثلث يقدر به ما دون النصف . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' هذه وهذه سواء ' يعني الحنصر والابهام ، وقال ' الثنية والضرس سواء ' . أقول والسبب أن المنافع الخاصة بكل عضو عضو لما صعب ضبطها وجب أن يدار الحكم على الأسامي والنوع .
____________________
(1/751)
واعلم أن من القتل والجرح ما يكون هدرا وذلك لأحد وجهين : إما أن يكون دفعا لشر يلحق به ، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم في جواب من قال :
' يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال : فلا تعطه مالك ، قال : أرأيت إن قاتلني ؟ قال : قاتله ، قال : أرأيت إن قتلني ؟ قال : فأنت شهيد ، قال : أرأيت إن قتلته ؟ قال : هو في النار ' . وعض إنسان إنسانا ، فانتزع المعضوض يده من فمه ، فأندر ثنيته ، فأهدرها رسول الله صلى الله عليه وسلم . فالحاصل أن الصائل على نفس الإنسان أو طرفه أو ماله يجوز ذبه بما أمكن ، فان انجر الأمر إلى القتل لا إثم فيه ، فان الأنفس السبعية كثيرا ما يتغلبون في الأرض ، فلو لم يدفعوا لضاق الحال وقال صلى الله عليه وسلم :
' لو اطلع في بيتك أحد ، ولم تأذن له ، فحذفته بحصاة ، ففقأت عينه ما كان عليك من جناح ' . وأما أن يكون بسبب ليس فيه تعد لأحد ، وإنما هو بمنزلة الآفات السماوية ، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم :
' العجماء جبار ، والمعدن جبار ، والبئر جبار ' . أقول : وذلك لأن البهائم تسرح للمرعى ، فاذا أصابت أحدا لم يكن ذلك من صنع مالكها ، وكذلك إذا وقع في البئر أو انطبق عليه المعدن ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم سجل عليهم أن يحتاطوا لئلا يصاب أحد منهم بخطأ ، فان من القرف والتلف .
____________________
(1/752)
ومنه نهيه صلى الله عليه وسلم عن الحذف قال : ' إنه لا يصاد به صيد ، ولا ينكأ به عدو ، ولكنه قد يكسر السن ، ويفقأ العين ' . وقال صلى الله عليه وسلم : ' إذا مر أحدكم في مسجدنا أو في سوقنا ومعه نبل فليمسك على نصالها أن تصيب أحدا من المسلمين منها شيء ' . وقال صلى الله عليه وسلم :
' لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع من يده ، فيقع في حفرة من النار ' . وقال صلى الله عليه وسلم :
' من حمل علينا السلاح فليس منا ' . ونهى عليه السلام أن يتعاطى السيف مسلولا ، ونهى أن يقدر السير بين أصبعين . وأما التعدي على أموال الناس فأقسام : غصب . وإتلاف . وسرقة . ونهب . . . أما السرقة . والنهب فستعرفهما ، وأما الغصب فاغا هو تسلط على مال الغير معتمدا على شبهة واهية لا يثبتها الشرع ، أو اعتمادا على ألا يظهر على الحكام جلية الحال ، ونحو ذلك ، فكان حريا أن يعد من المعاملات ، ولا يبتنى عليه الحدود ، ولذلك كان غصب ألف درهم لا يوجب القطع ، وسرقة ثلاثة دراهم توجبه . وأما الاتلاف فيكون عمدا . وشبه عمد . وخطأ ، لكن الأموال لما كانت دون الأنفس لم يجعل لكل واحد منها حكما وكفى الضمان عن جميعها زاجرا . قال رسولى الله صلى الله عليه وسلم : ' من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه يوم القيامة من سبع أرضين ' .
____________________
(1/753)
أقول لقد علمت مرارا أن الفعل الذي ينقض المصلحة المدنية ، ويحصل به الإيذاء والتعدي يستوجب لعن الملأ الأعلى ، ويتصور العذاب بصورة العمل أو مجاروه . وقال صلى الله عليه وسلم :
' على اليد ما أخذت ' . أقول : هذا هو الأصل في باب الغصب والعارية يجب رد عينه ، فان تعذر فرد مثله . ودفع عليه السلام صحفة في موضع صحفة كسرت ، وأمسك المكسورة أقول : هذا هو الأصل في باب الاتلاف ، والظاهر من السنة أنه يجوز أن يغرم في المتقومات بما يحكم به العامة والخاصة أنه مثلها كالصحفة مكان الصحفة ، وقضى عثمان رضي الله عنه بمحضر من الصحابه رضي الله عنهم على المغرور أن يفدى بمثل أولاده . وقال صلى الله عليه وسلم :
' من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به ، ويتبع البيع من باعه ' أقول السبب المقتضي لهذا الحكم أنه إذا وقعت هذه الصورة فيحتمل أن يكون في كل جانب الضرر والجور ، فإذا وجد متاعه عند رجل . فان كانت السنة أن يهمله حتى يجد بائعه ففيه ضرر عظيم لصاحب المتاع ، فان الغاصب أو السارق إذا عثر على خيانته ربما يحتج بأنه اشتري من إنسان يذب بذلك عن نفسه ، وربما يكون السارق والغاصب وكل بعض الناس بالبيع لئلا يؤاخذ هو ولا البائع ، وفي ذلك فتح باب ضياع حقوق الناس ، وربما لا يجد البائع إلا عند غيبة هذا المشتري فيؤاخذه فلا يجد عنده شيء فيسكت على خيبة ، وإن كانت السنة أن يقبضه في الحال ففيه ضرر للمشتري لأنه ربما يبتاع من السوق لا يدري من البائع وأين محله ثم يستحق ماله ولا يجد البائع فيسكت على خيبة وربما يكون له حاجة إلى المتاع ويكون في قبض
____________________
(1/754)
المستحق إياه حوالته على البائع فوت حاجته فلما دار الأمر بين ضررين ولم يكن بد من وجود أحدهما وجب أن يرجع إلى الأمر الظاهر الذي تقبله أفهام الناس من غير ريبة وهو هنا أن الحق تعلق بهذه العين والعين تحبس في العين المتعلق به إذا قامت البينة وارتفع الأشكال ، وعلى هذا القياس ينبغي أن تعتبر القضايا . وقضى صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي فهو ضامن على أهلها أقول : السبب المقتضي لهذا القضاء أنه إذا أفسدت المواشي حوائط الناس كان الجور والعذر مع كل واحد ، فصاحب الماشية يحتج بأنه لا بد أن يسرح ماشيته في المرعى وإلا هلكت جوعا ، واتباع كل بهيمة وحفظها يفسد عليهم الارتفاقات المقصودة ، وأنه ليس له اختيار فيما أتلفته بهيمته ، وأن صاحب الحائط هو الذي قصر في حفظ ماله وتركه في بمضيعة ، وصاحب الحائط يحتج بأن الحائط لا تكون إلا خارج البلاد فحفظها والذب عنها والاقامة عليها يفسد حاله ، وأن صاحب الماشية هو الذي سرحها في الحائط أو قصر في حفظها ، فلما دار الأمر بينهما و كان لكل واحد جور وعذر ، وجب أن يرجع إلى العادة المألوفة الفاشية بينهم فيبنى ، الجور على مجاوزتها ، والعادة أن يكون في كل حائط في النهار من يعمل فيه ، ويصلح أمره ، ويحفظه . وأما في الليل فيتركونه ، ويبيتون في القرى والبلاد ، وأن أهل الماشية يجمعون ماشيتهم بالليل في بيوتهم ، ثم يسرحونها في النهار للرعي ، فاعتبر الجور أن يجاوز العادة الفاشية بينهم . وسئل صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق ، فقال :
' من أصابه بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنه فلا شيء عليه ' اعلم أن دفع التظالم بين الناس إنما هو أن يقبض على يد من يضر
____________________
(1/755)
بالناس ويتعدى عليهم ، لا أن يتبع شحهم وغمر نفوسهم ، ففي صورة الأكل من الثمر المعلق غير المحرز الكثير الذي لا يشح منه بشبع إنسان محتاج إذا لم يكن هناك مجاوزة حد العرف . ولا اتخاذ خبنة ، ولا رمي الأشجار بالحجارة ، فان العرف يوجب المسامحة في مثله ، فمن ادعى في مثل ذلك فانه اتبع الشح ، وقصد الضرار . فلا يتبع ، وأما ما كان من ثمر مشفوة أو اتخاذ خبنة أو رمى الأشجار أو مجاوزة الحد في الاتلاف بوجه من الوجوه ففيه التعرير والغرامة . وأما لبن الماشية فالافية فيه متعارضة ، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم ، فقاسها تارة على المتاع المخزون في البيوت ، فنهى عن حلبه . وتارة على الثمر المعلق والأشياء غير المحرزة ، فأباح منه بقدر الحاجة لمن لم يجد صاحب المال ليستأذنه ، والأصل فيما اختلف فيه الاحاديث وأظهرت العلل أن يجمع باعتبار تلك العلل ، فحينما جرت العادة ببذل مثله وليس هناك شح وتضييق وكانت حاجة جاز وإلا فلا ، وعلى مثل ذلك ينبغي أن يعتبر تصرف الزوجة في مال الزوج والعبد في مال سيده ( الحدود ) اعلم أن من المعاصي ما شرع الله فيه الحد ، وذلك كل معصية جمعت وجوها من المفسده ، بأن كانت فسادا في الأرض واقتضابا على طمأنينة المسلمين ، وكانت لها داعية في نفوس بني آدم لا تزال تهيج فيها ، ولها ضراوة لا يستطيعون الاقلاع منها بعد أن أشربت قلوبهم بها ، وكان فيه ضرر لا يستطيع المظلوم دفعه عن نفسه في كثير من الأحيان ، وكان كثير الوقوع فيما بين الناس ، فمثل هذه المعاصي لا يكفي فيها الترهيب بعذاب الآخرة ، بل لا بد من إقامة ملامة شديدة عليها وإيلام ، ليكون بين أعينهم ذلك ، فيردعهم عما يريدونه .
____________________
(1/756)
كالزنا فإنها تهيج من الشبق والرغبة في جمال النساء ، ولها شرة وفيها عار شديد على أهلها ، وفي مزاحمة الناس على موطوأة تغيير الجبلة الإنسانية ، وهي مظنة المقاتلات والمحاربات فيما بينهم ، ولا يكون غالبا إلا برضا الزانية والزاني ، وفي الخلوات حيث لا يطلع عليها إلا البعض ، فلو لم يشرع فيها حد وجيع لم يحصل الردع . كالسرقة فإن الإنسان كثيرا ما لا يجد كسبا صالحا ، فينحدر إلى السرقة ولها ضراوة في نفوسهم ، ولا يكون الاختفاء بحيث لا يراه الناس بخلاف الغصب ، فانه يكون باحتجاج وشبهة لا يثبتها الشرع ، وفي تضاعيف معاملات بينهما وعلى أعين الناس فصار معاملة من المعاملات . وكقطع الطريق فانه لا يستطيع المظلوم ذبه عن نفسه وماله ، ولا يكون في بلاد المسلمين وتحت شوكتهم فيدفعوا ، فلا بد لمثله أن يزاد في الجزاء والعقوبة ، وكشرب الخمر فان لها شرها وفيها فسادا في الأرض وزوالا لمسكة عقولهم التي بها صلاح معادهم ومعاشهم ، وكالقذف فان المقذوف يتأذى أذى شديدا ، ولا يقدر على دفعه بالقتل ونحوه لأنه إن قتل قتل به ، وإن ضرب ضرب به ، فوجب في مثله زاجر عظيم . ثم الحد إما قتل وهو زجر لا زجر فوقه ، وإما قطع وهو إيلام شديد وتفويت قوة لا يتم الاستقلال بالمعيشة دونها طول عمره ومثو عار ظاهر أثره بمرأى الناس لا ينقضي ، فان النفس إنما تتأثر من وجهين ؛ النفس الواغلة في البهيمية يمنعها الايلام كالبقر . والجمل والتي فيها حب الجاه يردعه العار اللازم له اشد من الايلام ، فوجب جمع هذين الوجهين في الحدود
____________________
(1/757)
ودون ذلك إيلام بضرب يضم معه ما فيه عار ، ظهر أثره كالتغريب وعدم قبول الشهادة والتبكيت واعلم أنه كان من شريعة من قبلنا القصاص في القتل ، والرجم في الزنا والقطع في السرقة ، فهذه الثلاث كانت متوارثة في الشرائع السماوية وأطبق عليها جماهير الأنبياء والأمم ، ومثل هذا يجب أن يؤخذ عليه بالنواجذ ، ولا يترك ، ولكن الشريعة المصطفوية تصرفت فيها بنحو آخر ، فجعلت مزجرة كل واحد على طبقتين : إحداهما الشديدة البالغة أقصى المبالغ ، ومن حقها أن تجعل في المعصية الشديدة ، والثانية دونها ، ومن حقها أن تجعل فيما كانت المعصية دونها . ففي القتل القود والدية والأصل فيه قوله تعالى : ! ( ذلك تخفيف من ربكم ) ! قال : ابن عباس رضي الله عنهما : كان فيهم القصاص ولم يكن فيهم الدية . وفي الزنا الجلد ، وكان اليهود لما ذهبت شوكتهم ، ولم يقدروا على الرجم ابتدعوا التجبيه . والتشحيم فصار ذلك تحريفا لشريعتهم ، فجمعت لنا بين شريعتي من قبلنا السماوية والابتداعية ، وذلك غاية رحمة الله بالنسبة إلينا وفي السرقة العقوبة وغرامة مثليه على ما جاء في الحديث . وإن حملت أنواع من الظلم عليها كالقذف . والخمر فجعلت لها حدا فإن هذه أيضا بمنزلة تلك المعاصي وإن زادت في عقوبة قطع الطريق .
____________________
(1/758)
واعلم أن الناس على طبقتين - ولسياسة كل طبقة وجه خاص _ طبقة هم مستقلون ، أمرهم بأيدهم ، وسياسة هؤلاء أن يؤخذوا على أعين الناس ، ويوجعوا ، ويلزم عليهم عار شديد ، ويهانوا ، ويحقروا . وطبقة هم بأيدي ناس آخرين أسراء عندهم ، وسياسة هؤلاء أن يؤمر سادتهم أن يحفظوهم عن الشر ، فإنه يظهر لهم وجه في حبسهم عن فعلهم ذلك ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' إذا زنت أمة أحدكم فليضرب ' الحديث ، وقوله عليه السلام :
' إذا سرق عبد أحدكم فبيعوه ولو بنش ' فضبطت الطبقتان بوصف ظاهر ، فالأولى الأحرار والثانية الارقاء . ثم كان من السادة من يتعدى على عبيده ، ويحتج بأنه زنى ، أو سرق ، ونحو ذلك ، فكان الواجب في مثله أن يشرع على الأرقاء دون ما على الأحرار ليقطع هذا النوع ، وألا يخيروا في القتل والقطع ، وأن يخيروا فيما دون ذلك . والحد يكون كفارة لأحد وجهين ، لأن العاصي إما أن يكون منقادا لأمر الله وحكمه ، مسلما وجهه لله فالكفارة في حقه توبة عظيمة ، ودليله حديث
' لقد تاب توبة لو قسمت على أمة محمد لوسعتهم ' . وإما أن يكون إيلاما له وقسرا عليه ، وسر ذلك أن العمل يقتضي في حكمة الله أن يجازى في نفسه أوماله ، فصار مقيم الحد خليفة الله في المجازاة فتدبر . قال الله تعالى : ! ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) ! .
____________________
(1/759)
وقال عمر رضي الله عنه : إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله آية الرجم ، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء . أقول : إنما جعل حد المحصن الرجم ، وحد غير المحصن الجلد ؛ لأنه كما يتم التكليف ببلوغ خمس عشر سنة أو نحوه ، ولا يتم دون ذلك لعدم تمام العقل وتمام الجثة وكونه من الرجال فلذلك ينبغي أن تتفاوت العقوبة المترتبة على التكليف بأتمية العقل وصيرورته رجلا كاملا مستقلا بأمره مستبدا برأيه ، ولأن المحصن كامل وغير المحصن ناقص ، فصار واسطة بين الأحرار الكاملين وبين العبيد ، ولم يعتبر ذلك إلا في الرجم خاصة لأنه أشد عقوبة شرعت في حق الله . وأما القصاص فحق الناس وهم محتاجون ، فلا يضيع حقوقهم . وأما حد السرقة وغيرها فليس بمنزلة الرجم ولأن المعصية ممن أنعم الله عليه وفضله على كثير من خلقه أقبح وأشنع لأنها اشد الكفران ، فكان من حقها أن يزاد في العقوبة لها ، وإنما جعل حد البكر مائة جلدة لأنها عدد كثير مضبوط يحصل به الزجر والإيلام ، وإنما عوقب بالتغريب لأن العقوبة المأثرة تكون على وجهين : إيلام في البدن وإلحاق حياء وخجالة وعار وفقد مألوف في النفس ، والأول عقوبة جسمانية ، والثاني عقوبة نفسانية ، ولا تتم العقوبة إلا بأن تجمع الوجهين : قال الله تعالى : ! ( فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) ! . أقول السر في تصنيف العقوبة على الارقاء أنهم يفوض أمرهم إلى
____________________
(1/760)
مواليهم ، فلو شرع فيهم مزجرة بالغة أقصى المبالغ لفتح ذلك باب العدوان بأن يقتل المولى عبده ، ويحتج بأنه زان ، ولا يكون سبيل المؤاخذة عليه ، فنقص من حدهم ، وجعل ما لا يفضي إلى الهلاك ، والذي ذكرناه في الفرق بين المحصن وغيره يتأتى هنا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ، وتغريب عام ، والثيب بالثيب ، جلد مائة ، والرجم ' وعمل به علي رضي الله عنه أقول : اشتبه هذا على الناس وظنوا مناقضا مع رجمه الثيب وعدم جلده ، وعندي أنه ليس مناقضا له ، وأن الآية عامة لكن يسن الإمام الاقتصار على الرجم عند وجوبهما ، وإنما مثله مثل القصر في السفر ، فإنه لو أتم جاز ، لكن يسن له القصر ، وإنما شرع ذلك لأن الرجم عقوبة عظيمة ، فتضمنت ما دونها ، وبهذا يجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم هذا ، وعمل علي رضي الله عنه . وبين عمله صلى الله عليه وسلم ، وأكثر خلفائه في الاقتصار على الرجم ، وحديث جابر أمر بالجلد ، ثم اخبر أنه محصن ، فأمر به ، فرجم يدل عليه ، فإنه ما أقدم على الجلد إلا لجواز مثله مع كل زان . وعندي أن الترغيب يحتمل العفو ، وبه بجمع بين الآثار . لما قال ماعز بن مالك زنيت فطهرني ، قال صلى الله عليه وسلم : ' لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت ؟ قال : لا يا رسول الله قال : أنكتها ؟ قال : نعم فعند ذلك أمر برجمه ' .
____________________
(1/761)
أقول الحد موضع الاحيتاط ، وقد يطلق الزنا على ما دون الفرج كقوله صلى الله عليه وسلم : ' فزنا اللسان كذا وزنا الرجل كذا ' فوجب التثبت والتحقق في مثل ذلك . واعلم أن المقر على نفسه بالزنا المسلم نفسه لإقامة الحد تائب ، والتائب كمن لا ذنب له ، فمن حقه ألا يحد ، لكن هنا وجوه مقتضية لإقامة الحد عليه : منها أنه لو كان إظهار التوبة والإقرار درءا للحد لم يعجز كل زان أن يحتال إذا استشعر بمؤاخذة الإمام بأن يعترف ، فيندرئ عنه الحد ، وذلك مناقضة للمصلحة . ومنها أن التوبة لا تتم إلا أن يعتضد بفعل شاق عظيم لا يتأتى إلا من مخلص ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في ماعز لما أسلم نفسه للرجم : ' لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة محمد لوسعتهم ' وقال عليه السلام ، في الغامدية ' لقد تابت توبة تابها صاحب مكس لغفر له ' . ومع ذلك فيستحب الستر عليه ، وهو وقوله صلى الله عليه وسلم لهزال ' لو كسرته بثوبك لكان خيرا لك ' ، وأن يؤمر هو أن يتوب فيما بينه وبين الله ، وأن يحتال في درء الحد . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . ' إذا زنت أمة أحدكم ، فتبين زناها فليجلدها الحد ، ولا يثرب عليها ' ، ثم إن زنت فليجلدها
____________________
(1/762)
الحد ، ولا يثرب عليها ' أقول : السر في ذلك أن الإنسان مأمور شرعا أن يذب عن حريمه المعاصي ومجبول على ذلك خلقه ، ولو لم يشرع الحد إلا عند الإمام لما استطاع السيد إقامته في كثير من الصور ، ولم يتحقق الذب عن الذمار ، ولو لم يحد مقدار معين للحد لتجاوز المتجاوز إلى حد الإهلاك أو الايلام الزائد عن الحد ، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ' لا يثرب ' . قال صلى الله عليه وسلم : ' أقيلوا ذوى الهيآت عثراتهم إلا الحدود ' أقول : المراد بذوي الهيآت أهل المروءات ، أما أن يعلم من رجل صلاح في الدين ، وكانت العثرة أمرا فرط منه على خلاف عادته ، ثم ندم ، فمثل هذا ينبغي أن يجاوز عنه ، أو يكونوا أهل نجدة وسياسة وكبر في الناس ، فلو أقيمت العقوبة عليه في كل ذنب قليل أو كبير لكان في ذلك فتح باب التشاحن واختلاف على الامام وبغى عليه فان النفوس كثيرا مالا تحتمل ذلك . وأما الحدود فلا ينبغي لها أن تهمل إلا إذا وجد لها سبب شرعي تندرئ به ، ولو أهملت لتناقضت المصلحة وبطلت فائدة الحدود . وقال صلى الله عليه وسلم في مخدج يزني ' خذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوا به ' . اعلم أن من لا يستطيع أن يقام عليه الحدود لضعف في جبلته ، فان ترك سدى كان مناقضا لتأكد الحدود فانما اللائق بالشرائع اللازمة التي جعلها الله تعالى بمنزلة الأمور الجبلية أن يجعل كالمؤثر بالخاصية ، ويعض عليه بالنواجذ ، وأيضا فان فيه بعض الألم الميسور لا ضرورة في تركه .
____________________
(1/763)
واختلف في حد اللواطة ، وقيل . هي من الزنا ، وقيل : يقتل لحديث ' من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ' . قال الله تعالى : ! ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ) ! . وفي حكم المحصنات المحصنون بالاجماع ، والمحصن حر مكلف مسلم عفيف من وطء يحد به . واعلم أن ههنا وجهين متعارضين ، وذلك أن الزنا معصية كبيرة يجب إخمالها وإقامة الحد عليها والمؤاخذة بها ، وكذلك القذف معصية كبيرة ، وفيه إلحاق عار عظيم يجب إقامة الحد عليها ، ويشتبه القذف بالشهادة على الزنا ، فلو أخذنا القاذف لنقيم عليه الحد يقول : أنا شاهد على الزنا ، وفيه بطلان لحد القذف والذي هو شاهد على الزنا يذبه عن نفسه المشهود عليه بأنه قاذف يستحق الحد ، فلما تعارض الحدان في هذه الجملة عن سياسة الأمة وجب أن يفرق بينهما بأمر ظاهر وذلك كثرة المخبرين ، فإنهم إذا كثروا قوى ظن الشهادة والصدق ، وضعف ظن القذف ، فان القذف يستدعى جمع صفتين : ضعيف في الدين ، وغل بالنسبة إلى المقذوف ، ويبعد أن يجتمعا في جماعة من المسلمين وإنما لم يكتف بعدالة الشاهدين لأن العدالة مأخوذة في جميع الحقوق ، فلا يظهر للتعارض أثر ، وضبطت الكثرة بضعف نصاب الشهادة . وإنما جعل حد القذف ثمانين لأنه ينبغي أن يكون أقل من الزنا ، فان
____________________
(1/764)
إشاعة فاحشة ليست بمنزلة فعلها ، وضبط النقصان بمقدار ظاهر وهو عشرون ، فإنه خمس المائة وإنما جعل من تمام حده عدم قبول الشهادة لما ذكرنا أن الايلام قسمان : جسماني . ونفساني . وقد اعتبر الشرع جمعهما في جميع الحدود لكن جمع مع حد الزنا التغريب لأن الزنا عند سياسة ولاة الأمور وغيره الأؤلياء لا يتصور إلا بعد مخالطة وممازجة وطول صحبة وائتلاف ، فجزاؤه المناسب له أن يجلى عن محل الفتنة ، وجمع مع حد القذف عدم قبول الشهادة ، لأنه إخبار ، والشهادة إخبار ، فجوزي بعار من جنس المعصية فان عدم قبول الشهادة من القاذف عقوبة ، وعدم قبولها من سائر العصاة لفوات العدالة والرضا ، وأيضا فقد ذكرنا أن القاذف لا يعجز أن يقول : أنا شاهد فيكون سد هذا الباب أن يعاقب بمثل ما احتج به ، وجمع في حد الخمر التبكيت . واختلفوا في قوله تعالى : ! ( إلا الذين ) ! . هل الاستثناء راجع إلى عدم قبول الشهادة أم لا ؟ والظاهر مما مهدنا أن الفسق لما انتهى وجب أن ينتهي أثره وعقوبته ، وقد اعتبره الخلفاء لحد الزنا في تنصيف العقوبة على الأرقاء . قال تعالى : ! ( السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ) ! .
____________________
(1/765)
اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مبينا لما أنزل إليه ، وهو قوله تعالى : ! ( لتبين للناس ) ! . وكان أخذ مال الغير أقساما : منه السرقة ، ومنه قطع الطريق ، ومنه الاختلاس ، ومنه الخيانة ، ومنه الالتقاط ، ومنه الغصب ، ومنه ما يقال له قلة المبالاة والورع ، فوجب أن يبين النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة السرقة متميزة عن هذه الأمور . وطريق التميز أن ينظر إلى ذاتيان هذه الأسامي التي لا توجد في السرقة ، ويقع بها التفارق في عرف الناس ، ثم تضبط السرقة بأمور مضبوطة معلومة يحصل بها التمييز منها والاحتراز عنها ، فقطع الطريق . والنهب . والحرابة أسماء تنبئ عن اعتماد القوة بالنسبة إلى المظلومين ، واختيار مكان أو زمان لا تحلق فيه الغوث من جماعة المسلمين ، والاختلاس ينبئ عن اختطاف على أعين الناس وفي مرأى منهم ومسمع ، والخيانة تنبئ عن تقديم شركة أو مباسطة وإذن بالتصرف فيه ونحو ذلك ، والالتقاط ينبئ عن وجدان شيء في غير حرز ، والغصب ينبئ عن غلبة بالنسبة إلى المظلوم لا معتمدا على الحرب والهرب ولكن على الجدل وظن ألا يرفع قضيته إلى الولاة ولا ينكشف عليهم جبلة الحال وقلة المبالاة ، والورع يقال في الشيء التافه الذي جرى العرف ببذله والمواساة به بين الناس كالماء . والحطب ، فضبط النبي صلى الله عليه وسلم الاحتراز على ذاتيات هذه الأسامي . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار ' وروى القطع فيما بلغ ثمن المجن ، وروى أنه قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم ، وقطع عثمان رضي الله عنه في أترجة ثمنها ثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما .
____________________
(1/766)
والحاصل أن هذه التقديرات الثلاث كانت منطبقة على شيء واحد في زمانه صلى الله عليه وسلم ، ثم اختلفت بعده ، ولم يصلح المجن للاعتبار لعدم انضباطه ، فاختلف المسلمون في الحديثين الآخرين : فقيل : ربع دينار ، وقيل : ثلاثة دراهم قيل : بلوغ المال إلى حد القدرين وهو الأظهر عندي ، وهذه شرعة النبي صلى الله عليه وسلم فرقا بين التافه وغيره لأنه لا يصلح للتقدير جنس دون جنس لاختلاف الأسعار في البلدان ، واختلاف الأجناس نفاسة وخساسة بحسب اختلاف البلاد ، فمباح قوم وتافههم مال عزيز عند آخرين ، فوجب أن يعتبر التقدير في الثمن ، وقيل : يعتبر فيهما ، وأن الحطب وإن كان قيمته عشرة دراهم لا يقطع فيه . وقال صلى الله عليه وسلم :
' لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة الجبل فإذا آواه المراح والجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن ' وسئل عن الثمر المعلق ، فقال عليه السلام : ' من سرق منه شيئا بعد ان يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ' . أقول : أفهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الحرز شرط القطع وسبب ذلك أن غير المحرز يقال فيه الالتقاط فيجب الاحتراز عنه . قال صلى الله عليه وسلم :
' ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع ' . أقول . أفهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا بد في السرقة من أخذ المال مختفيا وإلا كان نهبة أو خطفة وألا يتقدمها شركة و لزوم حق ، وإلا كان خيانة أو استيفاء لحقه . وفي الآثار في العبد يسرق مال سيده إنما هو ملك بعضه في بعض .
____________________
(1/767)
وقال صلى الله عليه وسلم في اسارق :
' اقطعوه ثم احسموه ' أقول : إنما أمر بالحسم لئلا يسري فيهلك ، فان الحسم سبب عدم السراية ، وأمر عليه السلام باليد فعلقت في عنق السارق أقول . إنما فعل هذا للتشهير ، وليعلم الناس أنه سارق وفرقا بين ما يقطع اليد ظلما وبين ما يقطع حدا . وقال صلى الله عليه وسلم في سرقة ما دون النصاب : ' عليه العقوبة وغرامة مثيلة ' . أقول : إنما أمر بغرامة المثلين لأنه لا بد من ردع وعقوبة مالية وبدنية ، فإن الإنسان ربما يرتدع بالمال أكثر من ألم الجسد . وربما يكون الأمر بالعكس فجمع بين ذلك ، ثم غرامة مثله يجعل كأن لم لكن يسرق وليس فيه عقوبة ، ولذلك زيدت غرامة أخرى لتكون مناقضة لقصده في السرقة . وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلص قد اعترف اعترافا ولم يوجد معه متاع ، فقال : ما إخالك سرقت قال : بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا فأمر به فقطع ، وجئ به فقال . قل استغفر الله وأتوب إليه ، فقال . استغفر الله وأتوب إليه قال . اللهم تب عليه ثلاثا ' . أقول : السبب في ذلك أن العاصي المعترف بذنبه النادم عليه يستحق أن يحتال في درء الحد عنه ، وقد ذكرنا قوله الله تعالى : ! ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ) ! الآية . أقول : الحرابة لا تكون إلا معتمدة على القتال بالنسبة إلى الجماعة التي وقع العدوان عليها ، والسبب في مشروعية هذا الحد أشد من حد السرقة أن الاجتماع الكثير من بني آدم لا يخلو من أنفس تغلب عليهم الخصلة السبعية لهم جزاءه شديده وقتال واجتماع فلا يبالون بالقتل والنهب ، وفي ذلك مفسدة اعظم من السرقة لأنه يتمكن أهل الأموال من حفظ أموالهم من السراق ، ولا يتمكن أهل الطريق من التمنع من قطاع الطريق ، ولا يتيسر
____________________
(1/768)
لولاة الأمور وجماعة المسلمين نصرتهم في ذلك المكان والزمان ، و لأن داعية الفعل من قطاع الطريق أشد وأغلظ ، فإن القاطع لا يكون إلا جرئ القلب قوي الجنان ، ويكون فيما هنالك اجتماع واتفاق بخلاف السراق ، فوجب أن تكون عقوبته أغلظ من عقوبته والأكثرون على أن الجزاء على الترتيب وهو الموافق لقوله صلى الله عليه وسلم :
' لا يقتل المؤمن إلا لأحدى ثلاث ' الحديث ، وقيل : على التخيير وهو الموافق لكلمة ' أو ' وعندي أن قوله صلى الله عليه وسلم :
' المفارق للجماعة ' يحتمل أن يكون قد جمع العلتين والمراد أن كل علة تفيد الحكم كما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين العلتين ، فقال :
' لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عودتهما يتحدثان ' فكشف العورة سبب اللعن والتحديث في مثل تلك الحالة أيضا سبب اللعن . قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلواة فهل أنتم منتهون ) . أقول : بين الله تعالى أن في الخمر مفسدتين : مفسدة في الناس ، فان شاربها يلاحي القوم يعدوا عليهم ، ومفسدة فيما يرجع إلى تهذيب نفسه ، فان شاربها يغوص في حالة بهيمية ، ويزول عقله الذي به قوام الاحسان
____________________
(1/769)
ولما كان قليل الخمر يدعو إلى كثيره وجب عند سياسة الأمة أن يدار التحريم على كونها مسكرة ، لا على وجود السكر في الحال . ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الخمر ما هي ، فقال :
' كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ' وقال : ' الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة ' وتخصيصهما بالذكر لما كان حال تلك البلاد ، وسئل عليه السلام عن المزر والبتع ، فقال : ' كل مسكر حرام ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' ما أسكر كثيره فقليله حرام ' أقول : هذه الأحاديث مستفيضة ، ولا أدري أي فرق بين العنبى وغيره لأن التحريم ما نزل إلا للمفاسد التي نص القرآن عليها وهي موجودة فيهما ، وفيما سواهما سواء قال صلى الله عليه وسلم : ' من شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب لم يشربها في الآخرة ' أقول : وسبب ذلك أن الغائص في الحالة البهيمية المدبرة عن الإحسان ليس له في لذات الجنان نصيب ، فجعل شرب الخمر وإدمانها وعدم التوبة منها مظنة للغوص ، وأدير الحكم عليها ، وخص من لذات الجنان الخمر ، ليظهر تخالف اللذتين بادئ الرأي ، وأيضا أن النفس إذا انهمكت في اللذة البهيمية في ضمن فعل تمثل هذا الفعل عندها شبحا لتلك اللذة يتذكرها بتذكرها ، فلا يستحق أن تتمثل اللذة الاحسانية بصورتها ، وأيضا فأمر الجزاء على المناسبة ، فمن عصى بالاقدام على شيء فجزاؤه أن يؤلم يفقد مثل تلك اللذة عند طلبه لها واستشرافه عليها قال صلى الله عليه وسلم :
' إن على الله عهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال وطينة عصارة أهل النار ' . أقول : السر في ذلك أن القيح والدم أقبح الأشياء السيالة عندنا وأحقرها
____________________
(1/770)
واشدها نعزة بالنسبة للطبائع السليمة ، والخمر شيء سيال فناسب أن يتمثل مقرونا بصفة القبح في صورة طينة الخبال وذلك كما قالوا في المنكر والنكير : إنهما إنما كانوا أزرقين لأن العرب يكرهون الزرقة ، وقد ذكرنا أن بعض الوقائع الخارجة بمنزلة المنام في ذلك وقال صلى الله عليه وسلم : ' من شرب الخمر لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحا فان تاب تاب الله عليه ' . أقول : السر في عدم قبول صلاته أن ظهور صفة البهيمة وغلبتها على الملكية بالإقدام على المعصية اجتراء على الله وغوص نفسه في حالة رذيلة تنافي الإحسان وتضاده ، ويكون سببا لفقد استحقاق أن تنفع الصلاة في نفسه نفع الإحسان وأن تنقاد نفسه للحالة الإحسانية . وكان الشارب يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيأمر بضربه فيضرب بالنعال والأردية واليد حتى يبلغ أربعين ضربة ، ثم قال : ' بكتوه ' فأقبلوا عليه يقولون : ما اتقيت الله ، ما خشيت الله ، ما استحييت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! وروى أنه صلى الله عليه وسلم أخذ ترابا من الأرض فرمى بها وجهه . أقول : السبب في نقصان هذا الحد بالنسبة إلى سائر الحدود أن سائر الحدود لوجود مفسدة بالفعل أن يكون سرق متاعا أو قطع طريق أو زنى قذف ، وأما هذا فقد أتى بمظنة الفساد دون الفساد فلذلك نقص عن المائة وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب أربعين لأنه مظنة القذف والمظنة ينبغي أن تكون أقل من نفس الشيء بمنزلة نصفه . ثم لما كثر الفساد جعل الصحابة رضي الله عنهم حده ثمانين إما لأنه أخف
____________________
(1/771)
حد في كتاب الله فلا يجاوز غير المنصوص عن أقل الحدود ، وإما لأن الشارب يقذف غالبا إن لم يكن زنى أو قتل ، والغالب حكمه حكم المتيقن وأما سر التبكيت فقد ذكرنا من قبل . قال النبي أينما صلى الله عليه وسلم : ' إن أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق منهم الشريف تركوه وإذا سرق منهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وايم والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ' وقال صلى الله عليه وسلم : ' من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله ' أقول : علم النبي صلى الله عليه وسلم أن حفظ جاه الشرفاء والمسامحة معهم والذب عنهم والشفاعة في أمرهم أمر توارد عليه الأمم وانقاد لها طوائف الناس من الأولين والآخرين ، فأكد في ذلك وسجل ، فان الشفاعة والمسامحة بالشرفاء مناقضة لشرع الله الحدود . ونهى رسول صلى الله عليه وسلم عن لعن المحمود أو الوقوع فيه لئلا يكون سببا لامتناع الناس عن إقامة الحد ، ولأن الحد كفارة ، والشيء إذا تدورك بالكفارة صار كأن لم يكن ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' والذي نفسي بيده إنه لفي انهار الجنة منغمس بها ' . ويلحق بالحدود مزجرتان أخريان : إحداهما عقوبة هتك حرمة الملة ، والثانية الذب عن الأمامة ، والأصل في الأولى قوله صلى الله عليه وسلم : ' من بدل دينه فاقتلوه ' وذلك لأنه يجب أن يقام اللائمة الشديدة على الخروج من الملة وإلا لانفتح باب هتك حرمة الملة ، ومرضى الله تعالى أن تجعل الملة السماوية بمنزلة الأمر المجبول عليه الذي لا ينفك عنه ، وتثبت الردة بقول يدل على نعني الصانع أو الرسل أو تكذيب رسول أو فعل تعمد به استهزاء صريحا بالدين ، وكذا إنكار ضروريات الدين ، قال الله تعالى :
____________________
(1/772)
! ( وطعنوا في دينكم ) ! . وكانت يهودية تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم دمها ، وذلك لانقطاع ذمة الذمي بالطعن في دين المسلمين والشتم والإيذاء الظاهر . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' أنا برئ من كل مسلم مقيم بين أظهر المشركين ، لا يتراءى ناراهما ' . أقول : السبب في ذلك أن الاختلاط معم وتكثير سوادهم إحدى النصرتين لهم ، ثم ضبط النبي صلى الله عليه وسلم البعد من أحياء الكفار بأن يكون منهم بحيث لو أوقدت نارا على أرفع مكان في بلدهم أو حلتهم لم تظهر للآخرين ، والأصل في الثانية قوله تعالى : ( فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله ) . وقوله صلى الله عليه وسلم : ' إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ' أقول : السبب في ذلك أن الامامة مرغوب فيها طبعا ، ولا يخلوا اجتماع الناس في الأقاليم من رجل يجترئ لأجلها على القتال ، ويجتمع لنصرته الرجال ، فلو ترك ولم يقتل لقتل الخليفة ثم قاتله آخر وهلم جرا ، وفيه فساد عظيم للمسلمين ، ولا ينسد باب هذه المفاسد إلا بأن تكون السنة بين المسلمين أن الخليفة إذا انعقدت خلافته ، ثم خرج آخر ينازعه حل قتله ووجب على المسلمين نصرة الخليفة عليه ، ثم الذي خرج بتأويل لمظلمة يريد دفعها عن نفسه وعشيرته أو لنقيصة يثبتها في الخليفة ويحتج عليها بدليل شرعي بعد ألا يكون مسلما عند جمهور المسلمين ولا يكون أمرا من الله فيه عندهم
____________________
(1/773)
برهان لا يستطيعون إنكاره فأمره دون الأمر الذي خرج يفسد في الأرض ويحكم السيف دون الشرع ، فلا ينبغي أن يجعلا بمنزلة واحدة ، فلذلك كان الأول أن يبعث الإمام إليهم فطنا ناصحا عالما يكشف شبهتهم أو يدفع عنهم مظلتهم كما بعث أمر المؤمنين علي رضي الله عنه عبد الله بن وابن عباس رضي الله عنه إلى الحرورية ، فإن رجعوا إلى جماعة المسلمين فيها وإلا قاتلهم ولا يقتل مدبرهم ولا أسيرهم ولا يجهز على جريحهم لأن المقصود إنما هو دفع شرهم وتفريق جماعتهم وقد حصل ، وأما الثاني فهو من المحاربين وحكمه حكم المحارب .
____________________
(1/774)
( القضاء ) اعلم أن من الحاجات التي يكثر وقوعها وتشتد مفسدتها المناقشات في الناس ؛ فانها تكون باعثة على العداوة والبغضاء وفساد ذات البين ، وتهيج الشح على غمط الحق وألا ينقاد للدليل فوجب أن يبعث في كل ناحية من يفصل قضاياهم بالحق ، ويقهرهم على العمل به أشاءوا أم أبوا ، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني ببعث قضاة اعتناء شديدا ، ثم لم يزل المسلمون على ذلك ، ثم لما كان القضاء بين الناس مظنة الجور والحيف وجب أن يدهب الناس عن الجور في القضاء وأن يضبط الكليات التي يرجع إليها الأحكام . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين ' . أقول : هذا بيان أن القضاء حمل ثقيل وإن الإقدام عليه مظنة الهلاك إلا أن يشاء الله . وقال صلى الله عليه وسلم : ' من ابتغى القضاء وسأله وكل إلى نفسه ومن أكره عليه أنزل الله ملكا يسدده ' . أقول : السر فيه أن الطالب لا يخلو غالبا من داعية نفسانية من مال أو جاه أو التمكن من انتقام عدو نحو ذلك فلا يتحقق منه خلوص النية الذي هو سبب نزول البركات . قال صلى الله عليه وسلم :
' القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وقضى به ، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ' .
____________________
(1/775)
أقول : في هذا الحديث أنه لا يستوجب القضاء إلا من كان عدلا بريئا من الجور والميل قد عرف منه ذلك . وعالما يعرف الحق لا سيما في مسائل القضاء ، والسر في ذلك واضح فإنه لا يتصور وجود المصلحة المقصودة إلا بها . قال صلى الله عليه وسلم :
' لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان ' . أقول : السبب المقتضي لذلك أن الذي اشتغل قلبه بالغضب لا يتمكن من التأمل في الدلائل والقرائن ومعرفة الحق . قال صلى الله عليه وسلم :
' إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد ' اجتهد يعني بذل طاقته في انباع الدليل ؛ وذلك لأن التكليف بقدر الوسع وإنما وسع الإنسان أن يجتهد وليس في وسعه أن يصيب الحق ألبتة . وقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه : ' إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء أقول : وذلك لأنه عند ملاحظة الحجتين يظهر الترجيح ' . وأعلم أن القضاء فيه مقامان : أحدهما أن يعرف جلية الحال التي تشاجرا فيه ، والثاني الحكم العدل في تلك الحالة ، والقاضي قد يحتاج إليهما وقد يحتاج إلى أحدهما فقط فإذا ادعى كل واحد أن هذا الحيوان مثلا ملكه قد ولد في يده ، وهذا الحجر التقطه من جبل ارتفع الإشكال لمعرفة جلية الحال . والقضية التي وقعت بين علي ، وزيد ، وجعفر رضي الله عنهم في حضانة بنت حمزة رضي الله عنه كانت جلية الحال معلومة وإنما كان المطلوب الحكم . وإذا ادعى واحد على الآخر الغصب والمال متغير صفته وأنكر الآخر
____________________
(1/776)
وقعت الحاجة أولا إلى معرفة جلية الحال هل كان هناك غصب أولا ، وثانيا إلى الحكم هل يحكم بردعين المغصوب أو قيمته ، وقد ضبط النبي صلى الله عليه وسلم كلا المقامين بضوابط كلية ، أما المقام الأول فلا أحق فيه من الشهادات والأيمان فإنه لا يمكن معرفة الحال إلا باخبار من حضرها أو بإخبار صاحب الحال مؤكدا بما يظن أنه لا يكذب معه ، قال صلى الله عليه وسلم :
' لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه ' فالمدعي هو الذي يدعي خلاف الظاهر ويثبت الزيادة ، والمدعى عليه هو مستصحب الأصل والمتمسك بالظاهر ولا عدل ثم من أن يعتبر فيمن يدعي بينة وفيمن يتمسك بالظاهر ويدرأ عن نفسه اليمين إذا لم تقم حجة الآخر . وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى سبب مشروعية هذا الأصل حيث قال : ' لو يعطى الناس ' الخ يعني كان سببا للتظالم فلا بد من حجة ، ثم أنه يعتبر في الشاهد صفة كونه مرضيا عنه لقوله تعالى : ! ( ممن ترضون من الشهداء ) ! . وذلك بالعقل . والبلوغ . والضبط . والنطق . والإسلام . والعدالة . والمروءة . وعدم التهمة . قال صلى الله عليه وسلم :
' لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ، ولا ذي غمر على أخيه وترد شهادة القانع لأهل البيت ' وقال الله تعالى في القذفة : ! ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا ) ! الآية .
____________________
(1/777)
وفي حكم القذف . والزنا سائر الكبائر ، وذلك لأن الخبر يحتمل في نفسه الصدق والكذب وإنما يترجح أحد المحتملين بالقرينة ، وهي إما في المخبر أو المخبر عنه أو غيرهما ، وليس شيء من ذلك مضبوطا يحق أن يدار عليه الحكم التشريعي إلا صفات المخبر غير ما ذكرنا من الظاهر والاستصحاب ، وقد اعتبر مرة حيث شرع للمدعي البينة والمدعى عليه اليمين ثم اعتبر عدد الشهود على أطوار وزعها على أنواع الحقوق ، فالزنا لا يثبت إلا بأربعة شهداء . والأصل فيه قوله تعالى : ! ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) ! الآية . وقد ذكر سبب مشروعية هذا من قبل . ولا يعتبر في القصاص والحدود إلا شهادة رجلين ، والأصل فيه قول الزهري رحمه الله تعالى : جرت السنة من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تقبل شهادة النساء في الحدود ، ويعتبر في الحقوق المالية شهادة رجل وامرأتين ، والأصل فيه قوله تعالى : ! ( فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ) ! . وقد نبه الله تعالى على سبب مشروعية الكثرة في جانب النساء ' فقال : ! ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) ! . يعني هن ناقصات العقل ، فلا بد من جبر هذا النقصان بزيادة العدد . وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاهد ويمين وذلك لأن الشاهد العدل إذا لحق معه اليمين تأكد الأمر ، وأمر الشهادات لا بد فيه توسعة ، وجرت السنة أنه إذا كان ريب زكى الشاهدان ، وذلك لأن شهادتهما إنما
____________________
(1/778)
اعتبرت من جهة صفاتهما المرجحة للصدق على الكذب فلا بد من تبينها . وجرت السنة أنه إذا كان ريب غلظت الأيمان بالزمان والمكان واللفظ ، وذلك لأن الأيمان إنما صارت دليلا على صدق الخبر من جهة اقتران قرينة تدل على أنه لا يقدم على الكذب معها فكان حقها إذا كان زيادة ريب طلب قوة القرائن ، في اللفظ زياده الأسماء والصفات ، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم : ' احلف بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ' ونحو ذلك ، والزمان أن يحلف بعد العصر لقوله تعالى : ! ( تحبسونهما من بعد الصلاة ) ! . والمكان أن يقام بين الركن والمقام إن كان بمكة . وعند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان بالمدينة . وعند المنبر في سائر البلدان لورود فضل هذه الأمكنة وتغليظ الكذب عندها . ثم وقعت الحاجة أن يرهب الناس أشد ترهيب من أن يجترئوا على خلاف ما شرع الله لهم لفصل القضايا ومعرفة جلية الحال . والأصل في تلك الترهيبات ثلاثة أشياء : أحدها أن الإقدام على فعل نهى الله تعالى عنه وغلظ في النهي دليل قلة الورع والاجتراء على الله فأدير حكم الاجتراء على هذه الأشياء ، وأثبت لها أثره مثل وجوب دخول النار وتحريم الجنة ونحو ذلك . والثاني أن ذلك سعى في الظلم وبمنزلة السرقة وقطع الطريق ، أو بمنزلة دلالة السارق على المال ليسرق أوردء القاطع فتوجهت لعنة الله والملائكة والناس على السعادة في الأرض بالفساد إلى هذا العاصي فاستحق النار .
____________________
(1/779)
والثالث أنه مخالفه لما شرع الله لعباده وسعى في سد جريانه على ما أراد الله في شرائعه فان اليمين إنما شرعت معرفة للحق ، والبينة إنما شرعت مبينة لجلية الحال فان جرت السنة بزور الشهادة والإيمان انسد باب المصلحة المرعية . فمن ذلك كتمان الشهادة لقوله تعالى . ! ( ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) ! . ومنها شهادة الزور لعده عليه السلام من الكبائر شهادة الزور . ومنها اليمين الكاذبة لقوله صلى الله عليه وسلم :
' من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر ليقتطع بها حق امرئ مسلم لقي الله تعالى يوم القيامة وهو عليه غضبان ' . ومنها الدعوى الكاذبة لقوله صلى الله عليه وسلم :
' من ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار ' . ومنها الاخذ لقضاء القاضي وليس له الحق لقوله صلى الله عليه وسلم
' إنما أنا بشر مثلكم وأنكم تختصمون ' الحديث . ومنها الاعتياد بالمجادلة ورفع القضية فان ذلك لا يخلو من إفساد ذات البين لقوله صلى الله عليه وسلم :
' إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ' . ورغب لمن ترك المخاصمة في الحق والباطل جميعا فإن ذلك مطاوعة لداعية السماحة ، وأيضا كثيرا ما لا يكون الحق له ، ويظن أن الحق له فلا يخرج
____________________
(1/780)
عن العهدة باليقين إلا إذا وطن نفسه على ترك الخصومة في الحق والباطل جميعا ، وفي الحديث ' إن رجلين تداعيا دابة فأقام كل واحد منهما البينة أنها دابته نتجها فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي في يده . أقول : والسر في ذلك أن الحجتين لما تعارضتا تساقطتا فبقي المتاع في يد صاحب القبض لعدم ما يقتضي رده ، أو نقول اعتضدت إحدى البينتين بالدليل الظاهر وهو القبض فرجحت . وأما المقام الثاني فشرع النبي صلى الله عليه وسلم فيه أصولا يرجع إليها : والجملة في ذلك أن جلية الحال إذا كانت معلومة فالنزاع يكون إما في طلب كل واحد شيئا وهو مباح في الأصل وحكمه أبدا الترجيح إما بزيادة صفة يكون فيها نفع للمسلمين ولذلك الشيء أو سبعة أحدهما إليه أو بالقرعة مثاله فقضية زيد . وعلي . وجعفر رضي الله عنهم في حضانة بنت حمزة رضي الله عنه فقضى بها لجعفر رضي الله عنه ، وقال : ' الخالة أم ' ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الأذان : ' لا ستهموا ' وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، وأما أن يكون هناك سابقة من عقد أو غصب يدعي كل واحد أنه أحق ، ويكون لكل واحد شبهة وحكمة اتباع العرف والعادة المسلمة عند جمهور الناس يفسر الأقارير وألفاظ العقود بما عند جمهورهم من المعنى ويعرف الأضرار وغيرها بما عندهم ، مثاله قضية البراء ابن عازب دخلت ناقته حائطا فأفسدت فيه ، وأدعى كل واحد أنه معذور فقضى بما هو المعروف من عادتهم من حفظ أهل الحوائط أموالهم بالنهار وحفظ أهل المواشي مواشيهم بالليل . ومن القواعد المبنية عليها كثير من الأحكام أن الغنم بالغرم ، وأصله
____________________
(1/781)
ما قضى النبي صلى الله عليه وسلم أن الخراج بالضمان وذلك لعسر ضبط المنافع ، وإن قسم الجاهلية ودمائها وما كان فيها لا يتعرض بها ، وأن الأمر مستأنف بعدها ، وأن اليد لا تنقص إلا بدليل آخر وهو أصل الاستصحاب وأنه إن انسد باب التفتيش فالحكم أن يكون ما يريده صاحب المال أو يترادا ، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم :
' البيعان إذا اختلفا بينهما والسلعة قائمة ' الحديث وأن الأصل في كل عقد أن يوفي لكل أحد وعلى كل أحد ما التزمه بعقده إلا أن يكون عقدا نهى الشرع عنه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلال ' فهذه نبذ مما شرع النبي صلى الله عليه وسلم في المقام الثاني . ومن القضايا التي قضى فيها رسول الله قضية صلى الله عليه وسلم قضيت بنت حمزة رضي الله عنه في الحضانة حيث قال علي رضي الله عنه . بنت عمي وأنا أخذتها ، وقال جعفر رضي الله عنه : بنت عمي وخالتها تحتي ، وقال زيد رضي الله عنه : بنت أخي فقضى بها لجعفر رضي الله عنه ، وقال : الخالة بمنزلة الأم ' . وقضية ابن وليدة زمعة في الدعوة حيث قال سعد : إن أخي قد عهد إلي فيه ، وقال عبد بن زمعة ابن وليدة أبي ولد على فراشه ، فقال صلى الله عليه وسلم ' : هو لك يا عبد ابن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر ' . وقضية زيد رضي الله عنه . والأنصاري في شراج الحرة فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أمر لهما في سعة ' اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك فغضب الأنصاري ، فاستوعى لزبير حقه قال : احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ' .
____________________
(1/782)
وقضية ناقة براء بن عازب رضي الله عنه دخلت حائطا لرجل من الأنصار فأفسدت فيه فقضى صلى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل . وقضى صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ، وقد ذكرنا فيما سبق وجوه هذه القضايا . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إذا اختلفتم في الطريق جعل عرضه سبعة أذرع ' . أقول : وذلك أن الناس إذا عمروا أرضا مباحة فقصروا بها واختلفوا في الطريق ، فأراد بعضهم أن يضيق الطريق ويبني فيها ، وأبى الآخرون ذلك ، وقالوا : لا بد للناس من طريق واسعة قضى بأن يجعل عرضه سبعة أذرع وذلك لأنه لا بد من مرور قطارين من الإبل يمشي أحدهما إلى جانب ، وثانيهما إلى الآخر ، وإذا جاءت زاملة من ههنا وزاملة من هنالك فلا بد من طريق تسعهما وإلا كان الحرج ومقدار ذلك سبعة أذرع . وقال صلى الله عليه وسلم :
' من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته ' أقول : جعله بمنزلة أجير عمل له عملا نافعا ، والله أعلم .
____________________
(1/783)
( الجهاد ) اعلم أن أتم الشرائع وأكمل النواميس هو الشرع الذي يؤمر فيه بالجهاد ، وذلك لأن تكليف الله عباده بما أمر ونهى - مثله كمثل رجل مرض عبيده ، فأمر رجلا من خاصته أن يقيهم دواء ، فلو أنه قهرهم على شرب الدواء ، وأوجره في أفواههم لكان حقا ، لكن الرحمة اقتضت أن يبين لهم فوائد الدواء ؛ ليشربوه على رغبة فيه ، وأن يخلط معه العسل ؛ ليتعاضد فيه الرغبة الطبيعية والعقلية . ثم إن كثيرا من الناس يغلب عليهم الشهوات الدنية والأخلاق السبعية ووساوس الشطان في حب الرياسات ، ويلصق بقلوبهم رسوم آبائهم ، فلا يسمعون تلك الفوائد ، ولا يذعنون لما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يتأملون في حسنة ، فليست الرحمة في حق أولئك أن يقتصر على إثبات الحجة عليهم ، بل الرحمة في حقهم أن يقهروا ؛ ليدخل الإيمان عليهم على رغم أنفهم بمنزلة إيجاد الدواء المر ، ولا قهر إلا بقتل من له منهم بكناية شديدة وتمنع قوى ، أو تفريق منعتهم وسلب أموالهم حتى يصيروا لا يقدرون على شيء ، فعند ذلك يدخل أتباعهم وذراريهم في الإيمان برغبة وطوع ، ولذلك كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر ' كان عليك إثم الأريسيين . وربما كان أسرهم وقهرهم يؤدي إلى إيمانهم ، وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال :
' عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل ' . وأيضا فالرحمة التامة الكاملة بالنسبة إلى البشر أن يهديهم الله إلى الاحسان ،
____________________
(1/784)
وأن يكبح ظالمهم عن الظلم ، وأن يصلح ارتفاقاتهم وتدبير منزلهم وسياسة مدينتهم ، فالمدن الفاسدة التي يغلب عليها نفوس السبعية ، ويكون لهم تمنع شديد إنما هو بمنزلة الأكلة في بدن الإنسان لا يصح الإنسان إلا بقطعه ، والذي يتوجه إلى إصلاح مزاجه وإقامة طبيعته لا بد له من القطع ، والشر القليل إذا كان مفضيا إلى الخير الكثير واجب فعله ، ولك عبدة بقريش ومن حولهم من العرب كانوا بعد خلق الله عن الاحسان وأظلمهم على الضعفاء ، وكانت بينهم مقاتلات شديدة ، وكان بعضهم يأسر بعضا ، وما كان أكثرهم متأملين في الحجة ناظرين في الدليل فجاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم ' وقتل أشدهم بطشا وأحدهم نفسا حتى ظهر أمر الله ، وانقادوا له ، فصاروا بعد ذلك من أهل الإحسان ، واستقامت أمورهم ، فلو لم يكن في الشريعة جهاد أولئك لم يحصل اللطف في حقهم . وأيضا فإن الله تعالى غضب على العرب والعجم ، وقضى بزوال دولتهم وكبت ملكهم ، فنفث في روع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبواسطته في قلوب أصحابه رضي الله عنهم أن يقاتلوا في سبيل الله ؛ ليحصل الأمر المطلوب ، فصاروا في ذلك بمنزلة الملائكة تسعى في إتمام ما أمر الله تعالى ، غير أن الملائكة تسعى من غير أن يعقد فيهم قاعدة كلية ، والمسلمون يقاتلون لأجل قاعدة كلية علمهم الله تعالى ، وكان علمهم ذلك أعظم الأعمال ، وصار القتل لا يسند إليهم إنما يسند إلى الآمر ، كما يسند قتل العاصي إلى الأمير دون السياف ، وهو قوله تعالى : ! ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ) ! .
____________________
(1/785)
وإلى هذا السر أشار النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال :
' مقت عربهم وعجمهم ' الحديث ، وقال عليه السلام : ' لا كسرى ولا قيصر ' يعني المتدينين بدين الجاهلية . وفضائل الجهاد راجعة إلى أصول : منها أنه موافقة تدبير الحق وإلهامه ، فكان السعي في إتمامه سببا لشمول الرحمة ، والسعي في إبطاله سببا لشمول اللعنة ، والتقاعد عنه في مثل هذا الزمان تفويتا لخير كثير . ومنها أن الجهاد عمل شاق يحتاج إلى تعب وبذل مال ومهجة وترك الأوطان والأوطار ، فلا يقدم عليه إلا من أخلص دينه لله وآثر الآخرة على الدنيا ، وصح اعتماده على الله . ومنها أن نفث مثل هذه الداعية في القلب لا يكون إلا بتشبه الملائكة ، وأحظاهم بهذا الكمال أبعدهم عن شرور البهيمية وأطرفهم من رسوخ الدين في قلبه ، فيكون معرفا لسلامة صدره . هذا كله إن كان الجهاد على شرطه ، وهو ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ' إن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ' . ومنها أن الجزاء يتحقق بصورة العمل يوم القيامة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم ي سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثغب دما ، اللون لون الدم ، والريح ريح المسك ' . ومنها أن الجهاد لما كان أمرا مرضيا عند الله تعالى وهو لا يتم في العادة إلا بأشياء من النفقات ورباط الخيل والرمي ونحوها وجب أن يتعدى الرضا إلى هذه الأشياء من جهة إفضائها إلى المطلوب .
____________________
(1/786)
ومنها أن بالجهاد تكميل الملة وتنويه أمرها وجعله في الناس كالأمر اللازم ، فإذا حفظت هذه الأصول انكشفت لك حقيقة الأحاديث الواردة في فضائل الجهاد . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين ' الحديث . أقول : سره أن ارتفاع المكان في دار الجزاء تمثال لارتفاع المكانة عند الله ، وذلك بأن تسكب النفس سعادتها من التطلع للجبروت وغير ذلك ، وبأن يكون سببا لاشتهار شعائر الله ودينه وسائر ما يرضي الله باشتهاره ، ولذلك كانت الأعمال التي هي مظنة هاتين الخصلتين جزاؤها الدرجات في الجنة ، فورد في تالي القرآن أنه يقال له ' اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ' وورد في الجهاد أنه سبب رفع الدرجات فإن عمله يفيد ارتفاع الدين ، فيجازى بمثل ما تضمنه عمله ، ثم إن ارتفاع المكانة يتحقق بوجوه كثيرة ، فكل وجه يتمثل درجة في الجنة ، وإنما كان كل درجة كما بين السماء والأرض لأنه غاية ما تمكن في علوم البشر من البعد الفوقانى فيتمثل في دار الجزاء كما تمكن في علومهم . قال صلى الله عليه وسلم : ' مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصائم ' . أقول : سره أن الصائم القانت إنما فضل على غيره بأنه عمل عملا شاقا لمرضاة الله ، وأنه صار بمنزلة الملائكة ومتشبها بهم ، والمجاهد إذا كان جهاده على ما أمر الشرع به يشبهه في كل ذلك غير أن الاجتهاد في الطاعات
____________________
(1/787)
يسلم فضلة الناس ، وهذا لا يفهمه إلا الخاصة ، فشبه به لينكشف الحال . ثم مست الحاجة إلى الترغيب في مقدمات الجهاد التي لا يتأتى الجهاد في العادة إلا بها كالرباط والرعي وغيرهما لأن الله تعالى إذا أمر بشيء ورضي به وعلم أنه لا يتم إلا بتلك المقدمات كان من موجبة الأمر بها والرضا عنها . ورد في الرباط أنه ' خير من الدنيا وما فيها ' وأنه ' خير من صيام شهر وقيامه وإن مات أجرى عليه عمله الذي كان عمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان ' . أقول : أما سر كونه خيرا من الدنيا وما فيها فلأن له ثمرة باقية في المعاد ، وكل نعيم من نعيم الدنيا لا محالة زائل . . . وأما كونه خيرا من صيام شهر وقيامه فلأنه عمل شاق يأتي على البهيمية لله وفي سبيل الله كما يفعل ذلك الصيام والقيام . . وسر إجراء عمله أن الجهاد بعضه مبنى على بعض بمنزلة البناء ويقوم الجدار على الأساس وياقوم السقف على الجدار ، وذلك لأن الأولين من المهاجرين والأنصار كانوا سبب دخول قريش ومن حولهم في الإسلام ثم فتح الله على أيدي هؤلاء العراق والشام ، ثم فتح الله على أيدي هؤلاء الفرس والروم ، ثم فتح الله على أيدي هؤلاء الهند والترك والسودان ، فالنفع الذي يترتب على الجهاد يتزايد حينا فحينا وصار بمنزلة الأوقاف والرباطات والصدقات الجارية . وأما الأمن من الفتان يعني المنكر والنكير فإن المهلكة منهما على من لم يطمئن قلبه بدين محمد صلى الله عليه وسلم ولم ينهض لنصرته ، أما المرابط على شرطه فهو جامع الهمة على تصديق ناهض العزيمة على تمشية نور الله .
____________________
(1/788)
قال صلى الله عليه وسلم :
' من جهز غازيا في سيل الله فقد غزا ومن خلف غازيا في أهله فقد غزا ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' أفضل الصدقة ظل فسطاط في سبيل الله ' ونحو ذلك . أقول : السر في ذلك أنه عمل نافع للمسلمين يترتب عليه نصرتهم ، وهو المعنى في الغزو أو الصدقة . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا حاء يوم القيامة وجرحه يثغب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك ' . أقول : العمل يلتصق بالنفس بهيئته وصورته ويجر ما فيه معنى التضاعف بالنسبة إلى العمل والمجازاة مبناها على تمثل النعمة والراحة بصورة اقرب ما هناك ، فإذا جاء الشهيد يوم القيامة ظهر عليه عمله وتنعم به بصورة ما في العمل . وقال عليه السلام صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : ! ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) ! . الآية ' أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالفرش تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل ' . أقول : الذي يقتل في سبيل الله يجتمع فيه خصلتان : إحداهما أنه تبقى
____________________
(1/789)
نسمته وافرة كاملة لم تضمحل علومها التي كانت منغمسة فيها في حياتها الدنيا وإنما هو بمنزلة رجل مشغول بأمر معاشه ينام نومة بخلاف الميت الذي ابتلي بأمراض شديدة تغير مزاجه وتنسيه كثيرا مما كان فيه . والثانية أنه شملته الرحمة الإلهية المتوجهة إلى نظام العالم الممتلئ منها حظيرة القدس والملائكة المقربون ، فلما زهقت نفسه وهي ممتلئة من السعي في إقامة دين الله فتح بينه وبين حظيرة القدس فيح واسع ، ونزل من هناك الأنس والنعمة والراحة ، وتنفست إليه حظيرة القدس نفسا مثاليا ، فيتمثل الجزاء حسبما عنده ، فتركبت من اجتماع هاتين الخصلتين أمور عجيبة : منها أنه تتمثل نفسه معلقة بالعرش بنحوما ، وذلك لدخوله في حملة العرش وطموح همته إلى ما هناك . ومنها أنه تمثل له بدن طير أخضر ، فكونه طيرا لأنه من الملائكة بمنزلة الطير من دواب الأرض في ظهور أحكام الجنس إجمالا وكونه أخضر لحسن منظره . ومنها أنه تتمثل نعمته وراحته بصورة الرزق كما كان يتمثل النعمة في الدنيا بالفواكه والشواء . ثم مست الحاجة إلى تمييز ما يفيد تهذيب النفس مما لا يفيده وهو مشتبه به فإن الشرع أتى بأمرين : بانتظام الحي والمدينة . والملة ؛ وبتكميل النفوس . قيل : الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر . والرجل يقاتل
____________________
(1/790)
ليرى مكانه ، فمن يقاتل في سبيل الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم :
' من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ' أقول : وذلك لما ذكرنا من أن الأعمال أجساد ، وأن النيات أرواح لها ، وإنما الأعمال بالنيات ، ولا عبرة بالجسد إلا بالروح ، وربما تفيد النية فائدة العمل وإن لم يقترن بها إذا كان فوته لمانع سماوي دون تفريط منه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر ' وإن كان من تفريط فإن النية لم تتم حتى يترتب عليها الأجر قال صلى الله عليه وسلم :
' البركة في نواصي الخيل ' وقال عليه السلام :
' الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والغنيمة ' . اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بالخلافة العامة ، وغلبة دينه على سائر الأديان لا يتحقق إلا بالجهاد وإعداد آلاته ، فإذا تركوا الجهاد ، واتبعوا أذناب البقر أحاط بهم الذل ؛ وغلب عليهم أهل سائر الأديان . قال صلى الله عليه وسلم : ' من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة ' . أقول : ذلك لأنه يتعانى في علفه وشرابه وفي روثه وبوله ، فصار عمله ذلك متصورا بصورة ما تعانى فيه ، فيظهر يوم القيامة كل ذلك بصورته وهيئته ، قال صلى الله عليه وسلم :
' إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة ، صانعه يحتسب في صنعه والرامي به ومنبله ' وقال عليه السلام : ' من رمى بسهم في سبيل الله فهو له عدل محرر ' أقول : لما علم الله تعالى أن كبت الكفار لا يتم إلا بهذه الأشياء انتقل رضا الحق بإزالة الكفر والظلم إلى هذه .
____________________
(1/791)
قال الله تعالى : ! ( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ) ! . وقال الله تعالى : ! ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج ) ! . وقال صلى الله عليه وسلم لرجل :
' ألك والدان ؟ قال . نعم ، قال ففيهما فجاهد ' . أقول : لما كان إقبالهم بأجمعهم على الجهاد يفسد أرتفاقاتهم وجب ألا يقوم به إلا البعض ، وإنما تعين غير المعلول بهذه العلل لأن على أصحابها حرجا وليس فيهم غنية معتد بها للإسلام بل ربما يخاف الضرر منهم قال الله تعالى : ! ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) ! . أقول : إعلاء كلمة الله لا يتحقق إلا بأن يوطنوا أنفسهم بالثبات والنجدة والصبر على مشاق القتال ولو جرت العادة بأن يفروا إذا عثروا على مشقة لم يتحقق المقصود بل ربما أفضى إلى الخذلان . وأيضا فالفرار جبن وضعف وهو أسوأ الأخلاق
____________________
(1/792)
ثم لا بد من بيان حد يتحقق به الفرق بين الواجب وغيره ولا تتحقق النجدة والشجاعة إلا إذا كان أسباب الهزيمة أكثر من أسباب الغلبة فقدر أولا بعشرة أمثال لأن الكفر يومئذ كان أكثر ولم يكن المسلمون إلا أقل شيء فلو رخص لهم الفرار لم يتحقق الجهاد أصلا ، ثم خفف إلى مثلين لأنه لا تتحقق النجدة والثبات فيما دون ذلك . ثم لما وجب الجهاد لإعلاء كلمة الله وجب ما لا يكون الإعلاء إلا به ، ولذلك كان سد الثغور وعرض المقاتلة ونصب الأمراء على كل ناحية وثغر واجبا على الإمام وسنة متوارثة ، وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه رضي الله عنهم في هذا الباب سننا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو على سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال : ' اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ' الحديث . وإنما نهى عن الغلول لما فيه من كسر قلوب المسلمين واختلاف كلمتهم واختيارهم النهي على القتال ، وكثيرا ما يفضي ذلك إلى الهزيمة ، وعن الغدر لئلا يرتفع الأمان من عهدهم وذمتهم ولو ارتفع ذهب أعظم الفتوح وأقربها وهي الذمة ، وعن المثلة لأنه تغيير خلق الله ، وعن قتل الوليد لأنه تضييق على المسلمين وإضرار بهم فإنه لو بقي حيا لصار رقيقا لهم واتبع السابي في الإسلام . وأيضا فإنه لا ينكأ عدوا ولا ينصر فئة .
____________________
(1/793)
والدعوة إلى ثلاث خصال مترتبة : الأولى الإسلام مع الهجرة والجهاد وحينئذ له ما للمجاهدين من الحق في الفيء والمغانم . الثانية الإسلام من غير هجرة ولا جهاد إلا في النفير العام وحينئذ ليس له نصيب في المغانم والفيء ، وذلك لأن الفيء إنما يصرف إلا الأهم فالأهم ، والعادة قاضية بألا يسع بيت المال الصرف إلى المتوطنين في بلادهم غير المجاهدين فلا اختلاف بين هذا وبين قول عمر رضي الله عنه : فأين عشت فليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه يعني إذا فتح كنوز الملوك وجيء من الخراج شيء كثير فيبقى بعد حظ المقاتلة وغيرهم الثالثة أن يكونوا من أهل الذمة ، ويؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون فبالأولى تحصل المصلحتان من نظام العالم ورفع التظالم من بينهم ومن تهذيب نفوسهم بأن يحصل نجاتهم من النار ويكونوا ساعين في تمشية أمر الله . وبالثانية النجاة من النار من غير أن ينالوا درجات المجاهدين . وبالثالثة زوال شوكة الكفار وظهور شوكة المسلمين ، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المصالح . ويجب على الإمام أن ينظر في أسباب ظهور شوكة المسلمين وقطع أيدي الكفار عنهم ، ويجتهد ، ويتأمل في ذلك فيفعل ما أدى إليه اجتهاده مما عرف هو أو نظيره عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم ؛ لأن الأمام إنما جعل لمصالح ، ولا تتم إلا بذلك ، والأصل في هذا الباب سير النبي صلى الله عليه وسلم .
____________________
(1/794)
ونحن نذكر حاصل أحاديث الباب : فنقول . يجب أن يشحن ثغور المسلمين بجيوش يكفون من يليهم ، ويؤمر عليهم رجلا شجاعا ذا رأي ناصحا للمسلمين وإن احتاج إلى حفر خندق أو بناء حصن فعله كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، وإذا بعث سرية أمر عليهم أفضلهم أو أنفعهم للمسلمين ، وأوصاه في نفسه وبجماعة المسلمين خيرا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ، وإذا أراد الخروج للغزو عرض جيشه ، ويتعاهد الخيل والرجال فلا يقبل من دون خمس عشرة سنة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ، ولا مخذلا وهو الذي يقعد الناس عن الغزو ، ولا مرجفا وهو الذي يحدث بقوة الكفار ، والأصل فيه قوله تعالى . ( كره الله انبعائهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) . ولا مشركا لقوله صلى الله عليه وسلم :
' إنا لا نستعين بمشرك إلا عند ضرورة ووثوق به ' ولا امرأة شابة يخاف عليها ، ويأذن للطاعنة في السن لأنه صلى الله عليه وسلم كان يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار يسقين الماء ويداوين الجرحى ، ويعبي الجيش ميمنة وميسرة ، ويجعل لكل قوم راية ، ولكل طائفة أميرا وعريفا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح لأنه أكثر إرهابا وأقرب ضبطا ، ويعين لهم شعارا يتكلمونه في البيات لئلا يقتل بعضهم بعضا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ، ويخرج يوم الخميس أو الاثنين فإنهما يومان يعرض فيهما الأعمال ، وقد ذكرنا من قبل ، ' ويكلفهم من السير ما يطيقه الضعيف
____________________
(1/795)
إلا عند الضرورة ، ويتخير لهم من المنازل أصلحها وأوفرها ماء ، وينصب الحرس والطلائع إذا خاف العدو ، ويخفى من أمره ما استطاع ، ويورى إلا من ذوي الرأي والنصيحة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' لا تقطع الأيدي في الغزو ' وسره ما بينه عمر رضي الله عنه ألا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار ، ولأنه كثيرا ما يفضي إلى اختلاف بين الناس ، وذلك يخل بمصلحتهم ، ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، ولا يقتل وليدا . ولا امرأة ، ولا شيخا فانيا إلا عند ضرورة كالبيات ، ولا يقطع الشجر ، ولا يحرق ، ولا يعقر الدواب إلا إذا تعينت المصلحة في ذلك كالبويرة قرية بني النضير ، ولا يخيس بالعهد ، ولا يحبس البرد لأنه سبب انقطاع المراسلة بينهم ، ويخدع فإن الحرب خدعة ، ويهجم عليهم غارين ويرميهم بالمنجنيق ، ويحاصرهم ، ويضيق عليهم ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك ، ولأن القتال لا يتحقق إلا به كما لا حاجة إلى شرحه ، ويجوز المبارزة بإذن الإمام لمن وثق بنفسه كما فعل علي . وحمزة رضي الله عنهما . وللمسلمين أن يتصرفوا فيما يجدونه هنالك من العلف والطعام من غير أن يخمس لأنه لو لم يرخص فيه لضاق الحال فإذا أسروا أسراء خير الإمام بين أربع خصال ، القتل ، والفداء ، والمن ، والارقاق يفعل من ذلك الأحظ وللإمام أن يعطيهم الأمان ولآحادهم . والأصل فيه قوله تعالى : ! ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ) ! .
____________________
(1/796)
وذلك لأن دخولهم في الإسلام لا يتحقق إلا بمخالطة المسلمين ومعرفة حجتهم وسيرتهم . وأيضا فكثيرا ما تقع الحاجة إلى تردد التجار وأشباههم ، ويصالحهم بمال وبغير مال فإن المسلمين ربما يضعفون عن مقاتلة الكفار فيحتاجون إلى الصلح وربما يحتاجون إلى المال يتقوون به ، أو إلى أن يأمنوا من شر قوم فيجاهدوا آخرين . قال صلى الله عليه وسلم :
' لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئا قد بلغتك ' ونحو ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :
' على رقبته فرس له حمحمة وشاة لها يعار ونفس لها صياح ورقاع تخفق ' . أقول الأصل في ذلك أن المعصية تتصور بصورة ما وقعت فيه ، وأما حمله فثقله والتأذي به ، وأما صوته فعقوبته بإشاعة فاحشته على رءوس الناس . قال صلى الله عليه وسلم :
' إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه كله واضربوه ' وعمل به أبو بكر . وعمر رضي الله عنهما . أقول سره الزجر وكبح الناس أن يفعلوا مثل ذلك واعلم أن الأموال المأخوذة من الكفار على قسمين : ما حصل منهم بإيجاف الخيل والركاب واحتمال أعباء القتال وهو الغنيمة . وما حصل منهم بغير قتال كالجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجارهم وما بذلوا صلحا أو هربوا عنه فزعا .
____________________
(1/797)
فالغنيمة تخمس ويصرف الخمس إلى ما ذكر الله تعالى في كتابه حيث قال : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) . فيوضع سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده في مصالح المسلمين الأهم فالأهم ، وسهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب الفقير منهم والغني والذكر والأنثى ، وعندي أنه يخير الإمام في تعيين المقادير ، وكان عمر رضي الله عنه يزيد في فرض آل النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المال ويعين المدين منهم والناكح وذا الحاجة ، وسهم اليتامى لصغير فقير لا أب له ، وسهم الفقراء والمساكين لهم يفوض كل ذلك إلى الإمام يجتهد في الفرض وتقديم الأهم فالأهم ويفعل ما أدى إليه اجتهاده ويقسم أربعة أخماسه في الغانمين يجتهد الإمام أولا في حال الجيش فمن كان نفله أوفق بمصلحة المسلمين نفل له ، وذلك بإحدى ثلاث . أن يكون الإمام دخل دار الحرب فبعث سرية تغير على قرية مثلا فيجعل لها الربع بعد الخمس أو الثلث بعد الخمس فما قدمت به السرية رفع خمسه ثم أعطي السرية ربع ما غبر أو ثلثه وجعل الباقي في المغانم . وثانيتها أن يجعل الإمام جعلا لمن يعمل عملا فيه غناء عن المسلمين ، مثلا أن يقول : من طلع هذا الحصن فله كذا . ومن جاء بأسير فله كذا . من قتل قتيلا فله سلبه ، فإن شرط من مال المسلمين أعطي منه ، وإن شرط من الغنيمة أعطي من أربعة أخماس . وثالثتها أن يخص الإمام بعض الغانمين بشيء لغنائه وبأسه كما أعطي
____________________
(1/798)
رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة بن الأكوع في غزوة ذي قرد سهم الفارس والراجل حيث ظهر منه نفع عظيم للمسلمين . والأصح عندي أن السلب إنما يستحقه القاتل بجعل الإمام قبل القتل أو تنفيله بعده . ويرفع ما ينبغي أن يرضخ دون السهم للنساء يداوين المرضى ، ويطبخن الطعام ، ويصلحن شأن الغزاة وللعبيد والصبيان وأهل الذمة الذين أذن لهم الإمام إن حصل منهم نفع للغزاة وإن عثر على أن شيئا من الغنيمة كان مال مسلم ظفر به العدو رد عليه بلا شيء ، ثم يقسم الباقي على من حضر الوقعة للفارس ثلاثة أسهم . وللراجل سهم . وعندي أنه إن رأى الإمام أن يزيد لركبان الإبل أو للرماة شيئا أو يفضل العراب على البراذين بشيء دون السهم فله ذلك بعد أن يشاور أهل الرأي ويكون أمرا لا يختلف عليه لأجله وبه يجمع اختلاف سير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في الباب . ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش كالبريد والطليعة والجاسوس يسهم له وإن لم يحضر الوقعة كما كان لعثمان يوم بدر . وأما الفيء فمصرفه ما بين الله تعالى حيث قال : ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القريى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) . إلى قوله ' ( رءوف رحيم ) ولما قرأها عمر رضي الله عنه قال : هذه استوعبت المسلمين فيصرفه إلى الأهم فالأهم ، وينظر في ذلك إلى مصالح المسلمين لا مصلحته الخاصة به .
____________________
(1/799)
واختلفت السنن في كيفية قسمة الفيء ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الفيء قسمه في يومه ، فأعطى الأهل حظين ، وأعطى الأعزب حظا ، وكان أبو بكر رضي الله عنه يقسم للحر وللعبد . ويتوخى كفاية الحاجة ، ووضع عمر رضي الله عنه الديوان على السوابق والحاجات ، فالرجل وقدمه ، والرجل وبلاؤه ، والرجل وعياله ، والرجل وحاجته ، والأصل في كل ما كان مثل هذا من الاختلاف أن يحمل على أنه إنما فعل ذلك على الاجتهاد فتوخى كل المصلحة بحسب ما رأى في وقته ، والأراضي التي غلب عليها المسلمون للإمام فيها الخيار . إن شاء قسمها في الغانمين ، وإن شاء أوقفها على الغزاة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر . قسم نصفها ووقف نصفها ، ووقف عمر رضي الله عنه أرض السواد ، وإن شاء أسكنها الكفار ذمة لنا . وأمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا رضي الله عنه أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر ، وفرض عمر رضي الله عنه على الموسر ثمانية وأربعين درهما ، وعلى المتوسط أربعة وعشرين ، وعلى الفقير المعتمل اثني عشر . ومن هنا يعلم أن قدره مفوض إلى الإمام يفعل ما يرى من المصلحة ، ولذلك اختلفت سيرهم ، وكذلك الحكم عندي في مقادير الخراج وجميع ما اختلفت فيه سير النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم . وإنما أباح الله لنا الغنيمة والفيء لما بينه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : ' لم تحل الغنائم لأحد من قبلنا . . ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا ' وقال صلى الله عليه وسلم : ' إن الله فضل أمتي على الأمم وأحل لنا الغنائم ' وقد شرحنا هذا في القسم الأول فلا نعيده .
____________________
(1/800)
والأصل في المصارف أن أمهات المقاصد أمور : منها إبقاء ناس لا يقدرون على شيء لزمانه أو لاحتياج مالهم أو بعده منهم . ومنها حفظ المدينة عن شر الكفار بسد الثغور ونفقات المقاتلة والسلاح والكراع . ومنها تدبير المدينة وسياستها من الحراسة والقضاء وإقامة الحدود والحسبة . ومنها حفظ الملة بنصب الخطباء والأئمة والوعاظ والمدرسين . ومنها منافع مشتركة ككرى الأنها وبناء القناطر ونحو ذلك . وأن البلاد على قسمين . قسم تجرد لأهل الإسلام كالحجاز ، أو غلب عليه المسلمون ، وقسم أكثر أهله الكفار فغلب عليهم المسلمون بعنوة أو صلح . والقسم الثاني يحتاج إلى شيء كثير من جمع الرجال وإعداد آلات القتال ونصب القضاة والحرس والعمال ، والأول لا يحتاج إلى هذه الأشياء كاملة وافرة . وأراد الشرع أن يوزع بيت المال المجتمع في كل بلاد على ما يلائمها فجعل مصرف الزكاة والعشر ما يكون فيه كفاية المحتاجين أكثر من غيرها ، ومصرف الغنيمة والفيء ما يكون فيه إعداد المقاتلة وحفظ الملة وتدبير المدينة أكثر ، ولذلك جعل سهم اليتامى والمساكين والفقراء من الغنيمة والفيء أقل من سهمهم من الصدقات وسهم الغزاة منهما أكثر من سهمهم منها . ثم الغنيمة إنما تحصل بمعاناة وإيجاف خيل وركاب فلا تطيب قلوبهم إلا بأن يعطوا منها . والنواميس الكلية المضروبة على كافة الناس لا بد فيها من النظر
____________________
(1/801)
إلى حال عامة الناس . ومن ضم الرغبة الطبيعية إلى الرغبة العقلية ولا يرغبون إلا بأن يكون هناك ما يجدونه بالقتال ، فلذلك كان أربعة أخماسها للغانمين والفيء إنما يحصل بالرعب دون مباشرة القتال فلا يجب أن يصرف على ناس مخصوصين فكان حقه أن يقدم فيه الأهم فالأهم . والأصل في الخمس أنه كان المرباع عادة مستمرة في الجاهلية يأخذه رئيس القوم وعصبته فتمكن ذلك في علومهم وما كادوا يجدون في أنفسهم حرجا منه ، وفيه قال القائل : ( وإن لنا المرباع من كل غارة ** تكون بنجد أو بأرض التهائم ) فشرع الله تعالى الخمس لحوائج المدينة والملة نحوا مما كان عندهم كما أنزل الآيات على الأنبياء عليهم السلام نحوا مما كان شائعا ذائعا فيهم ، وكان المرباع لرئيس القوم وعصبته تنويها بشأنهم ولأنهم مشغولون بأمر العامة محتاجون إلى نفقات كثيرة ، فجعل الله الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه عليه السلام مشغول بأمر الناس لا يتفرغ أن يكتسب لأهله ، فوجب أن تكون نفقته في مال المسلمين ، ولأن النصرة حصلت بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم والرعب الذي أعطاه الله إياه ، فكان كحاضر الوقعة ، ولذوي القربى لأنهم أكثر الناس حمية للإسلام حيث اجتمع فيهم الحمية الدينية إلى الحمية النسبية فإنه لا فخر لهم إلا بعلو دين محمد صلى الله عليه وسلم ، ولأن في ذلك تنويه أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وتلك مصلحة راجعة إلى الملة ، وإذا كان العلماء والقراء يكون توقيرهم تنويها بالملة يجب أن يكون توقير ذوي القربى كذلك بالأولى ، وللمحتاجين وضبطهم بالمساكين والفقراء واليتامى ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس . وعلى هذا فتخصيص هذه الخمسة بالذكر للاهتمام بشأنها ، والتوكيد ألا
____________________
(1/802)
يتخذ الخمس والفيء أغنياؤهم دولة فيهملوا جانب المحتاجين ، ولسد باب الظن السيئ بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرابته . وإنما شرعت الأنفال والأرضاخ لأن الإنسان كثيرا ما يقدم على مهلكة إلا لشيء لا يطمع فيه ، وذلك ديدن وخلق للناس لا بد من رعايته . وإنما جعل للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم لأن غناء الفارس عن المسلمين أعظم ومؤنته أكثر وإن رأيت حال الجيوش لم تشك أن الفارس لا يطيب قلبه ولا تكفي ومؤنته إذا جعلت جائزته دون ثلاثة أضعاف سهم الراجل لا يختلف فيه طوائف العرب والعجم على اختلاف أحوالهم وعاداتهم . قال صلى الله عليه وسلم :
' لئن عشت إن شاء الله لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب ' وأوصى بإخراج المشركين منها . أقول : عرف النبي صلى الله عليه وسلم أن الزمان دول وسجال فربما ضعف الإسلام وانتشر شمله فإن كان العدو في مثل هذا الوقت في بيضة الإسلام ومحتده أفضى ذلك إلى هتك حرمات الله وقطعها فأمر بإخراجهم من حوالي دار العلم ومحل بيت الله . وأيضا المخالطة مع الكفار تفسد على الناس دينهم وتغير نفوسهم ، ولما لم يكن بد من المخالطة في الأقطار أمر بتنقية الحرمين منهم ، وأيضا انكشف عليه صلى الله عليه وسلم ما يكون في آخر الزمان فقال : ' إن الدين ليأرز إلى المدينة ' الحديث ولا يتم ذلك إلا بألا يكون هناك من أهل سائر الأديان ، والله أعلم .
____________________
(1/803)
( من أبواب المعيشة ) اعلم أن جميع سكان الأقاليم الصالحة اتفقوا على مراعاة آدابهم في مطعمهم . ومشربهم . وملبسهم . وقيامهم . وقعودهم . وغير ذلك من الهيئات والأحوال ، وكان ذلك كالأمر المفطور عليه الإنسان عند سلامة مزاجه وظهور مقتضيات نوعه عند اجتماع أفراد منه ، وتراءى بعضها لبعض وكانت لهم مذاهب في ذلك . فكان منهم من يسويها على قواعد الحكمة الطبيعية فيختار في كل ذلك ما يرجى نفعه ولا يخشى ضرره بحكم الطب والتجربة ، ومنهم من يسويها على قوانين الإحسان حسبما تعطيه ملته ، ومنهم من يريد محاكاة ملوكهم وحكمائهم ورهبانهم ، ومنهم من يسويها على غير ذلك ، وكان في بعض ذلك منافع يجب التنبيه عليها والأمر به لأجلها ، وفي البعض الآخر مفاسد يجب أن ينهي عنها لأجلها وينبه عليها ، والبعض الآخر غفل من المعنيين يجب أن يبقى على الأباحة ويرخص فيه فكان تنقيحها والتفتيش عنها إحدى المصالح التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لها . والعمدة في ذلك أمور : فمنها أن الاشتغال بهذه الأشغال ينسي ذكر الله ويكدر صفاء القلب فيجب أن يعالج هذا السم بترياق ، وهو أن يسن قبلها وبعدها ومعها أذكار تردع النفس عن اطمئنانها بها بأن يكون فيها ما يذكر المنعم الحقيقي ويميل الفكر إلى جانب القدس . ومنها أن بعض الأفعال والهيآت تناسب أمزجة الشياطين من حيث إنهم لو تمثلوا في منام أحد أو يقظته لتلبسوا ببعضها لا محالة ، فتلبس الإنسان
____________________
(1/804)
بها معد للتقرب منهم وانطباع ألوانها الخسيسة في نفوسهم فيجب أن يمنع عنها كراهة أو تحريما حسبما تحكم به المصلحة كالمشي في نعل واحدة والأكل باليد اليسرى ، وبعضها مطردة للشياطين مقربة من الملائكة كالذكر عند ولوج البيت والخروج منه ، ويجب أن يحض عليها . ومنها الاحتراز عن هيآت يتحقق فيها التأذي بحكم التجربة كالنوم على سطح غير محجوز وترك المصابيح عند النوم ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' فإن الفويسقة تضرم على أهلها ' . ومنها مخالفة الأعاجم فيما اعتادوه من الترفه البالغ والتعمق في الاطمئنان بالحياة الدنيا فأنساهم ذكر الله وأوجب الإكثار من طلب الدنيا وتشبح اللذات في نفوسهم فيجب أن يخص رءوس تعمقاتهم بالتحريم كالحرير . والقسى . والمياثر . والأرجوان . والثياب المصنوعة فيها الصور . وأواني الذهب . والفضة . والمعصفر . والخلوق ونحو ذلك ، وأن يعم سائر عاداتهم بالكراهية ، ويستحب ترك كثير من الإرفاه . ومنها الاحتراز عن هيآت تنافي الوقار وتلحق الإنسان بأهل البادية ممن لم يتفرغوا لأحكام النوع ليحصل التوسط بين الإفراط والتفريط . ( الأطعمة والأشربة ) اعلم أنه لما كانت سعادة الإنسان في الأخلاق الأربعة التي ذكرناها وشقاوته في أضدادها أوجب حفظ الصحة النفسانية وطرد المرض النفساني أن يفحص عن أسباب تغير مزاجه إلى إحدى الوجهتين . فمنها أفعال تتلبس بها النفس وتدخل في جذر جوهرها ، وقد بحثنا عن جملة صالحة من هذا الباب .
____________________
(1/805)
ومنها أمور تولد في النفس هيآت دنية توجب مشابهة الشياطين والتبعد من الملائكة وتحقق أضداد الأخلاق الصالحة من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون ، فتلقت النفوس اللاحقة بالملأ الأعلى التاركة للألواث البهيمية من حظيرة القدس بشاعة تلك الأمور كما تلقى الطبيعة كراهية المر والبشع ، وأوجب لطف الله ورحمته بالناس أن يكلفهم برءوس تلك الأمور ، والذي هو منضبط منها وأثرها جلي غير خاف فيهم . ولما كان أقوى أسباب تغير البدن والأخلاق المأكول وجب أن يكون رؤوسها من هذا الباب ، فمن أشد ذلك أثرا تناول الحيوان الذي مسخ قوم بصورته ، وذلك أن الله تعالى إذا لعن الإنسان وغضب عليه أورث غضبه ولعنه فيه وجود مزاج هو من سلامة الإنسان على طرف شاسع وصقيع بعيد حتى يخرج من الصورة النوعية بالكلية فذلك أحد وجوه التعذيب في بدن الإنسان ويكون خروج مزاجه عند ذلك إلى مشابهة حيوان خبيث يتنفر منه الطبع السليم فيقال في مثل ذلك مسخ الله قردة وخنازير فكان في حظيرة القدس علم متمثل أن بين هذا النوع من الحيوان وبين كون الإنسان مغضوبا عليه بعيدا من الرحمة مناسبة خفية وأن بينه وبين الطبع السليم الباقي على فطرته بونا بائنا فلا جرم أن تناول هذا الحيوان وجعله جزء بدنه أشد من مخامرة النجاسات والأفعال المهيجة للغضب ولذلك لم يزل تراجمة حظيرة القدس نوح فمن بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يحرمون الخنزير ويأمرون بالتبعد منه إلى أن يتنزل عيسى عليه السلام فيقتله ، ويشبه أن الخنزير كان يأكله قوم فنطقت الشرائع بالنهي عنه وهجر أمره أشد ما يكون ، والقردة . والفأرة لم تكن تؤكل قط فكفى ذلك عن التأكيد الشديد ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في الضب . ' إن الله غضب على سبط من
____________________
(1/806)
بني إسرائيل فمسخهم دواب يدبون في الأرض فلا أدري لعل هذا منها ' ، وقال الله تعالى : ! ( جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ) ! . ونظيره ما ورد من كراهية المكث بأرض وقع فيها الخسف أو العذاب ، وكراهية هيآت المغضوب عليهم فإن مخامرة هذه الأشياء ليست أدنى من مخامرة النجاسات ، والتلبس بها ليس أقل تأثيرا من التلبس بالهيآت التي يقتضيها مزاج الشيطان . ويتلوه تناول حيوان جبل على الأخلاق المضادة للأخلاق المطلوبة من الإنسان حتى صار كالمندفع إليها بضرورة ، وصار يضرب به المثل ، وصارت الطبائع السليمة تستخبثه وتأبى تناوله اللهم إلا قوم لا يعبأ بهم ، والذي تكامل فيه هذا المعنى وظهر ظهورا بينا وانقاد له العرب والعجم جميعا أشياء : منها السباع المخلوقة على الخدش . والجرح . والصولة . وقسوة القلب ، ولذلك قال عليه السلام في الذئب : ' أو يأكله أحد ' ؟ ومنها الحيوانات المجبولة على إيذاء الناس والاختطاف منهم وانتهاز الفرص للإغارة عليهم وقبول إلهام الشياطين في ذلك كالغراب . والحديات . والوزغ . والذباب . والحية والعقرب ونحو ذلك . ومنها حيوانات جبلت على الصغار والهوان والتستر في الاخدود كالفأرة وخشاش الأرض . ومنها حيوانات تتعيش بالنجاسات أو الجيفة ومخامرتها وتناولها حتى امتلأت أبدانها بالنتن . ومنها الحمار فإنه يضرب به المثل في الحمق والهوان وكان كثير من أهل
____________________
(1/807)
الطبائع السليمة من العرب يحرمونه ويشبه الشياطين ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' إذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطانا ' وأيضا قد اتفق الأطباء أن هذه الحيوانات كلها مخالفة لمزاج نوع الإنسان لا يسوغ تناولها طبا . واعلم أن ههنا أمورا مبهمة تحتاج إلى ضبط الحدود وتمييز المشكل . منها أن المشركين كانوا يذبحون لطواغيتهم يتقربون به إليها وهذا نوع من الإشراك فاقتضت الحكمة الالهية أن ينهى عن هذا الإشراك ، ثم يؤكد التحريم بالنهي عن تناول ما ذبح لها ليكون كابحا عن ذلك الفعل ، وأيضا فإن قبح الذبح يسري في المذبوح لما ذكرنا في الصدقة ثم المذبوح للطواغيت أمر مبهم ضبط بما أهل لغير الله به ، وبما ذبح على النصب ، وبما ذبحه غير المتدين بتحريم الذبح بغير اسم الله وهم المسلمون وأهل الكتاب ، وجر ذلك أن يوجب ذكر اسم الله عند الذبح لأنه لا يتحقق الفرقان بين الحلال والحرام بادي الرأي إلا عند ذلك ، وأيضا فإن الحكمة الالهية لما أباحت لهم الحيوانات التي هي مثلهم في الحياة وجعل لهم الطول عليهم أوجبت ألا يغفلوا عن هذه النعمة عند إزهاق أرواحها ، وذلك أن يذكروا اسم الله عليها ، وهو قوله تعالى . ! ( ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) ! . ومنها أن الميتة حرام في جميع الملل والنحل ، أما الملل فاتفقت عليها لما تلقى من حظيرة القدس أنها من الخبائث ، وأما النحل فلما أدركوا أن كثيرا منها يكون بمنزلة السم من أجل انتشار أخلاط سمية تنافي المزاج الإنساني عند النزع ، ثم لا بد من تمييز الميتة من غيرها فضبط بما قصد إزهاق روحه للأكل فجر ذلك إلى تحريم المتردية والنطيحة وما أكل السبع فإنها كلها خبائث مؤذية .
____________________
(1/808)
ومنها أن العرب واليهود كانوا يذبحون وينحرون وكان المجوس يخنقون ويبعجون والذبح والنحر سنة الأنبياء عليهم السلام توارثوهما ، وفيهما مصالح . منها إراحة الذبيحة فإنه أقرب طريق لازهاق الروح ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' فليرح ذبيحته ' وهو سر النهي عن شريطة الشيطان . ومنها أن الدم أحد النجاسات التي يغسلون الثياب إذا أصابها ويتحفظون منها والذبح تطهير للذبيحة منها ، والخنق والبعج تنجيس لها به . ومنها أنه صار ذلك أحد شعائر الملة الحنيفة يعرف به الحنيفي من غيره فكان بمنزلة الختان وخصال الفطرة ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم مقيما للملة الحنيفية وجب الحفظ عليه ، ثم لا بد من تمييز الخنق والبعج من غيرهما ، ولا يتحقق إلا بأن يوجب المحدد وأن يوجب الحلق واللبة فهذا ما نهى عنه لأجل حفظ الصحة النفسانية والمصلحة الملية ، وأما الذي ينهى عنه لأجل الصحة البدنية كالسموم والمفترات فحالها ظاهر . وإذا تمهدت هذه الأصول حان أن نشتغل بالتفصيل ، فنقول : ما نهى الله عنه من المأكول صنفان : صنف نهى عنه لمعنى في نوع الحيوان . وصنف نهى عنه لفقد شرط الذبح ، فالحيوان على أقسام : أهلي يباح منه الإبل والبقر والغنم . وهو قوله تعالى : ! ( أحلت لكم بهيمة الأنعام ) ! . وذلك لأنها طيبة معتدلة المزاج موافقة لنوع الإنسان ، وأذن يوم خيبر في الخيل ونهى عن الحمر ، وذلك لأن الخيل يستطيبه العرب والعجم وهو
____________________
(1/809)
أفضل الدواب عندهم ويشبه الإنسان ، والحمار يضرب به المثل في الحمق والهوان وهو يرى الشيطان فينهق وقد حرمه من العرب أذكاهم فطرة وأطيبهم نفسا ، واكل صلى الله عليه وسلم لحم الدجاج ، وفي معناها الأوز والبط لأنها من الطيبات والديك يرى الملك فيصقع ، ويحرم الكلب والسنور لأنهما من السباع ويأكلان الجيف ، والكلب شيطان . ووحشي يحل منه ما يشبه بهيمة الأنعام في اسمها ووصفها كالظباء والبقر الوحشي والنعامة ، وأهدي له صلى الله عليه وسلم لحم الحمار الوحشي فأكله والأرنب فقبله ، وأكل الضب على مائدته لأن العرب يستطيبون هذه الأشياء ، واعتذر في الضب تارة بأنه ' لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه ' وتارة باحتمال المسخ والنهي عنه تارة وليس فيها عندي تناقض لأنه كان فيها وجهان جميعا كل واحد كاف في العذر لكن ترك ما فيه الاحتمال ورع من غير تحريم ، وأراد بالنهي الكراهة التنزيهية ، ونهى عن كل ذي ناب من السباع لخروج طبيعتها من الاعتدال ولشكاسة أخلاقها وقسوة قلوبها . وطير يباح منه الحمام والعصفور لأنهما من المستطاب ، ونهى عن كل ذي مخلب وسمى بعضها فاسقا فلا يجوز تناوله ويكره ما يأكل الجيف والنجاسة وكل ما يستخبثه العرب لقوله تعالى : ! ( يحرم عليهم الخبائث ) ! . وأكل الجرادفي عهده صلى الله عليه وسلم لأن العرب يستطيبونه وبحري يباح منه ما يستطيبه العرب كالسمك والعنبر وأما ما يستخبثه
____________________
(1/810)
العرب ويسميه باسم حيوان محرم كالخنزير ففيه تعارض الدلائل والتعفف أفضل . وسئل صلى الله عليه وسلم عن السمن ماتت فيه الفأرة : فقال ' ألقوها وما حولها وكلوه ' وفي رواية ' إذا وقعت الفأرة في السمن فان كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه ' . أقول : الجيفة وما تأثر من منهاني جميع الأمم والملل فإذا تميز الخبيث من غيره ألقى الخبيث وأكل الطيب وإن لم يمكن التميز حرم كله . ودل الحديث على حرمة كل نجس ومتنجس . ونهى عليه السلام عن أكل الجلالة وألبانها ، أقول ذلك لأنها لما شربت أعضائها النجاسة وانتشرت في جميع أجزائها كان حكمها حكم النجاسات أو حكم من يتعيش بالنجاسات . قال صلى الله عليه وسلم :
' أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان الحوت والجراد والدمان الكبد والطحال ' ، أقول : الكبد والطحال عضوان من أعضاء بدن البهيمة لكنهما يشبهان الدم فأزاح النبي صلى الله عليه وسلم الشبه فيهما وليس في الحوت والجراد دم مسفوح فلذلك لم يشرع فيهما الذبح ، وأمر صلى الله عليه وسلم بقتل الوزغ وسماه فاسقا وقال : ' كان ينفخ على إبراهيم ' وقال : ' من قتل وزغا في أول ضربة كتب له كذا وكذا وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك ' . أقول : بعض الحيوان جبل بحيث يصدر منه أفعال وهيآت شيطانية وهو أقرب الحيوان شبها بالشيطان وأطوعه لوسوسته ، وقد علم النبي
____________________
(1/811)
صلى الله عليه وسلم أن منه الوزغ ونبه على ذلك بأنه كان ينفخ على إبراهيم لانقياده بحسب الطبيعة لوسوسة الشيطان وإن لم ينفع نفخه في النار شيئا ، وإنما رغب في قتله لمعنيين : أحدهما أن فيه دفع ما يؤذي نوع الإنسان فمثله كمثل قطع أشجار السموم من البلدان ونحو ذلك مما فيه جمع شملهم . والثاني أن فيه كسر جند الشيطان ونقص وكر وسوسته ، وذلك محبوب عند الله وملائكته المقربين ، وإنما كان القتل في أول ضربة أفضل من قتله في الثانية لما فيه من الحذاقة والسرعة إلى الخير ، والله أعلم . قال الله تعالى : ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح عن النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق ) . أقول : فالميتة والدم لأنهما نجسان ، والخنزير لأنه حيوان مسخ بصورته قوم ( وما أهل لغير الله به ) ( وما ذبح على النصب ) يعني الأصنام قطعا لدابر الشرك ، ولأن قبح الفعل يسري في المفعول به و ( المنخنقة ) وهي التي تخنق فتموت ( والمتردية ) وهي التي تقع من الأعلى إلى الأسفل ( والنطيحة ) وهي التي قتلت نطحا بالقرون ( وما أكل السبع ) فبقي منه لأنه ضبط المذبوح الطيب بما قصد إزهاق الروح باستعمال المحدد في حلقه أو لبته فجر ذلك إلى تحريم هذه الأشياء .
____________________
(1/812)
وأيضا فإن الدم المسفوح ينتشر فيه ويتنجس جميع البدن ( إلا ما ذكيتم ) أي وجدتموه قد أصيب ببعض هذه الأشياء ، وفيه حياة مستقرة فذبحتموه فكان إزهاق روحه بالذبح ( وأن تستقسموا بالأزلام ) أي تطلبوا علم ما قسم لكم من الخير والشر بالقداح التي كان أهل الجاهلية يجيلونها ، في أحدها افعل ، والثاني لا تفعل ، والثالث غفل فإن ذلك افتراء على الله واعتماد على جهل . ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصبر بهيمة وعن أكل المصبورة أقول كان أهل الجاهلية يصبرون البهائم ويرمونها بالنبل ، وفي ذلك إيلام غير محتاج إليه ولأنه لم يصر قربانا إلى الله ولا شكر به نعم الله . قال صلى الله عليه وسلم :
' إن الله كتب الاحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد احدكم شفرته وليرح ذبيحته ' . أقول : في اختيار أقرب طريق لازهاق الروح اتباع داعية الرحمة وهي خلة يرضى بها رب العالمين ويتوقف عليها اكثر المصالح المنزلية والمدنية . وقال صلى الله عليه وسلم ' ما يقطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة ' أقول :
' كانوا يجبون أسنمة الابل ويقطعون إليات الغنم وفي ذلك تعذيب ومناقضة لما شرع الله من الذبح ، فنهى عنه . قال صلى الله عليه وسلم :
' من قتل عصفورا فما فوقه بغير حقه سأله الله عز وجل عن قتله ، قيل : يا رسول الله وما حقه ؟ قال . أن يذبحه فيأكله
____________________
(1/813)
ولا يقطع رأسه فيرمى به ' أقول : ههنا شيآن متشابهان لا بد من التمييز بينهما : أحدهما الذبح للحاجة واتباع داعية إقامة مصلحة نوع الإنسان . والثاني السعي في الأرض بفساد نوع الحيوان واتباع داعية قسوة القلب . واعلم أنه كان الاصطياد ديدنا للعرب وسيرة فاشية فيهم حتى كان ذلك أحد المكاسب التي عليها معاشهم فأباحه النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما في إكثاره بقوله :
' من اتبع الصيد لها ' . وأحكام الصيد تبنى على أنه محمول على الذبح في جميع الشروط إلا فيما يعسر الحفظ عليه ويكون أكثر سعيهم أن اشترط باطلا فيشترط التسمية على إرسال الجارح أو الرمي ونحوها ويشترط أهلية الصائد ولا يشترط الذبح ولا الحلق واللبة وعلى تحقيق ذاتيات الاصطياد كارسال الجارح المعلم قصدا وإلا كان ظفرا بالصيد اتفاقا لا اصطيادا ، وكون الجارح لم يأكل منه فإن أكل فأدرك حيا وذكى حل وإلا لا ، وذلك تحقيقا لمعنى المعلم وتميزا له مما أكل السبع . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحكام الصيد والذبائح فأجاب بالتخريج على هذه الأصول . قيل : إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأ كل في آنيتهم ؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم ولكلبي المعلم فما يصلح لي ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ' أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك غير المعلم وأدركت ذكاته فكل ' . قوله صلى الله عليه وسلم :
' فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ' .
____________________
(1/814)
أقول : ذلك تحريا للمختار وراحة للقلب من الوساوس وقيل : يا رسول الله إنا نرسل الكلاب المعلمة قال صلى الله عليه وسلم : ' إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه وإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل فإنك لا تدري أيهما قتله ، قيل : يا رسول الله ارمي الصيد فإني فأجد فيه من الغد سهمي قال صلى الله عليه وسلم : ' وإذا رميت سهمك فاذكر اسم الله فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل ' قيل : ' إنا نرمي بالمعراض قال صلى الله عليه وسلم : كل ما خزق وما أصاب بعرضه فقتل فانه وقيذ فلا تأكل ، قيل : ' يا رسول الله إن هنا أقواما حديث عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان لا ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا ، قال صلى الله عليه وسلم : ' اذكروا أنتم اسم الله وكلوا ' أقول : أصله أن الحكم على الظاهر ، قيل : ' إنا لاقوا العدو غدا وليست معنا مدى أفنذبح بالقصب ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل ليس السن والظفر وسأحدثك عنه أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبش ' وند بعير فرماه رجل بسهم فحبسه فقال صلى الله عليه وسلم : ' إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا ' أقول : لأنه صار وحشيا فكان حكمه حكم الصيد .
____________________
(1/815)
وسئل صلى الله عليه وسلم عن شاة أبصرت جارية بها موتا فكسرت حجرا فذبحتها فأمر بأكلها . قيل : ' إن من الطعام طعاما أتحرج منه ؟ قال لا يختلجن في صدرك شيء ، ضارعت فيه النصرانية ' . قيل : ' يا رسول ننحر الناقة ونذبح البقر والشاة فنجد في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله ؟ قال صلى الله عليه وسلم . كلوه إن شئتم فإن ذكاته زكاة أمه ' .
____________________
(1/816)
( آداب الطعام ) واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم علم آدابا يتأدبون فيها في الطعام . قال صلى الله عليه وسلم : ' بركة الطعام والضوء قبله والوضوء بعده ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' كيلوا طعامكم يبارك لكم ' وقال عليه السلام : ' إذا أكل أحدكم طعاما فلا يأكل من أعلى الصحفة ولكن ليأكل من أسفلها فان البركة تنزل من أعلاها ' . أقول : من البركة أن تشبع النفس ، وتقر العين ، وينجمع الخاطر ، ولا يكون هاعا لاعا كالذي يأكل ولا يشبع . تفصيل ذلك أنه ربما يكون رجلان عند كل منهما مائة درهم ، وأحدهما يخشى العيلة ويطمع في أموال الناس ولا يهتدي لصرف ماله فيما ينفعه في دينه ودنياه ، والآخر متعفف يحسبه الجاهل غنيا مقتصدا في معيشته منجمعا في نفسه . فالثاني بورك له في ماله ، والأول لم يبارك له ، ومن البركة أن يصرف الشيء في الحاجة ويكفي عن أمثاله . تفصيله أنه ربما يكون رجلان يأكل كل واحد رطلا يصرف طبيعة أحدهما إلى تغذية البدن ويحدث في معدة الآخر آفة فلا ينفعه ما أكل بل ربما صار ضارا ، وربما يكون لكل منهما مال فيصرف أحدهما في مثل ضيعة كثيرة الريف ويهتدي لتدبير المعاش ، والثاني يبذر تبذيرا فلا يقع من حاجته في شيء . وإن لهيآت النفس وعقائدها مدخلا في ظهور البركة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/817)
: ' فمن اخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي لا يأكل ولا يشبع ' ولذلك تزلق رجل الماشي على الجذع في الجو دون الأرض فإذا أقبل على شيء بالهمة وأراد به أن يقع كفاية عن حاجته وجمع نفسه في ذلك كان سبب قوه عينه وانجماع خاطره وتعفف نفسه ، وربما يسري ذلك إلى الطبيعة فصرفت فيما لا بد منه ، فإذا عسل يديه قبل الطعام ونزع النعلين واطمأن في مجلسه وأخذه اعتدادا به وذكر اسم الله أفيضت عليه البركة ، وإذا كال الطعام وعرف مقداره واقتصد في صرفه وصرفه على عينه كان أدنى أن يكفيه اقل مما لا يكفي الآخرين ، وإذا جعل الطعام بهيئة منكرة تعافها الأنفس ولا تعتد به لأجلها كان أدنى ألا يكفى أكثر مما يكفي الآخرين كيف ولا أظن أن أحدا يخفى عليه أن الإنسان ربما يأكل الرغيف كهيئة المتفكه أو يأكله وهو يمشي ويحدث فلا يجد له بالا ولا يرى نفسه قد اغتدت ولا تشبع به نفسه وإن امتلأت المعدة وربما يأخذ مقدار الرطل جزافا فيكون الزائد يستوي وجوده وعدمه ولا يقع من الحاجة في شيء ويجد الطعام بعد حين وقد ظهر فيه النقصان . وبالجملة لوجود البركة وعدمها أسباب طبيعية يمد في ضمنها ملك كريم أو شيطان رجيم ، وينفخ في هيكلها روح ملكي أو شيطاني ، والله أعلم . أما غسل اليد قبل الطعام ففيه إزالة الوسخ ، وأما غسلها بعده ففيه إزالة الغمر وكراهية ان يفسد عليه ثيابه ، أو يخدشه سبع أو تلدغه هامة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ' من بات وفي يده غمر لم يغسله فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه ' . قال صلى الله عليه وسلم :
' إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه ' ، وقال صلى الله عليه وسلم : ' لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بشماله فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ' .
____________________
(1/818)
وقال صلى الله عليه وسلم : ' إن الشيطان يستحل الطعام إلا يذكر اسم الله عليه : . وقال صلى الله عليه وسلم : ' إذا أكل أحدكم فنسي أن يذكر اسم الله على طعامه فليقل بسم الله أوله وآخره ' وقال فيمن فعل ذلك : ' ما زال الشيطان يأكل معه فلما ذكر اسم الله استقاء ما في بطنه ' وقال عليه السلام : ' إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضر عند طعامه فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان ' . أقول من العلم الذي أعطاه الله نبيه حال الملائكة والشياطين وانتشارهم في الأرض يتلقى هؤلاء من الملأ الأعلى إلهامات خير فيوحونه إلى بني آدم ، وينبجس من مزاج الشياطين آراء فاسدة تميل إلى فساد النظامات الفاضلة ومعصية حكم الوقار وما تقتضيه الطبيعة السليمة فيفعلون ذلك ويوحونه إلى أوليائهم من الأنس . فمن حال الشياطين أنهم إذا تمثلوا في المنام أو اليقظة تمثلوا في بهيآت منكرة تنفر منها الطبائع السليمة كالأكل بالشمال ، وكصورة الأجدع ونحو ذلك . ومنها أنه قد تنطبع في نفوسهم هيآت دنية تنبجس في بني آدم من البهيمية كالجوع والشبق ، فإذا حدثت فيهم اندفعوا إلى اختلاط بتلك الحاجات وتلفع بها ومحاكاة ما يفعله الأنس عندها ويتخيلون في ذلك
____________________
(1/819)
قضاء تلك الشهوة يقضون بذلك أوطارهم ، فيصير الولد الذي حصل من جماع اشترك فيه الشياطين وقضوا عنده وطرهم قليل البركة مائلا إلى الشيطنة ، والطعام الذي باشروه وقضوا به وطرهم قليل البركة لا ينفع الناس بل ربما يضرهم وذكر اسم الله والتعوذ بالله مضاد بالطبع لهم ، ولذلك ينخنسون عمن ذكر الله وتعوذ به وقد اتفق لنا أنه زارنا ذات يوم رجل من أصحابنا فقربنا إليه شيئا ، فبينا يأكل إذا سقطت كسرة من يده وتدهدهت في الأرض فجعل يتبعها وجعلت تتباعد عنه حتى تعجب الحاضرون بعض العجب وكابد هو في تتبعها بعض الجهد ، ثم إنه أخذها فأكلها فلما كان بعد أيام تخبط الشيطان إنسانا وتكلم على لسانه فكان فيما تكلم أني مررت بفلان وهو يأكل فأعجبني ذلك الطعام فلم يطعمني شيئا فخطفته من يده فنازعني حتى أخذه مني . وبينا يأكل أهل بيتنا أصول الجزر إذا تدهده بعضها فوثب عليه إنسان فأخذه وأكله فأصابه وجع في صدره ومعدته ثم تخبطه الشيطان فأخبر على لسانه أنه كان أخذ ذلك المتدهدة ، وقد قرع أسماعنا شيء كثير من هذا النوع حتى علمنا أن هذه الأحاديث ليست من باب إرادة المجاز وإنما أريد بها حقيقتها ، والله أعلم . قال صلى الله عليه وسلم : ' إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء ' وفي رواية ' وإنه يتقى بجناحيه الذي فيه الداء ' وأعلم أن الله تعالى خلق الطبيعة في الحيوان مدبرة لبدنه فربما دفعت المواد المؤذية التي لا تصلح أن تصير جزء البدن من أعماق البدن إلى أطرافه ولذلك نهى الأطباء عن أكل أذناب الدواب
____________________
(1/820)
فالذباب كثيرا ما يتناول أغذية فاسدة لا تصلح جزءا للبدن فتدفعها الطبيعة إلى أخس عضو منه كالجناح ، ثم إن ذلك العضو لما فيه من المادة السمية يندفع إلى الحك ويكون أقدم أعضائه عند الهجوم في المضايق ، ومن حكمة الله تعالى أنه لم يجعل في شيء سما إلا جعل فيه ترياقيه لتحفظ بها بينه الحيوان ، ولو ذكرنا هذا المبحث من الطب لطال الكلام . وبالجملة فسم لسع الذباب في بعض الأزمنة وعند تناول بعض الأغذية محسوس معلوم وتحرك العضو الذي تندفع إليه المادة اللذاعة معلوم ، وأن الطبيعة يختفي فيها ما يقاوم مثل هذه المواد المؤذية معلوم فما الذي يستبعد من هذا المبحث . وما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان ولا في سكرجة ولا خبز له مرقق ولا رأى شاة سميطا بعينه قط . ولا أكل متكئا . وما رأى منخلا كانوا يأكلون الشعير غير منخول . اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في العرب وعاداتهم أوسط العادات ولم يكونوا يتكلفون تكلف العجم والأخذ بها أحسن وأدنى ألا يتعمقوا في الدنيا ولا يعرضوا عن ذكر الله ، وأيضا أحسن لأصحاب الملة من أن يتبعوا إمامها في كل نقير وقطمير . قال صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء ' . أقول : معناه أن الكافر همه بطنه والمؤمن همه آخرته وأن الحرى
____________________
(1/821)
بالمؤمن أن يقلل الطعام وأن تقليله خصلة من خصال الإيمان وأن شرة الأكل خصلة من خصال الكفر . ونهى صلى الله عليه وسلم أن يقرن الرجل بين تمرتين . أقول : النهي عن القران يحتمل وجوها : منها أنه لا يحسن المضع عند جمع تمرتين وأنه أدنى أن تؤذيه إحدى النواتين لنقصان ضبطهما بخلاف النواة الواحدة . ومنها أن ذلك هيئة من هيآت الشره والحرص . ومنها أنه استئثار على أصحابه ومظنة أن يكرهه أصحابه ويزول هذا المعنى بالاذن . قال صلى الله عليه وسلم : ' لا يجوع أهل بيت عندهم تمر ' ، وقال عليه السلام : ' بيت لا تمر فيه جياع أهله ' وقال عليه الصلاة والسلام : ' نعم الادام الخل ' . أقول من تدبير المنزل أن يدخر في بيته شيئا تافها يجده رخيصا في السوق كالتمر في المدينة وأصول الجزر ونحوها في سواد بلادنا فإن وجد طعاما يشتهيه فيها إلا كان الذي عنده كفافا لهم وسترا فان لم يفعلوا ذلك كانوا على شرف الجوع وكذلك حال الادام . قال صلى الله عليه وسلم : ' من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا ' وأتى بقدر فيه خضرات لها رائحة فقال ، لبعض اصحابة : ' كل فاني أناجي من لا تناجي ' . أقول : الملائكة تحب من الناس النظافة والطيب وكل شيء يهيج خلق
____________________
(1/822)
التنظيف وتتنفر من أضداد ذلك ، وفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين ما كان هو شريعة المحسنين المتلعلع فيهم أنوار الملكية وبين غيرهم . قال صلى الله عليه وسلم : ' إن الله يرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة ويحمده عليها ' قد مر سره . وقد روى عن الحمد صيغ أيها فعل فقد أدى السنة : منها الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفى ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا ' . ومنها الحمد الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين . ومنها الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجا . ولما كانت الضيافة بابا من أبواب السماحة وسببا لجمع شمل المدينة والملة مؤديا إلى تودد الناس وألا يتضرر أبناء السبيل وجب أن تعد من الزكاة ويرغب فيها ويحث عليها ، وقال صلى الله عليه وسلم : ' من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ' ثم مست الحاجة إلى تقدير مدة الضيافة لئلا يحرج الضيف أو يعد القليل منها كثيرا فقدر الاكرام بيوم وليلة وهو الجائزه وجعل آخر الضيافة ثلاثة أيام ثم بعد ذلك صدقة .
____________________
(1/823)
( المسكرات ) واعلم أن إزالة العقل بتناول المسكر يحكم العقل بقبحه لا محالة إذ فيه تردى النفس في ورطة البهيمية والتبعد من الملكية في الغاية وتغيير خلق الله حيث أفسد عقله الذي خص الله به نوع الإنسان ومن به عليهم وإفساد المصلحة المنزلية والمدنية وإضاعة المال والتعرض لهيآت منكرة يضحك منها الصبيان . وقد جمع الله تعالى كل هذه المعاني تصريحا أو تلويحا في هذه الآية ! ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة ) ! الآية . ولذلك اتفق جميع الملل والنحل على قبحه بالمرة ، وليس الأمر كما يظنه من لا بصيرة له من أنه حسن بالنظر إلى الحكمة العملية لما فيه من تقوية الطبيعة فإن هذا الظن من باب اشتباه الحكمة الطيبة بالحكمة العملية ، والحق أنهما متغايرتان وكثيرا ما يقع بينهما تجاذب وتنازع كالقتال يحرمه الطب لما فيه من التعرض لفك البنية الإنسانية الواجب حفظها في الطب ، وربما أوجبته الحكمة العملية إذا كان فيه صلاح المدينة أو دفع عار شديد ، وكالجماع يوجبه الطب عند التوقان وخوف التأذي من تركه ، وربما حرمته الحكمة العملية إذا كان فيه عار أو منابذة سنة راشدة . وأهل الرأي من كل أمة وكل قرن يذهبون إلى ترجيح المصلحة على الطب ويرون من لا يتحراها ولا يتقيد بها ميلا إلى صحة الجسم فاسقا ماجنا مذموما مقبوحا لا اختلاف لهم في ذلك ، وقد علمنا الله تعالى ذلك حيث قال :
____________________
(1/824)
! ( فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) ! نعم تناول المسكر إذا لم يبلغ حد الاسكار ولم تترتب عليه المفاسد يختلف فيه أهل الرأي ، والشريعة القومية المحمدية - التي هي الغاية في سياسة الأمة . وسد الذرائع . وقطع احتمال التحريف - نظرت إلى أن قليل الخمر يدعوا إلى كثيرها ، وأن النهي على المفاسد من غير أن ينهى عن ذات الخمر لا ينجع فيهم ، وكفى شاهدا على ذلك ما كان في المجوس وغيرهم وأنه أن فتح باب الرخصة في بعضها لم تنظيم السياسة الملية أصلا فنزل التحريم إلى نوع الخمر قليلها وكثيرها . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومتباعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه ' . أقول : لما تعينت المصلحة في تحريم شيء وإخماله ونزل القضاء بذلك وجب أن ينهى عن كل ما ينوه أمره ويروجه في الناس ويحملهم عليه فإن ذلك مناقضة للمصلحة ومناوأة بالشرع . وقد استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أحاديث كثيرة من طرق لا تحصى وعبارات مختلفة ، فقال : الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبه ' وأجاب صلى الله عليه وسلم من سأل عن البتع والمزر وغيرهما ، فقال : ' كل شراب أسكر فهو حرام ' وقال عليه الصلاة والسلام :
' كل مسكر خمر وكل مسكر حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام ' ، وقال : ' من شاهد
____________________
(1/825)
نزول الآية إنه قد نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء العنب . والتمر . والحنطة . والشعير . والعسل والخمر ما خامر العقل ' وقال : ' لقد حرمت الخمر حين حرمت ' وما نجد خمر الأعناب إلا قليل وعامة خمرنا البسر والتمر وكسروا دنان الفضيخ حين نزلت وهو الذي يقتضيه قوانين التشريع فإنه لا معنى من للخصوصية العنب وإنما المؤثر في التحريم كونه مزيلا للعقل يدعو قليله إلى كثيره فيجب به القول ، ولا يجوز لأحد اليوم أن يذهب إلى تحليل ما اتخذ من غير العنب ، واستعمل أقل من حد الإسكار . نعم كان ناس من الصحابة والتابعين لم يبلغهم الحديث في أ ول الأمر فكانوا معذورين ، ولما استفاض الحديث وظهر الأمر - ولا كرابعة النهار - وصح حديث ' ليشر بن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ' لم يبقى عذر ' أعاذنا الله تعالى والمسلمين من ذلك . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر تتخذ خلا ؟ قال : ' لا وقيل إنما أصنعها للدواء فقال : ' إنه ليس بدواء ولكنه داء ' . أقول : لما كان الناس مولعين بالخمر وكانوا يتحيلون لها حيلا لم تتم المصلحة إلا بالنهي عنها على كل حال لئلا يبقى عذر لأحد ولا حيلة . ونهى صلى الله عليه وسلم عن خليط التمر والبسر ، وعن خليط الزبيب والتمر ، وعن خليط الزهو والرطب أقول : السر في ذلك أن الإسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يتغير طعمه فيظن الشارب أنه ليس بمسكر ويكون مسكرا .
____________________
(1/826)
وكان صلى الله عليه وسلم يتنفس في الشراب ثلاثا ويقول : ' إنه أروى وأبرأ وأمرأ ' أقول : ذلك لأن المعدة إذا وصل إليها الماء قليلا قليلا صرفته الطبيعة إلى ما يهمها وإذا هجم عليها الماء الكثير تحيرت في تصريفه والمبرود إذا لفى في معدته الماء أصابته البرودة لضعف قوته من مزاحمة القدر الكثير بخلاف ما إذا تدرج ، والمحرور إذا ألقى على معدته ماء دفعة حصلت بينهما المدافعة ولم تتم البرودة ، وإذا ألقى شيئا فشيئا وقعت المزاحمة أولا ثم ترجحت البرودة . ونهى صلى الله عليه وسلم عن الشارب من في السقاء وعن اختناث الأسقية أقول : وذلك لأنه إذا ثنى فم القربة فشرب منه فإن الماء يتدفق وينصب في في حلقه حقله دفعة ، وهو يورث الكباد ، ويضر بالمعدة ولا يتميز عنده في دفق الماء وانصبابه القذاه ونحوها . ويحكى أن إنسان شرب من في السقا فدخلت حية في جوفه . ونهى عليه السلام أن يشرب الرجل قائما ، وروى أنه صلى الله عليه وسلم شرب قائما أقول : هذا النهي نهي إرشاد وتأديب فإن الشرب قاعدا من الهيآت الفاضلة وأقرب لجموع النفس والري وأن تصرف الطبيعة الماء في محله أما الفعل فلبيان الجواز . وقال عليه السلام :
' الأيمن فالأيمن ' أقول أراد بذلك قطع المنازعة فإنه لو كانت السنة تقديم الأفضل ربما لم يكن الفضل مسلما بينهم وربما يجدون في أنفسهم من تقديم غيرهم حاجة . ونهى صلى الله عليه وسلم أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه أقول . ذلك لئلا يقع في الماء من فمه أو أنفه ما يكرهه فيحدث هيئة منكرة .
____________________
(1/827)
قال صلى الله عليه وسلم : ' سموا إذا أنتم شربتم واحمدوا إذا أنتم رفعتم ' قد مر سره . ( اللباس . والزينة . والأواني ونحوها ) اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى عادات العجم وتعمقاتهم في الاطمئنان بلذات الدنيا فحرم رءوسها وأصولها ، وكره ما دون ذلك ، لأنه علم أن ذلك مفض إلى نسيان الدار الآخرة مستلزم للإكثار من طلب الدنيا . فمن تلك الرءوس اللباس الفاخر فإن ذلك أكبر همهم وأعظم فخرهم ، والبحث عنه من وجوه . منها الاسبال في القيص والسراويلات فإنه لا يقصد بذلك الستر والتجمل اللذين هما المقصودان في اللباس ، وإنما يقصد به الفخر وإراءة الغني نحو ذلك ، والتجمل ليس إلا في القدر الذي يساوي البدن ، قال صلى الله عليه وسلم : ' لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً ، وقال صلى الله عليه وسلم إزاره المؤمن إلى أنصاف ساقيه لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما أسفل من ذلك ففي النار ' . ومنها الجنس المستغرب الناعم من الثياب . قال صلى الله عليه وسلم : ' من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه يوم القيامة ' وسره مثل ما ذكرنا في الخمر ونهى صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والديباج وعن لبس القسى
____________________
(1/828)
والمياثر والأرجوان ، ورخص في موضع إصبعين أو ثلاثة لأنه ليس من باب اللباس وربما تقع الحاجة إلى ذلك ، ورخص للزبير . وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكمة بهما لأنه لم يقصد حينئذ به الإرفاه وإنما قصد الاستشفاء . ومنها الثوب المصبوغ بلون مطرب يحصل به الفخر والمراءاة ؛ فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعصفر والمزعفر ، وقال : ' إن هذه من ثياب أهل النار ' وقال صلى الله عليه وسلم : ' ألا طيب الرجال ريح لا لون له وطيب النساء لون لا ريح له ' ولا اختلاف بين قوله صلى الله عليه وسلم :
' إن البذاذة من الإيمان ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ' ، وقال صلى الله عليه وسلم : ' من ترك لبس ثوب جمال تواضعا كساه الله حلة الكرامة ' وبين قوله صلى الله عليه وسلم : ' أن الله يحب أن يرى اثر نعمته على عبده ' ورأى رجلا شعثا ، فقال : ' ما كان يجد هذا ما يسكن به رأسه ' ورأى رجلا عليه ثياب وسخة فقال : ' ما كان يجد هذا ما يغسل به ثوبه ' . وقال صلى الله عليه وسلم : ' إذا أتاك الله ما لا فأثر نعمة الله وكرامته عليك ' لأن هنالك شيئين مختلفين في الحقيقة قد يشتبهان بادئ الرأي : أحدهما مطلوب ، والآخر مذموم ، فالمطلوب ترك الشح ، ويختلف باختلاف طبقات الناس ، فالذي هو في الملوك شح ربما يكون إسرافا في حق الفقير ، وترك عادات البدو واللاحقين بالبهائم واختيار النظافة ومحاسن العادات ، والمذموم الامعان في التكلف والمراءاة والتفاخر بالثياب وكسر قلوب الفقراء ونحو ذلك ، وفي ألفاظ الحديث إشارات إشارة إلى هذه المعاني كما لا يخفى على المتأمل ، ومناط الأجر ردع النفس عن اتباع داعية الغمط والفخر .
____________________
(1/829)
وكان صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوبا سماه باسمه عماقة أو قميصا أو رداء ثم يقول : ' اللهم لك الحمد كما كسوتنيه أسألك خيره وخير ما صنع له وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له ' وقد مر سره من قبل . ومن تلك الرءوس الحلي المترفة ، وههنا أصلان : أحدهما أن الذهب هو الذي يفاخر به العجم ويفضي جريان الرسم بالتحلي به إلى الإكثار من طلب الدنيا دون الفضة ولذلك شدد النبي صلى الله عليه وسلم في الذهب ، وقال : ' ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها ' . والثاني أن النساء أحوج إلى تزين ليرغب فيهن أزواجهن ، ولذلك جرت عاده العرب والعجم جميعا بأن يكون تزينهن أكثر من تزينهم فوجب أن يرخص لهن أكثر مما يرخص لهم ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم .
' أحل الذهب والحرير للأناث من أمتي وحرم على ذكورها ' . وقال صلى الله عليه وسلم . في خاتم ذهب في يد رجل . ' يعمد أحدكم إلى جمر من نار فيجعله في يده ' ورخص عليه السلام في خاتم الفضة لا سيما لذي سلطان ، قال . ' ولا تتمه مثقالا ' ونهى صلى الله عليه وسلم النساء عن غير المقطع من الذهب وهو ما كان قطعة واحدة كبيرة ، قال صلى الله عليه وسلم .
' من أحب أن يحلق حبيبه حلقة من النار فليحلقه حلقة من ذهب ' وذكر على هذا الأسلوب الطوق السوار . وكذا جاء التصريح بقلادة من ذهب ، وخرص من ذهب . وسلسلة من ذهب ، وبين المعنى في هذا الحكم حيث قال : ' أما إنه ليس منكن امرأة تحلي ذهبا تظهره إلا عذبت به ' وكان لأم سلمة رضي الله عنها أوضاع من ذهب ، والظاهر
____________________
(1/830)
أنها كانت مقطعة ، وقال صلى الله عليه وسلم :
' حل الذهب للاناث ' معناه الحل في الجملة . هذا ما يوجبه مفهوم هذه الأحديث ولم أجد لها معارضا ، ومذهب الفقهاء في ذلك معلوم مشهور والله أعلم بحقيقة الحال . ومنها التزين بالشعور فان الناس كانوا مختلفين في أمرها ، فالمجوس كانوا يقصون اللحى ويوفرون الشوارب ، وكانت سنة الأنبياء عليهم السلام خلاف ذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم :
' خالفوا المشركين ، وفروا اللحى واحفوا الشوارب ' . وكان ناس يحبون التشعث والتمهن والهيئة البذة ويكرهون التجمل والتزين . وناس يتعمقون في التجمل ويجعلون ذلك أحد وجوه الفخر وغمط الناس ، فكان إخمال مذهبهم جميعا ورد طريقهم أحد المقاصد الشرعية ، فان مبنى الشرائع على التوسط بين المنزلتين ، والجمع بين المصلحتين . وقال رسول الله :
' الفطرة خمس : الختان . والاستحداد . وقص الشارب . وتقليم الأظافر . ونتف الابط ' ثم مست الحاجة إلى توقيت ذلك ليمكن الإنكار على من خالف السنة ولئلا يصل المتورع إلى الحلق والنتف كل يوم ، والمتهاون إلى تركها سنة فوقت قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الابط وحلق العانة ألا يترك أكثر من أربعين ليلة . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إن اليهود والنصارى لا يصبغون ' وكان أهل الكتاب يسدلون ، والمشركون يفرقون ، فسدل النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/831)
ناصيته ثم فرق بعد ، فالسدل أن يرخي ناصيته على وجهه ، وهي هيئة بذة ، والفرق أن يجعله ضفيرتين يرسل كل ضفيرة إلى صدغ . ونهى صلى الله عليه وسلم عن القزع . أقول : السر فيه أنه من هيآت الشياطين ، وهو نوع من المثلة تعافها الأنفس إلا القلوب المؤفة باعتيادها ، وقال صلى الله عليه وسلم :
' من كان له شعر فليكرمه ، ونهى عن الترجل إلا غبا يريد التوسط بين الافراط والتفريط . وقال صلى الله عليه وسلم :
' لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ' ولعن صلى الله عليه وسلم
المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال ، أقول : الأصل في ذلك ان الله خلق كل نوع وصنف متقيضيا لظهور أحكام في البدن كالرجال تلتحي وكالنساء يصغين إلى نوع من الطرب والخفة ، فاقتضاؤها للأحكام لمعنى في المبدأ هو بعينه كراهية أضدادها ، ولذلك كان المرضي بقاء كل نوع وصنف على ما تقتضيه فطرته وكان تغيير الخلق سببا للعن ، ولذلك كره النبي صلى الله عليه وسلم إنزاء الحمير لتحصيل البغال . فمن الزينة ما يكون كالتقوية لفعل الطبيعة والتوطئة له والتمشية إياه كالكحل والترجل وهو محبوب ، ومنها ما يكون كالمباين لفعلها كاختيار الإنسان هيئة الدواب وما يكون تعمقا في إبداع ما لا تقتضيه الطبيعة ، وهو غير محبوب إذا خلى الانسان وفطرته عدة مثله .
____________________
(1/832)
ومنها صناعة التصاوير في الثياب والجدران والأنماط ، فنهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم ، ومدار النهي شيآن : أحدهما أنها أحد وجوه الإرفاه والزينة فانهم كانوا يتفاخرون بها ويبذلون أموالا خطيرة فيها فكانت كالحرير وهذا المعنى موجود في صورة الشجر وغيرها . وثانيهما أن المخامرة بالصور واتخاذها وجريان الرسم بالرغبة فيها يفتح باب عبادة الأصنام وينوه أمرها ويذكرها لأهلها ، وما نشأت عبادة الأصنام في أكثر الطوائف إلا من هذه ، وهذا المعنى يختص بصورة الحيوان ولذلك أمر بقطع راس التماثيل لتصير كهيئة الشجر ، وخف فساد صناعة صور الأشجار ، قال صلى الله عليه وسلم :
' إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة ' وقال صلى الله عليه وسلم : ' كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسا يعذبه في جهنم ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' من صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ ' . أقول : لما كانت التصاوير فيها معنى الأصنام وقد تحقق في الملأ الأعلى داعية غضب ولعن على الأصنام وعبدتها وجب أن يتنفر منها الملائكة ، وإذا حشر الناس يوم القيامة بأعمالهم تمثل عمل المصور بالنفوس التي تصورها في نفسه وأراد محاكاتها في عمله لأنها أقرب ما هنالك وظهر إقدامه على المحاكاة ، وسعيه أن يبلغ فيها غاية المدى في صورة التكليف بأن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ . ومنها الاشتغال بالمسليات وهي ما يسلي النفس عن هم آخرته ودنياه ويضيع الأوقات كالمعازف والشطرنج واللعب بالحمام واللعب بتحريش البهائم ونحوها ؛ فان الانسان إذا اشتغل بهذه الأشياء لها عن طعامه وشرابه وحاجته ، وربما كان حاقنا لا يقوم للبول فان جرى الرسم بالاشتغال بها صار الناس كلا على المدينة ، ولم يتوجهوا إلى إصلاح نفوسهم . واعلم أن الغناء والدف في الوليمة ونحوها عادة العرب والعجم وديدنهم ،
____________________
(1/833)
وذلك لما يقتضيه الحال من الفرح والسرور فليس ذلك من المسليات إنما ميزان المسليات ما كان في زمانه صلى الله عليه وسلم في الحجاز وفي القرى العامرة ، لا مكان الاشتغال به زائدا على الفرح والسرور المطلوبين كالمزامير . قال صلى الله عليه وسلم :
' من لعب بالنردشير فقد عصى الله ورسوله ' وقال صلى الله عليه وسلم
: من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' ليكونن أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف ' فالملاهي نوعان . محرم وهي الآلات المطربة كالمزامير ، ومباح وهو الدف والغناء في الوليمة ونحوهما من حادث سرور . وأما الحداء فهو في الأصل ما يقصد به تهيج الابل ، لكن المراد هنا مطلق النشيد مع تأليف الألحان والإيقاع فهو مباح فإنه من المباسطات دون المسليات . وأما اللعب بآلات كالمناضلة . وتأديب الفرس . واللعب بالرماح فليس من اللعب في الحقيقة لما فيه من مقصود شرعي ، وقد لعبت الحبشة بالحراب والدرق بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده ' . وقال صلى الله عليه وسلم لرجل يتبع حمامة :
' شيطان يتبع شيطانه ' ونهى عليه السلام صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم . ومنها اقتناء عدد كثير من الدواب والفرش لا يقصد بذلك كفاية الحاجة بل مراءاة الناس والفخر عليهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' فراش للرجل . وفراش لامرأته . والثالث للضيف . والرابع للشيطان ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' يكون إبل للشياطين وبيوت للشياطين ، قال أبو هريرة
____________________
(1/834)
رضي الله عنه : أما أبل الشياطين فقد رأيتها يخرج أحدكم بنجيبات معه قد أسمنها ولا يعلوا بعيرا آمنها ويمر بأخيه قد انقطع به فلا يحمله ' . وكان أهل الجاهلية مولعين باقتناء الكلاب - جمع كلب - وهو حيوان ملعون تتأذى منه الملائكة فإن له مناسبة بالشياطين كما قلنا في الوزغ ، فحرم النبي صلى الله عليه وسلم اقتناءها ، وقال :
' من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيدا أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط ' وفي رواية قيراطان ' وفي حكم الكلاب القردة والخنازير . أقول : السر في انتقاص أجره أنه يمد البهيمية ويقهر الملكية ، والقيراط خرج مخرج المثل ، يريد به الجزاء القليل ولذلك لم يكن بين قوله صلى الله عليه وسلم . قيراطان . وقوله قيراط مناقضة . ومنها استعمال أواني الذهب والفضة ، قال صلى الله عليه وسلم : ' الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجر جر في بطنه نار جهنم ' . وقال صلى الله عليه وسلم :
' لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فانها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ' وقد ذكرنا من قبل ما ينكشف به سره . وقال صلى الله عليه وسلم خمروا الآنية وأوكلوا الأسقية وأجيفوا الأبواب واكفتوا صبيانكم عند المساء فان للجن انتشارا وخطفة وأطفئوا المصابيح عند الرقاد فان الفويسقة ربما اجترت الفتيلة فأحرقت أهل البيت ' وفي رواية فان الشيطان ' لا يحل سقا ولا يفتح باب ولا يكشف إناء ' وفي رواية ' فان في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء ' .
____________________
(1/835)
أقول : أما انتشار الجن عند المساء فلكونهم ظلمانيين في أصل الفطرة فيحصل لهم عن انتشار الظلمة ابتهاج وسرور فينتشرون ، وأما إن الشيطان لا يحل وكاء فلأن اكثر تأثيراتها على ما أدركنا في ضمن الأفعال الطبيعية كما أن الهواء إذا دخل في البيت دخل الجني معه وإذا تدهده الحجر وأمد في تدهده تدهده أكثر مما تقتضيه العادة ونحو ذلك ، وأما إن في السنة ليلة ينزل فيها الوباء ، فمعناه أنه يجيء بعد زمان طويل وقت يفسد فيه الهواء . وقد شاهدت ذلك مرة أحسست بهواء خبيث أصابني صداع في ساعة ما وصل إلي ثم رأيت كثيرا من الناس قد مرضوا واستعدوا لحدث ومرض في تلك الليلة . ومنها التطاول في البنيان وتزويق البيوت وزخرفتها فكانوا يتكلفون في ذلك غاية التكلف ويبذلون أموالا خطيرة فعالجه النبي صلى الله عليه وسلم بالتغليظ الشديد ، فقال :
' ما أنفق المؤمن من نفقة إلا أجر فيها إلا نفقته في هذا التراب ' ، وقال صلى الله عليه وسلم : ' إن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا إلا ما لا ' يعني إلا ما لا بد منه ، وقال صلى الله عليه وسلم : ' ليس لولي - أو ليس لنبي - أن يدخل بيتا مزوقا ' ، وقال عليه الصلاة والسلام : ' إن الله لم يأمرنا أن نكسوا الحجارة والطين ' . وكان الناس قبل النبي صلى الله عليه وسلم يتمسكون في أمراضهم وعاهاتهم بالطب والرقى ، وفي تقدمة المعرفة بالفأل . والطيرة ، والحظ - وهو الرمل - والكهانة . والنجوم . وتعبير الرؤيا ، وكان في بعض ذلك ما لا ينبغي ، فنهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأباح الباقي . فالطب حقيقته التمسك بطبائع الأدوية الحيوانية أو والنباتية أوالمعدنية . والتصرف في الأخلاط نقصا وزيادة ، والقواعد الملية تصحح إذ ليس فيه شائبة شرك ولا فساد في الدين والدنيا بل فيه نفع كبير ، وجمع لشمل
____________________
(1/836)
الناس إلا المداداة بالخمر إذ للخمر ضراوة لا تنقطع ، والمداواة بالخبيث أي السم ما أمكن العلاج بغيره فانه ربما أفضى إلى القتل ، والمداواة بالكي ما أمكن بغيره لأن الحرق بالنار أحد الأسباب التي تنفر منها الملائكة ، والأصل فيما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من المعالجات التجربة التي كانت عند العرب . وأما الرقي فحقيقتها التمسك بكلمات لها تحقق في المثل وأثر ، والقواعد الملية لا تدفعها ما لم يكن فيها شرك لا سيما إذا كان من القرآن أو السنة أو مما يشبههما من التضرعات إلى الله . والعين حق وحقيقتها تأثير إلمام نفس العائن وصدمة تحصل من إلمامها بالمعين ، وكذا نظرة الجن وكل حديث فيه نهي عن الرقى والتمائم والتولة محمولة على ما فيه شرك أو انهماك في التسبب بحيث يغفل عن البارى جل شأنه . وأمال الفأل والطيرة فحقيقتهما أن الأمر إذا قضى به في الملأ الأعلى ربما تلونت بلونه وقائع جبلت على سرعة الانعكاس ، فمنها الخواطر ، ومنها الألفاظ التي يتفوه بها من غير قصد متعد به وهي أشباح الخواطر الخفية التي يقصد إليها بالذات ، ومنها الوقائع الجوية فإن أسبابها في الأكثر من الطبيعة ضعيفة وإنما تختص بصورة دون صورة بأسباب فلكية أو انعقاد أمر في الملأ الأعلى وكان العرب يستدلون بها على ما يأتي وكان فيه تخمين وإثارة وسواس بل ربما كانت مظنة للكفر بالله وإن لم كطمح الهمة إلى الحق فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الطيرة ، وقال :
' خيرها الفأل ' يعنى كلمة صالحة يتكلم بها إنسان صالح فإنها أبعد من تلك القبائح ، ونفي العدوى لا بمعنى نفي أصلها لكن العرب يظنونها سببا مستقلا وينسبون التوكل رأسا ، والحق
____________________
(1/837)
أن سببية هذه الأسباب إنما تتم إذا لم ينعقد قضاء الله على خلافه لأنه إذا انعقد أئمه الله من غير أن ينخرم النظام ، والتعبير عن هذه النكتة بلسان الشرع أنها أسباب عادية لا عقلية ، والهامة تفتح باب الشرك غالبا ، وكذلك الغول فهذا عن الاشتغال بهذه الأمور لأن هذه ليست حقيقة ألبتة ، كيف والأحاديث متظاهرة على ثبوت الجن وتردده في العالم . وعلى ثبوت اصل العدوى . وعلى ثبوت اصل الشؤم في المرأة والفرس والدار ، فلا جرم أن المراد نفيها من حيث جواز الاشتغال بها ومن حيث أنه لا يجوز المخاصمة في ذلك فلا يسمع خصومة من ادعى على أحد على أنه قتل إبله وأمرضها بادخال الابل المريضة عليها ونحو ذلك كيف وأنت خبير بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكهانة وهي الاخبار عن الجن أشد نهي وبرئ ممن أتى كاهنا ، ثم لما سئل عن حال الكهان أخبر . أن الملائكة تنزل في العنان فتذكر الأمر قد قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة ، يعني أن الأمر إذا تقرر في الملأ الأعلى ترشح منه رشحات على الملائكة السافلة التي استعدت للإلهام فربما أخذ منهم بعض أذكياء الجن ، ثم تتلقى الكهان منهم بحسب مناسبات جبلية وكسبية فلا [ تشكن أن النهي ليس معتمدا على عدمها في الخارج بل على كونها مظنة للخطأ والشرك والفساد ] كما قال عز من قائل : ! ( قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) ! . أما الأنواء والنجوم فلا يبعد أن يكون لهما حقيقة ما فإن الشرع إنما
____________________
(1/838)
أتى بالنهي عن الاشتغال به لانفى الحقيقة ألبتة وإنما توارث السلف الصالح ترك الأشتغال به وذم المشتغلين وعدم القبول بتلك التأثيرات لا القول بالعدم أصلا ، وإن منها ما يلحق البديهيات الأولية كاختلاف الفصول باختلاف أحوال الشمس والقمر ونحو ذلك . ومنها ما يدل عليه الحدس والتجربة والرصد كمثل ما تدل هذه على حرارة الزنجبيل وبرودة الكافور ، ولا يبعد أن يكون تأثيرها على وجهين : وجه يشبه الطبائع فكما أن لكل نوع طبائع مختصة به من الحر والبرد واليبوسة والرطوبة بها يتمسك في دفع الأمراض فكذلك للأفلاك والكواكب طبائع وخواص كحر الشمس ورطوبة القمر فإذا جاء ذلك الكوكب في محله ظهرت قوة في الأرض ألا تعلم أن المرأة إنما اختصت بعادات النساء وأخلاقهن الشيء يرجع إلى طبيعتها وإن خفي إدراكها ، والرجل إنما اختص بالجراءة والجهورية ونحوهما لمعنى في من مزاجه ' فلا تنكر أن يكون لحلول قوى الزهرة والمريخ وبالأرض أثر كأثر هذه الطبائع الخفية ' . وثانيهما وجه يشبه قوة روحانية متركبة مع الطبيعة وذلك مثل قوة نفسانية في الجنين من قبل أمه وأبيه ، والمواليد بالنسبة إلى السموات والأرضيين كالجنين بالنسبة إلى أبيه وأمه فتلك القوة تهيئ العالم لفيضان صورة حيوانية ثم إنسانية . ولحلول تلك القوى بحسب الاتصالات الفلكية أنواع ولكل نوع خواص فأمعن قوم في هذا العلم فحصل لهم علم النجوم يتعرفون له الوقائع الآتية غير أن القضاء إذا انعقد على خلافه جعل قوة الكوكب متصورة بصورة أخرى قريبة من تلك الصورة وأتم الله قضاءه من غير أن ينخرم نظام الكواكب في خواصها ويعبر عن هذه النكتة بأن الكواكب خواصها يجري عادة الله لا باللزوم العقلي ، ويشبه بالأمارات والعلامات ، ولكن
____________________
(1/839)
الناس جميعا توغلوا في هذا العلم توغلا شديدا حتى صار مظنة لكفر الله وعدم الإيمان فعسى ألا يقول صاحب توغل هذا العلم : مطرنا بفضل الله ورحمته من صميم قلبه بل يقول : مطرنا بنو كذا وكذا فيكون ذلك صادا عن تحققه الإيمان الذي هو الأصل في النجاة . وأما علم النجوم فإنه لا يضر جهله إذ الله مدبر للعالم على حسب حكمته على علم أحد أو لم يعلم فلذلك وجب في الملة أن يخمل ذكره وينهى عن تعلمه ويجهر بأن ' من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ' ومثل ذلك مثل التوراة والإنجيل شدد النبي صلى الله عليه وسلم على من من أراد أن ينظر فيهما لكونهما محرفين ومظنة لعدم الانقياد للقرآن العظيم ولذلك نهوا عنه . هذا ما أدى إليه رأينا وتفحصنا فإن ثبت من السنة ما يدل على خلاف ذلك فالأمر على ما في السنة . وأما الرؤيا فهي على خمس أقسام : بشرى من الله . وتمثل نوراني من للحمائد والرذائل المندرجة من النفس على وجه ملكي وتخويف من الشيطان . وحديث نفس من قبل العادة التي اعتادتها النفس في اليقظة تحفها المتخيلة ويظهر في الحس المشترك ما اختزن فيها . وخيالات طبيعية لغلبة الاخلاط وتنبه النفس بأذاها في البدن أما البشرى من الله فحقيقتها أن النفس الناطقة إذا انتهزت فرصة عن
____________________
(1/840)
غواشي البدن بأسباب خفية إلا يكاد يتفطن لها لآ بعد تأمل واف استعدت لأن يفيض عليها من منبع الخير والجود كمال علمي فأفيض عليه شيء على حسب استعداده ومادته العلوم المخزونة عنده . وهذه الرؤيا تعليم إلهي كالمعراج المنامي الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم فيه ربه في أحسن صورة فعلمه الكفارات والدرجات وكالمعراج المنامي الذي انكشف فيه صلى الله عليه وسلم أحوال الموتى بعد انفكاكهم عن الحياة الدنيا كما رواه جابر بن سمرة رضي الله عنه وكعلم ما سيكون من الوقائع الآتية في الدنيا . وأما الروؤيا الملكية فيحققها أن في الإنسان ملكمات حسنة وملكات قبيحة ولكن لا يعرف حسنها وقبحها إلا المتجرد إلى الصورة الملكية فمن تجرد إليها تظهر حسناته وسيآته في صورة مثالية فصاحب هذا يرى الله تعالى ، وأصله الانقياد للبارى ، ويرى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأصله الانقياد للرسول المركوز في صدره ، ويرى الأنوار وأصلها الطاعات المكتسبة في صدره وجوارحه تظهر في صورة الأنوار والطيبات كالعسل والسمن واللبن ، فمن رأى الله أو الرسول أو الملائكة في صورة قبيحة أو في صورة الغضب فليعرف أن في اعتقاده خللا وضعفا وأن نفسه لم تتكمل ، وكذلك الأنوار التي حصلت بسبب الطهارة تظهر في صورة الشمس والقمر . وأما التخويف من الشيطان فوحشه وخوف من الحيوانات الملعونة كالقرد ، والفيل . والكلاب . والسودان من الناس فإذا رأى ذلك فليتعوذ بالله وليتفل ثلاثا على يساره وليتحول عن جنبه الذي كان عليه . وأما البشرى فلها تعبير والعمدة فيه معرفة الخيال أي شيء مظنة لأي معنى فقد ينتقل الذهن من المسمى إلى الاسم كرؤية النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في دار عقبة بن رافع فأتى برطب ابن طاب ' قال
____________________
(1/841)
عليه الصلاة والسلام : ' فأولت أن الرفعة لنا في الدنيا والعافية في الآخرة وأن ديننا قد طاب . وقد ينتقل الذهن من الملابس إلى ما يلابسه كالسيف للقتال ، وقد ينتقل الذهن من الوصف إلى جوهر مناسب له كمن غلب عليه حب المال رآه النبي صلى الله عليه وسلم في صورة سوار من ذهب . وبالجملة فللانتقال من شيء إلى شيء صور شتى ، وهذه الرؤيا شعبة من النبوة لأنها ضرب من إفاضة غيبية وتدل من الحق إلى الخلق وهو أصل النبوة ، وأما سائر أنواع الرؤيا فلا تعبير لها .
____________________
(1/842)
( آداب الصحبة ) اعلم أنه مما أوجبت سلامة الفطر ووقوع الحاجات في أشخاص الإنسان والارتفاق منها آداب يتأدبون بها فيما بينهم ، وأكثرها أمور اجتمعت طرائف العرب والعجم على أصولها وإن اختلفوا في الصور والأشباح ، فكان البحث عنها وتميز الصالح من الفاسد منها إحدى المصالح التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لها . فمنها التحية التي يحيي بها بعضهم بعضا ؛ فإن الناس يحتاجون إلى إظهار التبشيش فيما بينهم . وأن يلاطف بعضهم بعضا . ويرى الصغير فضل الكبير ويرحم الكبير الصغير . ويواخى الأقران بعضهم بعضا ؛ فإنه لولا هذه لم تثمر الصحبة فائدتها ولا أنتجت جدولها ولو لم تضبط بلفظ لكانت من الأمور الباطنة لا يعلم إلا استنباطا من القرائن ، ولذلك جرت سنة السلف في كل طائفة بتحية حسبما أدى إليه رأيهم ثم صارت شعارا لملتهم وإمارة لكون الرجل منهم . فكان المشركون يقولون : أنعم الله بك علينا وأنعم الله بك صبحا وكان المجوس يقولون : هز إرسال برزي . وكان قانون الشرع يقتضي أن يذهب في ذلك إلى ما جرت به سنة الأنبياء عليهم السلام وتلقوها عن الملائكة . وكان من قبيل الدعاء والذكر دون الاطمئنان بالحياة الدنيا كتمني طول الحياة وزيادة الثروة ودون الافراط في التعظيم حتى يتاخم الشرك
____________________
(1/843)
كالسجدة ولئم الأرض وذلك هو السلام ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :
' لما خلق الله آدم قال : اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحينوك يحيونك لله فإنها تحيتك وتحية ذريتك فذهب فقال : السلام عليكم فقالوا : السلام عليك ورحمة الله ، قال : فزادوه ورحمة لله . قوله : ' فسلم على أولئك ' معناه - والله أعلم - حيهم حسبما يؤدي إليه اجتهادك فأصاب الحق ، فقال : ' السلام عليكم ' وقوله : ' فانها تحيتك ' يعنى حتما من حيث إنه عرف أن ذلك مترشح من حظيرة القدس . وقال الله تعالى في قصة الجنة : ! ( سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ) ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم ' . أقول : بين النبي صلى الله عليه وسلم فائدة السلام وسبب مشروعيته فإن التحابب في الناس خصلة يرضاها الله تعالى وإفشاء السلام آلة صالحة لإنشاء المحبة . وكذلك المصافحة . وتقبيل اليد ونحو ذلك ، قال صلى الله عليه وسلم :
' يسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير ' وقال صلى الله عليه وسلم
: ' يسلم الراكب على الماشي ' . أقول : الفاشي في طوائف الناس أن يحي الداخل صاحب البيت والحقير العظيم فأبقاه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك غير أنه مر عليه السلام على غلمان فسلم عليهم . ومر على نسوة فسلم عليهن علما منه أن في رؤية الإنسان فضل من هو أعظم منه واشرف جمعا لشمل المدينة ، وأن في ذلك نوعا من الاعجاب بنفسه فجعل وظيفة الكبار التواضع ووظيفة
____________________
(1/844)
الصغار توقير الكبار ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليس منا ' . وإنما جعل وظيفة الراكب السلام على الماشي لأنه أهيب عند الناس وأعظم في نفسه فتأكد له التواضع . قال صلى الله عليه وسلم '
: لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام ، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيفة ، أقول : سره أن إحدى المصالح التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لها التنويه بالملة الإسلامية وجعلها أعلى الملل وأعظمها لا يتحقق إلا بأن يكون لهم طول على سواهم . وقال صلى الله عليه وسلم فيمن قال . ' السلام عليكم عشر ، وفيمن زاد ورحمة الله عشرون ، وفيمن زائد أيضا وبركاته ثلاثون ، وأيضا ومغفرته أربعون ، وقال : هكذا تكون الفضائل ' . أقول : سر الفضل ومناطه أنه تتميم لما شرع الله له السلام من التبشيش . والتألف . والموادة . والدعاء والذكر . وإحالة الأمر على الله . وقال صلى الله عليه وسلم :
' يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم ' أقول : وذلك لأن الجماعة واحدة في المعنى وتسليم واحد منهم يدفع الوحشة ويودد بعضهم بعضا . قال صلى الله عليه وسلم :
' إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلم فإن بدا له أن يجلس فليجلس ثم إذا قام فليسلم فليست الأولى بأحق من الآخرة '
____________________
(1/845)
أقول : سلام الوداع فيه فوائد ؛ منها التمييز بين قيام المتاركة والكراهية ، وقيام الحاجة على نية العود لمثل تلك الصحبة ، ومنها أن يتدارك المتدارك بعض ما كان يقصده ويهمه من الحديث ونحو ذلك ، ومنها ألا يكون ذهابه من التسلل ، والسر في المصافحة ، وقوله : مرحبا بفلان ومعانقة القادم ونحوها أنها زيادة في المودة والتبشيش ورفع الوحشة والتدابر . قال صلى الله عليه وسلم :
' إذا التقى المسلمان فتصافحا حمدا لله واستغفراه غفر لهما ' أقول : وذلك لأن التبشيش فيما بين المسلمين توادهم وتلاطفهم وإشاعة ذكر الله فيما بينهم يرضى بها رب العالمين . وأما القيام فاختلفت فيه الأحاديث ، فقال صلى الله عليه وسلم :
' من سره أن يتمثل له الرجل قياما فليتبوأ مقعده من النار
' وقال صلى الله عليه وسلم : ' لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا ' وقال صلى الله عليه وسلم في قصة سعد :
' قوموا إلى سيدكم ' وكانت فاطمة رضي الله عنها إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فأخذ بيدها فقبلها وأجلسها في مجلسه ، وإذا دخل صلى الله عليه وسلم عليها قامت وأخذت بيده فقبلته وأجلسته في مجلسها . أقول : وعندي أنه لا اختلاف فيها في الحقيقة فإن المعاني التي يدور عليها الأمر والنهي مختلفة فإن العجم كان من أمرهم أن تقوم الخدم بين أيدي سادتهم والرعية بين أيدي ملوكهم وهو من إفراطهم في التعظيم حتى كاد يتاخم الشرك فنهوا عنه ، وإلى هذا وقعت الإشارة في قوله عليه السلام : ' كما يقوم الأعاجم ' . وقوله عليه السلام :
' من سره أن يتمثل ' يقال : مثل بين يديه مثولا إذا انتصب قائما للخدمة ، أما إذا كان تبشيشا له واهتزازا اليه وإكراما وتطبيبا لقلبه من غير أن يتمثل بين يده فلا بأس فانه لا يتاخم الشرك .
____________________
(1/846)
وقيل ' يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أينحني له ؟ قال : لا ' وسببه أنه يشبه الركوع في الصلاة فكان بمنزلة سجدة التحية . قال الله تعالى : ! ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ) ! وقال تعالى الله : ! ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات ) ! إلى قوله تعالى ( كما استأذن الذين من قبلكم ) فقوله ( تستأنسوا ) أي تستأذنوا أقول : إنما شرع الاستئذان لكراهية أن يهجم الإنسان على عورات الناس وان ينظر منهم ما يكرهون ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض حديثه : ' إنما جعل الاستئذان لاجل البصر ' فكان من حقه أن يختلف باختلاف الناس . فمنهم الأجنبي الذي لا مخالطة بينهم وبينه ، ومن حقه ألا يدخل حتى يصرح بالاستئذان ويصرح له بالأذن ، ولذلك علم النبي صلى الله عليه وسلم كلدة ابن الحنبل رجلا من بني عامر أن يقول : ' السلام عليكم أأدخل ، قال صلى الله عليه وسلم :
' الاستئذان ثلاث فاذا اذن لك وإلا فارجع . ومنهم ناس أحرار ليسوا بالمحارم لكن بينهم خلطة وصحبة فاستئذانهم دون استئذان الأولين ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود : ' إذنك على أن ترفع الحجاب وأن تستمع سوادى حتى أنهاك '
____________________
(1/847)
ومنهم صبيان ومماليك لا يجب الستر منهم فلا استئذان لهم إلا في أوقات جرت العادة فيها بوضع الثياب ، وإنما خص الله تعالى هذه الأوقات الثلاث لأنها وقت ولوج الصبيان والمماليك بخلاف نصف الليل مثلا . وقال صلى الله عليه وسلم :
' رسول الرجل إلى الرجل إذنه ' وذلك لأنه عرف بدخوله لما أرسل إليه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه لكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، فيقول : ' السلام عليكم السلام عليم ' وذلك لأن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور . ومنها آداب الجلوس . والنوم . والسفر . ونحوها ، قال صلى الله عليه وسلم : ' لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن يقول : تفسحوا وتوسعوا ' أقول : وذلك لأنه يصدر من كبر وإعجاب بنفسه ويجد به الآخر وحرا وضغينة وقال صلى الله عليه وسلم : من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به ' أقول : سبق إلى مجلس أبيح له من مسجد أو رباط أوبيت فقد تعلق حقه به فلا يهيج حتى يستغني عنه كالموات ' وقد مر هنالك . وقال صلى الله عليه وسلم :
' لا يحل للرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما ' . أقول : وذلك لأنهما ربما يجتمعان لمسارة ومناجاة فيكون الدخول بينهما تنغيصا عليهما ، وربما يتآنسان فيكون الجلوس بينهما إيحاشا لهما . قال صلى الله عليه وسلم : ' لا يستلقين أحدكم ثم يضع إحدى رجليه على الأخرى ' ورؤى صلى الله عليه وسلم في المسجد مستلقيا واضعا إحدى
____________________
(1/848)
قدميه على الأخرى أقول . كان القوم يأتزرون والمؤتزر إذا رفع إحدى رجليه على الأخرى لا يأمن أن تنكشف عورته فإن كان لابس سراويل أو يأمن انكشاف عورته فلا بأس في ذلك . وقال صلى الله عليه وسلم للمضطجع على بطنه : ' أن هذه ضجعة يبغضها الله ' . أقول وذلك لأنها من الهيآت المنكرة القبيحة . وقال صلى الله عليه وسلم : ' من بات على ظهر بيت ليس عليه حجاب فقد برئت منه الذمة ' أقول . وذلك لأنه تعرض لاهلاك نفسه وألقى نفسه إلى التهلكة ، وقد قال الله تعالى : ( ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة ) وقال صلى الله عليه وسلم :
' ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم من قعد وسط الحلقة ' قيل : المراد منه الماجن الذي يقيم نفسه مقام السخرية ليكون ضحكة وهو عمل من أعمال الشيطان ، ويحتمل أن يكون المعنى أن يدبر على طائفة ويقبل على ناحية فيجد بعضهم في نفسه من ذلك كراهية . واختلط الرجال مع النساء في الطريق ، فقال صلى الله عليه وسلم :
' للنساء استأخرن فانه ليس لكن أن تحققن الطريق عليكن بحافات الطريق فكانت المرأة تلصق بالجدار ' . ونهى صلى الله عليه وسلم أن يمشي الرجل بين امرأتين . أقول وذلك خوفا من أن يمس الرجل امرأة ليست بمحرم أو ينظر إليها .
____________________
(1/849)
قال صلى الله عليه وسلم
: إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله وليقل أخوه أو صاحبه يرحمك الله فليقل : يهديكم الله ويصلح بالكم ' وفي رواية ' وإن لم يحمد الله فلا تشمتوه ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' شمت أخاك ثلاثا فما زاد فهو زكام ' أقول : إنما شرع الحمد عند العطسه لمعنيين : أحدهما أنه من الشفاء وخروج الأبخرة الغليظة من الدماغ ، وثانيهما أنه سنة آدم عليه السلام وهو معرف لكونه تابعا لسنن الأنبياء عليهم السلام جامع العزيمة على ملتهم وكذلك وجب التشميت وكان من حقوق الإسلام ، وإنما سن جواب التشميت لأنه من مقابلة الإحسان بالإحسان . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إنما التثاؤب من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليردده ما استطاع فان أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان ' . أقول : وذلك لأن التثاؤب ناشئ عن كسل الطبيعة وغلبة الملال والشيطان يجد في ضمن ذلك فرصة وفتح الفم وصوت هاه يضحك منه الشيطان لأنه من الهيآت المنكرة . قال صلى الله عليه وسلم :
' إذا تثاءب أحكم فليمسك بيده على فمه فإن الشيطان يدخله ' أقول : الشيطان يهيج ذبابا أو بقة فيدخل في فمه وربما تشنج أعصاب وجهه وقد راينا ذلك . قال صلى الله عليه وسلم :
' لو يعلم الناس ما في الوحده ما أعلم ما سار راكب بليل وحده ' أقول . أراد عليه السلام كراهية التهور والاقتحام في المهالك من غير ضرورة أما بعث الزبير رضي الله عنه وحده طليعة فلمكان ضروري . قال صلى الله عليه وسلم :
' لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس ' وقال صلى الله عليه وسلم .
' الجرس مزامير الشيطان ' .
____________________
(1/850)
أقول . الصوت الحديد الشديد يوافق الشيطان وحزبه ويكرهه الملائكة لمعنى يعطيه مزاجهم . وقال صلى الله عليه وسلم : ' إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حقها من الأرض .
وإذا سافرتم في السنة فأسرعوا عليها السير . وإذا عرستم بالليل فاجتنبوا الطريق فانها طريق الدواب ومأوى الهوام في بالليل ' . أقول : هذا كله ظاهر . قال صلى الله عليه وسلم :
' السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه فإذا قضى نهمته من وجهه فليعجل إلى أهله ' أقول . يريد عليه السلام كراهية أن يتبع محقرات الأمور فيطيل مكثه لأجلها . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلا ' . أقول : كثيرا ما يتنفر الإنسان نفرة طبيعية من أجل التشعث ونحوه فيكون سببا لتنغيص حالهم . ومنها آداب الكلام قال رسول الله : ' أخنى الأسماء يوم القيامة عند الله رجل يسمى ملك الأملاك ' وقال : ' لا ملك إلا الله ' وقال صلى الله عليه وسلم في التكنية بأبي الحكم : ' إن الله هو الحكم وإليه الحكم ' . أقول : إنما نهى عن ذلك لأنه إفراط في التعظيم يتاخم الشرك . قال صلى الله عليه وسلم :
' لا تسمين غلامك يسارا ولا رباحا ولا نجيحا ولا أفلح فإنك نقول : أثم هو ؟ فلا يكون ، فيقول : لا ' .
____________________
(1/851)
وقال جابر رضي الله عنه : أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهى أن يسمى بيعلي . وببركة . وبأفلح . وبيسار . وبنافع . ونحو ذلك ، ثم رأيته سكت بعد أن عنها ثم قبض ولم ينه عن ذلك أقول : سبب كراهية التسمية بهذه الأسماء أنها تفضي إلى هيئة منكرة هي في الأقوال بمنزلة الأجدع ونحوه في الأفعال ، وهو قوله عليه السلام :
' الأجدع شيطان ' . ووجه الجمع بين الحديثين أنه لم يعزم في النهي ولم يؤكد ولكنه نهى نهي إرشاد بمنزلة المشورة ، أو ظهرت مخايل النهي ، فقال الراوي نهى اجتهادا منه ، ومن حفظ حجة على من لم بحفظ . وأرى أن هذا الوجه أوفق لفعل الصحابة رضي الله عنهم فإنهم لم يزالوا يسمون بهذه الأسماء . قال صلى الله عليه وسلم :
' سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي فإني إنما جعلت قاسما أقسم بينكم ' أقول : لو كان أحد يسمى باسم النبي صلى الله عليه وسلم : لكان مظنة أن تشتبه الأحكام ويدلس في نسبتها ورفعها ، فإذا قيل : قال أبو القاسم ظن أن الآمر هو النبي صلى الله عليه وسلم وربما كان المراد غيره . وأيضا ربما يسب الرجل باسمه أو يذم بقلبه في الملاحاة فإن كان مسمى باسم النبي كان في ذلك هيئة منكرة . ثم هذا المعنى أكثر تحققا في الكنية منه في العلم لوجهين : أحدهما أن الناس كانوا ممنوعين شرعا وممتنعين ديدنا من أن ينادوا النبي صلى الله عليه وسلم باسمه وكان المسلمون ينادون يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الذمة يقولون : يا أبا القاسم .
____________________
(1/852)
وثانيهما أن العرب كانوا لا يقصدون بالاسم التشريف ولا التحقير ، وأما الكنى فكانوا يقصدون بها أحد الأمرين كأبي الحكم . وأبي جهل ونحو ذلك . وإنما كنى النبي صلى الله عليه وسلم بأبي القاسم لأنه قاسم فكان تكنية غيره بها كالتسوية معه . وإنما رخص النبي صلى الله عليه وسلم لعلي أن يسمي ولده باسمه بعده ويكنيه بكنيته لارتفاع الالتباس والتدليس بانقراض القرن . قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ' لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي كلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله ولكن ليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي ولا يقل العبد ربي ولكن ليقل سيدي ' . أقول : التطاول في الكلام والازدراء بالناس منشؤه الإعجاب والكبر وفيه كسر قلوب الناس ، وأيضا فلما عبر في الكتب الإلهية عن النسبة التي هي للخلق إلى الخالق بالعبيده والربية كان إطلاقها فيما بينهم سوءأدب قال صلى الله عليه وسلم : ' لا تقولوا الكرم ولكن قالوا العنب والحبلة ولا تقولوا يا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر ، وقال الله تعالى : ' يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ' . أقول : لما نهى الله تعالى عن الخمر ووضع أمرها اقتضى ذلك أن يمنع عن كل ما ينوه أمرها ويخيل حسنها إليهم والعنب مادة الخمر وأصلها ، وكان العرب كثيرا ما يسمونها بنت كرم ويروجونها بذلك . وكان أهل الجاهلية ينسبون الوقائع إلى الدهر وهذا نوع من الشرك ،
____________________
(1/853)
وأيضا ربما يريدون بالدهر مقلب الدهر ، فالسخط راجع إلى الله وأن أخطأوا في العنوان . قال * صلى الله عليه وسلم : ' لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي ' أقول : الخبث كثير ما يستعمل في الكتب الإلهية بمعنى خبث الباطن وسوء السريرة فهذه الكلمة بمنزلة الهيآت الشيطانية . وقال صلى الله عليه وسلم في زعموا : ' بئس مطية الرجل ' أقول : يريد كراهية أن يذكر الأقاويل من غير تثبت . وقال صلى الله عليه وسلم :
' لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان وقولوا ما شاء الله ثم شاء فلان ' أقول : التسوية في الذكر توهم التسوية في المنزلة فكان إطلاق مثل هذه اللفظة سوء أدب . واعلم أن التنطع والتشدق . والتقعر في الكلام . والإكثار من الشعر . والمزاح . وتزجية الوقت بأسمار ونحوها إحدى المسليات التي تشغل عن الدين والدنيا وما يقع به التفاخر والمراءة فكان حالها كحال عادات العجم فكرهها النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما في ذلك من الآفات ، ورخص فيما لا يتحقق فيه معنى الكراهية وإن أشتبه بادى الرأي . قال صلى الله عليه وسلم :
' هلك المتنطعون قالها ثلاثا ' وقال صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/854)
: ' الحياء والعي شعبتان من الإيمان ، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق ' أقول : يريد ترك البذاء . والتقعر . والتطاول في الكلام . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إن أحبكم إلي وأقربكم مني يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني أساوئكم أخلاقا الثرثارون المتشدقون المتفيهقون ' ، وقال صلى الله عليه وسلم :
' بقد رأيت - أو أمرت - أن أتجوز في القول وفإن الجواز هو خير ' وقال صلى الله عليه وسلم : ' لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خيرا من أن يمتلئ شعرا ' وقال صلى الله عليه وسلم لحسان :
' إن روح القدس ما لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله ' وقال عليه السلام : ' إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده فكأنما ترمونهم به نضح النبل ' . وقد ذكرنا في الاحسان من أصول آفات اللسان ما يتضح به أحاديث حفظ اللسان كقوله صلى الله عليه وسلم :
' من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت ' وقوله عليه الصلاة والسلام . ' سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ' وقوله صلى الله عليه وسلم :
' أتدرون ما الغيبة ؟ ذكر أخاك بما يكره ، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال . إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته ' . وقال العلماء يستثنى من تحريم الغيبة أمور ستة : التظلم لقوله تعالى : ! ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) ! .
____________________
(1/855)
والاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب كاخبار زيد ابن أرقم بقول عبد الله بن أبي . وإخبار ابن مسعود بقول الأنصار في مغانم حنين . والاستفتاء كقول هند : إن أبا سفيان رجل شحيح ، وتحذير المسلمين من الشر كقوله صلى الله عليه وسلم :
' بئس أخو العشيرة ' وكجرح المجروحين وكقوله صلى الله عليه وسلم :
' أما معاوية فصعلوك ، وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه ' والتنفير من مجاهر بالفسق كقوله صلى الله عليه وسلم :
' لا أظن فلانا وفلانا يعرفان من أمرنا شيئا ' والتعريف كالأعمش . والأعرج . ، وقالوا : الكذب يجوز إذا كان تحصيل المقصود لا يمكن إلا به ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم
' ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا ' . ( ومما يتعلق بهذا المبحث أحكام النذور والايمان ) والجملة في ذلك أنها من ديدن الناس وعادتهم عربهم وعجمهم إلا تجد واحدة من الأمم لا تستعملها في مظانها فوجب البحث عنها . وليس النذر من أصول البر ولا الإيمان ، ولكن إذا أوجب الإنسان على نفسه وذكر اسم الله عليه وجب ألا يفرط في جنب الله وفيما ذكر عليه اسم الله ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :
' لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا وإنما يستخرج به من البخيل ' يعني أن الإنسان إذا أحيط به ربما يسهل عليه إنفاق شيء فإذا أنقذه الله من تلك المهلكة كان كأن لم يمسه ضر قط ، فلا بد من شيء يستخرج به ما التزمه على نفسه مما يؤكد عزيمته وينوه نيته .
____________________
(1/856)
والحلف على أربعة أضرب : يمين منعقدة وهي اليمين على مستقبل متصور عاقدا عليه قلبه ، وفيها قوله تعالى : ! ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) ! . ولغو اليمن قول الرجل : لا والله . وبلى والله من غير قصد ، وأن يحلف على شيء يظنه كما حلف متبين بخلافه ، وفيها قوله تعالى . ! ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ) ! . واليمين الغموس وهي التي يحلفها كاذبا عاملا ليقتطع بها مال امرئ مسلم وهي من الكبائر . واليمين على مستحيل عقلا كصوم أمس ، والجمع بين الضدين ، أو عادة كإحياء الميت وقلب الأعيان . واختلف في الضربين اللذين ليس فيهما نص هل فيهما كفارة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' لا تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ' وقال صلى الله عليه وسلم :
' من حلف بغير الله فقد أشرك ' . أقول : الحلف باسم شيء لا يتحقق حتى يعتقد فيه عظمة وفي اسمه بركة ، والتفريط في جنبه وإهمال ما ذكر اسمه عليه إثما . قال صلى الله عليه وسلم :
' من حلف فقال في حلفه : باللات والعزى ، فليقل : لا إله إلا الله ، ومن قال لصاحبه : تعال أقامرك فليتصدق '
____________________
(1/857)
أقول : اللسان ترجمان القلب ومقدمته ولا يتحقق تهذيب القلب حتى يؤاخذ بحفظ اللسان . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير ' . وقال عليه الصلاة والسلام لأن بلج : ' إن يلاج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه ' أقول : كثيرا ما يحلف الإنسان على شيء فيضيق على نفسه وعلى الناس وليست تلك من المصلحة ، وإنما شرعت الكفارة منهية لما يجده المكلف على نفسه . وقال صلى الله عليه وسلم : ' يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك ' أقول : قد يحتال لاقتطاع مال امرئ المسلم بأن يتأول في اليمين فيقول مثلا والله ليس في يدي من مالك شيء يريد ليس في يدي شيء وإن كان في تصرفي وقبضي ، وهذا محله الظالم . وقال صلى الله عليه وسلم :
' من حلف فقال : إن شاء الله لم يحنث ' . أقول : حينئذ لم يتحقق عقد القلب ولا جزم النية وهو المعنى في الكفارة ، قال الله تعالى : ! ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ) ! .
____________________
(1/858)
أقول : قد مر سر وجوب الكفارة من قبل فراجع . والنذر على أقسام : النذر المبهم ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم :
' كفارة النذر إن لم يسم كفارة اليمين ' . والنذر المباح ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك ' بلا وجوب لما يأتي من قصة أبي إسرائيل . ونذر طاعة في موضع بعينه أو بهيئة بعينها ، وفيه قصة أبي إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه ' وقصة من نذر أن ينحر إبلا ببوانة ليس بها وثن ولا عيد لأهل الجاهلية . قال :
' أوف بنذرك ' . ونذر المعصية ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم :
' من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين ' . ونذر مستحيل ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم :
' من نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ' والأصل في هذا الباب أن الكفارة شرعت منهية للاثم مزيلة لما حاك في صدره فمن نذر بطاعة فليفعل ومن نذر غير ذلك ووجد في صدره حرجا وجبت الكفارة ، والله أعلم .
____________________
(1/859)
( من أبواب شتى ) قد فرغنا والحمد لله رب العالمين عما أردنا إيراده في هذا الكتاب وشرطناه على أنفسنا ، ولا استوعب المذكور جميع ما هو مكنون في صدورنا من أسرار الشريعة فليس كل وقت يسمح القلب بمضمونات السرائر وينفع اللسان بمكنونات الضمائر ، ولا كل حديث يثنى للعامة ولا كل شيء يحسن ذكره بغير تمهيد مقدماته ، ولا استوعب ما جمع الله في صدورنا جميع ما أنزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وكيف يكون لمورد الوحي ومنزل القرآن نسبة مع رجل من أمته هيهات ذلك ، ولا استوعب ما جمع الله في صدره صلى الله عليه وسلم جميع ما عند الله تعالى من الحكم والمصالح المرعية في أحكامه تعالى ، وقد أوضح عن ذلك الخضر عليه السلام حيث قال ، ما نقص علمي وعلمك إلا كما نقص هذا العصفور من البحر . فمن هذا الوجه ينبغي أن يعرف فخامة أمر المصالح المرعية في الأحكام الشرعية وأنها لا منتهى لها ، وأن جميع ما يذكر فيها غير واف بواجب حقها . ولا كاف بحقيقة شأنها ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله ، ونحن الآن نشتغل بشيء من اليسر . والفتن . والمناقب على التيسير دون الاستيعاب ، والله الموفق والمعين ، وإليه المرجع والمآب .
____________________
(1/860)
( سير النبي صلى الله عليه وسلم ) نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ، نشأ من أفضل العرب نسبا وأقواهم شجاعة وأوفرهم سخاوة وأفصحهم لسان وأذكاهم جنانا ، وكذلك الأنبياء عليهم السلام لا تبعث إلا في نسب قومها ، فإن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، وجودة الأخلاق يرثها الرجل من آبائه ولا يستحق النبوة إلا الكاملون في الأخلاق . وقد أراد الله ببعثهم أن يظهر الحق ويقيم بهم الأمة العوجاء ويجعلهم أئمة ، والأقرب لذلك أهل النسب الرفيع واللطف مرعى في أمر الله ، وهو قوله تعالى : ! ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ! . ونشأ معتدلا في الخلق والخلق ، كان ربعة ليس بالطويل ولا بالقصير . ولا الجعد القطط . ولا البسط كان جعدا رجلا ، ولم يكن بالمطهم . ولا بالمكلثم ، وكان في وجهه تدوير ، ضخم الرأس واللحية شئن الكفين والقدمين مشربا حمرة . ضخم الكراديس . قوي البطش والباءة . أصدق الناس لهجة
____________________
(1/861)
وألينهم عريكة من رآه بديهة هابه ، ومن خالطه معرفة أحبه ، أشد الناس تواضعا مع كبر النفس وأرفقهم بأهل بيته وخدمه ، خدمه أنس رضي الله عنه عشر سنين فما قال له أف ولا لم صنعت ؟ ولا ألا صنعت ؟ وإن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت . وكان يكون في مهنة أهله ولم يكن فاحشا ولا لعانا ولا سبابا . وكان يخصف نعله ويخيط ثوبه ويحلب شاته مع كونه ذا عزيمة نافذة قيله القيل لا يغلبه أمر ولا تفوته مصلحة . وكان أجود الناس وأصبرهم على الأذى وأكثرهم رحمة بالناس لا يصل إلى أحد منه شر لا من يده ولا من لسانه إلا أن يجاهد في سبيل الله . وكان الزمهم باصلاح تدبير المنزل ورعاية الأصحاب وسياسة المدينة بحيث لا يتصور فوقه يعرف لكل شيء قدره . وكان دائم النظر إلى الملكوت مستهترا بذكر الله يحس ذلك من فلتات لسانه وجميع حالاته مؤيدا من الغيب مباركا يستجاب دعاؤه وتفتح عليه العلوم من حظيرة القدس ويظهر منه المعجزات من وجوه استجابة الدعوات وانكشاف خبر المستقبل وظهور البركة فيما يبرك عليه . وكذلك الأنبياء صلوات الله عليهم يجبلون على هذه الصفات ويندفعون إليها فطرة فطرهم الله عليها . ذكره إبراهيم عليه السلام في دعائه وبشر بفخامة أمره ، وبشر به موسى وعيسى عليهما السلام وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم .
____________________
(1/862)
ورأت أمه كأن نورا خرج منها فأضاء الأرض فعبرت بوجود ولد مبارك يظهر دينه شرقا وغربا وهتفت الجن وأخبرت الكهان والمنجمون بوجوده وعلو أمره ودلت الواقعات الجوية كانكسار شرفات كسرى على شرفه وأحاطت به دلائل النبوة كما أخبر هرقل قيصر الروم ورأوا آثار البركة عند مولده وإرضاعه وظهرت الملائكة فشقت عن قلبه فملأنه إيمانا وحكمة ، وذلك بين عالم المثال والشهادة فلذلك لم يكن الشق عن القلب إهلاكا وقد بقي منه أثر المخيط وكذلك كل ما اختلط فيه عالم المثال والشهادة . ولما خرج به أبو طالب إلى الشام فرآه الراهب شهد بنبوته لآيات رآها فيه ، ولما شب ظهرت مناسبة الملائكة بالهتف به والتمثل له . وسد الله خلته برغبة خديجة رضي الله عنها فيه ومواساتها به وكانت من مياسير نساء قريش ، وكذلك من أحبه الله يدبر له في عباده . ولما بنى الكعبة فيمن بنى ألقى إزاره على عاتقه كعادة العرب فانكشفت عورته فأسقط مغشيا عليه ، ونهى عن كشف عورته في غشيته وذلك شعبة من النبوة ونوع من المؤاخذة في النفس . ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بحراء الليالي ذوات العدد ، ثم يأتي أهله ويتزود لمثلها لعزوفه عن الدنيا وتجرده إلى الفطرة التي فطره الله عليها . وكان أول ما بدئ به الرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح وهذه شعبة من شعب النبوة . ثم نزل الحق عليه وهو بحراء ففزع بطبيعته بأن تشوشت البهيمة
____________________
(1/863)
من سننها لغلبة الملكية فذهبت به خديجة إلى ورقة ، فقال : هو الناموس الذي نزل على موسى ، ثم فتر الوحي وذلك لأن الإنسان يجمع جهتين : جهة البشرية . وجهة الملكية فيكون عند الخروج من الظلمات إلى النور مزاحمات ومصادمات حتى يتم أمر الله ، وكان يرى الملك تارة جالسا بين السماء والأرض . وتارة واقفا في الحرم تصل حجزته إلى الكعبة ونحو ذلك ، وسره أن الملكوت تلم بالنفوس المستعدة للنبوة فكلما انفلتت برق عليها بارق ملكي حسبما يقتضيه الوقت كما تنفلت نفوس العامة فتطلع في الرؤيا على بعض الأمر . قيل : ' يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال : وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ' . أقول : أما الصلصلة فحقيقتها أن الحواس إذا صادمها تأثير قوي تشوشت ، فتشويش قوة البصر أن يرى ألوانا الحمرة والصفرة والخضرة ونحو ذلك ، وتشويش قوة السمع أن يسمع أصواتا مبهمة كالطنين والصلصلة والهمهمة فإذا تم الأثر حصل العلم . وأما التمثيل فهو في موطن يجمع بعض أحكام المثال والشهادة ، ولذلك كان يرى الملك بعضهم دون البعض . ثم أمر بالدعوة فاشتغل بها إخفاء فآمنت خديجة وأبو بكر الصديق . وبلال . وأمثالهم رضي الله عنهم .
____________________
(1/864)
ثم قيل له : ! ( فاصدع بما تؤمر ) ! . وقيل : ! ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) ! . فجهر بالدعوة وإبطال وجوه الشرك فتعصب عليه الناس وآذوه بألسنتهم وأيديهم كقصة إلقاء سلى جزور والخنق وهو صابر في كل ذلك يبشر المؤمنين بالنصر وينذر الكافرين بالانهزام كما قال الله تعالى : ! ( سيهزم الجمع ويولون الدبر ) ! . وقال الله تعالى : ! ( جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ) ! . ثم ازدادوا في التعصب فتقاسموا على إيذاء المسلمين ومن وليهم من بني هاشم وبني المطلب فهدوا إلى الهجرة قبل الحبشة فوجدوا سعة قبل السعة الكبرى . ولما ماتت خديجة رضي الله عنها ومات أبو طالب عمه وتفرقت كلمة بني هاشم فزع لذلك وكان قد نفث في صدره أن علو كلمته في الهجرة نفثا
____________________
(1/865)
إجماليا فتلقاه برويته وفكره فذهب وهله إلى الطائف . وإلى هجر . وإلى اليمامة . وإلى كل مذهب ، فاستعجل وذهب إلى الطائف فلقي عناء شديدا ، ثم إلى بني كنانة فلم ير منهم ما يسره فعاد إلى مكة بعهد زمعة ونزل ! ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) ! . قال : أمنيته أن يتمنى إنجاز الوعد فيما يتفكره من قبل نفسه وإلقاء الشيطان أن يكون خلاف ما أراد الله ونسخه كشف حقيقة الحال وإزالته من قلبه . وأسرى به إلى المسجد الأقصى ، ثم إلى سدرة المنتهى ، وإلى ما شاء الله ، وكل ذلك لجسده صلى الله عليه وسلم في اليقظة ولكن ذلك في موطن هو برزخ بين المثال والشهادة جامع لأحكامهما فظهر على الجسد أحكام الروح وتمثل الروح والمعاني الروحية أجسادا ، ولذلك بان لكل واقعة من تلك الوقائع تعبير ، وقد ظهر لحزقيل . وموسى . وغيرهما عليهما السلام نحو من تلك الوقائع وكذلك لأولياء الأمة ليكون علو درجاتهم عند الله كحالهم في الرؤيا والله أعلم . أما شق الصدر وملؤه إيمانا فحقيقته غلبة أنوار الملكية وانطفاء لهب الطبيعة وخضوعها لما يفيض عليها من حظيرة القدس . وأما ركوبه على البراق فحقيقته استواء نفسه النطقية على نسمته التي هي الكمال الحيواني فاستوى راكبا على البراق كما غلبت أحكام نفسه النطقية على البهيمية وتسلطت عليها .
____________________
(1/866)
وأما إسراؤه إلى المسجد الأقصى فلأنه محل ظهور شعائر الله ومتعلق همم الملأ الأعلى ومطمح أنظار الأنبياء عليهم السلام فكأنه كوة إلى الملكوت . وأما ملاقاته مع الأنبياء صلوات الله عليهم ومفاخرته معهم فحقيقتها اجتماعهم من حيث ارتباطهم بحظيرة القدس وظهور ما اختص به من بينهم من وجوه الكمال . وأما رقيه إلى السماوات سماء بعد سماء فحقيقته الانسلاخ إلى مستوى الرحمن منزلة بعد منزلة ومعرفة حال الملائكة الموكلة بها ومن لحق بهم من أفاضل البشر والتدبير الذي أوحاه الله فيها والاختصام الذي يحصل في ملئها وأما بكاء موسى فليس بحسد ولكنه مثال لفقده عموم الدعوة وبقاء كمال لم يحصله مما هو في وجهه . وأما سدرة المنتهى فشجرة الكون وترتب بعضها على بعض وانجماعها في تدبير واحد كانجماع الشجرة في الغاذية والنامية ونحوهما ولم تتمثل حيوانا لأن التدبير الجملي الإجمالي الشبيه للسياسة الكلي أفراده ، وإنما أشبه الأشياء به الشجرة دون الحيوان فإن الحيوان فيه قوى تفصيلية والإرادة فيه أصرح من سنن الطبيعة . وأما الأنهار في أصلها فرحمة فائضة في الملكوت حذو الشهادة وحياة وإنماء ، فلذلك تعين هنالك بعض الأمور النافعة في الشهادة كالنيل والفرات . وأما الأنوار التي غشيتها فتدليات إلهية وتدبيرات رحمانية تلعلعت في الشهادة حيثما استعدت لها . وأما البيت المعمور فحقيقته التجلي الإلهي الذي يتوجه إليه سجدات البشر وتضرعاتها يتمثل بيتا على حذو ما عندهم من الكعبة وبيت المقدس . ثم أتي بإناء من لبن . وإناء من خمر فاختار اللبن ، فقال جبرائيل : هديت
____________________
(1/867)
للفطرة ولو أخذت الخمر لغوت أمتك فكان هو صلى الله عليه وسلم جامع أمته ومنشأ ظهورهم وكان اللبن اختيارهم الفطرة والخمر اختيارهم لذات الدنيا وأمر بخمس صلوات بلسان التجوز لأنها خمسون باعتبار الثواب ، ثم أوضح الله مراده تدريجا ليعلم أن الحرج مدفوع وأن النعمة كاملة وتمثل هذا المعنى مستندا إلى موسى عليه السلام فإنه أكثر الأنبياء معالجة للامة ومعرفة بسياستها . ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يستنجد من أحياء العرب فوفق الأنصار لذلك فبايعوه بيعة العقبة الأولى . والثانية ودخل الإسلام كل دار من دور المدينة . وأوضح الله على نبيه أن ارتفاع دينه الهجرة إلى المدينة فأجمع عليها وازداد غيظ قريش فمكروا به ليقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه فظهرت آيات لكونه محبوبا مباركا مقضيا له بالغلبة فلما دخل هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه الغار لدغ أبو بكر رضي الله عنه فبرك عليه النبي صلى الله عليه وسلم فشفي من ساعته ، ولما وقف الكفار على رأس الغار أعمى الله أبصارهم وصرف عنه أفكارهم ولما أدركهما سراقة بن مالك دعا عليه فارتطمت فرسه إلى بطنها في جلد من الأرض بأن انخسفت الأرض بتقريب من الله فتكفل بالرد عنهما ، ولما مروا بخيمة أم معبد درت له شاة لم تكن من شياه الدر . فلما قدما المدينة جاءه عبد الله بن سلام فسأله عن ثلاث لا يعلمهن
____________________
(1/868)
إلا نبي ' فما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام أهل الجنة ، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه قال صلى الله عليه وسلم :
' أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت ، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت ' فأسلم عبد الله وكان إفحاما لأحبار اليهود . ثم عاهد النبي صلى الله عليه وسلم اليهود وأمن شرهم واشتغل ببناء المسجد وعلم المسلمين الصلاة وأوقاتها وشاور فيما يحصل به الأعلام بالصلاة . فأرى عبد الله بن زيد في منامه الأذان وكان مطمح الافاضة الغيبية رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان السفير عبد الله ، وحرضهم على الجماعة . والجمعة . والصوم وأمر بالزكاة وعلمهم حدودها وجهر بدعوة الخلق إلى الإسلام ورغبهم في الهجرة من أوطانهم لأنها يومئذ دار الكفر ولا يستطيعون إقامة الإسلام هنالك وشد المسلمين بعضهم ببعض بالمواخاة وإيجاب الصلة والإنفاق والتوارث بتلك المؤاخاة لتتفق كلمتهم فيتأتى الجهاد ويتمعنوا من أعدائهم ، وكان القوم ألفوا التناصر بالقبائل . ثم لما رأى الله فيهم اجتماعا ونجدة أوحى إلى نبيه أن يجاهد ويقعد لهم كل مرصد ، ولما وقعت واقعة بدر لم يكونوا على ماء فأمطر الله مطرا ، واستشار الناس هل يختار العير أن النفير ؟ فبورك في رأيهم حسب رأيه فأجمعوا على النفير بعد ما لم يكد يكون ذلك ، ولما رأى صلى الله عليه وسلم كثرة العدو تضرع إلى الله فبشر بالفتح وأوحى إليه مصارع القوم . فقال : ' هذا مصرع فلان . وهذا مصرع فلان يضع يده ههنا وههنا فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ' وظهرت
____________________
(1/869)
الملائكة يومئذ بحيث يراهم الناس لتثبت قلوب الموحدين وترعب قلوب المشركين فكان ذلك فتحا عظيما أغناهم الله به وأشبعهم وقطع حبل الشرك وأهلك أفلاذ كبد قريش ، ولذا سمي فرقانا . وكان ميلهم للافتداء مخالفا لما أحبه من الله قطع دابر الشرك فعوتبوا ثم عفى عنهم . ثم أهاج الله تقريبا لاجلاء اليهود فانه لم يكن يصفو دين الله بالمدينة وهم مجاوروها فكان منهم نقض العهد فأجلى بني النضير . وبني قينقاع ، وقتل كعب بن الاشرف ، وألقى الله في قلوبهم الرعب فلم يعرجوا لمن وعدهم النصر وشجع قلوبهم فأفاء الله أموالهم على نبيه وكان أول توسع عليهم . وكان أبو رافع تاجر الحجاز يؤذي المسلمين فبعث إليه عبد الله بن عتيك فيسر الله له قتله ، فلما خرج من بيته انكسرت ساقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
' ابسط رجلك فمسحها فكأنها لم يشتكها قط ' . ولما اجتمعت الأسباب السماوية على هزيمة المسلمين يوم أحد ظهرت رحمه الله ثم من وجوه كثيرة فجعل الواقعة استبصارا في دينهم وعبرة فلم يجعل سببه إلا مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر من القيام على الشعب ، وعلم الله نبيه بالانهزام إجمالا فأراه سيفا انقطع وبقرة ذبحت فكانت الهزيمة وشهادة الصحابة ، وجعلها بمنزلة نهر طالوت ميز الله بها المخلصين من غيرهم لئلا يعتمد على أحد أكثر مما ينبغي . ولما استشهد عاصم وأصحابه حمتهم الزنابير من الأعادي فلم يبلغوا منهم ما أرادوا .
____________________
(1/870)
ولما استشهد القراء في بئر معونة جعل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عليهم في صلاته وكان فيه نوع من استعجال البشرية فنبه على ذلك ليكون كل أمره في الله وبالله ولله ، ونزل في القرآن مقالتهم - بلغوا قومنا أنا قد ليقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه لتتسلى قلوبهم - ثم نسخ بعد . ولما أحاطت بهم الأحزاب وحفر الخدق ظهرت رحمة الله بهم من وجوه كثيرة رد الله كيدهم في نحورهم ولم يضروا المسلمين شيئا ، وبورك في طعام جابر رضي الله عنه فكفى صاع من شعير وبهمة نحو ألف رجل ، وانكشفت قصور كسرى وقيصر في قدحة الحجر وبشر بفتحها وهبت ريح شديدة في ليلة مظلمة ، وألقى الرعب في قلوبهم فانهزموا ، وحاصر قريضة فنزلوا على حكم سعد رضي الله عنه فأمر بقتل مقاتلتهم وسبي ذريتهم فأصاب الحق ، وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم رغبة طبيعية لزينب رضي الله عنها فوفر الله له ذلك حيث كانت فيه مصلحة دينية ليعلموا أن حلائل الأدعياء تحل لهم فطلقها زوجها فأنكحها الله نبيه صلى الله عليه وسلم . وبينا هو يخطب يوم الجمعة إذ قام أعرابي فقال : ' يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فاستسقي وما في السماء قزعة فما وضع يده حتى ثار السماء كأمثال الجبال فمطروا حتى خافوا الضرر ، فقال : حوالينا ولا علينا لا يشير إلى ناحية إلا انفرجت .
____________________
(1/871)
وتكرر ظهور البركة فيما برك عليه كبيدر جابر وأقراص أم سليم ونحوها . ولما غزا بني المصطلق ظهرت الملائكة متمثله فخاف العدو . واتهمت عائشة في تلك الغزوة فظهرت رحمة الله بتبرئتها وإقامة الحد على من أشاع الفاحشة عليها . ولما انكشف الشمس تضرع إلى الله فإنه آية من آيات الله يترشح عندها خوف في قلوب المصطفين ، ورأى في ذلك الجنة والنار بينه وبين جدار القبلة وهو من ظهور حكم المثال في مكان خاص . وأراه الله رؤياه ما يقع بعد الفتح من دخولهم مكة محلقين ومقصرين لا يخافون فرغبوا في العمرة ولما يأن وقتها ، وكان ذلك تقريبا من الله للصلح الذي هو سبب فتوح كثيرة وهم لا يشعرون ، نظير ذلك ما قالته عائشة رضي الله عنها في معارضة أبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما عند موت النبي صلى الله عليه وسلم ، إن في كل قول فائدة فرد الله المنافقين بقول عمر رضي الله عنه وبين الحق بقول أبي بكر رضي الله عنه فآل الأمر إلى أن اجتمع رأي هؤلاء وهؤلاء أن يصطلحوا وإن كرهه الفئتان . وظهرت هنالك آيات ، عطشوا ولم يكن عندهم ماء إلا في ركوة فوضع عليه السلام يده فيها فجعل الماء يفور من بين أصابعه ، ونزحوا ماء الحديبية فلم يتركوا فيها قطرة فبرك عليها فسقوا واستقوا ، ووقعت بيعة الرضوان معرفة لإخلاص المخلصين ، ثم فتح الله عليهم خيبر فأفاء منه على النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/872)
والمسلمين ما يتقوون به على الجهاد ، وكان ابتداء انتظام الخلافة فصار عليه السلام خليفة الله في الأرض . وظهرت آيات دسوا السم في طعامه صلى الله عليه وسلم فنبأه الله ، وأصابت سلمة ابن الأكوع ضربة فنفث فيها نفثات فما اشتكاها بعد ، وأراد أن يقضي حاجته فلم لا يجد شيئا يستر به فدعا شجرتين فانقاديا كالبعير المخشوش حتى إذا فرغ ردهما إلى موضعهما ، ولما أراد المحاربى أن يسطو بالنبي صلى الله عليه وسلم ألقى الله عليه الرعب فربط يده . ثم نفث الله في روعه ما انعقد في الملأ الأعلى من لعن الجبابرة وإزالة شوكتهم وإبطال رسومهم فتقرب في الله بالسعي إلى ذلك فكتب إلى قيصر وكسرى وكل جبار عنيد ، فأساء كسرى الأدب فدعا عليه فمزقه الله كل ممزق . وبعث صلى الله عليه وسلم زيدا . وجعفرا . وابن رواحة إلى مؤتة فانكشف عليه حالهم فنعاهم عليه السلام قبل أن يأتي الخبر . ثم بعث الله تقريبا بفتح مكة بعد ما فرغ من جهاد أحياء العرب فنقضت قريش عهودها وتعاموا وأراد حاطب أن يخبرهم فنبأ الله بذلك رسوله وفتح مكة ولو كره الكافرون وأدخل عليهم الإسلام من حيث لم يحتسبوا . ولما التقى المسلمون والكفار يوم حنين وكانت لهم جولة استقام رسول الله وأهل بيته اشد استقامة ورماهم بتراب فبورك في رميه فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ الله عينه ترابا فولوا مدبرين ، ثم ألقى الله سكينته على المسلمين فاجتمعوا واجتهدوا حتى كان الفتح ، وقال لرجل يدعى الإسلام
____________________
(1/873)
وقاتل أشد القتال : هو من أهل النار فكاد بعض الناس يرتاب ثم ظهر أنه قتل نفسه . وسحر النبي صلى الله عليه وسلم فدعا الله أن يكشف عليه جلية الحال فجاءه فيما يراه رجلان وأخبراه عن السحر والساحر . وأتاه ذو الخويصرة فقال : ' يا رسول الله اعدل فانكشف عليه حاله وحال قومه فقال صلى الله عليه وسلم : ' يقاتلون خير فرقة من الناس آيتهم رجل أسود أحد عضديه مثل ثدي المرأة ' فقاتلهم علي رضي الله عنه ووجد الوصف كما قال . ودعا لأم أبي هريرة فآمن في يومها . وقال : عليه السلام ' يوما لم يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمعه إلى صدره فينسى من مقالته شيء أبدا فبسط أبو هرير فما نسي منها شيئا ' . وضرب عليه السلام بيده على صدر جرير ، وقال : ' اللهم ثبته فما سقط عن فرسه بعد ' وكان لا يثبت على الخيل . وارتد رجل عن دينه فلم تقبله الأرض . وكان عليه السلام يخطب مستندا إلى جزع فلما صنع له المنبر واستوى
____________________
(1/874)
عليه صاح حتى أخذه وضمه ، وركب فرسا بطيئة ، وقال : ' وجدنا فرسكم هذا بحرا ' فكان بعد ذلك لا يجارى . ثم أحكم الله دينه وتواردت الوفود وتوارت الفتوح وبعث العمال على القبائل ونصب القضاة في البلاد وتمت الخلافة فنفث في روعه صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى تبوك ليظهر شوكته على الروم فينقاد له أهل تلك الناحية ، وكانت تلك غزوة في وقت الحر والعسرة فجعلها الله تمييزا بين المؤمنين حقا والمنافقين . ومر عليه السلام على حديقة لامرأة في وادي القرى فخرصها وخرصها الصحابة رضي الله عنهم فكان كما قال عليه السلام ، ولما وصل إلى ديار حجر نهاهم عن مياهه تنفيرا عن محل اللعن ، ونهاهم ليلة أن يخرج أحد فخرج رجل فألقته الريح بجبلي طيئ وضل له صلى الله عليه وسلم بعيرا فقال بعض المنافقين ؛ لو كان نبيا لعلم أين بعيره فنبأه الله بقول المنافق وبمكان البعير ، وتخلف ناس من المخلصين زلة منهم ثم ضاقت عليهم الأرض بما رحبت فعفا الله عنهم . وألقي ملك أيلة في أسر خالد من حيث لم يحتسب . فلما قوي الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا أوحى الله إلى نبيه أن ينبذ عهد كل معاهد من المشركين ، ونزلت سورة براءة . وأراد المباهلة من نصارى نجران فعجزوا واختاروا الجزية ،
____________________
(1/875)
ثم خرج إلى الحج وحضر معه نحو من مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا فأراهم مناسك الحج ورد تحريفات الشرك . ولما تم أمر الإرشاد واقترب أجله بعث الله جبرائيل في صورة رجل يراه الناس فسأل النبي عليه السلام عن الإيمان . والإسلام . والاحسان والساعة فبين النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه جبرائيل ليكون ذلك كالفذلكة لدينه ، ولما مرض لم يزل يذكر الرفيق الأعلى ويحن إليهم حتى توفاه الله ثم تكفل أمر ملته فنصب قوما لا يخافون لومة لائم فقاتلوا المتنبئين والروم والعجم حتى تم أمر الله ووقع وعده صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وسلم .
____________________
(1/876)
( الفتن ) اعلم أن الفتنة على أقسام : فتنة الرجل في نفسه بأن يقسوا قلبه فلا يجد حلاوة الطاعة ولا لذة المناجاة ، وإنما الإنسان ثلاث شعب . قلب هو مبدأ الأحوال كالغضب . والجراءة . والحياء . والمحبة . والخوف ، والقبض . والبسط ونحوها . وعقل هو مبدأ العلوم الذي ينتهي إليه الحواس كالأحكام البديهية من التجربة والحدس ونحوهما والنظرية من البرهان والخطابية ونحوهما . وطبع هو مبدأ اقتضاء النفس ما لا بد منه أو لا بد من جنسه في بقاء البينة كالداعية المنبجسة من شهوة الطعام . والشراب . والنوم . والجماع . ونحوها . فالقلب مهما غلبت عليه خصال البهيمية فكان قبضه وبسطه نحو قبض البهائم وبسطها الحاصلين من طبيعة ووهم كان قلبا بهيميا ، ومهما قبل من الشياطين وسوستهم في النوم واليقظة يسمى الإنسان شيطان الأنس ، ومهما غلب عليه خصال الملكية يسمى قلبا إنسانيا فيكون خوفه ومحبته وما يشبههما مائلة إلى اعتقادات حقة حصلها ، ومهما قوى صفاؤها وعظم نوره كان روحا فيكون بسطا بلا قبض وألفة بلا قلق ؛ وكانت أحواله أنفاسا ، وكانت الخواص الملكية كالديدن له دون الأمور المكتسبة بسعي . ومهما غلبت خصال البهيمية على العقل صار جربزة وأحاديث نفس تميل إلى بعض الدواعي الطبيعية فيحدث نفسه بالجماع إن كان فيه شبق ، وبأنواع الطعام إن كان فيه جوع ونحو ذلك ، أو وحي الشيطان فيكون أحاديث النفس تميل إلى فك النظامات الفاضلة وشك في المعتقدات الحقة وإلى الهيآت
____________________
(1/877)
منكرة تعافها النفوس السليمة ، ومهما غلبت عليه خصال الملكية في الجملة كان عقلا من فعله التصديق بما يجب تصديقه من العلوم الارتفاقية أو الاحسانية بديهية أو نظرا ، ومهما قوى نوره وصفاؤه كان سر من فعله قبول علوم فائضة من الغيب رؤيا وفراسة وكشفا وهتفا ونحو ذلك ، ومهما مال إلى المجردات البرية من الزمان والمكان كان خفيا . ومهما انحدر الطبع إلى الخصال البهيمية كان نفسا أمارة بالسوء ، مهما كان مترددا بين البهيمية والملكية وكان الأمر سجالا ونوبا كان نفسا لوامة ، ومهما تقيدت بالشرع ولم تبغ عليه ولم تنبجس إلا فيما موافقه كانت نفسا مطمئنة . هذا ما عندي من معرفة لطائف الإنسان والله أعلم . وفتنة الرجل في أهله وهي فساد تدبير المنزل ، وإليها الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن أبليس يضع عرشه - إلى أن قال - ثم يجئ أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته فيدنيه منه ويقول : نعم أنت ' . وفتنة تموج كموج البحر وهي فساد تدبير المدينة وطمع الناس في الخلافة من غير حق ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون من جزيرة العرب ' ولكن في التحريش بينهم . وفتنة ملية وهي أن يموت الحواريون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويستند الأمر إلى غير أهله فيتعمق رهبانهم وأحبارهم ويتهاون ملوكهم وجهالهم ولا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر فيصير الزمان زمان الجاهلية ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' ما من نبي إلا كان له حواريون ' الحديث . وفتنة مستطيرة وهي تغير الناس من الإنسانية ومقتضاها فأزكارهم
____________________
(1/878)
وأزهدهم إلى الانسلاخ من مقتضيات الطبع رأسا دون إصلاحها والتشبه بالمجردات والتحنن إليهم بوجه من الوجوه ونحو ذلك ، وعامتهم إلى البهيمية الخالصة ويكون ناس بين الفريقين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء . وفتنة الوقائع الجوية المنذرة بالإهلاك العام كالطوفانات العظيمة من الوباء والخسف والنار المنتشرة في الأقطار ونحو ذلك . وقد بين النبي عليه السلام أكثر الفتن قال : ' لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم ' وقال صلى الله عليه وسلم : ' يذهب الصالحون الأول فالأول ويبقى حفالة كحفالة الشعير لا يباليهم الله بالة ' . أقول : علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا بعد العهد من النبي وانقرض الحواريون من أصحابه ووسد الأمر إلى غير أهله لا بد أن تجرى الرسوم حسب الدواعي النفسانية والشيطانية وتعمهم جميعا إلا ما شاء الله منهم . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إن هذا الأمر بدأ نبوة ورحمة ثم يكون خلافة ورحمة ، ثم ملكا عضوضا ثم كائن جبرية وعتوا وفسادا في الأرض يستحلون الحرير والفروج والخمور يرزقون على ذلك وينصرون حتى يلقوا الله ' . أقول : فالنبوة انقضت بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، والخلافة التي لا سيف فيها بمقتل عثمان ، والخلافة بشهادة علي كرم الله وجهه وخلع الحسن رضي الله عنه ، والملك العضوض ومشاجرات الصحابة بني أمية ومظالمهم إلى أن استقر أمر معاوية ، والجبرية ، والعتو خلافة بني العباس فإنهم مهدوها على رسوم كسرى وقيصر . وقال صلى الله عليه وسلم :
' تعرض الفتن على القلوب والحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت
____________________
(1/879)
فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخرة أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه ' أقول الهواجس والنفسانية الشيطانية تنبعث في القلوب والأعمال الفاسدة تكتنفها ولا تكون حينئذ دعوة حثيثة إلى الحق فلا ينكرها إلا من جهل في قلبه هيئة مضادة للفتن ، وتعم من سوى ذلك وتأخذ بتلابيبه وقال صلى الله عليه وسلم :
' إن الأمانة نزلت في جذر قلاب الناس ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة وحدث عليه السلامعن رفعها فقال : ' ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت ثم ينام النومة فتقبض الأمانة فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا ' اقول لما أراد الله ظهور ملة الإسلام اختار قوما ومرنهم لانقياد والاذعان وجمع الهمة على موافقة حكم الله ثم كانت الأحكام المفصلة في الكتاب والسنة تفصيلا لذلك الاذعان الاجمالي . ثم إنها تخرج من صدورهم على غفلة منها وذهول شيئا فشيئا فيرى الإنسان أظرف ما يكون وأعقله وليس في قلبه مقدار شيء من الامانة لا بالنسبة إلى دين الله ولا بالنسبة إلى معاملات الناس ، وقال حذيفة رضي الله عنه : ' قلت يا رسول الله أيكون بعد هذا الخير
____________________
(1/880)
شر كما كان قبله شر ؟ قال : نعم قلت : فما العصمة ؟ قال : السيف ، قلت وهل بعد السيف بقية ؟ قال : نعم يكون إمارة على أقذاء وهدنة على دخن : قلت : ماذا ؟ قال : ثم ينشأ دعاة الضلال فان كان لله في الأرض خليفة جلد ظهرك وأخذ مالك فأطمعه وإلا فمت وأنت عاض على جذل شجرة ' أقول : الفتنة التي يكون العصمة فيها السيف ارتداد العرب في أيام أبي بكر رضي الله عنه ، وأما أمارة على أقذاء فالمشاجرات التي وقعت في ايام عثمان وعلي رضي الله عنهما ، ودعاة الضلال يزيد بالشام ومختار بالعراق ، ونحو ذلك حتى استقر الأمر على عبد الملك . وذكر صلى الله عليه وسلم فتنة الاحلاس قيل : وما فتنة الاحلاس ؟ قال : هي هرب وحرب ' قال : ' ثم فتنة السراء دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني إنما أوليائي المتقون ، ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع ' ثم فتنة الدهيماء لا تدع أحدا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة ، فاذا قيل : انقضت تمادت .
____________________
(1/881)
أقول : يشبه والله أعلم أن تكون فتنة الأحلاس قتال أهل الشام عبد الله ابن الزبير بعد هربه من المدينة ، وفتنة السراء إما تغلب المختار وإفراطه في القتل والنهب يدعو ثأر أهل البيت ، فقوله عليه السلام : ' يزعم أنه مني ' معناه من حزب أهل البيت وناصريهم ، ثم اصطلحوا على مروان وأولاده ، أو خروج أبي مسلم الخراساني لبني العباس يزعم أنه يسعى في خلافة أهل البيت ، ثم اصطلحوا على السفاح ، والفتنة الدهيماء تغلب الجنكيزية على المسلمين ونهبهم بلاد الإسلام . وبين النبي صلى الله عليه وسلم أشراط الساعة وهي ترجع إلى أنواع : الفتن التي مر ذكرها وشيوعها وكثرتها فإن التلف من القرف ، وإنما يجيء النقصان من حيث يجيء الهلاك ، وشرح هذا يطول . قال صلى الله عليه وسلم :
' إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويكثر الجهل ، ويكثر الزنا ، ويكثر شرب الخمر . ويقل الرجال . ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد ' . والحشر في لسان الشريعة مقول على معنيين : حشر الناس إلى الشام ، وهو واقعة قبل القيامة حين يقل الناس على وجه الأرض يحشر بعضهم بتقريبات وبعضهم بنار تسوقهم . وحشر هو البعث بعد الموت ، وقد ذكرنا من قبل أسرار المعاد ، والله أعلم . الفتن العظيمة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم أربع : الأولى : فتنة أمارة على أقذاء ، وذلك صادق بمشاجرات الصحابة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه إلى أن استقرت خلافة معاوية ، وهي التي أشير إليها بقوله : ' هدنة عل دخن ' وهو الذي يعرف أمره وينكر لأنه كان على سيرة الملوك لا على سيرة الخلفاء قبله .
____________________
(1/882)
الثانية فتنة الأحلاس . وفتنة الدعاة إلى أبواب جهنم ، وذلك صادق باختلاف الناس وخروجهم طالبين الخلافة بعد موت معاوية إلى أن استقرت خلافة عبد الملك . الثالثة فتنة السراء . والجبرية . والعتو ، وذلك صادق بخروج بني العباس على بني أمية إلى أن استقرت خلافة العباسية ومهدوها على رسوم الأكاسرة وأخذوا بجبرية وعتو . الرابعة فتنة تلطم جميع الناس إذا قيل : انقضت تمادت حتى رجع الناس إلى فسطاطتين وذلك صادق بخروج الأتراك الجنكيزية وإبطالهم خلافة بني العباس ومزقهم على وجهها الفتن . والأحاديث الواردة في الفتن أكثرها مرت من قبل ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
' تدور رحى الإسلام بخمس وثلاثين أو ست وثلاثين فإن يهلكوا فسبيل من هلك وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما قلت : أمما بقي أو مما مضى ؟ قال : مما مضى ' . فمعنى قوله : ' تدور رحى الإسلام ' أي يقوم أمر الإسلام بإقامة الحدود والجهاد في هذه الأمة وذلك صادق من ابتداء وقت الجهاد وأوائل الهجرة إلى مقتل سيدنا عثمان رضي الله عنه ، والشك في خمسة وثلاثين وأخواتها لأن الله تعالى أوحى إليه مجملا . وقوله : ' فإن يهلكوا بيان لصعوبة الأمر وأن الأمر يصير إلى حالة لو نظر فيها الناظر يشك في هلاك الأمة وبطلان أمورهم .
____________________
(1/883)
قوله . سبعين عاما ابتداؤها من البعثة وتمامها موت معاوية رضي الله عنه وبعده قامت فتنة دعاة الضلال . وقوله سبعين عاما معناه تهويل الأمر وأنه يكون تحت بطن الباطن فيه ، وأنه لا يكون بعد هذه استقامة الأمر ، والله أعلم . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' يقاتلكم قوم صغار الأعين - يعني الترك - تسوقونهم ثلاث مرات ' الحديث معناه أن العرب يجاهدونهم ويغلبونهم فيصير ذلك سببا لأحقاد وضغائن حتى يؤول الأمر إلى أن يذبوا العرب من بلادهم ثم لا يقتصرون على ذلك بل يدخلون بلاد العرب ، وهذا هو المراد من قوله : ' حتى تلحقوهم بجزيرة العرب ' أما في السياقة الأولى فينجو من العرب من هرب من قتالهم بأن يفر من بين أيديهم ، وذلك صادق بقتال الجنكيزية فهلك العباسية الذين كانوا ببغداد ونجا العباسية الذين فروا إلى مصر ، وأما في السياقة الثانية فينجو بعض ويهلك بعض ، وذلك صادق بوطء تيمور ديار الشام وإهلاك أمر العباسية ' وأما في الثالثة فيصطلمون ' وذلك صادق بغلبة العثمانية على جميع العمل ، والله أعلم .
____________________
(1/884)
( المناقب ) الأصل في مناقب الصحابة رضي الله عنهم أمور : منها أن يطلع النبي صلى الله عليه وسلم على هيئة نفسانية تعد الإنسان لدخول الجنان كما اطلع على أبي بكر رضي الله عنه أنه ليس فيه خيلاء وأنه ممن أكمل الخصال التي تكون أبواب الجنة تمثالا لها فقال : ' أرجو أن تكون منهم ' يعني الذين يدعون من الأبواب جميعا . وقال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه : ' ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك ' . وقال صلى الله عليه وسلم :
' إن يك من أمتي أحد من المحدثين فإنه عمر ' . ومنها : أن يرى في المنام أو ينفث في روعة ما يدل على رسوخ قدمه في الدين كما رأى بلالا رضي الله عنه يتقدمه في الجنة ، ورأى قصرا لعمر رضي الله عنه في الجنة ورآه قمص بقميص سابغ ، وأنه صلى الله عليه وسلم أعطاه سؤره من اللبن فعبر بالدين والعلم . ومنها حب النبي صلى الله عليه وسلم إياهم وتوقيرهم ومواساته معهم وسوابقهم في الإسلام ، فذلك كله ظاهره أنه لم يكن إلا لامتلاء القلب من الإيمان . واعلم أن فضل بعض القرون على بعض لا يمكن أن يكون من جهة كل فضيلة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
' مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره ' وقوله صلى الله عليه وسلم :
' أنتم أصحابي ، وإخواني الذين يأتون بعد '
____________________
(1/885)
وذلك أن الاعتبارات متعارضة والوجوه متجاذبة ، ولا يمكن أم يكون تفضيل كل أحد من القرن الفاضل على كل أحد من القرن المفضول كيف ومن القرون الفاضلة اتفاقا من هو منافق أو فاسق ومنها الحجاج . ويزيد بن معاوية . ومختار . وغلمة من قريش الذين يهلكون الناس وغيرهم ممن بين النبي صلى الله عليه وسلم سوء حالهم ، ولكن الحق أن جمهور القرن الأول أفضل من جمهور القرن الثاني ونحو ذلك . والملة إنما تثبت بالنقل والتوارث ولا توارث إلا بأن يعظم الذين شاهدوا مواقع الوحي وعرفوا تأويله وشاهدوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يخلطوا معها تعمقا ولا تهاونا ولا ملة أخرى . وقد أجمع من يعتد به من الأمة على أن أفضل الأمة أبو بكر الصديق ، ثم عمر رضي الله عنهما ، وذلك لأن أمر النبوة له جناحان : تلقى العلم عن الله تعالى . وبثه في الناس ، أما التلقي عن الله فلا يشرك النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أحد ، وأما بثه فإنما تحقق بسياسة وتأليف ونحو ذلك ، ولا شك أن الشيخين رضي الله عنهما أكثر الأمة في هذه الأمور في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعده ، والله أعلم . وليكن هذا آخر ما أردنا إيراده في كتاب حجة الله البالغة ، والحمد لله تعالى أولا وآخرا ، وظاهرا وباطنا ، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وأصحابه أجمعين .
____________________
(1/886)